سؤال الباحث توحيد مصطفى عثمان:
ألا تعتقد معي أن الفكر"الأصلح" لنا كأمَّة، والذي ننشده ونسعى لوضع الأسس له، يجب أن يكون صالحاً أيضاً لغيرنا من الأمم؟ ألسنا نتحدث عن فكرٍ إنسانيّ؟.
.................................................. ............
الإجابةأظن أننا في حاجة للتفريق بين "الفكر" و"الفلسفة" كي يتسنى لنا أن نجيب على سؤالكم الإجابة الشافية. فالفلسفة هي "تفسيرٌ للوجود"، بينما الفكر هو "إسقاط لذلك التفسير على واقع موضوعي ذي سمات زمانية ومكانية محددة"، أو على الأقل، هذا ما أفهمه أنا شخصيا من مصطلحي "الفكر" و"الفلسفة". من هنا فالفكر ينتج في إطار فلسفة معينة ليعالجَ واقعا، بالاستناد إلى تلك الفلسفة كمرجعية. ومن ثمَّ فإن الحديث عن "فكر إنساني" يجب ألا يتجاوز في معناه، البعد "الوجداني" لكلمة إنساني، وليس بعدها "الموضوعي" الذي يعني "الشمول والعموم لكل الإنسانية"!!فلو تناولنا "المادية بشقيها التاريخي والدياليكتيكي"، فنحن بصدد تناول فلسفة نفسر بها العالم، لأنها فلسفة تطرح تصورا للعالم ككل، وتضع تصوراتها للحركة المادية والتاريخية في كل مجالاتها، من هنا نستطيع الحديث عن بعدها الإنساني بمعنى "الشمول والعموم". ولكننا لا نستطيع أن نتعامل مع "الماركسية اللينينية" أو مع "الماركسية الماوية"، أو مع "الماركسية التروتسكية"، أو مع "الاشتراكيات الديمقراطية"، أو مع "الاشتراكيات العربية"، أو مع "الاشتراكية الهندية"، باعتبارها فلسفاتٍ نبحث في إنسانيتها أو لا إنسانيتها، لأن تلك المشتقات "الدياليكتيكية" ليست فلسفات، بل هي أفكار ومنظومات فكرية فقط، أسقطت الفلسفة المادية، كلٌّ على واقعٍ موضوعي محدد، بخصوصيات زمانية ومكانية محددة.فعندما رأى "تروتسكي" أن القفز التام على مرحلة الرأسمالية وتجاوزها، من خلال الانتقال من الإقطاع الذي كان السمة الأبرز للمجتمع الروسي القيصري، مباشرة إلى الاشتراكية العلمية التي تحدث عنها الدياليكتيك الماركسي، قد يهدد مستقبلَ الاشتراكية ذاتها، ابتدع أفكاره التي رآها أنسب ما تكون للواقع السوفييتي. وعندما رأى "ماو تسي تونغ" أن الصين دولة تفتقر إلى طبقة بروليتارية بالمفهوم الدياليكتيكي الماركسي للبروليتاريا كما نشأت وتكونت في المجتمعات الرأسمالية الأوربية، حيث الثقل العمالي بسبب ازدهار وانتشار الصناعة، فإنه قام بتطوير الدياليكتيك بما يناسب الوضع في الصين، معطيا طبقة الفلاحين كل المزايا الأيديولوجية لطبقة البروليتاريا العمالية التي كانت سائدة في أوربا.. وهكذا دواليك.فالأفكار بطبيعتها والمنظومات الفكرية في جوهرها، تعمل في نطاقها الضَّيِّق فقط، ولا مكان للحديث عن عالميتها. العالمية هي فقط للفلسفات. ولأن الأديان السماوية هي بطبيعتها وبسبب مرجعيتها ومصدرها تطرح نفسها عالمية وإنسانية بمعنى الشمول والعموم لكل زمان ومكان. فقد كان من الطبيعي أن تختمر لدى أتباعها أجنة الحديث عن العالمية والإنسانية. ولكن..حتى الفلسفة التي تطرح نفسَها مفسرة للوجود ككل، فإنها لا تكتسب صفة عالميتها فقط من هذا الباب. فتفسير الوجود نفسه، إذا كان عاجزا عن تقديم رؤية للحركة التاريخية والطبيعية والمجتمعية، رؤية تستطيع دفع كل تناقضات الوجود المتحرك ليندفع نحو مستقبله بشكل إيجابي وغير إقصائي ولا انتقائي بصورة تعسفية. أي عندما تكون فلسفة مفسرة، وعاجزة عن أن تكون فلسفة مُغَيِّرَة، فإنها ستُحْرَم من صفة العالمية ومن نكهة الإنسانية بمعنى العموم والشمول، وستبقى فلسفة "صالونات" تعبر عن هرطقات فلاسفة.فهي صحيح أنها فلسفة، لأنها قدمت تفسيرا للوجود، لكنها فلسفة غارفة في الانطواء والانكماش، لأنها فشلت في تحويل التفسير الذي قدمته، من مجرد نزهة عقلية وشطحة ذهنية، إلى مُحَفِّز ومُفَعِّل للحركة والارتقاء والسمو بالواقع الإنساني!! أي بكلمة أكثر وضوحا: فشلت من الانتقال من مستوى التفسير إلى مستوى التغيير.. فالفلسفة الإنسانية بقدر ما تفسر الوجود بشكل إنساني، بقدر ما تستطيع أيضا أن تضع أسس تغييره لصالح الإنسانية.ولهذا السبب فعلينا أن نستوفي عنصرين هامين في أي رؤية فلسفية تُقَدَّم، كي نمنحَها صفة "الإنسانية" التي أشار إليها سؤالكم، الأول: عنصر تفسير الوجود ككل، وتقديم إيضاحات لكل جوانبه التي تتطلب الإيضاح، والإجابة على كل أسئلته التي تحتاج إلى إجابة. الثاني: عنصر الفاعلية الحركية المنتجة للتقدم والمؤدية إلى الحلول، أي عنصر التغيير.فالفلسفة المثالية، هي عبارة عن فلسفة، وأجابت على الأسئلة الأساسية التي تشغل العقل الإنساني منذ القدم، ولكنها أجابت عليها بشكل جعلها عاجزة عن تقديم فعل بَناَّء على صعيد تغيير الكون. لأن الأساس الذي يعطي للفلسفة قيمتَها هو قدرتُها على التغيير وفق رؤيتها في التفسير، ومن فَسَّرَ ولم يُغَيِّر، فقد انطوى وانكمش، ومن غَيَّرَ بدون أن يُفَسِّر، فقد دَمَّرَ وأَهْلَك!!وإذن فإن الرؤية الدينية الإسلامية التي يمكنها أن تُشَكِّلَ إطارا فلسفيا إنساني الطابع، بالمعنى العمومي والشمولي للفظة "إنساني"، هي تلك التي تستطيع أن تُؤَمِّنَ العنصرين السابقين. فهي معنية بأن تفسر الوجود تفسيرا إنسانيا، ومعنية بأن تغيِّرَه لصالح الإنسانية. وفي حال عَجِزْنا عن أن نُؤَمِّنَ هذين العنصرين في أيِّ رؤية إسلامية نطرحها، فنحن في الواقع نُعَبِّرُ عن عجزنا عن تأمين الدَّفْعَة الإنسانية، والدَّفَقَ العالمي المنشود في تلك الرؤية. وبالتالي فليس من حقنا أن نتحدث عن إنسانية وعالمية طرحنا.نحن إذن نمر بمرحلة من تاريخ تخلُّقِنا وتكوُّنِنا الحضاري والنهضوي، تدفعنا إلى البحث في مكوناتنا الثقافية، وفي احتياجات نهضتنا الموضوعية، وفي واقعنا السياسي والاقتصادي، وفي شكل ماضينا، وملامح مستقبلنا، عن بذور فلسفة نستطيع بها أن نفسر العالم، ونتمكن بعد ذلك من إسقاطها على واقعنا الموضوعي بمختلف مكوناته الزمانية والمكانية، لإحداث الحركة التغييرية المطلوبة في الاتجاه المنشود.ولأن ديننا الإسلامي – على ما يبدو – كان وسيبقى أهم عنصر من العناصر التي ستصنع تلك الفلسفة، فعلينا أن ندرك أننا بحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية تطال دينَنا نفسَه، فنحن في غير حاجة إلى استعادة الماضي في فلسفتنا الجديدة، بل نحن في حاجة إلى تقمص المستقبل فيها.لا توجد نهضة قامت على الماضي مهما كان شكل استحضاره، إذا كان هذا الاستحضار جاء في سياقٍ هيمَني وإلزامي وتقريري لشكل المستقبل!! النهضة تقوم على استحضار المستقبل في ضوء مُكَوِّنات الواقع، وليأخذ الماضي بعد ذلك في هذه التركيبة، الصورة التي يرتئيها هذا الحاضر وذاك المستقبل، لأنها في مثل هذه الحالة ستكون صورة مقبولة، مادام الحاضر والمستقبل هما اللذان استحضراها بحسب حاجتهما إليها، وليس هذا الماضي هو الذي فرض نفسه عليهما ليصوغا نفسيهما في ضوء مُكَوِّناته وعناصره وحقائقه!!ولا داعي للخوف والقلق، فما توفر على عنصري العالمية السابقين، سيفرض عالميته وإن حاول الجميع تغييبها، ومن افتقر إليها لن يستطيع أن يكون عالميا، وإن حاول الجميع تقديمه ليحتل الصدارة. إن هذا ناموس من نواميس الوجود، وسنة من سنن الكون، فلا نقلقَنَّ بشأنه، لن نكون أقدر على حماية ناموسيته من قوة هذه الناموسية ذاتها.ترى عندما نضع الماء على النار، هل يستطيع أيٌّ كان أن يمنعه من الغليان عند وصول درجة حرارته إلى المائة؟! ولو أننا وضعناه في ثلاجة، هل يستطيع أيٌّ كان جعلَه يغلي غليانه الذي يغليه عندما تكون حرارته مائة؟! لا أحد يستطيع ذلك، لأن معاندة الناموس الطبيعي مستحيلة. وكذلك ناموس عالمية الفلسفة إذا توفرت فيها عناصر العالمية، لا أحد يمكنه معاندَته.
مع بالغ شكري وتحياتي
أسامة عكنان