أسئلة القلم الناشط "راما"
كل يوم تتكشف لنا حقائق تاريخية جديدة تدهشنا وتغير ملامح التاريخ من جديد (كأصول الحضارة العربية ومصادرها، و... و...). وإن سلمنا بأن هذا من صنع الاستعمار، ألا ترى أنها جاءت بعد أن تجاوزت مفعولها التخريبي الذي كان في حينها, وصار على الغرب البحث عن طرق جديدة لتخريبنا من جديد من الداخل؟ وإلى متى سنبقى على هذه الحال؟ أرجو التوضيح حول هذا الأمر وشكرا. القسم التاريخي في فرسان الثقافة للاطلاع:
مع أن "الاستعمار" ظاهرة حديثة في تاريخنا العربي إذا ما قيست بالعالم، حيث بدأ الاستعمار الأوربي للعالم منذ أكثر من أربعة قرون، بينما الوطن العربي – مع استثناءات قليلة – لم يُستعمر إلا في مطلع القرن العشرين، على فرض أن حكم العثمانيين وقبلهم المماليك لا يعتبر استعمارا بالمعنى الأوربي للاستعمار، نظرا لإمكان تكييفه وفق تصورات سياسية مختلفة نسبيا..
نقول.. مع أن ظاهرة الاستعمار حديثة في تاريخنا العربي، إلا أن ظاهرة "تزوير التاريخ"، سواء في الواقع العربي أو غير العربي، هي ظاهرة قديمة قدم الحضارة الإنسانية. وبالتالي فمن غير الموضوعي تحميل وزر ظاهرةٍ رافقت الإنسانية، للعرب وحدهم، كما أنه من غير الموضوعي تحميل الظاهرة في سياقها العربي، للاستعمار الحديث نسبيا، بينما هي ظاهرة رافقت التاريخ العربي الممتد عبر آلاف السنين!!!
ومع ذلك فإن هذا المفهوم - "التزوير" أو "التزييف" - هو مفهوم متشعب ومتشابك. فهناك فرق بين "تزييف الوعي القارئ للحركة"، و"تزييف الإرادة الفاعلة للحركة"، و"تزييف وقائع الحركة نفسها". أي وبكلمة أبسط هناك فرق بين ثلاث مستويات من التزييف هي، "تزييف الوعي"، و"تزييف الإرادة"، و"تزييف التاريخ". فتزييف التاريخ ليس هدفا في ذاته، حتى لدى من يمتلك أجندة خاصة تتطلب تزييفا في التاريخ. بل هو مرتبط بتزييف من مستوى آخر.
فكل أصحاب الأجندات السياسية والتاريخية.. إلخ، يستهدفون "الإرادة" بالدرجة الأولى، إرادة أولئك الذين تستهدفهم أجنداتهم، لأنها هي مناط الفعل، وبالتالي فبالتحكم فيها وتسييرها، تُمكن السيطرة على الواقع المراد السيطرة عليه، ليتَّجِه الوجهةَ المتناسبة مع تلك الأجندة. ولأن المدخل للسيطرة على الإرادة هو "الوعي" الذي يحدد للإرادة مُكَوِّنات حركتها، وعناصر صيرورتها في الواقع، فإننا نرى أصحاب الأجندات هؤلاء يعملون على "تزييف الوعي".
وإذا كانت مرحلة تاريخية معينة لا تساعد على التحكم في الوعي بتزييفه بشكل مباشر، فإنه يصار إلى تزييفه بشكل غير مباشر، من خلال العمل بحكمة وحنكة على "تزييف التاريخ" نفسه، أي "الوقائع والأحداث" باستغلال الموقع والنفوذ والسيطرة على مفاتيح تدوين التاريخ لإنجاز مهمة خطيرة كهذه، كي تُخْلَق مكوناته وتفاصيله الجديدة – بعد التزوير – وعيا يتناسب معه، فيكون وعيا مزيفا يؤدي بدورة إلى تَكَوُّن وتَشَكُّل إرادة مزيفة، لأنها مبنية على تزييف مبني على تزييف أسبق.
في ظل انتشار وتشابك وانفتاح وسائل الاتصال، وتبادل المعلومات، يغدو تزوير الوقائع والأحداث صعبا للغاية، لأنه بقدر ما تتيح هذه الحالة المعلوماتية العنكبوتية قدرا كبيرا من فرص ضخ الكذب، فإنها تتيح في المقابل قدرا ربما يكون أكبر من القدرة على غربلة ذلك الكذب. وبالتالي تعود الأمور لتتوازن من جديد. من هنا فلم يعد الخوف في ظل الواقع المعاصر منصبا على التاريخ من حيث هو "وقائع وأحداث" خشية أن يتم تزويرها، بل يغدو منصبا على الوعي من حيث هو الأداة التي ستقرأ تلك الوقائع والأحداث، ليتم تزويرها من خلال السيطرة والقدرة والتحكم، وامتلاك وسائل الارتهان المعرفي، وعناصر وعوامل التوجيه الثقافي والسايكولوجي، لتنميطها، أي لجعلها محكومة بقواعد خاصة في قراءة الأحداث والوقائع الصحيحة في ذاتها، بشكل يحقق تلك الأجندات لأصحابها.
وإذن فنحن اليوم نخوض معركة ثقافات، تحاول فيها كل ثقافة أن تستأثر بوعي المتلقين، كي تصنعه وفق رؤيتها، التي تناسب تَشَكُّل إرادةٍ تقرأ الواقع الموَثَّق والصحيح وقليل الأكاذيب من حيث "المعلومات والأحداث والوقائع"، على النحو المطلوب.
نستطيع أن نستقرئ في تاريخنا العربي – المشرقي تحديدا - الممتد على مدى الخمسة ألاف سنة الأخيرة من عمر الحضارة، محطتين أساسيتين لتزييف التاريخ، هما المحطة "التوراتية" التي زيفت "قصة النبوة" وأزاحتها من "غرب الجزيرة العربية" إلى "بلاد الشام"، مع كل الإكسسوارات اللازمة لعملية التزييف هذه على الصعد الثقافية والتاريخية.. إلخ وبكل الكوارث التي ترتبت على هذه الإزاحة لاحقا..
والمحطة "الفتنوية" – نسبة إلى الفتنة التي حصلت في بواكير الحضارة الإسلامية بين معسكر علي ومعسكر معاوية - التي زيفت "قصة الإسلام" نفسه، وازاحتها من "إسلام عروبي تبشيري تقدمي جدا منذ وقت مبكر"، إلى "إسلام إمبراطوري توسعي رجعي جدا منذ وقت مبكر". وإذا أجرينا مقارنة بين هذين المنعطفين التزييفيين في تاريخ الحضارة العربية المشرقية، وكل ما مارسه الاستعمار من تزييف للتاريخ في الجغرافية العربية، فإننا سنجد أن الاستعمار لم يفعل شيئا بالقياس لما حدث في تلك المحطات.
وبما أن هذين الحدثين التزويريين الضخمين أثرا ليس فقط على العرب والمسلمين، بل وعلى العالم كله، فإننا نحن العرب مع الأسف بما حدث في جغرافيتنا الزمانية والمكانية عبر تلك المحطات، نُعَدُّ أكبر من أسهم في إتاحة الفرصة لتزوير التاريخ على نطاق واسع، مرة بهرطقات حاخامات بني إسرائيل، ومرة بنزوات ملوك بني أمية الذين فرض علينا أن نسميهم خلفاء رغم أنهم فتحوا المجال واسعا أمام كل المتربصين وعلى رأسهم اليهود والمجوس وكل دعاة التشيَّع المشبوه لآل البيت، ليرتكبوا أكبر مجزرة توثيقية في التاريخ، عندما أحدثوا تلك الإزاحة الخطيرة في مفهوم الإسلام، تحت عنوان "المعارضىة المشروعة" لظلم واستبداد وتوسع بني أمية اللامحدود؟
أمامنا إذن مهمتين كبيرتين، الأولى، "نبش التاريخ القديم"، لنفض الغبار عن الحقيقة المختبئة في ركام "الإزاحتين المذكورتين" والمتسببتين في أكبر عمليتي تزييف عرفهما التاريخ العربي، والثانية، "اليقظة" و"وضوح الرؤية" لحماية وعينا المعاصر من تزييفٍ يلاحقنا ويستهدفنا من الغرب هذه المرة.
ولك الشكر والتقدر أيها القلم الناشط "راما"
أسامة عكنان
تعقيب وتعليق من الأديب والباحث "خليل حلاوجي"
أيهما أسبق زمانيا العقل ام النقل، وبمعنى ادق ايهما نتج عن الآخر الفكر ام اللغة؟ في سياق البنية العقلية اتضح اليوم اللاعقلانية في العقل؟ فلم يعد العقل ذلك المتعال الذي نلجا اليه لحل وفاض المعضلات؟ ثبت ان العقل غير محايد وانه انحيازي عن الحقيقة؟ ان مبحث علاقة العقل بالنقل يجب واقول يجب لخطورة الموقف الجديد لتلك العلاقة من حيث ان رجلا مثل ميشيل فكو وضع ثلاثيته لينقذ العقل من تسيده المزعوم فقال: النص/السلطة/الذات. ولو طبقنا هذا الثالوث قرآنيا لوجدنا ان القران نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي فهو نبهنا ان اللغة تعطي المفهوم من السياق وايضا من ذاتية المتلقي فهذا هارون النبي آثر السكوت امام كفر قومه وعبادتهم التجل لانه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري لكنه ادرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد بينما العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة اخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم فكسر الالواح واخذ بلحية (خطاب) هارون. هل نعد تصرف النبيين في الصحة متساويان؟ ام ان ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته؟ وهنا سنضطر للاقرار بمفهوم الحق النسبي! والعقلانية النسبية! طبعاهناك عشرات الامثلة القرانية.
الأديب والباحث خليل حلاوجي
تعقيب على تعقيب
إعجابا مني بالفضاءات المثيرة التي تستدرجها إلى الذهن تعليقات الأستاذ الأديب والباحث "خليل حلاوجي"، فإنني أستميحه عذرا في قبول تطفلي للتعقيب على تعقيبه، وأنا له من الشاكرين.
وأستهل تعقيبي بإعادة صياغة تعقيبه في المحاور التالية، التي أحسب أنه طرحها فيه بكثافة شديدة.
السؤال الأول في التعقيب..
1 - أيهما أسبق زمانيا العقل أم النقل، وبمعنى أدق أيهما نتج عن الآخر الفكر أم اللغة؟
الحقائق المقررة في التعقيب بلا إثبات..
2 - في سياق البنية العقلية اتضحت اليوم اللاعقلانية في العقل؟
3 - لم يعد العقل ذلك المتعال الذي نلجأ إليه لحلالمعضلات؟
4 - ثبت أن العقل غير محايد، وأنه انحيازي عن الحقيقة؟
أمثلة وردت في التعقيب لا علاقة لها بالسؤال الأول ولا بالسؤال الختامي..
5 – "ميشيل فكو" وضع ثلاثيته لينقذ العقل من تَسَيُّدِه المزعوم، فقال: النص/السلطة/الذات!
6 - القرآن نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي، فهو نبهنا أن اللغة تعطي المفهوم من السياق وأيضا من ذاتية المتلقي!
أ - هارون النبي آثر السكوت أمام كفر قومه وعبادتهم العجل لأنه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري، لكنه أدرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد!
ب - العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين، فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة أخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم، فكسر الألواح وأخذ بلحية (خطاب) هارون!
السؤال الختامي في التعقيب..
فهل نعد تصرفي النبيين في الصحة متساويين؟ أم أن ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته؟
إجابة استنتاجية وردت في نهاية التعقيب، لا يلزمنا بها أيٌّ من السؤالين السابقين..
وهنا سنضطر للاقرار بمفهوم الحق النسبي! والعقلانية النسبية!
وبعد
فإن من يضع نفسَه في منتصف الطريق ليكملَ المشوار، معتقدا أنه في نقطة "بداية الطريق"، ليفترضَ من ثم أن ما سوف يعرضُه، هو المنطلقات المعرفية، والبديهيات المسلَّم بها، يفقدُ البوصلة، لأنه حرم نفسَه قوةَ دفعِ الحقيقةِ الكامنةِ في "البداية" الحقيقية، وليس في البداية "المتوهَّمَة".
ومن يُسْقِطُ مصطلحَ "العقل" الذي له مضامين محددة عند من يستخدمونه مفردةً معرفيةً فلسفيةً، على مجموعة من الأمور – الموضوعية في ذاتها - والتي لا تنطبق عليها مضامين ذلك "العقل"، كما هو عند هؤلاء، ليستنتج في ضوء ذلك، أن هناك مشكلة في فكرة "العقل"، وفي مضمونه المتداول فلسفيا، إنما يواقع أكبر أنماط الأخطاء المعرفية، لأنه في واقع الأمر يفترضُ مجموعة من "اللامعقولات"، ويمنحها صفة "المعقولات" - بينما هي ليست كذلك - وعندما يلاحظ أن العقل كما هو عند أصحابه، لا يُعَقْلِن تلك الأمور "غير المعقولة" أساسا، نراه يرفض فكرة العقل المهيمن أو السباق أو الأول.. إلخ!!
وليس هناك انحرافا بالمعرفة وبالموضوعية وبالحياد والتجرد، وبالحقيقة من ثمَّ - عن مساراتها – أكثر من ذلك!!
لا يمكن لأي حديث عن "العقل" وعن دوره في "المعرفة" وعن علاقته بأوعية المعرفة الأخرى الممكنة، أن يكون مثمرا وذا مردود معرفي مُنتج، إذا لم تتم معالجة مسائل أساسية من تلك التي عودتنا على طرحها "الفلسفة" باعتبارها الأداة الأقدر على معالجتها. ومن هذه المسائل، "التسلسل"، "السؤال الفلسفي"، "الضرورة والإمكان". كما لا يمكن لأي حديث عن علاقة العقل بالتجرية وبالوحي أن يكون موضوعيا، إذا أعطى المتحدثون لأنفسهم الحق في إقامة الحجَّة على الأصل بالفرع، وعلى النتيجة بالمقدمة!!
التسلسل..
إن توضيح ماهية العقل ومن ثم العلاقة المعرفية بينه وبين أدوات المعرفة الأخرى المتاحة، أمر ضروري وملح. إننا أمام المعضلة التاريخية المتأصلة في صميم أزمة الفكر الإنساني والمتمثلة في طبيعة العلاقة بين العقل "الروح"، و الوحي "النبوة"، من جهة أولى، وبين التجربة "الحس"، والوحي، من جهة ثانية، وبين العقل والتجربة من جهة ثالثة، لا نملك إلا أن نؤكد على جوهرية وأساسية التحليل المتعلق بتحديد مصادر المعرفة "أدوات المعرفة"، من حيث هي مصادر أولا، ومن حيث الآليات التي تتيحها هذه المصادر للإشعاع بالمعارف الكاشفة عن الواقع الموضوعي والعاكسة له ثانيا.
إن التعددية في مصادر المعرفة كأدوات وكأوعية من جهة، والعلاقة الفريدة بين هذه المصادر، وهي العلاقة التي ستكشف لنا عن ترتيب مصدري تنازلي يبدأ بالعقل ثم يمر بالتجربة لينتهي أخيرا بالوحي من جهة أخرى، هما مسألتان تتطلبان بادئ ذي بدء القيام بقراءة فاحصة في نقطة انطلاق السلسلة المعرفية التي نتحدث عنها والتي هي العقل. إن هذه القراءة هي في حقيقتها دراسة في مقولة التسلسل.. فما التسلسل؟ وما الصيغة المعرفية المطروحة للخروج من المأزق الذي يفرضه التسلسل على العلم وعلى المعرفة ككل؟
إن التسلسل مصطلح يُسْتخدم للدلالة في الموضوع الذي نتحدث عن التسلسل فيه، على الحالة الناجمة عن عدم وجود نقطة بداية قائمة بذاتها، تكون في غير حاجة إلى نقطة سابقة عليها تُكْسِبُها مقومات الوجود والكينونة. وهو – أي التسلسل – حالة ممتنعة عقلا، ولا يمكن تَخَيُّلُها أو تصورها أو الإقرار بموضوعيتها، لما في ذلك من هدم لكل العلوم والمعارف من الأساس.
فالتسلسل في الاستدلال يعني الاستمرار اللانهائي في إيراد الأدلة المُثْبِتَة لحقائق قائمة، كأن نقول: إن الدليل على القضية (س) هو القضية (ص)، والدليل على القضية (ص) هو القضية (ع)، والدليل على القضية (ع) هو القضية (ل)، هكذا إلى ما لا نهاية، على قاعدة أن كل قضية يُستدل بها على صحة قضية أخرى، هي في حد ذاتها بحاجة إلى قضية تدلل عليها وعلى صحتها، كقضية تصلح للاستدلال على صحة القضايا الأخرى القائمة عليها. إن هذا الاستمرار في الاستدلال بشكل لا نهائي يسمى تسلسلاً، وهو الحالة التي نقول بأنها ممتنعة عقلا. إذ لا بد من الوقوف عند نقطة بداية في الاستدلال تُسَمى الدليل القائم بالذات والمُسْتغْني عن الأدلة السابقة.
ومن الأمثلة على التسلسل أيضا، التسلسل في أسباب الحوادث، كأن نقول بأن الحادث (س) سببه الحادث (ص)، وأن الحادث (ص) سببه الحادث (ع)، وأن الحادث (ع) سببه الحادث (ل)، وهكذا إلى ما لا نهاية، وذلك على قاعدة الاستمرار اللانهائي نفسها في المطالبة بالأدلة. فهذا هو التسلسل في مجال الحوادث والأسباب، وهو حالة ممتنعة عقلا أيضا. إذ مما هو واجب وضروري أن تقف سلسلة الأسباب عند سبب قائم بالذات وفي غير حاجة إلى سبب سابق عليه سَبَّبَ حدوثه. والأمثلة على التسلسل كثيرة ومتنوعة وكلها امتداد للمعنى الذي أوردناه. والسؤال المطروح في قضيتنا هو مدى انطباق التسلسل أو عدمه في المعرفة ومصادرها. وما هي النتائج التي يمكنها أن تترتب على كون التسلسل ممتنعا فيهما وفي مضامينهما؟
منذ البدء يمكننا أن نلاحظ أن المعارف التي يكتسبها الإنسان أو يكتشفها، تنمو وتتكاثر باستمرار، وأن كل معرفة لاحقة تعتمد على معرفة سابقة، وأن كل معرفة سابقة أدت أو سوف تؤدي بالبحث إلى معرفة جديدة مرتبطة بها بشكل من الأشكال. إن هذه الملاحظة تولد التساؤل التالي:
"أليست هناك معرفة أساسية أو مجموعة معارف أساسية، وُجِدًت في إدراك الإنسان (عقله) بصورة من الصور بدون اعتمادها على معارف سابقة، بحيث يمكننا القول عندئذ أنها معارف أولية قائمة بالذات، منها ننطلق لتنمية معارفنا ومضاعفتها ولتطويرها؟ و أنه لولا هذه المجموعة الأولية من المعارف لما تسنى لنا أن نعرف أو أن ندرك شيئا على الإطلاق؟ إن الكثيرين وعلى رأسهم التجريبيون يجيبون بالنفي، أي بعدم وجود معارف قائمة بالذات. فهل ما يزعمه التجريبيون صحيح؟
إن القول بعدم وجود معارف من القبيل المذكور، يُوَلِّد مشكلة معرفية غاية في الخطورة – لمن يدقق النظر – ستؤدي بالضرورة إلى نسف الهرم المعرفي والعلمي الشامخ الذي تعتز به الإنسانية، وعلى رأس كل ذلك ما كان منه تجريبيا. إن عدم الاعتقاد بوجود معارف أولية وأساسية في غير حاجة إلى إثبات أو إلى معارف سابقة تتولد عنها، يعني إلغاء قانون السَّبَبِيَّة القائم بذاته، والاعتقاد من ثم بأن هناك مجموعة من الأحداث في هذا الكون ليست ناتجة عن أسباب، نظراً لعدم وجود أي طريقة من أي نوع لإثبات صحة هذا القانون. ويعني أيضا سقوط مبدأ عدم التناقض القائم بذاته، والاعتقاد بالتالي بأن النفي والإثبات المتوحدين في ظروفهما يمكن تواجدهما، بسبب انتفاء أي وسيلةِ استدلالٍ على صحة مبدأ عدم النناقض هذا. ويعني أيضا الاعتقاد بأن الكل قد يكون أصغر من الجزء الذي أُخِذَ واقتُطِعَ منه، مادامت القاعدة المعاكسة غير قائمة بذاتها في الوقت الذي يستحيل إثباتها بدليل من أي نوع. كما أنه يعني الاعتقاد بأنه في واقع هندسي إقليدي لا يمثل الخط المستقيم أقصر بعد بين نقطتين، نظرا لعدم وجود معلومات قائمة بالذات كهذه القاعدة التي يستحيل إثباتها بدليل، وقد يغدو الخط المنحني من ثم أقصر من الخط المستقيم. إلى آخر ما هنالك من معارف نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتقاد بصحتها بدون ما حاجة إلى معارف سابقة تثبتها أو تُدَلِّل عليها.. ومع ذلك فإن مقولة التجريبيين السابقة مقولة خاطئة لا يمكنها أن تصمد بأيِّ حال أمام المعالجة الموضوعية، نظراً للأسباب التالية..
أولا.. إن مقولة "لا يوجد حد أدنى من المعارف القائمة بالذات، وأن كل المعارف مهما كان شكلها لا تثبت إلاَّ عبر الإتيان بالدليل السابق في وجوده عليها"، هل هي مقولة قائمة بالذات أم أنها مقولة تحتاج إلى برهان؟ فإذا كانت قائمة بالذات فقد ثبت لدينا إذن وجود المعارف القائمة بالذات والمستغنية عن الدليل من حيث المبدأ، بصرف النظر ولو مؤقتا عن "ماهيتها" و"جوهرها" و"كميتها"، فنحن نناقش مبدأ وجود مثل هذه المعارف، ولسنا بصدد معالجة إن كانت مفردة معرفية معينة قائمة بذاتها أم لا، فمثل هذه المعالجة تأتي لاحقة للمعالجة الأولى، فإن ثبت وجود المعارف القائمة بالذات، فإن المعالجة الثانية تغدو معقولة ومفهومة، وإن لم يثبت ذلك فلا يغدو لطرحها أي معنى.. هذا بالإضافة إلى أن في القول بقيامها بالذات ليس فقط ما يثبت مبدأ القيام بالذات كمبدأ معرفي أصيل، بل ما يُسْقِطها وينفي صحتها من حيث المبدأ، لأن مضمونها يتناقض على الفور مع القول بقيامها بالذات، مادامت هي تتضمن النص على عدم وجود معرفة قائمة بالذات.
أما إذا لم تكن المقولة إياها قائمة بالذات – وهذا هو الصحيح – فما هو الدليل على صحتها؟ إذ أنها في مثل هذه الحالة ستفتقر إلى الدليل.. ومع أنه من غير الممكن لأيٍّ كان أن يسوق دليلا يثبت به صحة تلك المقولة، ومن أي نوع كان هذا الدليل، فإنه حتى مع افتراض وجود دليل فإنه بدوره سيخضع لنفس التساؤل مادام هو نفسه غير قائم بالذات وفق منطوق المقولة نفسها، لنحصل من ثم على الإجابات الممكنة نفسها، لنعود بالتالي إلى الحلقة المفرغة نفسها.. وهكذا يتبين لنا أنه من غير الممكن الانطلاق لإثبات صحة هذه المقولة، على فرض إمكانية إثبات هذه الصحة، إلاَّ بالإقرار بقيامها بالذات، مع أن هذا الإقرار يتعارض مع مضمونها ذاته، لأن فيه إقراراً مبدئيا بوجود الحقائق القائمة في العقل بالذات والمستغنية عن البرهان.
إن هناك إذن تناقضا ذاتيا طبيعيا تحويه تلك المقولة، بحيث لا يمكنها أن تحقق لنفسها الانسجام والتماسك. فإنها إذا صحت فيجب أن تتحقق في صورتها الأولى عبر محتواها ذاته. فمقولة الافتقار الدائم إلى دليل إذا كانت صحيحة، فمن باب أولى أن تكون أولى الحقائق المحتاجة إلى دليل هي هذه المقولة ذاتها. وهكذا تبطل إمكانية قيامها بالذات. بينما المقولة النقيضة لها متماسكة ومنسجمة لأنها أولى القضايا المعرفية القائمة بذاتها.
ثانيا.. إن الإصرار على أن كل معرفة أياًّ كانت لا تثبت إلاَّ بالدليل عليها والسابق في وجوده على وجودها، وعلى أنه لا توجد معارف خارج نطاق هذه الدائرة الاستدلالية، يعني بصورة قطعية عدم وجود حقيقة ثابتة، لأن كل حقيقة ستفتقر إلى حقيقة أسبق منها تكون مبررا لوجودها ولأحقِّيَّتها. وبما أن إمكانية الاستمرار في التساؤل هي إمكانية لا نهائية نظريا، فإن كل معارفنا التي نتشدق بها نحن معشر البشر هي عبارة عن أوهام لا أساس لها من الصحة. ولتوضيح ذلك نقول..
إذا كانت لدينا الفكرة (أ) وكان الدليل على صحتها هو الفكرة (ب)، فإننا هنا أمام حالتين ممكنتين، فإما أن يكون الدليل (ب) قائما بالذات، وإما أن يكون مفتقرا إلى دليل يثبت صحته. فإذا كان قائما بذاته فدلالته على صحة الفكرة (أ) تعطي هذه الفكرة وجودها الموضوعي. أما إذا لم يكن قائما بذاته فهذا يعني أن الفكرة (أ) ذاتها والقائمة على الفكرة (ب) تغدو قائمة أيضا على الفكرة (ج) التي هي الدليل على صحة (ب) مثلاً، وبدون ذلك لا تكون لـ (أ) أي قيمة.
الشيء نفسه يتكرر بالنسبة للدليل (ج)، فإذا كان قائما بذاته فإن ما بعده موجود موضوعيا، وإذا لم يكن، فإن ما بعده، أي (أ) و(ب) لا يقومان بدون (د) الذي لا يقوم (ج) بدونه ابتداءً، وهكذا دواليك.. والخلاصة أن الاستمرار في الاستدلال إذا كان مفروضا علينا بصورة لا نهائية على قاعدة ألاَّ دليل قائم بالذات، فهذا يعني ألاَّ فكرة ولا حقيقة موجودة موضوعيا، لأن الدليل اللانهائي غير موجود أبدا لاستحالة الوصول إليه، في الوقت الذي يُعْتَبر كل شيء قائما عليه. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى نسف كل العلوم والمعارف واعتبارها مجرد أوهام وأكاذيب، لأن قيام هذه العلوم والمعارف راجع ابتداءً إلى وجود حقائق قائمة بذاتها تُكْسِبُ ما يليها مبرر وجوده وموضوعيته.
ثالثا.. لا يمكن أن يتخلص من إلزامية الإيمان والاعتقاد بوجود حد أدنى من المعارف القائمة بالذات أحد أياًّ كان، في أسلوب معالجته للمسائل المعرفية وإن حاول، وقصارى ما يمكن أن يفعله إنسان معين هو أن يختلف مع إنسان آخر في ذات المعارف التي ليست في حاجة إلى برهان ودليل، وليس في وجود معارف من هذا القبيل أو في عدم وجودها من حيث المبدأ. فكل من يحاول أن يُكَرِّس مفردة معرفية أساسية، إنما يعبر بذلك عن وجود معارف ليست في حاجة إلى برهان انطلق منها لتكريس مفردته تلك وإلا لما استطاع ذلك.
لا بل إن سَوْقَ شخصٍ ماَّ – أياًّ كان هذا الشخص – لدليل ماَّ – أياًّ كان هذا الدليل – في سياق إثبات قضية ماَّ – أياًّ كانت هذه القضية – ما كان ليتم أو ليكون له معنى أصلا، لو لم تكن واضحةً في ذهن ذلك الشخص وفي ذهن من يستمع إليه، حقيقةٌ مفادُها أن "سَوْقَ الدليل سببٌ ضروري وكافٍ في الوقت ذاته لثبوت صحة المسْتَدَلِّ عليه". وهذه الحقيقة التي هي بمعنىً آخر.. "لابد لكل مُفْرَدةٍ معرفية من دليل على صحتها"، عبارة عن حقيقة بدهية قائمة بذاتها، لا يقوم عليها دليل من أي نوع، ولا ينفك عن الحاجة إليها رغماً عنه، أي مُسْتَدِلٍّ على شيء في هذا العالم.
إن هنالك إذن مجموعة من المعارف الأساسية لدى الإنسان، وهي في عقله كما تم الاصطلاح على ذلك، ليست في حاجة إلى برهان ولا إلى أي مفردة معرفية سابقة عليها تستمد منها وجودها ومبررات كينونتها المعرفية، بل هي أساس كل المعارف، والدليل على كل الحقائق الفوقية، ويجب أن ننطلق منها عندما نريد الكشف عن أي معرفة مهما كانت، ولا يسبقها في المعارف شيء. الأمر الذي يجعل الوعاء الذي يحتويها وهو العقل، المصدر الأساسي لكل المعارف، ولابد من أن يتحاكم إليه كل من يَدَّعِي معرفة معينة على ضوء تلك المعارف الأساسية المشار اليها، بحيث إذا تعارضت المعرفة المُدَّعاة أو لم تنسجم معه ومع محتوياته الأولية بشكلٍ من أشكال الانسجام التي يقبلها هو ذاته، فليست جديرة بأن تكون معرفة، ولا تتجاوز كونها سفسطة عقيمة أو خرافة متمكنة من عقولٍ بدائية.
إن العقل كما أكدنا على ذلك سابقا لا يعني لدينا أكثر من وعاء افتراضي، يتضمن في داخله فكرة واضحة أو صورة مطابقة – في السياق التجريدي – لتلك المعارف التي نتحدث عنها. فنحن عندما نصف العقل بالمصدرية العليا للمعرفة، فإننا إنما نصف تلك المعارف المحتواة فيه أو التي فيه صورة مطابقة لها، بتلك المصدرية. وعندما نعتبره مرجعا، فنحن إنما نعتبر أن تلك المعارف هي المرجع. ولا نعني بمصطلح العقل ولا بمصطلح مصدريته العليا للمعرفة أكثر من هذا المعنى.
كما أننا عندما نؤكد على أن تلك المعارف هي في غير حاجة إلى برهان أو دليل، فهذا يعني أنها تثبت لدى الإنسان بدون اللجوء إلى مصدر معرفي آخر من المصادر التي تقوم بتزويدنا إلى جانب العقل بالمعرفة. لأنها إذا كانت قائمة بالذات فهذا يعني أنها لا تحتاج إلى معارف أخرى تثبت صحتها، وإذا كانت هذه المعارف الأخرى لا يمكن الحصول عليها إلا بطريقة أخرى غير القيام بالذات وعبر وعاء آخر غير العقل، فإن النتيجة الضرورية من ذلك، استغناؤها – أي المعارف القائمة بالذات – عن أي مصدر آخر أو وسيلة أخرى غير قيامها هي بالذات.
ونؤكد هنا للأهمية، على أننا نقصد بالمصدر، الوسيلةَ التي نُدْرِك بها الواقعَ الموضوعي كما هو وحيث هو، وليس هو أو مكانَ وجوده. إذ من حيث هو أو مكانُ وجودِه، فهو ذاته هذا الكون وهذه الطبيعة. إنه الوجود ذاته بكل مستوياته. ولكننا ندركه بوسيلة إدراكٍ هي العقلُ أو غيرُه. أي إما بفرضه نفسه علينا مباشرة وبدون برهان، وإما بفرضه نفسه علينا عبر سلسلة من البراهين والأدلة وطرق الإثبات. فعندما يفرض هذا الواقع الموضوعي نفسه علينا مباشرة ونقبله من ثم بدون حاجة إلى دليل، أو عندما لا يمكن إيراد دليل على صحة الصورة التي فرض بها نفسه علينا، أو عندما يكون الدليل المطلوب لإثبات صحة هذه الصورة هو من النوع التركيبي للمفردات المباشرة المُعَبِّرَة عنه نفسِها بعضِها إلى البعض الآخر، وبدون إدخالِ عنصرٍ معرفي من نوع آخر في الموضوع..
نقول.. عندما تكون الصورة المعرفية التي يفرض الواقع الموضوعي نفسه علينا من خلالها هي واحدة من هذه الأنواع، فنحن في واقع الأمر بصدد معرفة عقلية، بسيطة كانت أو مركبة. أما إذا كانت تلك الصورة من نوع آخر لا نستطيع البت فيه مباشرة بالأوَّلِّياِّت المعرفية العقلية ولا بتركيبها إلى بعضها البعض، فنحن بصدد معرفة غير عقلية، الأمر الذي يقتضي منا القيام بطَرْقِ الموضوع بدقة، لاستجلاء حيثياته عبر فكرة التعددية في مصادر المعرفة.
إن العقل هو المصطلح الذي نطلقه على الذات المُدْرِكَة في الإنسان. وهو كي يمارس مهمته الإدراكية بالصورة المنوطة به، قد أودِعَت فيه طائفة من المعارف تعكس جانبا من الواقع الموضوعي ذي مواصفات خاصة وتُعَبِّر عنه وتُصَوِرُه. وإن هذه الطائفة من المعارف عندما أودعت في العقل فقد أودعت بشكل يتم معه الوعي بها بصورة مباشرة، فكانت بذلك معارف قائمة بالذات. إن احتواء العقل على هذه الطائفة الخاصة والمميزة من المعارف، يعني أنه مُبَرْمج بصورة مُسْبَقة على أن يعرف الوجود من خلالها. وهذا بدوره يقودنا إلى توضيح أن كافة المعارف الأخرى – غير القائمة بالذات – يُفْتَرَض حتما أن تَنْتُج عبر تركيب الأسس المعرفية العقلية المذكورة وتآلفها بشكل أو بآخر.
السؤال الفلسفي..
تعالو معنا الآن لنتابع الحوار التالي بتمعن..
س: أين كنت غائبا طيلة هذه المدة؟
ج: ولماذا تسأل عن ذلك؟
س: ومنذ متى تعترض على أسئلتي؟
ج: لست أدري كيف استسلمت لك طيلة هذا الوقت؟
س: هل أفهم من ذلك أنك تعلن العصيان والتمرد؟
ج:………………………….
ما أبسط هذا الحوار، وما أبسط الحقائق التي تدور حولها أسئلته.. أين؟.. لماذا؟.. متى؟.. كيف؟.. هل؟.. نستثني الكلمة الأخيرة "هل"، لأن الإجابة على السؤال الذي يستخدمها كأداة استفسارٍ، هي نوع من المفاضلة بين أوجه وأشكال مفترضة للوجود، بالاستناد بطبيعة الحال إلى أسسٍ تتم في ضوئها هذه المفاضلة.
أين؟.. متى؟.. كيف؟.. لماذا؟.. أربع كلمات تختزل الحضارة والتاريخ والمعرفة والوجود وكل شيء تمكن معرفته في هذا العالم. أي أن كل ما تمكن معرفته هو بشكل أو بآخر من وحي هذه الكلمات. ولهذه الكلمات دلالات مجردة بعيدا عن لغة التخاطب والاستخدام. فسواء استخدمت باللغة العربية أوباللغة الإنجليزية (where,when,how,why) أو باللغة الفرنسية (ou,quand,comment,pourquoi)، أو حتى بلغة الإشارة، فليس هناك فرق، المكان.. الزمان.. الجواهر والأعراض (المادة).. العلَّة..
كم يبدو مُنْعِشاً للذهن الذي يحب التبسيط أن يكتشف ألاَّ وجود لسؤال دون أن يكون مستفسرا عن مكان أو عن زمان أو عن مادة أو عن علَّة. وكم يبدو مثيرا للدهشة اكتشاف أن ذهن الإنسان مركب بهذه الطريقة شديدة البساطة وشديدة الاختزال للوجود من حوله. إن أبسط صِيَغ التساؤل التي يثيرها الذهن تتطابق مع أبسط القضايا المبثوثة في الوجود وتتمحور حولها، وهذه القضايا هي المكان والزمان والعلَّة والمادة.
إن الوجود كله أزمنة وأمكنة وعلل وجواهر وأعراض، وعلاقات بين هذه الأربع تبدأ من منتهى البساطة حتى تصل إلى غاية التعقيد. ولا توجد قضية في هذا الوجود لا يمكنها أن تؤول في النهاية إلى تلك العناصر. من أراد أن يعرف الوجود في أصوله البسيطة عليه أن يعرف الزمان والمكان والعلَّة والمادة في أصولها البسيطة. ومن أراد أن يتابع هذا الوجود في مختلف مراحله ولحظاته وهيئاته، فهو مطالب في واقع الأمر بمتابعة مختلف مستويات التركيب بين تلك المسَمَّيات الأربعة.. حيثما حللت أيها الذهن باحثا عن المعرفة، فأنت غارق لا محالة في بحور من الأزمنة والأمكنة والعلل والجواهر والأعراض. فتأمل وانتبه!
إن أي سؤال عن الزمان والمكان والعلَّة والمادة، يؤول في أبسط صوره، إلى تحليل وتركيب عقليين، لا مكان فيهما لأي وعاء معرفي آخر كي يدلي بدلوه. وهذا هو ما يقودنا حتما إلى مسألة "الضرورة والإمكان" التي تثيرها فكرة "السؤال" وفكرة "الجواب".
الضرورة والإمكان..
إن القيام بالذات هو الاستغناء عن سابق لاكتساب مبرر الوجود. وبناءً عليه فالقائم بالذات هو ما لا يسبقه في القيام شيء، وهو أصل لواحقه. وإن ما قام في العقل بالذات من معارف يقودنا بالضرورة وبحسب ما تقتضيه طبائع الأمور إلى تحديد مصادر المعرفة التي تجيء لاحقة للعقل، وهي التجربة بالدرجة الأولى، ثم الوحي بعد ذلك في سياقٍ خاصٍ سيتضح في حينه.
إن قولنا بأن العقل بمعارفه الأولية البسيطة هو المصدر المعرفي الأول، لا يعني عدم وجود معارف غير أولية يعجز هذا العقل عن إدراكها أو عن الكشف عنها بصورة مباشرة وبدون ممارسة نوع من الرياضة المعرفية الضرورية بحكم بُنْيَتِه وتركيبته. كما أنه لا يعني – وهذا أمر مهم جدا – أن العقل يستطيع أن يحكم على كل شيء في هذا الوجود بالصحة أو بالخطأ، بالوجود أو باللاَّوجود، وبصورة مباشرة أيضا، وذلك عبر احتوائه على هذا الحكم المباشر على كافة جزئيات الواقع الموضوعي.
إن ما يجب أن ننتبه إليه في هذا الصدد، هو أن هناك في الواقع مصادرَ معرفةٍ أخرى غير العقل، وذلك بمعنى الأدوات الدَّالة والمُرْشِدَة، أو الأوعية المتضمنة لطرقها الخاصة في تصوير الواقع الموضوعي وفي التعبير عنه، يعجزالعقل عن الكشف عن مفردات الواقع التي لا تعجز هي عن الكشف عنها بموجب طبيعتها في الكشف. أي أن هناك بالتالي مجموعة من جزئيات الواقع الموضوعي ومفرداته التي ليس من صلاحيات العقل ولا من اختصاصه ولا مما يندرج ضمن قدراته أن يعطي عليها حُكْمَه، بسببِ افتقاره إلى مُقومات الحكم عليها، وهو الافتقار الناجم ابتداءً عن اختلافها في طبيعتها التكوينية عمَّا رُكِّب العقل وعما فُطِر على القدرة على كشفه والحكم عليه بالصحة أو بالخطأ، وبالوجود أو اللاَّوجود. وهذا ما سيتضح لنا في سياق التحليل التالي.
من حيث المبدأ، فإن كل الوجود تثبت معرفته ويثبت اكتشافه بالعقل وحده، وذلك من حيث ضرورة الانطلاق منه – أي من العقل – للتعرف عليه كما هو – أي على الوجود – ولا طريق غيره إليه. وإن كل من يحاول أن يسلك طريقا غير العقل – أي مبتدئا بغير العقل– إلى معرفة الوجود، فإنه يعجز عن ذلك. وإنه عندما يعرف الوجود في جانب منه متوهما أنه لم يرتكز في ذلك إلى العقل مُنْطَلَقاً، فهو جاهل بكل تأكيد بآليات المعرفة التي يستند إليها والتي هُيِّئَ له أنها بعيدة عن أيادي العقل. وإنه لتحديد المدلول الحقيقي لما نقوله يجدر بنا أن ننتبه إلى ما يلي..
إن العقل يمتلك إزاء كافة ظواهر هذا الوجود وجزئياَّته ومفرداته التي تصادفه واقعاً ومشاهدةً وإحساساً، أو تَخَيُّلاً وافتراضاً، وأياًّ كانت طبيعتها، أحكاما ثلاثة فقط. فهو إما أن يحكم عليها بأنها أكيدة وواجبة، وإما أن يحكم عليها بأنها مستحيلة وممتنعة، وإما أن يحكم عليها بأنها جائزة وممكنة. ولا يوجد في العقل أيُّ حكمٍ آخر بخصوص تلك الظواهر. ومن الواضح أن الحكمين الأوَّلَيْن، وهما الوجوب والاستحالة يندرجان تحت عنوان الضرورة في المصطلح الفلسفي، الأمر الذي يغدو معه واضحا أن العقل يمتلك في المحصلة حكمين فقط إزاء مفردات الوجود هما: "الضرورة" و"الإمكان".
فأما الظواهر التي يحكم عليها العقل بالضرورة، فهي كل الظواهر التي ينفرد وحده بصلاحية واختصاص الحكم عليها دون غيره، بتاًّ وقطعاً، ليغدو هو دون غيره من مصادر المعرفة المُخَوًّل بمعرفتها والكشف عنها. كما أن هذه المجموعة من الظواهر المعروفة حالتها وهيأتها عقلاً لا يجوز أن تصلنا عنها وبخصوصها فكرة من مصدر معرفيآخر وتكون مغايرةً وغيرَ مطابقةٍ لفكرة العقل عنها، وإلاَّ حُكِمَ على هذه الفكرة بالبطلان والخطأ واللاَّوجود. فإذا كانت الحقيقة هي الفكرة المطابقة للواقع الموضوعي، فلا يمكنها أن تكون حقيقةً فكرتُنا غير العقلية عن واقع موضوعي فكرتنا العقلية عنه بخلافها.
أما الواقع الموضوعي الذي ليست لدى العقل فكرة باتَّة وقاطعة عنه، أي الواقع الذي تتساوى لدى العقل بخصوصه كل الأفكار الممكنة، فهو واقع موضوعي يقع العلم به وبحالته وبما هو عليه، خارج دائرة اختصاصات العقل. الأمر الذي لم يستطع معه تكوين فكرة باتَّة عنه وعن حالته تلك، واكتفى بالإمكان فقط، وذلك لتساوي كافة أوجه البَتِّ والقطع المتصورة، دون رجحان كفة على أخرى أو وجه على وجه آخر.. ولكننا نتساءل مرة أخرى، عن الدلالة الحقيقية لمعنى أن يحكم العقل على واقع موضوعي معين بالضرورة وعلى آخر بالإمكان؟
عندما نقول أن العقل يحكم على حالةِ وهيئةِ الواقع الموضوعي، فنحن لا نختلق فكرة ولا ندَّعي ما لا وجود له، بل إننا لا نفعل شيئا أكثر من نقل صورة الواقع كما هي. فمن الناحية النظرية لا يوجد سؤال في الوجود، والسؤال هو بالضرورة الصيغة التي تُطْرَح من خلالها آلية التعرف على الواقع الموضوعي مدار البحث، إلاَّ ويجيب عليه العقل، لأنه موجه في الأساس إلى العقل، وليس ألى أي وجود آخر. فنحن لا نتوجه بأسئلتنا إلى المُعِداَّت العجماء في المختبرات، بل نستخدمها فقط. كما أننا ما كنا لنتوجه إلى الوحي بأي سؤال إلاَّ بعد أن لم نجد الإجابة لدى العقل. وإذن فمادام كل سؤالٍ يُوَجَّهُ في الأساس إلى العقل، فالإجابة عليه هي قطعا لدى العقل. ولا يمكن لعاقل أن يُنْكَر علينا هذه المسألة البدهية.
إن الإجابات الممكنة على سؤال "هل"، هي "نعم" أو "لا" أو "لا أعرف". كما أن الإجابات الممكنة على الأسئلة "متى" و"أين" و"كيف" و"لماذا"، هي إما إعطاء الفكرة المطابقة للواقع الموضوعي، وإما الاعتذار بقول "لا أعرف". فعندما نوجه سؤالاً إلى العقل محوره "هل"، وتكون إجابة العقل عليه هي "نعم" أو "لا"، أو عندما نوجه إليه سؤالاً يتمحور حول "الأين" أو "المتى" أو "الكيف" أو "اللماذا"، وتكون إجابته بإعطائنا فكرة واضحة ويقينية عن الواقع الموضوعي محل التساؤل، فالعقل إنما يجيبنا بالقطع والبت، أي بالضرورة فيما هو حتما ضمن دائرة اختصاصاته المعرفية. وبالتالي فنحن في غنىً تام عن اللجوء إلى أدوات وكواشف أخرى للمعرفة، للبحث عن إجابات على أسئلتنا. لأن الهدف من وراء طرح السؤال – أي سؤال – إذا كان هو معرفة حالة الواقع الموضوعي كما هي، فمعرفتنا بهذه الحالة عقلاً تُغْنينا قطعا عن البحث خارجه لمحاولة معرفتها.
أما إذا أجاب العقل على سؤال محوره "هل"، بـ"لا أعرف"، أو على سؤال يتمحور حول "الأين" أو "المتى" أو "الكيف" أو "اللماذا" بـ"لا أعرف" أيضاً، فهذا يعني أن البَتَّ والقطع العقليين غير مُتاحين، وأن كل الأفكار بخصوص الواقع الموضوعي محل التساؤل مُمكنةٌ في العقل ومتساوية في مدى هذه الإمكانية. وبما أن التساؤل قائم والإجابة مطلوبة بالضرورة، فلا شك إذن في ضرورة وجود أداةٍ معرفيةٍ أخرى تتصف بما يُخَوِّلها تحقيق هذا البت المعرفي الذي عجز عنه العقل. إن عدم وجود سؤال لا جواب عليه من حيث المبدأ، يقتضي مُجيبا. فإذا لم يكن المجيب هو العقل فهو قطعا غيره. وبالتالي فإذا لم يكن المصدر المعرفي الكاشف عن المعرفة هو العقل، فهو لا شك مصدر آخر غير العقل.
وإذن فوجود مصادر معرفية أخرى – أو على الأقل مصدر معرفي آخر – غير العقل، هي مسألة ضرورية يقتضيها منطق الأمور، مادام العقل سيقف عاجزا عن البَتِّ في الكثير من جزئيات الوجود وتفاصيل الواقع الموضوعي، وعاجزا بالتالي عن الإجابة على الكثير من الأسئلة المتعلقة بهذا الوجود وبذلك الواقع. إن عجز العقل عن الإجابة مع ضرورة وجود إجابة، يستلزم وجود مصدرٍ آخر يستطيع الإجابة، وما علينا من ثم إلاَّ محاولة التعرف على هذا المصدر الذي سيُعْتَبَر عندئذ رديفا للعقل في استكمال الدائرة المعرفية التي لا يصح أن تبقى مُعَلَّقَة بوجود أسئلة مُفْتَقِرة إلى البت في أمرها بتًّا حاسما بأحد وجهي البت الممكنين.
دعونا الآن نخوض معا تجربة عملية نختبر من خلالها هذا العقل لنكتشف ما لديه وما يفتقر إليه، لنتعرف على معالم وجهتنا المعرفية اللاَّعقلية.. وفي هذا الصدد سنقوم بتوجيه مجموعة من الأسئلة إلى العقل تنطبق عليها احتمالات الإجابات الممكنة تَصَوُّرِياًّ لنرى النتيجة..
1 - أين الله؟.. الجواب العقلي: لا يُسْأَل عنه أين هو، لأنه هو المكان المطلق (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "الله")..
2 - متى كان الله؟.. الجواب العقلي: لا يُسْأَل عنه متى كان، لأنه هو الزمان المطلق (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "الله")..
3 - كيف خلق الله المادة؟.. الجواب العقلي: بأن كثَّف ذاته المطلقة (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "الله")..
4- لماذا تتحرك المادة ولا تبقى ساكنة؟.. الجواب العقلي: لأن الله أودع فيها قابلية الحركة عندما خلقها..
5- هل العدل حسن؟.. الجواب العقلي: نعم..
6- هل يحدث في الواقع حادث من غير سبب؟.. الجواب العقلي: لا..
7- هل أن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين في واقع إقليدي؟.. الجواب العقلي: نعم..
8 - هل هناك حياة أخرى قادمة بعد الموت؟.. الجواب العقلي: نعم.. (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "البعث")..
9 - هل يجب في حق الله أن يبعث أنبياء؟.. الجواب العقلي: نعم.. (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "النبوة")..
10 - هل عقوبة الإعدام تتفق مع معايير العدل المطلق؟.. الجواب العقلي: لا.. (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "العقاب والنعيم")..
11 - هل أن تكامل (1) على (س) = لوغاريتم (س)؟.. الجواب العقلي: نعم.. (راجع قواعد التكامل في الرياضيات)..
نرجو عدم الاندهاش من بعض الإجابات التي لن نثبتها الآن وفي هذا المقام، فهي مثبتة في مختلف فصول كتابنا الذي أحلنا إليه، إذ باستثناء إجابات الأسئلة (6) و(7) و (11)، فإنه يحق للقارئ أن يبحث عن إجابات مُثْبَتَة لا مُدَّعاة.. ولنعد الآن إلى موضوعنا..
من الواضح أن للعقل إجابات قاطعة على الأحد عشر سؤالاً التي طرحناها عليه، فهو إما أنه أجاب بـ"نعم" أو بـ"لا"، عندما كان محور السؤال هو "هل". أو أنه أعطى أفكارا مطابقة للواقع الموضوعي عن ذلك الواقع، عندما تمحورت الأسئلة حول المكان والزمان والعِلَّة والمادة. وبالتالي فالقضايا المطروحة في أسئلتنا السابقة هي قضايا تُعْرَف بالعقل ولا نحتاج في معرفتها لغيره مادام قد قطع وبتَّ.
ولكن يجدر بنا في هذا المقام أن نُنَبِّه إلى نقطة هامة. فالأسئلة من (4) إلى (7)، هي أسئلة لا نَحتاج في الإجابة عليها إلى أي نوع من أنواع الاستدلال والبرهان. فهي – أي إجاباتها – قائمة بالذات في العقل. وبكلمة أخرى فإنها حقائق عقلية بسيطة "بديهية"، لا تمكن تجزئتها إلى قضايا أبسط تتكون منها. بينما الأسئلة المتبقية غير واضحة في العقل وضوح تلك الأسئلة الأربعة. فمع أنها عقلية وتثير قضايا إجاباتها عقلية صرف، فإنها – أي تلك الإجابات – في حاجة إلى استدلال وبرهان عقليين. فهي إذن معارف عقلية مركبة وليست واضحة في العقل وضوحا مباشرا. هذا على وجه التحديد هو ما قصدنا التنويه إليه هنا، وهو أن الحقائق المُثْبَتَة عقلاً على نوعين، بسيط لا يتجزأ و مركب يتجزأ إلى بسيط.
فلنوجه إلى العقل الآن المجموعة التالية من الأسئلة..
1 – أين تقع مجرة درب التبانة؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
2 – متى انقرضت حيوانات الديناصور؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
3 – كيف تُكَوِّن الشمس طاقتها؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
4 – لماذا تسقط الأجسام نحو الأسفل فوق سطح الأرض؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
5 – هل يجب الامتناع لسبب ماَّ عن أكل لحم الخنزير؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
6 – هل أن الأرض كروية؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
7 – هل توجد كائنات غير مرئية لنا حاليا؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..
من الواضح أن العقل في هذه الأسئلة السبعة اعتذر اعتذارا معرفيا لَبِقاًّ عندما اعترف بعجزه عن الإلمام بأي فكرة عن أي واقع موضوعي كان محلَّ أيٍّ منها – أي محل تلك الأسئلة – وهو بالتالي يعطينا الضوء الأخضر لنبحث عن إجابات عليها في مكان آخر مخَوَّل بإعطاء مثل تلك الإجابات.
إن ملاحظة سريعة نلقيها على طبيعة الواقع الموضوعي الذي يمتلك العقل القدرة على معرفته وتكوين فكرة واضحة وقطعية عنه، تطلعنا على أنه الواقع الذي لا يمكن إخضاعه للحواس بالمعنى الواسع للحواس، وهو المعنى الذي يكافئ التجربة. بل إننا نجد أن التجربة ذاتها تستعين بأفكارنا العقلية عن ذلك الواقع أثناء ممارستها لدورها في الكشف عن المعرفة القادرة هي على كشفها. فقضية أن لكل حادث سببا، أو أن التناقض بمفهوم معين مستحيل، أو قضايا الرياضيات البسيطة والمركبة، أو معرفة الله ذاتا وصفة وفعلا، مع ما يقتضيه كل ذلك، وغيرها من القضايا الشبيهة، ليست قضايا يمكن إخضاعها للتجربة "الحواس"، فهي ثابتة بذاتها في العقل فقط.
أما الواقع الموضوعي الذي عجز العقل عن معرفته أو عن تكوين فكرة واضحة وقاطعة عنه، مُدْخِلاً إياه في دوائر مُمْكِنَاِته، فهو الواقع الذي يمكننا إخضاعه للتجربة "الحواس" إخضاعا تاما. فالعقل لا يملك بخصوص كروية الأرض عندما يُطْرح عليه السؤال بشأنها سوى القول بأنها ممكنة. كما أنه لا يملك بخصوص وجود أو عدم وجود النُّوَى في كريات الدم الحمراء لدى الإنسان، سوى القول بأن الأمرين ممكنان وجائزان. أما الذي يَبُتُّ فيُكَوِّن الفكرة المطابقة للواقع، فإنما هو التجربة والتجربة وحدها. وتندرج تحت هذا العنوان كافة قضايا الطبيعة وتفاصيل الوجود التي يمكن للإنسان أن يسيطر عليها ويعرفها من ثم بوسائله المخبرية التجريبية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
وهكذا يتضح لنا أن كلا من العقل والتجربة قد غطّيَا كافة حقول المعرفة، وبالتالي فكل واقع موضوعي لم تتم معرفته بالعقل فإن معرفته تتم بالتجربة.. هل يعني هذا أنه لم يبق هناك متسع لغيرهما؟ في واقع الأمر نعم، ليس الإنسان في حاجة من حيث المبدأ إلى غير العقل والتجربة، نظرا لقدرتهما بحكم طبائع الأمور على تغطية كامل الوجود معرفيا. إن انتفاء هذه الحاجة واضح في ضوء الدور المعرفي الذي يلعبانه والمساحة المعرفية التي يغطيانها. وإذن فما هو دور "الوحي" الذي نجد له حضورا ملحا ويحاصرنا من كل جانب، وما الذي جاء ليغطيه من حيث المبدأ، إذا لم تكن الحاجة إليه قائمة عبر استغناء العقل والتجربة عما سواهما معرفيا؟
هذا يقودنا إلى ترسيخ الدور المعرفي النَّسَقي للوحي.
نسقيَّة دور الوحي في المعرفة ولا أصليته..
في حقيقة الأمر فإن دور الوحي في المعرفة هو دور نَسَقِي، ونقصد بهذا المصطلح أن الوحي ليس له دور مستقل وقائم بذاته في المعرفة، مادامت المعرفة من حيث المبدأ في غير حاجة إليه، وأن دوره مرتبط بدور كل من العقل والتجربة، وذلك من خلال أنساق محددة تربط دوره بدوريهما. إن الوحي بهذا المعنى لا يخلق معرفة لم يخلقها غيره أو لن يخلقها غيره، ولا يُكَوِّن أفكارا عن الواقع الموضوعي لم أو لن يكوِّنها غيره، خلافا لكل من العقل والتجربة الخالقين للمعارف بكل ما لهذه الكلمة من معاني. إن الوحي يقوم بدور النابض الذي يُنَبِّه والبنَّاء الذي يرمم. ولكن كيف ذلك وما معناه؟
دعونا نشرح بهدوء و تؤدة المعنى العميق لمفهوم نَسَقِيًّة الوحي..
إن قولنا بأسبقية العقل في المعرفة على ما سواه، لا يعني أن كل ما كان العلم به عقليا فهو واضح لدى العقل بتمامه وكماله منذ لحظات الوعي الإنساني الأولى الموغلة في القدم. وإلاَّ لفقد تاريخ الوعي معناه. بل إن ما نعنيه بذلك أن الإنسان وفي كل مستوى من مستويات وعيه المتحقق عبر تاريخ هذا الوعي، ينطلق من مخزونه المعرفي العقلي المتاح ليتعامل مع الواقع الموضوعي المحيط به من خلال ذلك المخزون. وهذا المخزون يتنامى باستمرار. إن كفاءة الإنسان ونضجه الفعليين في استخدام ذلك المخزون العقلي مرهونان بالنمو الحاصل فيه، وإن هذا النمو مرهون بدوره بتنامي وعي الإنسان بمحيطه في جانبه الحسي المباشر، وذلك بسبب تلك العلاقة الجدلية الخاصة القائمة في الأساس بين تنامي المعارف العقلية وتنامي المعارف التجريبية، من حيث أن كلا منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها.
فالإنسان إذ ينطلق مما لديه من معارف عقلية متاحة ومُتَوَصَّلٍ إليها في مرحلة ما، فإنه يوسع في دائرة معرفته بواقعه الحسي. وكلما اتسعت دائرة وعيه بذلك الواقع، كلما عاد ذلك بالتوسع على دائرة معارفه العقلية التي تستمر عبر هذه الثنائية الجدلية في التأثير على الواقع والتأثر به. المعارف الإنسانية تنمو إذن من خلال هذا التلامس الحاصل بين دائرتي المعارف العقلية والتجريبية. وبالتالي فكلما كانت مقدرة العقل المعرفية بموجب مستوى وعي الإنسان متدنية، أي كلما كانت مقدرة الإنسان المعرفية التجريبية متدنية أيضا بموجب ذلك المستوى ذاته، كلما اتسعت دائرة المعارف التي يتم اللجوء في كشفها وفهمها وتغطيتها إلى المصدر الثالث والمفارق الذي هو "الوحي". والعكس بالعكس، فكلما تقدم العقل وكلما تقدمت التجربة وتنامت من ثم هيمنتهما على المعرفة، كلما تقلص الدور المعرفي لذلك المصدر المفارق.
إن هذا يعني أن ذلك المصدر – أي الوحي – لم يكن دوره يتمثل من حيث المبدأ في تغطية مساحة معرفية ما كان إلا ليغطيَها، نظرا لعدم الاستغناء الجوهري عنه في ذلك، مهما كان مستوى المعرفة العقلية الحاصل ومهما كان مستوى المعرفة التجريبية المتحقق. بل إن دورَه لم يكن يتجاوز فقط تغطية مساحات معرفية تستطيع المعرفة العقلية وتستطيع المعرفة التجريبية أن تغطياها تغطية فعلية في مستويات لاحقة ومتقدمة من كفاءتهما ونضجهما. في حين أنهما لم تكونا قادرتين على هذه التغطية في مراحل سابقة بموجب مستوى الوعي المتحقق.
فالتغطية المعرفية للوحي هي إذن استجابة مؤقتة، كما أن مهمته هي مهمة مرحلية. إنه بتعبير آخر يتحرك فقط ضمن "منطقة فراغ معرفية"، بدأت مع بواكير الوعي الإنساني كبيرة ثم راحت تتقلص تدريجيا، في علاقة عكسية متنامية الوتيرة مع نمو ذلك الوعي وتطوره في التاريخ، إلى أن تزول الحاجة إليه زوالاً تاما في مجال المعرفة، لأن الوجود مركب في نهاية الأمر ليكون أداة طَيِّعَة – من حيث معرفته والعلم به – بين يدي العقل والتجربة وهما يخوضان مغامرة الوعي والمعرفة في ضوء العلاقة الجدلية وعلاقة الملامسة التي أشرنا إليها فيما بينهما لتنمية المعرفة بالواقع الموضوعي.
نلاحظ إذن أن هناك معادلة أصيلة وجوهرية تحكم عملية المعرفة في هذا الوجود، تحدث في مستويين، الأول جدلي تلامسي بين مصدريها الأساسيين والأصيلين "العقل" و"التجربة"، بحيث تنمو المعارف باضطراد من خلال هذا المستوى، مُنَمِّيَةً بالتالي دور وفاعلية كل مصدر منهما. والثاني تنافري إزاحي بين مصدرها العقلي التجريبي الأصيل من جهة أولى، ومصدرها الوحيوي الدخيل والمفارق من جهة ثانية، تتمثل طبيعته في تكامل الأول على حساب تلاشي وتضاؤل الثاني. وإنَّ كل تمدد في الطرف الأول من المعادلة ينعكس على الفور على شكل تقلصٍ في الطرف الثاني منها، أي في الوحي الذي يتأكد لنا باستمرار ومن خلال القراءة التاريخية لتطوره أنه لم يكن يحدد لنفسه دورا خارج نطاق الاستجابة المؤقتة والمرحلية لتغطية منطقة فراغ راحت تتقلص مساحتها باستمرار.
قد يتصور البعض أن الوحي إذا كانت هذه هي مهمته – أي تغطية منطقة فراغ – فيجب أن يستمر دوره وأن لا تزول الحاجة إليه. فمادام الإنسان ينمو بوعيه باستمرار، فهذا يعني أن هناك نقصا دائما وأبديا لديه، وبالتالي فمنطقة الفراغ قائمة وستبقى مرافقة له، وهو الأمر الذي يقضي بمرافقة الوحي للإنسان دوما.. إن هذا التصور راجع في الواقع إلى عدم اتضاح مفهوم منطقة الفراغ التي ما جاء الوحي عندما جاء إلا ليغطيها.
إن المعارف التي تتولى مصادر المعرفة الكشف عنها في هذا الوجود لا يتم النظر إليها بصفتها كتلة محددة وثابتة بدأت حصة العقل والتجربة فيها صغيرة ثم راحت تكبر وتتسع، فيما بدأت حصة الوحي فيها كبيرة ثم راحت تصغر، بشكل يعني أن محصلة المعارف في كل مرحلة هي تلك الكتلة المحددة بمجموعها الذي لم يتغير فيه سوى نصيب المصادر وتوزيع المعارف عليها من الناحية الكمية.
إن هذا التَّسْطِيح – وهو ما يعنيه قطعا التصور السابق لمنطقة الفراغ – أبعد ما يكون عن الواقع وعن الحقيقة. فلو كان الأمر كذلك لعرف الإنسان كل شيء منذ أول وحي ولانتهى الأمر، بل لما كان هناك من معنى لتنامي معارفه العقلية والتجريبية أساسا، وبالتالي لما كان هناك من معنى للقول بمنطقة الفراغ من حيث المبدأ. ناهيك عن أن المعارف التي ينمو وعي الإنسان بتناميها هي في المحصلة غير محدودة ولا نهائية، ولا يمكن أن يغطيها مصدر ولا أن يلم بها غير الله. وبالتالي فلم يكن من شأن الوحي أن يغطي منطقة فراغ بهذا المعنى لمنطقة الفراغ.
في كل مرة كان ينمو فيها وعي الإنسان، كانت تزداد معارفه وينعكس ذلك بالتالي على واقعه ومحيطه تغييرا وتطويرا. ورغم أن منعطفاتٍ مِفْصَلِيَّةً كثيرة مرت بحياة الإنسان كتجاوبٍ مع تنامي وعيه، إلاَّ أن منعطفا واحدا فقط من بين كل تلك المنعطفات هو الذي مثل انقلابا في كل موازين التفكير لديه، حيث كان إرهاصا حقيقيا ببدء أفول نجم الوحي وأهميته المعرفية في حياة الإنسان. إن الإنسان عاش حِقَبًا طويلة من تاريخه تحت وطأة تصور مفاده أن ما لا يعيه بعقله أو بتجاربه المُتَاحَيْن فهو خاضع في تفسيره لقوى فوق عقلية وفوق تجريبية تنزع إلى جعله يخضع لهيمنة "الأسطورة" على حياته بكل أداءاتها المُتَصَوَّرَة معرفيا ومجتمعيا. لقد كانت تتقلص دوائر هيمنة الأسطورة على حياة الإنسان كلما اتسعت دوائر العقل والتجربة، لكنها بقيت هي الملجأ المعرفي عندما يقف عقل الإنسان وعندما تعجز تصوراته التجريبية عن الفهم.
هنا كان يأتي دور الوحي. إن منطقة الفراغ التي كان يغطيها دائما هي منطقة "الأسطورة". إن الدائرة المعرفية التي كانت تفرض نفسها على الإنسان في كل مرحلة من مراحل وعيه كانت تُحْسَم لديه بما توصل إليه من معارف عقلية وأخرى تجريبية، بينما تتم تغطية الباقي بالأسطورة. والوحي كان يتدخل عندما يتدخل ليخفف من وطأة الأسطورة ومن وقعها على الإنسان في جميع نواحي حياته بما في ذلك ما ارتبط منها بالبُنَى والتنظيمات المجتمعية، أو على الأقل ليدفع باتجاه التخفيف من وطأتها، بِحِكْمَة بالغة. وبالتالي فقد كان من الممكن القول بديمومة الحاجة إلى الوحي كمصدر معرفي في حالة ديمومة "النسق الأسطوري" في المعرفة كمالئٍ للفراغ الذي يعجز عنه العقل والذي تعجز عنه التجربة في مراحل معينة من تاريخ تناميهما المعرفي.
ولكن ما حدث في تاريخ الوعي – وهو الذي ما كان إلاَّ ليحدث من خلال تطور كفاءة العقل والتجربة ومن خلال دور الوحي ذاته – أَنْ تَحَرَّرَ الوعي من "النسق الأسطوري" في المعرفة. بمعنى أن الوعي وصل إلى المرحلة التي أدرك فيها أن ما لا يعرفه بعقله وما لا يعرفه بتجاربه، لا يمكنه أن يعرفه بغيرهما، وأن عجزه المرحلي هو عجز وسائل وليس عجزا في جوهر أداة الإدراك والمعرفة ذاتها. وهكذا لم يعد الإنسان يملأ منطقة الفراغ المفروضة عليه بالأساطير بل بالبحث والتحري والتفكير والافتراضات العلمية التي يُخْضِعُهَا لتجاربه ومختبراته، إلى أن يتوصل إلى الحقيقة ليملأها بالتالي - أي منطقة الفراغ - بالحقيقة ذاتها.
وإذن فمادام العقل ومادامت التجربة قد وصلا إلى مرحلة من تاريخ الوعي لم يعودا فيها عاجزين عن فهم دورهما المعرفي على حقيقته، بما يعنيه هذا الدور من اكتمال التصور بهيمنتهما على معرفة الواقع الموضوعي كله، فعلام الوحي إذن؟ وما الذي سيفعله؟ وأين هي منطقة الفراغ التي سوف يغطيها؟ وإلى ماذا سيستجيب في حياة الإنسان؟
إن الوحي كان يتعامل مع إنسان تحكمه مستويات معرفية عقلية وتجريبية محددة في البعد التاريخي. ولهذا فهو لم يكن يقوم فقط بمهمة الاستجابة للمطلب الإنساني ليغطي منطقة الفراغ المعرفي بعشوائية وبدون دراية أو حكمة. بل هو كان يحرص من خلال استجابته للمطلب الإنساني التاريخي، على عدم التصادم مع مستوى العقل والتجربة كما كانا يفرضان نفسيهما لحظة حضوره، كي لا يُحْرَمَ من القدرة على أداء الدور المنوط به معرفيا.
بكلمة أخرى، فإن مستوىً عقليا وتجريبيا معينا في تاريخ المعرفة، إذا كان غير قادر على بلورة رُؤى وحلول وتفسيرات لظواهر وإجابات على تساؤلاتٍ مَّا كانت تفرض نفسها على وعيه وإدراكه – أي على وعي وإدراك الإنسان في ذلك المستوى المعرفي – فإن الإنسان كان يلجأ إلى اللاعقل وإلى اللاتجربة، أي إلى الأسطورة لتغطية منطقة الفراغ التي تُثاَرُ بشأنها تساؤلاته التي عجز عقله والتي عجزت تجاربه عن الظفر بحلول لها.
إن هذه العلاقة الخاصة بين الإنسان وبين منطقة الفراغ المعرفي التي كانت تفرض نفسها عليه في كل مراحل تاريخه، بسبب تقدم أسئلته دائما عن مستوى وسائل وأدوات إجاباته عليها، فيلجأ في تغطيتها إلى الأسطورة، فرضت على المصدر المعرفي المفارق "الوحي"، دورا بالغ الحساسية ومهمة دقيقة للغاية – مَثَّلَث على الدوام عنصرا من عناصر طبيعته الجوهرية – لتحقيق هدفه المنوط به في الأساس والمتمثل في توجيه مسيرة العقل الإنساني نحو الاستغناء عما سواه، بما في ذلك الاستغناء حتى عن الوحي ذاته.
إن هذه الطبيعة الجوهرية الكامنة في كيفية قيام المصدر الثالث المفارق بمهمته المعرفية في مجاورةِ عقلٍ وتجربةٍ يتناميان باستمرار، جعلت عملية الإزاحة التي يمارسها وعي الإنسان في حق المعارف الوحيوية، تتخذ لأسباب تاريخية ليس هنا مجال بحثها والخوض في تفاصيلها، أشكالا درامية من الصراع والتناحر بين تيارات معرفية متنافرة، تخفي وراء صراعها الدامي في حقيقة الأمر أشكالا عميقة من الولاءات لبُنَى مجتمعية ولتركيبات مصلحية قائمة، تُعْتَبَر مرجعيتها الأم هي "الأسطورة".
وأخيرا..
أين "الخلل في تصور ماهية العقل الذي تتم معارضة أسبقيته على ما سواه؟"..
لا يسعنا ختم الحديث عن العقل إلاَّ بمحاولة تنقيته من الشوائب التي لحقت به جراء أغبرة التجريبيين حينا وأتربة الوحيويين حينا آخر. وكأننا أمام صورته المُلَوَّثَة بالشوائب تلك، بإزاء قوم افترضوا له فهما خاصا بهم هم، من وحي آلامهم أو آمالهم وربما من وحي عقدهم وأمراضهم أو حتى مصالحهم وامتيازاتهم، ثم راحوا يحاربونه في ضوء هذا الفهم الخاص غير مبالين بحقيقته النقية الناصعة البعيدة عن كل تصوراتهم وأوهامهم، والتي لم يعارضوا عندما عارضوا في واقع الأمر أياًّ من معطياتها الحقيقية لاستحالة ذلك.
إن معاداة العقل هي عبارة عن ملهاة عبثية تُحَطِّم من حملوا لواءها قبل غيرهم. ولعل الفارابي قد تنبه إلى هذا الشيء الغريب الذي يعاديه علماء الكلام عندما يَدَّعون معاداتهم للعقل ومعارضتهم له. تنبه إلى أنه شيء آخر غير العقل، وأن كلمة (العقل) التي يستخدمونها ليست أكثر من كلمة تطلق على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. فهو يقول.. ".. أماَّ العقل الذي ما فتئ المتكلمون يتحدثون عنه، فعندما يقولون عن شيء هذا يفرضه العقل أو ينكره أو يقبله أو لا يقبله، فإنهم يعنون بذلك شيئا يقبله كل الناس عندما يبدأون في التفكير. فهم يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. وعلى رغم أن المتكلمين يقولون إن العقل الذي يتحدثون عنه فيما بينهم هو العقل الذي تحدث عنه أرسطو، فإنك إن تفحصت المقولات التي يبدأون منها، فإنك ستجد أنها كلها دون استثناء مستمدة من آراء العامة. ولذا فإنهم يعلنون أمرا ويستخدمون آخر..". (من كتاب فجر العلم الحديث، "توبي هف"، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 260 ، ص 130).
وهذا قول صحيح للغاية..
إذ كيف يمكن اعتباره متحدثا عن "العقل" أو ناقدا له، من يَرُدُّه بعبارةٍ منسوبة إلى أحد الصحابة الكرام يقول فيها.. "لو كان الدين بالرأي لكان المسح على الخفين باطنه أولى من أعلاه"؟ أو من يرده بدعوى تعارضه مع حادثة "الإسراء والمعراج" اللتين علينا بطبيعة الحال قبولهما باعتبارها نقلا قاطعا معارضا للمعقول؟ أو حتى بما أوردتموه أنتم أخي الأستاذ الأديب الباحث "خليل حلاوجي" عندما قلتم: "القرآن نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي، فهو نبهنا أن اللغة تعطي المفهوم من السياق وأيضا من ذاتية المتلقي! هارون النبي آثر السكوت أمام كفر قومه وعبادتهم العجل لأنه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري، لكنه أدرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد! العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين، فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة أخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم، فكسر الألواح وأخذ بلحية (خطاب) هارون! فهل نعد تصرفي النبيين في الصحة متساويين؟ أم أن ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته؟"، ليستنتج في ضوء ذلك أن علينا الإقرار بـ "مفهوم الحق النسبي! والعقلانية النسبية!".
نعم، إننا نتساءل: كيف يمكننا اعتبار من يتحدث على ذلك النحو، متحدثا عن العقل، أو رادا للعقل، أو مناقشا له بمفهومة الفلسفي الذي نعطيه الأسبقية والسيادة المعرفية؟!
إن في ذلك خلطا بين العقل والتجربة، أو بين العقل والرأي غير المستند إلى مرجعية معرفية خارج نطاق الهوى، وما يُؤَثِّرُ في تشكيله من نوازع بشرية!! إن ذلك ينطوي على عدم تفريق بين تلك المفاهيم، وعدم اعترافٍ بالحدود الفاصلة بين الأدوار المعرفية لكل منها. وكأن كلَّ ما ليس نَصًّا ونقلا ووحيا فهو معطى "عقليا". وبالتالي فالمسألة تغدو معروضة على النحو التالي: إما النص "النقل"، وإما "العقل". لتنطلق من هنا مسيرة محاربة تسيُّد العقل ومعاندته معرفيا، وإن يكن بقبول كل اللامعقولات.
فلا يوجد في العقل ما يمنع من صعود إنسان إلى أقاصي الكون وعودته إلى الأرض في بضعِ ليلة. وليس فيه ما يمنع من أن يكون المسح على الخفين بديلا لغسل القدمين في الوضوء، أي أن الطهارة المتحققة في الحالتين – المسح من أعلى ومن أسفل – هي عند العقل سواء، ولا يوجد لديه أيُّ حكمٍ بخصوص أيهما أكثر تحقيقا لها، هل هو المسح من أعلى الخف أو من أسفله، أم هو المسح من حيث المبدأ أم الوضوء بالماء. بل إن العقل ليس لديه أي تَحَفُّظٍ على وصف النبي "هارون" في مثالكم، بالمقصر والمخطئ، لأنه لم يُحَكَّم ما يُفترض أن يُحَكِّمَه، ألا وهو العقل وتعليمات الله ونبيه موسى.
ولا يحق لأيٍّ كان أن يتحايلَ على دلالة "تقصير النبي هارون"، بتأويل هذا السلوك، وتأويل دلالته، من خطإ ورأي غير سديد بدر من هذا النبي، إلى عقلانية محتملة، منطلقا من اعتباره شكلا من أشكال "الصواب العقلي" الممكنة، ليلغي أسبقية العقل وأحقيَّتَه، فارضا علينا فهما مفادُه، أن ما فعله هارون صواب لمجرد أنه نبي، وألا فرق بين صوابيته وصوابية ما فعله "موسى". وبالتالي فكأن للعقل صوابين متناقضين أو مختلفين في مسألة واحدة، مُؤَسِّسا على ذلك أن كلاًّ منهما حكَّمَ "عقلَه الفلسفي"، وأن تَوَصُّلَه إلى ما تَوَصَّلَ إليه هو من مقتضيات هذا "العقل الفلسفي"، ما يقضي بالتالي بنسبية هذا العقل، وبعدم استحقاقه عرش السيادة المعرفية، مادام قد أصدر حكمين متناقضين، وأفرز سلوكين مختلفين، على مسألة واحدة.
ولسنا ندري، هل أنكم تعتبرون "فعل السامري" نفسَه، فعلا عقلانيا وصوابا، مثلما حكمتم على موقف هارون "السلبي" من فعله وسلوكه الذي وصفه القرآن بما يليق به، أم أنكم لجأتم إلى ذلك مع "هارون" فقط، لمجرد أنه نبي، افترضتم أنه لا يقع في مثل هكذا أخطاء، ما استوجب أن تعقلنوا تلك الأخطاء مضحين بسمو العقل ورفعته المعرفية؟!!
إنه أهون عند الله أن نَتَّهِمَ المُقصرين والمُخطئين والمُحَيِّدين لعقولهم والمُعْمِلين لآرائهم الذاتية في مواقف محددة، حتى لو كانوا من أنبيائه، بما يقتضيه تقصيرُهم وخطأهم، وبما تقتضيه مخالفتهم لقواعد العقل تلك، من اتهام وعتاب، بل وعقاب إن تطلب الأمر ذلك، من أن نَحْرِفَ العقل، الذي به نعرف الله ووجوده وخلقه، عن مساره الصحيح.
هل كان "قتل موسى لرجل في مدينته" عندما حاول التدخل لحماية رجل آخر من شيعته، صوابا وعملا عقلانيا علينا الاعتراف لأجله بـ "نسبية العقل" ولا أسبقيته ولا قطعيته ولا قدرته، فقط للتعاطي مع هذه الصوابية التي افترضناها بلا مبرر في فعل شائن أدانه الله نفسه سبحانه وتعالى؟ أم أن علينا الاعتراف بأن فعلَه هذا كان خطأً ذكَّرَه الله به وعاتبه عليه، غير حارف العقل عن سياديته وسموه، لأجل إنسان أخطأ وإن كان نبيا؟
وهل علينا أن نعتبر عتاب وتخطيء الله لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام، في أكثر من موضع في القرآن، مرة عندما "عبس في وجه الأعمى"، ومرة عندما "قبل أن يكون له أسرى في بدر"، ومرة عندما "استرضى نساءه على حساب الحق".. نقول.. هل علينا أن نعتبرَ هذا التخطيء تخطيئا بكل ما لكلمة تخطيء من معاني قد تنطبق على البشر حتى الأنبياء منهم، دون المساس بمكانة العقل وهيبته؟ أم أن علينا تأويل تلك الأخطاء التي اعترف بها الله جل وعلا، ونَسْفَ المعيارية والأسبقية العقلية التي صمدت أمام أعتى المعارك الفلسفية على مدار التاريخ، فقط لكي نتعامل مع خطأ من أخطأ من هؤلاء الأنبياء، الذين لا نريدهم أن يخطئوا، والذين لا نتصورهم مخطئين، باعتباره عنصرا من عناصر الاستدراك على العقل الذي جعلنا من أخطاء هؤلاء الأنبياء – البشر – مقياسا عليه وحجة، بينما هو – أي العقل - في نهاية المطاف "روح الله" في الإنسان، والأولى تقديمه على أفعال كل البشر حتى الأنبياء منهم؟!!!
إن مشكلة نصوصٍ من هذا النوع ليست مع العقل، بل هي مع العلم، أي مع التجربة، المصدر الثاني للمعرفة. أو مع الهوى الذي حاربه القرآن وشَنَّعَ عليه باعتباره مصدرَ كل الأمراض والانحرافات والأباطيل. والتجربة والعقل شيئان مختلفان اختلافا جوهريا، وتَعَارُضُ النَّصِّ مع أحدهما ليس بالضرورة تعارضا مع الآخر، فالتعارض مع العقل هو تعارض مع العقل، والتعارض مع التجربة هو تعارض مع التجربة فقط.
فرحلة الإسراء والمعراج تعصى على الفهم بمقاييس التجربة المتاحة للبشر آنذاك، أو ربما حتى في وقتنا الحاضر. لكنها لا تعصى على تصور العقل وإدراكه لقدرة الله اللاَمتناهية. والمسح على الخُّفَين يعصى على الفهم التجريبي الحِسِّي المعهود إذا فُهِمَ هذا المسح على أنه نوع من النظافة الشبيهة تماما بالنظافة الناتجة عن غسل القدمين كاملين بالماء بدون ارتداء الخفين. لكنه لا يثير مشكلة لدى العقل الذي لا فرق فيه بين المسح على الخفين وأي طريقة أخرى لتحقيق النظافة. وعدم القدرة على تصور أن ما فعله نبي الله "هارون" خطأ كبير يستحق عليه العقاب والعتاب والتأنيب، وقبول هدم العرش العقلي عن قمة الهرم المعرفي لتأويل فعله – أي فعل هارون - من خطإ وباطل إلى حق نسبي أنتجه تعاملٌ عقلي ممكن ومحتمل الصوابية.. نقول. إن عدم القدرة تلك، مردها إلى الهوى الذي نشأنا عليه، والذي لا يقبل تصور نبي يخطئ ويعاتب، مع أن القرآن الكريم حافل بأمثلة يعاتب فيها أنبياءه على أخطائهم، وليس "ذو النون إذ ذهب مغاضبا" إلا واحدا من أمثلة كثيرة من القرآن على ما نقوله من قاسي العتاب على تصرف غير مقبول من نبي مختار ومصطفى!!
وإذا كان الكثير من الوحيويين امتهنوا العقل بأن حاربوه وهم يجهلون حقيقته، فإن التجريبيين من جهتهم قد امتهنوه بأن نحروه على مذبح الأَناَنِيَّة المفرطة التي تعني استفادتهم منه كي يؤصلوا لفلسفتهم ويؤسسوا لها، ثم التنكر له والتخلي عنه وضرب عرض الحائط به. فعندما نسمع من يقول عن العقل أنه لا يعمل إلاَّ في إطار شروط مستمدة من خارجه، "أما حين يكون خاصا منفكا من هذه الشروط فإنه لن يُوَلِّدَ حينئذ فلسفة بل لغوا غير مشروع.. وهكذا لا يقوم العقل أبدا في فراغ بل يعمل دائما في إطار مشروط موضوعيا وتاريخيا، ولذلك فإن الحديث عن أولوية العقل يعد حديثا زائفا لأن هذه الأولوية لا توجد أبدا حتى في أشد صور الفلسفة تجريدا وصورية". (د.على مبروك. كتاب النبوة. ص 108).
نقول.. عندما نسمع من يقول ذلك عن العقل، فإننا نندهش من هذا التنكر لطبيعة المعرفة، ومن هذا العقوق لدور العقل فيها. فكيف تتكون المعرفة وكيف تتكون مفرداتها إذن، إذا لم تكن هناك نقطة بداية تنطلق منها، لتتعامل مع الشروط التاريخية والموضوعية – الخارجية – بعد ذلك؟ وما معنى أن يتم تعريف العلم باعتباره البحث عن عناصر الثبات والوحدة وسط كل مظاهر التغير والتحول، وإنكار دور العقل في أن تكون له ثوابته وسط هذا التغير والتحول؟ إن المعرفة هي الكشف عن الثابت في الوجود حتى وإن كان ثابتا يؤسس للتغير والتحول ويفسره. وبالتالي فلا معنى على الإطلاق لرفض ثوابت العقل التي ينطلق منها الإنسان لتكوين معارفه ولتنميتها.
لو قُدِّرَ لنا أن نكون بمستوانا المعرفي الحالي مرافقين لبواكير الوعي الإنساني منذ أقدم العصور، هل كنا سنتنكر للعقل حتى وهو يمارس الوعي في أكثر صوره بدائية وفجاجة؟ إن حواس الإنسان هي ذاتها حواس الحيوان من حيث الوظيفة والآلية. والحيوان يمارس حياته الغريزية في ضوء ما تلتقطه حواسه، فلماذا لم تُسْعِفْ الحيوانَ حواسُّهُ كي يُنْشِئَ معرفة وفكرا وحضارة، بينما أسعفت الإنسان حواسه في ذلك؟ ما الذي جعل الإنسان يختلف عن الحيوان الذي يشبهه في حواسه إلى حد كبير، لو لم يكن الإنسان قد قفز بإنسانيته إلى مستوى راقٍ من الوعي يتفوق على الحس ويتمكن من توظيف مُلْتَقَطاَتِ هذا الحس بخلاف الحيوان؟
إننا في واقع الأمر نندهش أشد الاندهاش ونحن نحاول أن نتعرف على أيِّ نوع من الفائدة يمكن لهؤلاء أن يجنوها وهم يعلنون لا أولوية العقل – مع أنهم مضطرون لاستخدام معارفه الأولية التي تنكروا لها – فكل الحقائق التي توصلوا إليها بتجاربهم الصحيحة، هي حقائق علمية لا يتنكر لها العقل، فعلام الوقوع في هذا الضرب الثقيل من ضروب التناقض والاضطرار إلى ادعاء رفض العقل كأداة معرفية أولى، واللجوء إلى استخدامه من تحت الطاولة مرة أخرى؟
إن الوعي الناتج عن العقل وعن مفرداته المعرفية الأولية هو الذي جعل لحواس الإنسان ولما يُلْتَقَطُ عبرها معنىً ودلالة. إنه – أي العقل – أَطَّرَهاَ وأَسَّسَ لها البيئة التي تُنْتِج من خلالها علما ومعرفة وتُكَوِّن حضارة. إن الحواس ليست أكثر من قنوات تمر عبرها الطبيعة إلى أعماق الكائن الحاس. فلو كان هذا الكائن الحاس غير واع (حيوان)، لما وَظَّفَ تلك الطبيعة التي عَبَرَتْ إلى أعماقه، لتكوين معرفة، بينما هي وُظِّفَتْ عندما أصبح الحيوان إنسانا، أي عندما أصبح واعيا ومدركا ومتعقلا للأمور. وبالتالي فإن أسبقية العقل وأولويته التي نعنيها، إنما تأتي من هنا وعلى هذا الأساس. إن قفزة التطور التي حصلت مُحَوِّلَةً المادة الحية الحاسة إلى مادة حية حاسة واعية هي التي تقتضي حتما أسبقية الوعي والإدراك وبالتالي أسبقية العقل بصفته أداة هذا الوعي وهذا الإدراك، على كل ما سواه من مصادر المعرفة وقنواتها.
إن ما فعله التجريبيون لا يختلف في جوهره عما فعله الوحيويون قبلهم عندما رفضوا العقل لأسباب غير موضوعية. فالوحيويون ظنوا أن العقل هو التجربة التي تتعارض مع بعض معطيات الوحي الراسخة لديهم، فأصَّلوا لرفضه كي يحموا تلك المعطيات مما ظنوه عقلا. والتجريبيون ظنوا أن العقل هو الوحي الذي يتعارض مع معطيات التجربة لديهم، أو هو المبرر الشرعي لهذا الوحي على الأقل، فأصَّلوا لعدم أولويته لحماية نتائج تجاربهم مما ظنوه وحيا أو مبررا للوحي بالشكل الذي لا يريدونه. والعقل من الاثنين بَراَء. فلا هو تجربة الوحيويين المبغوضة، ولا هو وحي التجريبيين المكروه. إن المعركة الحقيقية إذن هي بين الوحيويين والتجريبيين، أي بين الوحي والتجربة، وما العقل سوى ضحية الاثنين في هذه المعركة.
ليس أدل على ما نقوله هنا من أن الكثيرين من أنصار الوحي عندما يردون على العقل إنما يردون عليه ويناقشونه فيما يفترض أن تُناقَشَ فيه التجربة لا العقل. كما أن بعض التجريبيين عندما يفعلون ذلك فهم إنما يناقشونه فيما يفترض أن يناقش فيه الوحي لا العقل. ولعله لهذه الأسباب لم تُحسم الخلافات بين الطرفين، لأن الطرفين في الأساس إنما قتلا أو حاولا أن يقتلا صمام الأمان الوحيد الذي كان كفيلا بإطفاء كل الخلافات وتحويلها إلى رماد.
إن الإنسان الواعي حتى وهو يعي الأمور في ماضيه ببدائية، إنما كان يعيها بعقله لا بحواسه. فعلى الرغم من أن الإنسان الذي عاش قبل مليون سنة لم يكن يعبر عن قاعدة الخط المستقيم بلغة واضحة ومجردة مفادها أن "الخط المستقيم في واقع هندسي إقليدي هو أقصر بعد بين نقطتين"، لأن مثل هذا التعبير رهن بتطور لغته ومستويات التجريد الذهني لديه، إلا أنه مع ذلك كان يتصرف في حياته على أساس وعيه بها دونما حاجة إلى التعبير المجرد إياه.
فهو إن تعرض لخطر يتطلب منه الهروب والفرار نحو كهفه الواقع قبالته على بعد عدة مئات من الأمتار، لم يكن يلجأ إلآَّ إلى الطريق المستقيم الموصل إلى مأواه إذا كان يريد الوصول في أقصى سرعة ممكنة. وهو إذا كان وجد قطعة حجر مسننة على شكل سلاح، فإنه يتصرف على الفور كمن يبحث عن إنسان آخر قريب منه قد يشكل خطرا عليه أو على حياته دون أن يعبر عن ذلك بالعبارة المجردة، "إن لكل حادث سببا"، لأن هذا التعبير يتطلب تطورا في لغته وفي مستويات التجريد الذهني لديه.
وبالتالي فالفكر قطعا أسبق من اللغة، إلا إذا افترضنا أن أصوات الحيوانات عبارة عن لغات، فلا مانع عندئذ من الاعتراف بأسبقية اللغة على الفكر، ولكن علينا أن نعترف عندئذ بأن اللغة ليست سوى أداة بيولوجية صرف، لأنها هكذا عند الحيوان، وأنها بالتالي لم تتحول إلى لغة قادرة على الإبداع والخلق وصياغة الأفكار إلا بعد أن أصبح هناك فكر يستطيع أن يشكل ويطور لغة في الواقع الموضوعي.
إن افتراض أي علاقة دياليكتيكية بين المعرفة العقلية وبين المعرفة التجريبية لا يمكنه أن يلغي أسبقية المعرفة العقلية على أي معرفة أخرى. إن من يستطيع أن يتصور المعنى الحقيقي للمعرفة العقلية الأولية، والمعنى الحقيقي للمعرفة التجريبية أو الحسية، سيتمكن على الفور من التحرر من عقدة "لا ثابت في العقل قبل أن يثبته الحس"، أو "لا اعتراف بالعقل إذا تعارض مع النقل!!".
كما أن من يستطيع تصور تلك العلاقة الجدلية بين العقل والتجربة في طريقة الكشف عن الواقع الموضوعي على النحو الذي هي عليه، سيتمكن حتما من التحرر من عقدة "تاريخية المعرفة العقلية" بالشكل الموهوم الذي ناقشناه في هذا التحليل. فالمعارف – كل المعارف – ومن حيث هي معارف فقط، تعكس لنا صورة عن الواقع الموضوعي يُفْتَرَض أنها مطابقة له كي تكون بمثابة حقائق. والواقع الموضوعي من حيث هو واقع موضوعي فهو موجود باستقلال تام عن وعينا سواء وعيناه أو لم نعه. فالوجود موجود بكل حقائقه وجزئياته حتى والإنسان غير موجود وكامن في أعماق المادة الحيوانية وقبلها النباتية وقبلهما غير الحاسة وغير الحية.
وبالتالي فالإنسان بموجب حدود القدرة التي يتيحها له وعيه وقدراته الراهنة لا يخترع حقائق بل يكتشفها ويؤلف فيما بينها، للوصول إلى مستويات متقدمة منها أو للاستفادة منها في حياته. والعقل والتجربة هما مجرد أداتين تعملان على كشف هذه الحقائق كلٌّ بطريقتها. وهذه الحقائق ثابتة لا تتغير في الغالب. وهي مبثوثة في كل أرجاء هذا الوجود، وبالتالي فلا يمكن لِلاَّثبات أن يخرج في مدلوله الحقيقي عن إطار التغير في مستويات الوعي لمواكبة الواقع في علاقاته الأزلية التي تحكمه والتي نكتشفها بالتدريج كلما ارتقينا في مستويات وعينا.
إن حقيقة أن العالم كان موجودا قبل وعينا به، وأننا في سباحتنا في تاريخه السرمدي إنما نحاول أن نعرف كيف كان قبل أن نوجد، إن حقيقةً كهذه تصفع كل دعاة اللاَّثبات إذا كانوا يعنون به أن العالم ليس فيه ثوابت. إن علم الفلك الذي يتحدث عن حقائق وقوانين بأعمارٍ فلكية إنما يصرخ في وجوهنا ليقول لنا بملء صوته أن التَّغَيُّر في الوعي هو تَغَيُّر في قدراته، وبالتالي في حجم محتوياته ليتمكن من أن يكون بِسَعَةِ كم الحقائق المذهلة التي تتدفق إليه كل يوم عاكسةً صورَ هذا العالم ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا.
إن العقل إن صح التعبير، هو الشاشة التي طُبِعَت عليها مجموعة من الحقائق المُنْطَلَق، والتجربة هي القنوات التي تمر عبرها الطبيعة ويمر عبرها الوجود ليصل إلى تلك الشاشة ويلامس تلك الحقائق – المنطلق - المطبوعة عليها لإنتاج معرفة جديدة. وكأننا في النهاية أمام جهاز كمبيوتر خُزِّنَتْ فيه (في ذاكرته) مجموعة من المعطيات الأولية ليعالج من خلالها كافة المدخلات التي تأتيه من خارجه. إن أياًّ من هذه المُدْخَلات لن نستطيع الاستفادة منها أو أن نشكل منها معرفة جديدة تعود علينا بالنفع إلاَّ بعد معالجتها بمخزون الكمبيوتر المخفي في أعماق قرصه الصلب.
الكمبيوتر بدوره قد يخبرنا أحيانا عبر رسائل وإشارات خاصة يبعث بها، أن هناك مشكلات يعاني منها في معالجته لهذه المدخلات، وذلك إما بالتأكيد على أنها – أي المعالجة – غير مقدور عليها بحكم أنه غير معدٍّ مسبقا للتعامل معها، وإما بالتأكيد على أنها دخلت مُشَوَّهَةً وناقصة يفترض استكمالها حتى تُتاح له فرصة معالجتها المعالجة الفاعلة والمفيدة.
الكمبيوتر هو العقل، ومخزونه الذي يعالج المدخلات على أساسه هو المعارف العقلية، أما تلك المدخلات فهي صور الواقع الموضوعي التي تلتقطها الحواس (التجربة) وتلقي بها إلى أعماق العقل كي يحولها من صور جامدة إلى حقائق ومعانٍ مفيدة وذات دلالة وَعْيَوِيَّة. فالتجربة في نهاية المطاف – أي الحس بمعنى من المعاني – كائن أعجم عقيم الفائدة المعرفية ما لم يحركها ويُفَعِّلها العقل، ليحولها بذلك التحريك والتفعيل إلى كائن ولاَّد بالمعارف.
يكفينا أن نتخيل شخصين أحدهما سليم الحواس لكنه فاقدٌ لمَلَكَةِ الإدراك، والآخر عاقل مالك لتلك الملكة لكنه فاقد لحواسه, إن سلامة أدوات الحس عند الأول لم تساعده على تكوين أي نوع من المعرفة غير الغرائزية أو الحيوانية. كما لم يَحُلْ فقدان الثاني لحواسه كاملة من أن يفكر ويُكَوِّن حصيلة من المعارف وإن تكن محدودة جدا، وهي على وجه التحديد تلك الحصيلة المنطلق الموجودة في الأغوار البعيدة لكل العقلاء سواء كانت واضحة أو غير واضحة. إنها ذات الحصيلة التي جعلت "هيلين كيلر" الصماء العمياء البكماء بالولادة إحدى أكبر شخصيات الأدب في تاريخ الإنسانية. هذه هي إذن طبيعة العلاقة بين التجربة والعقل. إنها علاقة مميزة فريدة وعظيمة جدلية الطابع، احتوائية المضمون، صيِغَتْ على هذا النحو من قِبَلِ خالق العقل والتجربة لتحقيق غاية عظيمة يأبى الإنسان إلاَّ أن يقف بأهوائه ونزواته حجر عثرة في طريقها.
مع رجاء أن أكون قد قدمت تعقيبا ألمَّ بمختلف حيثيات التعقيب الجميل الذي لفت الأستاذ "خليل حلاوجي" انتباهي بفضاءاته إلى تعقيبي المتواضع هذا.
مع خالص الشكر والتقدير لأستاذي العزيز "خليل".
ودمت معطاء، ومصدر قدرة دائمة على استفزاز عقول البسطاء من أمثالي كي يدلوا بهذا القليل الذي عندهم، عساه يكون نافعا.
أسامة عكنان