الصحفية "ملدا شويكاني"


برأيك الخاص ماهي عوامل انتشار النص الأدبي والبحثي والإبداعي.. الخ.. هل من خلال المنابر الجامعات (بالنسبة للأبحاث والدراسات)، والروايات والعمل الدرامي لقنواته التي نعرف، والشعر للغناء.. و.. و.. وهل هذا هو الطريق الأقوى والأسلم؟ وكيف تصف لنا المسارات الهامة والملتزمة في تلك القنوات لذوي الرسالة الحقة؟ خاصة أن الغث بات منتشرا أكثر، وما يصلنا مما نسمع ونعرف ما يجعل المبدع المتبني لقضيته بإخلاص يجد صعوبة في تمرير عمله الجدير بالالتفات، لو صح التعبير؟ وماأكثر من يقبع في الظل.. حول تلك الفكرة أرجو أن نتحدث بصدق وشفافية.


الإجابة


تحية إلى الصحفية "ميلدا"، وبعد..


"المأسسة" ثقافة تسود المجتمع من أدنى قواعده، لتغدو ظاهرة تقود كلَّ مرافقه. وفي ظل انعدام ثقافة "المأسسة" في مجتمع ما، يغدو الحق والاستحقاق المُنْتِج لواقعةِ "تصعيد الكفاءات"، عُرضة للمحسوبية والواسطة والمزاج، وللنفوذ الخادم للمصالح الضيقة، وللشللية المقيتة أيضا. و"المأسسة" هي واحدة من أهم تجليات "الديمقراطية" و"الحرية" في المجتمع. وكلما كانت "الديمقراطية" مُغَيَّبَة، والحرية مفقودة، كلما كان حريا بنا أن نتأكد من واقعة أخرى مرافقة لها، ألا وهي انعدام "المأسسة" بكل تجلياتها اللاأخلاقية، واللاموضوعية!!


في المجتمع المفتقر إلى الحريات العامة، وإلى الآليات الديمقراطية في تمرير مفردات الحياة، يغدو التنافس على المراكز القيادية، سواء في السياسة أو في الثقافة أو في غيرهما من مُجَسِّدات المكانة الاجتماعية، تنافسا "غابَوِياًّ" – نسبة إلى الغابة – لا تحكمه قواعد الاستحقاق، بقدر ما تحكمه قواعد الوجاهة والمصلحة والأنانية، المخدومة كلُّها بالقوة الناتجة عن سلطةٍ جائرة لا تمت إلى الكفاءة والاستحقاق الموضوعيين بأي صلة!!


الأبحاث والدراسات الفكرية، بل وكل مظاهر البحث العلمي، فضلا عن المُنتجات الإبداعية، يُفترض أن منبرها الرئيسي هو المعاهد العليا والجامعات ومراكز الدراسات ومراكز تفعيل ورعاية ومتابعة الإبداع والثقافة – المستقلة منها أو المرتبطة بتلك المعاهد والجامعات – فضلا عن مؤسسات البحث المرتبطة إداريا أو تمويليا – وبالتالي مؤسسيا – بمؤسسات الإنتاج والخدمات الكبرى والرئيسة في المجتمع، كالمؤسسات الإدارية والسياسية في الدولة – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير أدوات التفاعل في المجتمعين المحلي والدولي – والمؤسسات الاقتصادية ومؤسسات التخطيط التنموي – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير مكونات التنمية في المجتمع - والمؤسسات العسكرية – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير الأسلحة أو خدمات القطاع العسكري في ضوء الفلسفة الدفاعية للدولة – والمؤسسات الصحية – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير العلاجات والأدوية ومقاومة الأمراض والارتقاء بالأداء الوظيفي للجسد والذهن وإطالة متوسط العمر لدى الإنسان – وبالمؤسسات التعليمية والتربوية - إذا كان الأمر يتعلق بتطوير مناهج التربية والتعليم، وأدوات تفعيل الأداء المعرفي والذهني لدى النشء – وبالمؤسسات الزراعية – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير مستويات إنتاجية الأرض ومقاومة الآفات، والتصحر وتقليل الفاقد من المياه في أغراض الزراعة.. إلخ – وبالمؤسسات الثقافية والتصعيد والتقييم الثقافيين – إذا كان الأمر يتعلق بالإبداع والمبدعين، وبأي مُكَوِّنٍ من مُكَوِّنات الحياة الثقافية في المجتمع - وبغيرها من المؤسسات العاملة في المجتمع لتنميته وتغطية احتياجاته.. هذا هو واقع الدراسات والأبحاث العلمية والأعمال الإبداعية وتقدير الكفاءات العلمية والإبداعية وتصعيدها ومنحها فرصها الكاملة بكل مستوياتها، في الدول المتطورة والديمقراطية ذات الفعالية المؤسسية العالية.


إن الفعالية المؤسسية في تلك المجتمعات، تشكل ضمانة للحق والاستحقاق الناتجين عن العدالة التي تفرضها الحرية وتعمل على نشرها في المجتمع عادةً. ونظرا لأن مجتمعاتنا تقودها – في الغالب – حكومات وأنظمة "وجاهية و"بداوية" في مؤسسيَّتِها، حتى على الصُّعد الفكرية والبحثية والإبداعية، فقد كان من الطبيعي أن تتجلى الظواهر التي أشرتِ إليها في سؤالك يا "ميلدا".


فالباحث المحترف والمتمكن، والروائي المبدع، والشاعر المُفَوَّه، بل حتى الممثل أو المغنى أو المسرحي الكفؤ في أدائه، يجد نفسه مضطرا – في الكثير من الأحيان – إلى الاعتماد على عناصر لا علاقة لها بمكونات موهبته ومقدرته الإبداعية، كي يجدَ له موقعا في الصدارة التي يستحقها، وهو الأمر الذي يخفي ويغيِّب الكثيرين من ذوي الكفاءات عن الواجهة، إما لأنهم لا يقبلون، وإما أنهم لا يستطيعون أن يتنازلوا عن تحصيل حقهم من "إطار مؤسسي" محترم يمنحهم ما يستحقونه اعترافا واستحقاقا، لا منَّة "وجاهية" وتكرُّما "بداويا"، ليصبوه في "إطار تكريمي وتصعيدي سقيم، يفقدهم احترامهم لأنفسهم ولإبداعهم!!


إن الظاهرة التي استشعرتُ روحَ شكواك منها في سؤالك، لا يمكن فصلها عن "الانحدار المؤسسي" العام في المجتمع، وبالتالي عن "الانحدار في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان". لذلك فالمبدع وصاحب الكفاءة يخوض – إذا اضطر لأن يبقى منفردا في معركته – حربا سلاحه فيها المَأْسَسَة المُنتجة للاستحقاق الموضوعي والغائبة عن سيادة الحراك الثقافي والبحثي العلمي، مع أعداء هذه المَأْسَسَة، وبالتالي مع أعداء هذا الاستحقاق الموضوعي، مع فارق كبير في القوة والنفوذ والإمكانات لصالح هؤلاء المعادين للمؤسَّسِيَّة بوجه عام.


هذا الذي نقوله لا ينفي ولا يلغي – بطبيعة الحال – وجود استثناءات تُظْهِرُ لنا أن هناك كفاءات وجدت فرصتها وتكرمت وتصدرت حتى بمساندة المؤسسة غير المؤسَّسِيَّة التي تسيطر على الحياة الثقافية والعلمية والبحثية في المجتمعات العربية. ولكن هذا ناجم في واقع الأمر عن أسباب ثلاثة..


الأول.. أن هذه المؤسسة غير المؤسسيَّة، لا تستطيع – من باب ذر الرماد في العيون وعدم الظهور بمظهر المعرقل لتصعيد الكفاءات ذات الاستحقاقات - ألا تتبنى نماذجَ تثبت من خلالها أنها تعترف بمن يستحق وتكرِّم الأكفاء، وتدفع إلى الصدارة بالمتفوقين والموهوبين، كي تبررَ – بتكريم وتقديم هذا البعض - إقصاءَها للكثيرين الآخرين ممن يستحقون الشيءَ نفسَه، بحجة أنهم لو كانوا يستحقون لأخذوا حقهم كاملا كما أخذته تلك القلة التي تستحق. وهو الأمر الذي يظهر تلك المؤسسة غير المؤسّسِيَّة وكأنها عادلة وغير مجحفة وصادقة في ادعاءاتها.


الثاني.. إن الكثيرين من المبدعين، يقبلون – مع الأسف – بالاصطفاف إلى جانب المنطق "الوجاهي" و"البداوي" الذي يرون أنه قد يساعدهم على تحقيق طموحاتهم أو بعض منها على الأقل، فيحظون بالرضى الكامل من تلك المؤسسة غير المؤسسيَّة، ويظهرون وكأنهم أخذوا ما يستحقونه من تَصَدُّر.


الثالث.. إن مبدعين ودارسين وباحثين آخرين، كانوا فضلا عن تفوقهم في مجال العطاء الفكري والإبداعي مناضلين ومكافحين، أصروا على انتزاع حقوقهم بالمثابرة، التي لا بد من أن تأتي بنتيجة في نهاية المطاف، رغم كل المعوقات التي تضعها في طريقهم تلك المؤسسة غير المؤسسيَّة.


في تصوري المتواضع فإن على الباحثين والدارسين والمفكرين والمبدعين الذين كانوا ضحايا لنظام "التصعيد الوجاهي" و"التكريم البداوي" المقيتين، والناتجين عن "الروح الغابوية" السائدة في المجتمع، أن يناضلوا لتغيير المعادلات في اتجاهين..


الأول.. انتزاع الحريات والحقوق الديمقراطية بوجه عام، باعتبار ذلك هو الحاضنة الحقيقية التي ستنقل المجتمع من طور "الوجاهة و"البداوة" الفكرية والثقافية والبحثية، إلى طور "المأسسة" الحقيقية لها.


الثاني.. تجميع الطاقات الإبداعية والبحثية في منظمات مجتمع مدني فاعلة، تعمل على اختراق النظام "الوجاهي"، عبر إتاحة الفرصة للبحث العلمي الجاد وللإبداع الحقيقي ليأخذ مكانه في الصدارة دوما.


أرجو أن أكون أجبت على سؤالك يا ميلدا بما يناسب أهميته.


ولك مني كل التقدير


أسامة عكنان