لا مندوحة إذَنْ – والأمر كما أوضحت – من الكتابة عما انطبع في الذهن إثر قراءة ما وقع في يدي مما نشر في الصحف حول آراء هذا الرجل الذي لا أدري بما أصفه، ولا أدري ما هي البواعث لإثارة أفكاره التي أقلَّ ما توصف به أنها مخالفة لجميع الحقائق العلمية الثابتة منذ أقدم العصور، مما أتت به الكتب السماوية، أو توصل إليه العلماء من حقائق تاريخية.
وإنسان يأتي برأي يدرك مصادمته للحق الثابت ليس من المستطاع إقناعه، ولا شك أن الدكتور الصليبي ليس من السذاجة وعدم المعرفة بالدرجة التي تجعل من السهل تبصيره بالحقائق، بالاستدلال بالنصوص والآراء الصحيحة ولهذا فإيراد النصوص والاستدلال بكلام متقدمي العلماء لا يُجدي نفعاً مع امرئ يدرك أنه أتي بما يصادم جميع ذلك عن عَمْدٍ وسبق وإصرار، وأنه بلغ من العلم – فيما أتي به – ما لم تبلغه الأوائل – بل والأواخر.
ولكنني لا أعتقد أن الغرور يبلغ بباحث يتولى مركزاً علمياً بارزاً ويحمل من الدرجات العلمية في هذا العصر أعلاها – يبلغ به حالةً تدفعه إلى المكابرة ورفض الحقائق البدهية التي أعتقد أنه لم ينتبه إليها أثناء بحثه لموضوعه، ثم خروجه بما خرج به من نتيجة باطلة، جاءت في رأيي بدون إدراك لتلك الحقائق.
الحقيقة الأولى: مما لا شك فيه لدى الباحثين أن التوراة التي بين أيدي الناس اليوم، ليست الكتاب الذي أنزل على موسى – عليه السلام – وإنما ألفها الأحبار وجمعوها في فترات مختلفة، كما يعترف بذلك علماء اليهود أنفسهم كالعالم الصهيوني (سيجموند فرويد) صاحب كتاب ((موسى والتوحيد)) وغيره من العلماء من أهل الملل الأخرى، بل إن هناك من العلماء من يرى بأن من بين أسفار التوراة ما هو عربي الأصل ضمه الأحبار إليها، مثل ((سفر أيوب)) الذي أوضح بعض العلماء المعاصرين أنه نقل إلى العبرية من اللغة العربية كالمستشرق الانجليزي (مرجليوث) – أنظر كتاب ((العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 1/252 – وفي الأسفار الأخرى كثير مما أدخله الأحبار من عادات الشعوب وأخبارهم ومن ذلك أسماء مواطنهم، بسبب المخالطة والاتصال أثناء الأسفار.
ولهذا فإن استناد الدكتور الصليبي على التوراة المعروفة الآن استناداً على غير أساس.
ثم الاستدلال بما فيها من الأسماء مع ما هو معروف من أسماء المواضع تتشابه وتتكرر مع اختلاف مواقعها – استدلال غير صحيح، وهذا عن الأمور البدهية.
الحقيقة الثانية: مما فات الدكتور الصليبي – أثناء استنتاجاته لآرائه تلك – محاولة الربط الزمني بين مواضع ورد ذكرها قبل ثلاثة آلاف من السنين، وبين مواضع قائمة في زمننا، أكثرها نشأ في عصور متأخرة، فهو لَمْ يحاول عند إيراد اسم من أسماء المواضع التي ذكرها البحث عن نشوء ذلك الاسم ومتى كان؟ وما هو معناه! ولماذا سمي الموضع بهذا الاسم؟
ولو بحث هذا الأمر بتعمق لأدرك أنه يسير – فيما استنتج على غير هدى، وهذا ما سأعرض له بالتفصيل بعد عرض نماذج من أسماء المواضع التي ذكرها.
الحقيقة الثالثة: أن أسماء المواضع التي أوردها محاولاً الربط بينها وبين ما ورد في التوراة – مما نشرته الصحف التي اطلعت عليها، وقد نشرت خلاصة آرائه وأفكاره – لا نجد لها ذكراً في الكتب القديمة باستثناء اسم فرع حديث لإحدى القبائل، ظنه اسم موضع، فكيف يصح له أن يستنتج فكرة بدون أن يستكمل قواعد استنتاجها؟!


الحقيقة الرابعة: أنه لم يفرق بين أسماء المواضع وأسماء أفخاذ العشائر، فقد أورد منها ما ظنه من أسماء المواضع، والجهل بالأسماء إلى هذه الدرجة يحول دون استنتاج نتائج ذات قيمة علمية.


وهاهي الأسماء، بل ها هو نمط من تخليط الباحثين في عصرنا وأغاليطهم، ما كنت أَوَدّ الاشتغال – أو الاشغال – الحديث عنها، فهي جديرة بأن تُوْأَد، ووأدها في إهمالها وتجاهلها – ككثير من الأفكار الفجة في كل زمان ومكان – فقد ينشأ عن الخوض فيها بلبلة في الأفكار، وإظهارها بمظهر ليست جديرة به.


لقد اتخذ الدكتور الصليبي من تشابه الأسماء وتقاربها في الكتابة والنطق أساساً لأرائه ولهذا سأحصر ملاحظاتي في الناحية الجغرافية منها.


لقد خرج من دراسته المتعلقة بالأماكن بنتائج منها:


1- أن حبرون مدينة إبراهيم – عليه السلام – على ما في التوراة تقع في بلاد عسير وتعرف الآن باسم (خربان) التي وصفها بأنها في عسير وذكر قرية (مقفلة) أنها قريبة من قرية خربان، والقرى الأربع قرية آل سبلان وقرية الشباب وقرية عاصية وقرية عامر.


2- وصهيون مدينة داود – عليه السلام – حسب رواية التوراة أيضاً هي قرية (الصيان) الواقعة غرب أبها.


3- وأورشليم: تقع في منطقة أل شريم وأوراسلام من عسير.


4- والوادي المقدس طوى الوارد في القرآن الكريم هو قرية (طوى) الواقعة في وادي بقرة المنحدر من جبل هادي في تهامة عسير، وفيه نزلت سورة البقرة.


5- وحورب الذي نزل فيه الوحي على موسى – عليه السلام – على ما في التوراة هو (حارب) في سفح جبل هادي.


6- واسم الأردن النهر المذكور في التوراة باسم (يردن) أو (هردن) مأخوذ من كلمة (يرد) بمعنى سقط ومنه الريدة التي هي الحرف الناتيء من الجبل، وإذن فليس اسم نهر في مكان معين، بل وصف لأمكنة عدة، وهذا ينطبق على الحروف الناتئة من سراة عسير الممتدة من جنوب الطائف إلى مشارف اليمن.


7- ويرحو الاسم الوارد في التوراة ليس أريحاً بل (وراخ) القرية الموجودة الآن على حرف ناتيء من سراة زهران.


8- ويردن الاسم الوارد في ((سفر الملوك)) من التوراة (5: 1 – 14) ليس حرفاً لجبل، بل كلمة (يردن) هنا مشتقة من (يرد) العربية فهي تعني المورد وهو هنا مجمع مياه في وادي نعص قرب قرية شمران شرق القنفذة.


9- وجنة عدن: هي الجنينة الواقعة بمنطقة بيشة.


10- والسامرة: هي شمران.


11- وعمورة: هي غمرة.


12- ومصر: المتكرر ذكره في أخبار التوراة هو (مصر ما) القرية التي قال عنها: إنها بين أبها وخميس مشيط.


13- وعدنة التي على وادي بيشة: هي عدن.


14- (تيهوم): (تهامة).


هذه هي الأسماء التي اطلعت عليها مما ورد في الآراء المنسوبة إلى الدكتور الصليبي، وقد حاول أن يوجد صلةً بينها وبين أسماء وردت في التوراة التي بين أيدي الناس، ولكن الآراء التي أتى بها للربط بين تلك الأسماء مما يدرك أي قاريء لم يبلغ من الثقافة ما يمكنه من التعمق في البحث في معاني تلك الأسماء وفي أصول اشتقاق مفرداتها اللغوية، يدرك انتفاء الصلة بينها فضلاً عن باحث مختص بالدراسات اللغوية والجغرافية، فهل أُتِيَ الدكتور الصليبي بما وقع فيه من أخطاء من عدم تعمقه في البحث في معاني تلك الأسماء؟ أو من قلة فهمه لتلك المعاني، أو أنه لم يلاحظ أن أسماء المواضع في هذا العهد وفي العهود الغابرة أكثرها مشتق من صفات تتطابق وتتفق على مسميات كثيرة متباعدة، كما أن شيوع أسماء المواضع المتماثلة في أماكن متعددة في مختلف الأقطار الأرض، موجود في كل زمان ومكان، بسبب الاختلاط والتنقل بين الشعوب.


1- أن اسم (خربان) التي وصفها بأنها في عسير ليست معروفة في هذه المنطقة بالذات، بل في منطقة أخرى.


مع أن الاسم مشتق من (خرب) فالموضع الذي يبدأه الخراب أو يكون خَرِباً في أول الأمر يوصف بأنه (خربان) وهذا من الأسماء الشائعة، ولهذا نجد هذا الاسم وما شابهه مما اشتق من تلك الكلمة يطلق على تسع عشرة قرية في مناطق مختلفة، فاسم (الخربان) و(خربان) يطلق على خمس قرى و(الخرب) اسم لأربع و(الخرباء) و(خرباء) لِسِتِّ قرى و(الخرابة) اسم لأربع قرى.


أما القول بأن (مقفلة) قريبة من قرية خربان التي في عسير، فلا أدري من أين أتى الصليبي بهذا القول، فمقفلة القرية المعروفة تقع في منطقة القنفذة التابعة لإمارة مكة المكرمة وليست في عسير.


وكذلك القرى الأربع التي عدها بالقرب من خربان الذي زعم أنه في بلاد عسير، هذه القرى الأربع هي من قرى آل المنتشر في وادي العرضية الشمالية في منطقة القنفذة التابعة لإمارة مكة المكرمة.


2- وما سماه قرية (الصيان) لعله يريد (قعوة الصيان)، والصيان هنا ليس اسماً للقرية بل اسم فخذ من قبيلة أَلْمع، التي تكثر فيها القرى التي تدعى (قعوة)، ومنها قعوة آل تمام وقعوة العطف وقعوة آل سعوان وقعوة شعبي وقعوة شعوان وقعوة شهدان وقعوة الصيان وقعوة آل عاطف وقعوة آل ناطف، وكل هذه الأسماء هي أسماء لأفخاذ حديثة من قبيلة ألمع، ومنها الصيان، فهو اسم لفخذ لا يتجاوز تاريخه مئات السنين، فضلاً أن يبلغ آلافها.


3- وكما خلط بين اسم الموضع واسم الفخذ، فعل ذلك حينما ذكر (آل شريم) فالاسم ليس اسم قرية بل اسم فخذ صغير من أفخاذ قبيلة الحَجْر وآخر من قبيلة بالقرن وهما حادثان لم يكونا معروفين في شيء من كتب الأنساب التي أُلِّفَتْ قديماً.


أما (أروا سلام) فلا أعرف من أين أتى بهذا الاسم، وهناك فخذ من آل عمر من رجال الحَجر في منطقة تنومة يدعى (آل عمر أروا) فلعله يعنيه، وهو اسم فخذ لا قرية.


4- واسم (طوى) الذي تخيله الوادي المذكور في القرآن الكريم، لم يحسن نطقه الصحيح، فهو (الطَّوا) – بالفتح معرفاً – وهذا كما هو معروف في اللغة خلاف (طوى) الوادي المقدس الذي يكاد يجمع العلماء على تحديد موقعه، ويأبى الدكتور الصليبي مع سبق الإصرار إلا مخالفتهم، بذكر موضع حادث لم يذكره أحد ممن ألَّف في تحديد المواضع من متقدمي العلماء كالهمداني صاحب ((صفة جزيرة العرب)) وياقوت الحموي صاحب ((معجم البلدان)) والبكري صاحب ((معجم ما استعجم في أسماء المواضع)) وغيرهم.


ومن المضحك بل المخزي حقاً لمن يحترم نفسه أن يتصدى لتخطئة كل العلماء ثم يحاول الربط بين واد مغمور مجهول سمي حديثاً باسم فخذ من عشيرة بني شهر من قبيلة الحجر يدعى (بقرة) يحاول الربط بين هذا الوادي المسمى حديثاً وبين السورة الكريمة (البقرة) التي ورد النص فيها صريحاً واضحاً على الحيوان المعروف.


لقد ظن – والظن أساس الخطأ – أن اسم هذا الوادي يرقى إلى آلاف السنين، ولم يكلف نفسه عناء البحث عنه في المصادر الجغرافية ليدرك أنه من الأسماء الحادثة التي لم تكن معروفة حين تدوين ما بين أيدي العلماء من تلك المصادر، إن كلام الدكتور الصليبي لمحاولة الربط بين وادي طوى ونزول سورة البقرة هو أقرب إلى المغالطة منه إلى الحقيقة العلمية.


5- ويقال مثل ما تقدم في محاولة إيجاد صلة بين (حورب) الذي نزل فيه الوحي على موسى – عليه السلام – على ما في التوراة التي بأيدي الناس، وبين (حارب) الجبل الذي في سفح جبل هادي، ثم الربط بين هذا وبين ما سماه الصليبي (طوى) بقرب ذلك الجبل.


ويلاحظ أن اسم حارب يطلق على قريتين إحداهما من قرى وادي بقرة في تهامة والأخرى من قرى قبيلة يام في نجران.


6- ويحاول الدكتور الصليبي تعليل بعض الأسماء الموجودة في التوراة مما لا أصل له في اللغة العربية ثم يتمحّل لها أصولاً عربية مما يعتبر تخبطاً وسيراً على غير هدىّ كما فعل كلمة (يردن) و(هردن) حيث أورد لها معنيين متغايرين، زعم أن أحدهما مأخوذ من كلمة (يرد) بمعنى سقط وهذا مما لم يذكر في ((لسان العرب)).


وما أيسر السير على طريقة الدكتور الصليبي، في العبث بجميع الأسماء الأعجمية لتصبح عربية مما يذكر بأضحوكة (الشيخ زُبير) و(شكسبير).


7- زعم أن (وراخ) قرية موجودة على حرف ناتيء من سراة زهران.


ولقد سرت في تلك السراة وألَّفْتُ عنها كتاباً فلم أَرَ ولم أعرف قرية بهذا الاسّم كما أن أحد أبناء هذه القبيلة قد ألف كتاباً جمع فيه كل ما عرف من أسماء قرى سراة غامد وزهران، فلم يذكر من بينها (وراخ)، هو الأستاذ علي بن صالح الزهراني وكتابه عن بلاد غامد وزهران، أحد أقسام ((المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية)) الذي أشرفت على نشر عدد من أقسامه.


وإنما (وراخ) وادٍ معروف شرقي السراة تنحدر فروعه من سلسلة جبال عيسان المتصل بالسراة ويمتد الوادي من الغرب من قرب قرية معشوقة، فيتجه شرقاً حتى يجتمع بوادي كَرا قرب قرية عينين (فيما بين خطي العرض 30/20° و 48/20°) وكتب اسمه في الخريطة رقم 210 من ((أبحاث جيولوجية)) خطأ باسم (أوراخ) هذا الوادي ليس من قرى سراة زهران، بل فروعه في بلاد غامد وأسفله في بلاد البقوم.


8- لا أعرف ولم أر فيما بين يدي من الكتب المؤلفة عن جغرافية بلادنا ما سماه الدكتور الصليبي (يردن) وقال إنه مجمع مياه في وادي نعْص قرب قرية شمران شرق القنفذة، ولا أدري من أين أخذ هذا؟ ولكن لو كان هناك مجمع مياه يورد لأصبح مشهوراً ومعروفاً وهذا ما لم أسمع به، ووادي نعص من أودية تهامة المعروفة وسكانه من بني شِهْرٍ من قبيلة الْحَجْر.


9- يظهر أن الدكتور الصليبي لم يدرك أن كلمة (الجنينة) – تصغر جنة – هي من الكلمات المشتقة من الوصف، فهي تعني الحديقة ولهذا تكررت التسمية بها، ففي منطقة نجران وفي منطقة بيشة قريتان حديثتا التسمية، وفي وادي التسرير في نجد ثَنْيٌ من أثنائه يدعى الجنينة، وهذا قديم، ورد في قول الشاعر:


قال الأطباء: ما يشفيك؟ قلت لهم:


دخان رِمْثٍ من التسرير يشفيني


مما يضم إلى عمرانَ حاطُبه


إلى الجنينة جزلاً غير موزون


فالموضع الذي يكثر نباته أو يَزْدَهِر بالخصب أو يعجب أهله يسمى جنة وجنينة، ومن ذلك اسم القريتين، وهما حديثا العهد، ولم يذكرا في المعاجم المعروفة.


هذا بصرف النظر عن تأويل الصليبي المصادم لنصوص الكتب السماوية.


10- وأورد في الخريطة التي رسمها في توضيح آرائه اسم (شمران) وكتب تحتها (السامرة) رسم الاسم غرب منطقة بيشة حيث تحل قبيلة شمران، فخلط بين اسم القبيلة واسم الموضع، ولم يدرك أن قبيلة شمران هذه لم تكن قبل ما يقرب من تسعة قرون في هذه البلاد وإنما كانت منازلها مع إخوتها من فروع قبيلة مَذْحِج سَنْحَان وجَنْبِ وغيرهما في سفوح السراة الشرقية الجنوبية شرق سراة عبيدة الآن.


وما يتحدث عنه له آلاف السنين، والذي أوقعه في الخطأ أنه لم يفرق بين اسم قبيلة من طبيعتها التنقل، وبين اسم موضع ثابت.


هذا مع التكلف في محاولة إيجاد صلة بين الاسمين بسبب تقارب مخارج حروفهما.


11- وفي الخريطة اسم (عمورة) وتحته اسم (غمرة) في منطقة بلاد عسير، وكأنَّ الدكتور الصليبي يرى اسم غمرة هو عمورة، مع أن اسم غمرة من الأسماء التي تطلق على عدد من القرى، فهناك قرية بمنطقة حائل وأخرى في واد معروف بهذا الاسم من أودية خيبر، وثالثة من مناهل البادية في منطقة ظبا وأربع قرى بهذا الاسم في بلاد قبيلة ألمع من بلاد عسير.


ويظهر أن الصليبي عنى إحدى قرى ألمع، ولكن على أي أساس بني حكمه بأن إحدى تلك القرى هي عمورة المذكورة في التوراة، لا شيء سوى تقارب الحروف في النطق وهذا لا يصح اتخاذه قاعدة تبنى عليها آراء وتستنتج منها نتائج علمية، وهذا مما يدرك بأدنى تأمل.


12- لا أدري من أين أتى باسم (مصرما) القرية التي وصفها بأنها بين أبها وخميس مشيط، وحكم بأنها (مصر) المتكرر ذكره في أخبار التوراة.


والمعروف أن اسم مصر عند الاطلاق لا ينطبق إلا على الاقليم المعروف.


وقد يسمى غيره بهذا الاسم، فهناك قرية من قرى تبالة بمنطقة بيشة تسمى مصر، ويقال بأن بقرب أبها قرية دارسة بهذا الاسم أيضاً، ولعل التسمية هذه حدثت أخْذاً من الآية الكريمة "ادخلوا مِصْراً فإنَّ لكم ما سألتم"، فكلمة مصر وصف وليست علماً، ومن الأمثال المتداولة الآن: (كل ديرة عند أهلها مصر).


إلا أنني لا أعرف هذه القرية التي سماها (مصرما).


13- ورسم في الخريطة أيضاً على وادي بيشة اسم (عدن) وتحته (عدنة) أي أن القرية التي تقع في منطقة بيشة هي (عدن) المذكورة في التوراة.


وأنا لا أعرف قرية في أعلى وادي بيشة بهذا الاسم بصرف النظر عن الخطأ الفاضح في الربط بين الإسمين.


واسم عدنة يطلق على قريتين إحداهما من قرى شِمْران في وادي العرضية الشمالية بمنطقة القنفذة، والأخرى من قرى العصمان في وادي إضم بمنطقة الليث.


ومن قرى منطقة بيشة قرية العدنة – بالتعريف – وهذه من قرى تَبَالة في أسفل وادي بيشة غرب قاعدة الوادي.


14- واتخذ الباحث من التشابه الحرفي بين كلمتي (تيهوم) و(تهامة) إلى ما دفعه إلى أن يجزم بأن المقصود بالكلمة الأولى هي المنطقة المعروفة باسم تهامة.


وما أوسع هذا الباب لو أردنا الدخول منه، لحكمنا بأن آلاف الكلمات الأعجمية وما هو أكثر من آلاف، هي كلمات عربية متى أغفلنا ما يوضح الكلمة المراد فهمها وإيضاحها من قرائن، أو أردنا صرف فحوى تلك القرائن إلى ما نهواه ونريده بطريق التعنت وتحميل الألفاظ من المعاني ما لا تحتمل.


ومن الممكن أن تُعْزَى جُلُّ أوهام الدكتور الصليبي إلى أمر واحد أشارت إليه جريدة ((صنداي تايمز)) اللندنية في مقال نشرته عن كتابه بتاريخ 12/8/1984م بما تعريبه: (لا يزال العديد من المدن والقرى تحمل أسماء تعود إلى قديم الأزل) وهذا ما توهمه الدكتور الصليبي حين قال فيما نقلته عنه تلك الجريدة: (كنت أبحث عن أسماء الأماكن ذات الأصل غير العربي في غربي شبه الجزيرة، وإذ الدليل أن أرض التوراة كلها كانت هناك يفاجئني، فتقريباً جميع أسماء أماكن التوراة كانت مركزة في منطقة طولها ست مئة كيل وعرضها مِئَتَا كيل).


من هنا وقع في الخطأ حيث ظن أن أسماء تلك الأماكن موغلة في القدم، وأنها من غير أصل عربي، ومن ثَمَّ راح يحملها من المعاني ما لا تحتمل ويصرفها عما وضعت له في الأصل، ويخلط بين أسماء القرى وأسماء السكان.


إنه لم يدرك أن أكثر المدن والقرى تحمل أسماء حديثة وأن كثيراً من المواضع عُمِرت وأنشئت في أزمنة متأخرة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لكثير من الأقطار الأخرى كالشام (سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن) ومصر وغيرهما، إذ تلك الأقطار غالب سكانها من الحضر المستقرين الثابتين فيها، على توالي العصور، فتبقى أسماء المدن والقرى ثابتةً، بخلاف سكان الجزيرة الذين أكثرهم عرضة للتنقل والارتحال من منطقة إلى أخرى، فينشأ عن ذلك إحداث أسماء جديدة للمواضع والمياه والقرى وتُجْهل أسماؤها القديمة.


على أيِّ أساس بنى آراءه؟
لم يُعَرَّب بعْدُ كتاب الصليبي الذي دعاه ((عسير أرض التوراة الحقيقية)) asir: True land of the bible، لكي تقتبس منه النصوص التي توضح تلك الآراء، وما تقدمت الإشارة إليه منها، هو مما أوردته الصحف التي نقلت تلك الآراء عن أحاديث للمؤلف نفسه، أو عن مسودة كتابه التي انتشرت منها نسخ مصورة قبل طبعه.


وقد أمدني أخي الأستاذ الجليل الدكتور عبدالله الناصر الوهيبي بنسخة منها عربت لي المقدمة التي توضح منهجه في بحثه ودراسته.


وقد اتضح لي من تلك المقدمة أن جميع أفكاره تقوم على (دليل لغوي في الدرجة الأولى يتعلق بتحليل أسماء الأماكن) – وهذه ترجمة لكلامه –.


أما هذه الأسماء فهي نوعان: أحدهما ما استقاه من النص العبري للتوراة مما مكث تتلاقفه الألسن أحقاباً طويلة حتى بلغ من التحريف درجة تحمل كل باحث يحترم نفسه من عدم الثقة بصحته، فضلاً عن التعويل عليه في استخلاص ما سماه الدكتور الصليبي حقائق لا نظريات.


والنوع الثاني: أسماء حديثة لم يفهم الباحث كثيراً من مدلولاتها، ولم يدرك أنها – لِحداثة عهدها – لا يصح أن تتخذ أساساً للمقارنة بأسماء موغلة في القدم مع تحريفها، بمجرد اتفاق بعض الحروف أو التقارب في النطق.


ثم إنه يقيم تلك المقارنة على فهمه هو وحده لمعاني تلك الأسماء بدون رجوع إلى الآراء التي لا تتفق مع هذا الفهم فيقول ما تعريبه:


"اخترت أن أكتب بأسلوب يعتبره العلماء غير مألوف، إذْ لم أشر إلاَّ نادراً للتراث الضخم الموجود عن جغرافية التوراة".


لأنه يعتقد بخطأ كل ما كتب في هذا الموضوع وأن (اكتشافاته) تكفي للإقناع!! – كما يعبِّر –.


وعندما يورد أسماء مصادر دراسته يذكر:


1- التوراة باللغة العبرية.


2- المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية الذي ألفته، وهو يقصد المختصر (كتالوج).


3- بعض الخرائط الجيدة لجزيرة العرب مما قدم له السيد يوسف أحمد الشيراوي في البحرين.


4- بحث للدكتور أسامة الخالدي في الجامعة الأمريكية في بيروت حول السورة الخامسة بعد المئة من القرآن الكريم.


وقد أورد في مواضع من كتابه آيات من القرآن الكريم – أنظر مثلاً ص46 حيث أورد الآية الكريمة: "إنَّ أوَّلَ بيتٍ وُضِع لِلنَّاس لَلَّذِي بِبَكَّة مباركاً" إلى آخرها، كما تحدث عن سورة البقرة كما تقدم.


وكما سبقت الإشارة للدكتور الصليبي يأتي بمعلومات مفصلة عن بعض القرى كقوله عن قريتي حارب والطوى:


"هما قريتان توأمتان موجودتان في منطقة عسير الجغرافية، إحداهما تقع على سفح جبل هادي في تهامة عسير وهي حارب، والأخرى الطوى تقع في وادي بقرة المحيط بجبل هادي".


وكقوله المتقدم عن قرية مقفلة والقريات الأربع.


وكقوله عن وراخ:


"اسم قرية موجودة حالياً على طرف ناتئ من سراة زهران".


هذه المعلومات وأمثالها بصرف النظر عما فيها من أخطاء لا أدري من أين استقاها؟ وهو يذكر في المقدمة أنه رجع إلى ((المعجم الجغرافي)) المختصر الذي ألفته، وهو كتاب يحوي (16106) من أسماء المدن والقرى والأماكن المسكونة في بلادنا، وضعته مقدمة للمعجم الكبير الذي دعوته بذلك الاسم، وصدر منه تسعة عشر مجلداً، ولكنني في الكتاب الذي رجع إليه الصليبي لم أورد شيئاً من المعلومات الجغرافية بل سردت الأسماء سرداً، مع ذكر مناطقها وما ترتبط به من الإمارات (الإدارية) بدون تحديد جهاتها نقلاً من سجلات أعدَّتها (وزارة الداخلية) و(إدارة الإحصاء العامة بوزارة المالية). ويسرني حقاً أن يستفيد أيُّ قاريء مما أؤلفه لأن هذا لا يضيرني، فرجوع المنحرف عن الطريق السويِّ – أي منحرف كان – إلى أي كتاب من الكتب لا يعتبر مطعناً في ذلك الكتاب ولا يصح اتخاذه وسيلة للنيل ممن ينسب إليه الكتاب كموقف ذلك الجاهل المتمعلم الذي سبقت الإشارة إليه في أول الكلام.


والصليبي نفسه قد رجع إلى كتاب الله "الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" كما رجع إلى كتب أخرى.


ويظهر أن تلك المعلومات المتعلقة بوصف القرى التي ذكرها مما استفاده أثناء وجوده في هذه البلاد أثناء انعقاد الندوة العالمية الثانية لتاريخ الجزيرة في شهر جمادى الأولى سنة 1399هـ (نيسان 1979م) التي شارك فيها وألقى بحثاً عن (الإطار الخارجي لجاهلية العرب) أثار من المناقشة ما حمله على كتابته بأسلوب آخر، ثم نشر في المجلد الذي صدر عن تلك الندوة بعنوان ((دراسات تاريخ الجزيرة العربية – الكتاب الثاني الجزيرة العربية قبل الإسلام، من ص313 إلى 329. والغريب في الأمر بالنسبة للدكتور الصليبي سرعة تغير آرائه فهو في كتابه الأخير يناقض كثيراً من تلك الآراء التي عرضها في بحثه المشار إليه، والذي حاول فيه إرجاع كثير من العوامل التاريخية إلى مؤثرات اقتصادية. حمد الجاسر


المصدر مجلة العرب-العدد2
المصـدر