منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 8 من 13 الأولىالأولى ... 678910 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 71 إلى 80 من 121
  1. #71
    تحية طيبة وبعد


    لكل من الأستاذ "عبد الرزاق أبو عامر" الذي هيأ لي فرصةً للحديث في موضوع كنت أتمنى أن يستفزني صاحب رأي سديد فأتحدث فيه


    وللأستاذة ريمة التي نبهتني إلى ظاهرة لم أكن لألقي لها بالا فيما مضى، مع أنها واقعية وموجودة


    أملا في مزيد من الأسئلة الكاشفة والمسفزة، فإنها تعلمني وتثريني، أكثر مما تفيدكم وتثريكم إجاباتي البسيطة عليها


    أسامة عكنان


    أسئلة الأستاذ عبد الرزاق أبو عامر


    انطلاقا من السؤال الفارط ذي الصلة بمصطلحي (النبوة) و(الرسالة) وجوابكم المستفيض عليه.. ما صلة مصطلح (السيرة النبوية) بهذين المصطلحين؟ وإلى أي مدى يتميز مصطلح (السيرة) عن مصطلح (التاريخ)؟، وأيهما الأصل؟، وأيهما الفرع؟


    الإجابة


    مدخل تأسيسي للمسألة


    نقر بداية بأن "السيرة النبوية" – بصرف النظر عن دلالتها الدينية المرجعية، تشريعية كانت أو إخبارية – لا تخرج في نهاية المطاف عن كونها "تاريخا" بالمعنى الحقيقي لمصطلح "تاريخ" بمعى من معانيه المتداولة والمتعارف عليها، لأنها في شكلها ومضمونها عبارة عن "سِجِل" و"وثيقة" تغطيان الحركة المجتمعية – بجميع تفاصيلها – التي حصلت في جغرافية زمانية ومكانية محددة، وهذا عبارة عن "تاريخ" في واحد من معاني هذا المصطلح.


    وبالتالي فإن "السيرة" بقدر ما هي – من حيث طبيعتها الدينية المرجعية – منطواةٌ بصفتها "فرعا"، في المرجعية التي نطلق عليها مصطلح "السنة" بصفتها أصلا، فإنها – من حيث شكلها ومضمونها التاريخيين – منطواةٌ بصفتها "فرعا"، في "السجل البشري" ذي الفضاءات الممتدة زمانا ومكانا، والذي نطلق عليه مصطلح "التاريخ" بصفته أصلا. ونحن هنا لا نتحدث عن مصطلح "التاريخ" بصفته مصطلحا يؤشر على العلم الذي تتم في ضوء قوانينه وقواعده، عملية التوثيق والتسجيل للحدث التاريخي أو للواقعة التاريخية، وإنما نتحدث عنه عندما يتم التأشير به على "الحدث" أو على "الواقعة" نفسهما.


    وإنه خارج نطاق كون السيرة فرعا والتاريخ أصلا، لا يتميَّز مصطلح "السيرة" إذا نُظر إليه من حيث دلالته على "التاريخية"، بأيِّ ميزةٍ على مصطلح "التاريخ" من حيث الدلالة نفسها. إن الميزة التي يمكننا إسباغها على هذا المصطلح، ربما تتأتى من القيمة "المرجعية التشريعية الإسلامية التقليدية" للسيرة ذاتها. ومن هنا فهي الميزة ذاتها التي يكتسبها – على هذا الصعيد – مصطلحُ "السنة" ذي الدلالة المرجعية التشريعية.


    ومادام حديثنا عن "السيرة" – بموجب الأسئلة المطروحة من قِبَلِكم – قد جاء في سياقِ الحديث عن "التاريخ" من جهة، وعن "السُّنَّة" من جهة أخرى، من حيث كونها – أي السيرة - فرعا بالنسبة لـ "السنة" في "المرجعية الدينية"، وفرعا بالنسبة لـ "التاريخ" في "توثيق الجغرافية الزمانية والمكانية"، فإنه من باب إعطاء الموضوع المثار حقَّه "المعرفي"، العروج به إلى ما تقتضيه هذه الارتباطات من عناصر نحسب العروج إليها – في ظروف إعادة إنتاج "إسلام نبوة العقل" – أمرا بالغَ الأهمية، لأنه قد يساعدنا على وضع أيدينا على مكامن حلولٍ غير تقليدية ولا مسبوقة، للعُقَدِ المفصلية – تراجيدية التأثير - في علاقتنا بهذا الدين وبطريقة تعاطينا معه من جهة أولى، وفي علاقتنا بتاريخنا وبطريقة فهمنا له من جهة ثانية.


    إن الوصول إلى هذه النقطة، وهي نقطة العروج بالموضوع إلى الفضاءات الأهم التي ترتبط به، يستدعي إلى الذهن مسائل خطيرة، نعتبرهما بمثابة الأدوات المعرفية القادرة على فكِّ كل الطلاسم، وعلى حل كل التناقضات، وعلى فتح كل المغاليق، في علاقتنا بمرجعيات الإسلام النقلية.. وهذه المسائل هي..


    1 - شكل تلقي المرجعية "النقلية" جوهري في تحديد الموقف منها


    2 - العلاقة التكاملية بين القرآن والسنة


    3 - على أي أسس تعاد قراءة التاريخ العربي والإسلامي



    "1"


    شكل تلقي المرجعية "النقلية" جوهري في تحديد الموقف منها


    يجب أن نفرِّق بين نوعين من أنواع التعامل مع شخصيَّة القائل والفاعل والمقرِّر "محمد بن عبد الله" صلى الله عليه وسلم، من حيث طبيعة التلقي عنه والسماع منه. النوع الأول، وهو النوع من التعامل الذي تَمَتَّعَ به من رآه وسمع منه مباشرة، حيث لا وجود على الإطلاق لأيٍّ من التحفظات التي طرحت نفسَها لاحقا على النوع الثاني من أنواع التعامل، فأوجدت لأجل التعاطي معه بإيجابية – أي مع هذا النوع الثاني – علمَ الحديث والرواية، وعلم الجرح والتعديل، وعلم الرجال. أماَّ النوع الثاني من التعاملات، وهو النوع الذي فرضت عليه طبيعة الأمور أن يتعرف على الأقوال والأفعال والتقريرات عبر شُحنةٍ تاريخية تنطبق عليها كافة التحفظات الممكنة والمحتملة على أيِّ مرويٍّ تاريخي من حيث المبدأ، فهو النوع الذي لا يمكننا نحن الآن، ولا يمكن لكافة البشر إلى قيام الساعة، أن نتعرَّف أو أن يتعرَّفوا على شخصية محمد بن عبد الله القائل والفاعل والمقرّر إلاَّ من خلاله، وليس من خلال النوع الأول.


    إن التفريق الدقيق بين هذين النوعين من أنواع التعامل مع مصدر الأقوال والأفعال والتقريرات ومنبعها، "محمد بن عبد الله"، يقتضي التنبيه إلى ضرورة التَّحرُّر أثناء "التعامل"، تحرُّراً تاما وكاملا، شكلا ومضمونا، من وهم الاعتقاد بـ "وحدة الحال المعرفية والدلاليَّة" بين من يسمع الرسول ويراه ويتعامل مع ما يرد عنه من ثم بشكل مباشر لا وسطاء فيه ولا سلاسل رواة. ومن يتعامل معه من خلال نصوصٍ منسوبة إليه وردته عبر حِقَبٍ زمنية طويلة، وعبر سلاسل معقدة من الروايات والأسانيد المتوارثَة، بكل ما يترتب على ذلك من تحفظات.


    إن أهم وجه من أوجه انعدام وحدة الحال المعرفية والدلاليَّة بين السامع بالمشافهة والسامع بالرواية والإسناد، هو أن مقولةً مثل مقولة "لا تعارض بين النقل والعقل"، لا يمكنها أن تتحقق لدى أيِّ واحدٍ منهما بالطريقة نفسها التي تتحقَّق بها لدى الآخر، إلاَّ إذا تمَّ افتراض التساوي التام والمطلق بين السماع بالمشافهة والسماع بالرواية، في صحة النسبة إلى المصدر، وفي الدلالة والحُجِّيَّة من ثم، وهو الأمر الذي لا يتحقَّق بأي حال. فصحة النسبة إلى المصدر لدى السامع بالمشافهة مطلقة، بينما هي لدى السامع بالرواية نسبية مهما علت وارتفعت درجة اليقين والقطعيَّة فيها. وهو ما ينعكس حتما على الحجيَّة والدلاليَّة، لتغدوَ بدورها نسبية ظنية وليست قطعية بأَيِّ بحال.


    إن الصحابي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رآه مباشرة، يفهم من مقولة عدم تعارض العقل مع النقل، أن رسول الله لن ينطق أو يفعل أو يقرِّرَ ما يتعارض مع العقل كما يفرض نفسه على العقلاء آنذاك. أي أنه ينتظر أداءً محمَّدِيَّاً نقيا صافيا لا تشوبه شائبةُ تعارضٍ مهما كانت صغيرة مع العقل، وإلاَّ لشكَّك في نُبُوَّته وطعن فيها على الفور. بينما نحن الذين ما رأينا رسول الله ولا سمعنا عنه، ولا وصلتنا أقواله وأفعاله وتقريراته إلاَّ مروياتٍ في أسانيد يجرها في ذيله تاريخ مثقلٌ بالأكاذيب وأغبرة الريبة والشك والصراعات التي لا تنتهي على السلطة والمصلحة والنفوذ، فلا يكفينا افتراض أن مقولة عدم تعارض العقل مع النقل هي ذاتُ ما فهمه الصحابي وتعامل على أساسه مع رسول الله.


    إن عدم تعارض العقل مع النقل بهذا المعنى لا يفيدنا في شيء ما لم نحاول إسقاطه على طبيعة وصول الرسول إلينا وخطابه لنا عبر أقواله وأفعاله وتقريراته. إننا بحاجة إلى مطابقة هذه النصوص المروية مع معطيات العقل لقبولها أو رفضها على أساس عقلانيتها أو لا عقلانيتها انطلاقا من افتراض أن ما كان منها غير عقلاني فلا يمكن لرسول الله أن يكون قد قاله أو فعله أو قرَّرَه أساساً. فإذا كان الصحابي يسمع صوت العقل في الأثير المرافق لأنفاس رسول الله وهي تنقل الكلمات والحروف والجمل، لمجرَّد أنه رسول الله الذي لن ينطق إلاَّ بما كان عقلانيا بالضرورة، فإننا نحن، إنما نسمع صوتَ رسول الله ونشتم رائحة نبوَته في العقل الصادح من تلك الحروف والكلمات والجمل المنثورة أمامنا فوق صفحات الكتب كالموات تنتظر من يحييها بعجنها بعصارات العقل والعقلانية.


    إن كلَّ من يرفع شعار عدم تعارض العقل مع النقل ممن عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيُفْقِدُ شعارَه قيمَتَه ويحوِّلُه إلى لغو عقيم بلا معنى، إذا لم يقبل من حيث المبدأ إخضاع هذا الكم الهائل من المرويات أيا كانت مستويات صحتها السَّنَدِيَّة، إلى هذا الذي يدعو إلى عدم تعارض النص معه، وهو العقل. تماما كما فعل الصحابي من حيث الجوهر عندما افترض أن رسول الله لن يصرِّح بما يخالف عقله، وهو يستمع إلى أقواله وينظر إلى أفعاله.


    إن مقولة عدم تعارض العقل مع النقل مقولة مُضَلِّلَة إذا لم تُحْسَم حدودُها حسما معرفيا واضحا. فهناك فرق كبير بين عدم تعارض العقل مع النقل، وبين عدم تعارض النقل مع العقل. أيهما هو الذي يجب ألاَّ يتعارض مع الآخر، العقل أم النقل. إن عدم التعارض المعرفي يقتضي سيِّدا معرفياًّ وتابعا معرفيا، ويفرض على التابع من ثمَّ عدم معارضة السَّيِّد، ولا يجيز وضع الاثنين في مستوى معرفي واحد. إن من يفعل ذلك يهرب من الحقيقة ويضلِّل الآخرين من حيث يدري أو لا يدري.


    فعندما نقول.. "لا يجوز للعقل أن يعارضَ النصَّ"، فهذا يعني أن النَصَّ هو الأساس وأن معطياته المعرفية هي المعيار والمقياس، وأن على العقل إذا أراد أن يُدلي بدلوه في المعرفة، أن لا يخرج عن الحدود التي وضعها النص، وإلاَّ فإن معرفته المُساَقَة تلك هراء لا قيمة له. وعندما نقول.. "لا يجوز للنص أن يعارضَ العقل". فإن المعنى المعاكس هو الذي يفرض نفسه، لتغدوَ المعادلة مطروحة بشكل يطلب من النص أن لا يخرج عن الحدود والأطر المعيارية التي وضعها العقل للمعرفة.


    إن مثل هذه المعادلة الغريبة لا يمكنها أن تكون مطروحة على ذهن من يعايش نزول الوحي، إطلاقا. لا يمكن لمن يسمع من نبي مُرْسَلٍ ويراه، أن تُثار لديه قضيةٌ عنوانها "تعارض المعقول مع الموحى به" – الذي هو المنقول بالنسبة للاَّحقين – لسبب بسيط هو أن الله الموجود في العقل وفي الوحي، حاضرٌ حضوراً كاملا في حالة معايشة الوحي. فثبوت النبوة بشكل أو بآخر يعني أن الرجل الذي يتلقى الخبر من السماء صادق، وبالتالي فمَنْ خَلَقَنا عقلاء مفكرين هو ذاته الذي يزودنا بمعارف عبر الوحي الذي نعايشه، وإذن فأين المعضلة؟! إنها غير موجودة على الإطلاق، لأن الله لن يكذب علينا، ولن يخالف في وحيه لنا ما أراده عبر عقولنا.


    تبدأ المعضلة تتكشَّف وتتكون وتتعمَّق منذ اللحظة التي يتحول فيها الوحي من حالةٍ معايَشَةٍ نَعِمَ بها من رأوا النبي وسمعوا منه فارتاحوا من معضلة الرواية، إلى حالةٍ مُخْبَرٍ بها منقولة عبر التاريخ برجالٍ تُمَرَرُ من خلال مروياتهم وقصصهم وأساطيرهم وأكاذيبهم وصراعاتهم ونزواتهم وخلافتتهم وشهواتهم، كلُّ التبريرات المُرادَة لشرعنة كافة أوجه الصراع والاقتتال والاختلاف المتصَوَّرَة. وبما أنه لا مشكلة مثارة من هذا النوع إبان نزول الوحي، فإن إثارتَها بعد تَحَوُّلِ الوحي إلى منقول ومُخْبَرٍ به، تكتسب مبرِراتها وأهمِّيَتها من السعي إلى إعادة الأمور إلى نصابها، عبر تنقية المعقول النبوي الموحى به إلى شخص النبي، من اللاَّمعقول الخبري المكذوب به عليه.


    إن استحالة افتراض تساوي حالتي الاستماع إلى النبي بالمشافهة المباشرة، والاستماع إليه عبر الرواية المنقولة، في ضرورة تطابق مُعْطَى العقل مع المضمون الوحيوي فيهما، نظرا لعدم ضمان تَحَرُّر الوحي بعد تحولِه إلى مادة منقوله، من عبث البشر وتحريفاتهم وقصورهم الفطري وتوظيفاتهم السياسية والمصلحية المختلفة، يقتضي التعامل مع تلك المادة الوحيوية المنقولة التي بين أيدينا - والتي لا نستطيع الجزم بتطابقها من عدمه مع الصيغة الموحى بها كما أوحي بها - بشكلٍ مختلفٍ عن طريقة التعامل المفترضة لأولئك الذين استمعوا إلى الرسول ورأوه مباشرة. ولأن العقل لا يخضع للتحريف، وليس مادة عرضةً للتلاعب بها تاريخيا كما هو شأن النقل الذي يتعرض وحده لعبث البشر، فلا شك إذن في أن العقل هو السيِّد المعرفي، وفي أن النصَّ هو التابع المعرفي الذي يجب أن يثبتَ مشروعيةَ ذاتِه من خلال عدم تعارضه مع العقل، وليس العكس.


    فعندما لم تكن هناك قضية مُثارة عنوانها "تعارض العقل والوحي"، إباَّن نزول الوحي للأسباب الموضوعية التي ذكرناها، فلن نواجَهَ بعقل يطالب بمشروعيةٍ لوحيٍ يعارضه، ولا الوحي سيُصْدَم بعقلٍ يناصبه العداء أساساً. لأن هذا لن يحدثَ البَتَّة. ولكن عندما أثيرت القضيَّة وما كان لها إلاَّ أن تُثار، بسبب التاريخ ومنطق الرواية وهي تُنْقَلُ من جيلٍ إلى جيلٍ على أسِنَّة الحراب وعبر أنهار الدماء، فقد غدا من اللازم أن تثار بشكلها الصحيح الذي يضع العقل موضع السيِّد والنص والمنقول موضع التابع، كي تستقيمَ الأمور.



    "2"


    العلاقة التكاملية بين القرآن والسنة


    إن سياق النصوص القرآنية التي تحدثت عن طاعة الجانب الرسالي في شخصية محمد بن عبد الله واتِّباَعِه، لم تَتَوَلَّ مهمة تحديد أبعاد وضوابط هذا الجانب. فهي لم تحدد لنا أن مهمة محمد الرسالية تنحصر في كذا أو أنها تمتد لتطال كذا أو أنها شاملة للمجالات الفلانية والفلانية في الحياة. بل هي ذكرت لنا الموضوع بدون توضيح أو تفصيل، الأمر الذي يشير قطعا إلى أن تحديد ضوابط هذا الجانب من جوانب شخصية الرسول مرهون برؤىً تجيء من خارج حدود النص القرآني، وبالتالي ومن باب أولى من خارج حدود النص السُّنِّي نفسه.


    من هنا فلا ملجأ لمعرفة ضوابط وحدود هذا الجانب وحدود باقي الجوانب من ثم، إلاَّ إلى مصدر المعرفة الأساسي وهو العقل. على أن يكون واضحا أن دور العقل يتحدد في هذا الخصوص من خلال ما يمكنه أن يظهر له من عناصر خاصة تحكم العلاقة بين كل من القرآن والسنة بصفتيهما قناتين تمر عبرهما المفردات المعرفية الواردة لنا عبر المصدر المعرفي نفسه، وهو الوحي. فالعقل ليس فيه في حدود معارفه الضرورية ما يشير إلى ما يجب أن تكون عليه ضوابط الرسالية في شخصية الرسول. وبما أن القرآن ليس فيه شيء من ذلك أيضا، فإن العقل من خلال ما يتحدد فيه من علاقات يفترضها بين القرآن والسنة، وذلك بحكم طبيعة كل منهما كما فرضت هذه الطبيعة نفسها عليه، يستطيع أن يستنبط هذه الضوابط والحدود استنباطا منطقيا، وهذا ما سيتضح لنا خطوة خطوة في سياق هذا التحليل.


    إن الوحي كان يغطي على الدوام منطقة فراغ في المعرفة. وإن هذه المنطقة بدأت مع بواكير الوعي الإنساني كبيرة واسعة وراحت مع تطور هذا الوعي تتقلص تدريجيا إلى أن وصلت إلى أصغر ما تكون مساحةً في الوحي الأخير. فنحن لا نحتاج إلى كبير عناء أو جهد لنكتشف هذه الحقيقة، وذلك بإجراء مقارنة بسيطة وسريعة بين القرآن والتوراة مثلا، حيث تتبدى لنا من خلال هذه المقارنة، التغطية التفصيلية والدقيقة لجوانب واسعة في الحياة في التوراة، وإن غلب على معظمها النَّفَس الأسطوري. فيما لا يغطي القرآن بالقياس لما تغطيه التوراة إلاَّ جوانبَ ومساحاتٍ قليلة وصغيرة، وهذا علاوة على الاختلاف في طبيعة المعالجة للموضوعات المغطاة، بحيث يبدو واضحا أن عددا من تلك الموضوعات قد عولج في القرآن بصورة مختلفة عما تَمَّت معالجتُها بِها في التوراة، إلى درجة بدت معها تلك الموضوعات وكأنها موضوعات قرآنية الطابع، في حين أنها إنسانية الطابع، مثل موضوع "الشرك بالله"، الذي لا يسع القارئ له في القرآن إلاَّ أن يتصور أنه مفهوم عقدي قرآني محض. إن هذا التباين في حجم ونوع التغطية الوحيوية من التوراة إلى القرآن، يرجع إلى أن المساحات التي راح يغطيها العقل والتي راحت تغطيها التجربة كانت تتوسع وتزداد وتتنوع، وهي عند نزول القرآن كانت أوسع وأشمل بكثير مِماَّ كانت عليه عند نزول التوراة.


    إن الله أنزلَ وحيه الأخير عبر قناتين نقليتين مختلفتين هما القرآن كلام الله المباشر، والسنة التي تعتبر بمثابة الأداءات الرسالية لشخصية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. ومادام الأمر كذلك فلا شك في أن لكل قناةٍ منهما دورَها الخاص على صعيد إظهار المعرفة وتزويدنا بها، وإلاَّ فإن هذه الثنائية تغدو عبثا لا طائل وراءه، وتصبح بالتالي فاقدةً لأي دلالة ذات قيمة أو منفعة. نستطيع أن نلاحظ أنه في الوقت الذي لا نجد أي حدود أو فواصل بين ما يُمكنه أن يكون كلام الله المباشر في التوراة وما يمكنه أن يكون تعليمات موسى عليه السلام، وأنه في الوقت الذي تذوب فيه تعليمات السيد المسيح في كلمات الله في الأناجيل، بحيث لا نستطيع أن نتبين أَيَّ حدود فاصلة بين قناتين وحيويتين مختلفتين ومتمايزتين، فإن الأمر في الوحي الأخير يختلف تَمام الاختلاف. فالحدود الفاصلة بين القناتين، الإلهية المباشرة والمحمدية النيابية أو المُكَمِّلَة، واضحةٌ وضوحا لا لبس فيه. وهو ما يجب أن تكون له دلالة تتناسب مع معتقد عدم العبث في الله. ولا يمكن لهذه الدلالة أن تكون واقعة خارج نطاق البعد الوظيفي لكل قناة من القناتين.


    إن العقلَ من حيث المبدأ يرسم الحدود المعرفية الدقيقة للتعامل مع نصوص الوحي عامة، أياَّ كان عدد القنوات التي سيتم تمرير تعاليم الوحي عبرها ومن خلالها. إنه ينظر إليها نظرة واحدة وشاملة بصفتها جميعها تمثل الوحي، وبصفة معارفها تمثل جميعها المعارف الوحيوية. والعقل بما هو عقل ليس معنيا بالتفريق من حيث طريقة التعامل بين أيٍّ من قنوات الوحي وقنواته الأخرى، إلاَّ إذا كشف الوحي نفسه عن فروقات بين تلك القنوات وعن دلالات لتلك الفروقات على الصعيد المعرفي، سواء كان ذلك الكشف مباشرا وواضحا أو ضمنيا. عندئذ سيأخذ العقل هذه الفروقات بعين الاعتبار ليكمل مهمة التحديد المعرفي المنوطة به، إن كانت له مهمة واضحة ومحددة يستطيع القيام بها في ضوء الفروقات المعلنة وضوحا أو الملاحظة ضمنا بين تلك القنوات.


    وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، فإن العقل ومعه التجربة من ثم، إذا كان يضع مجموعة من المعايير التي على الوحي أن يخضع لها وأن يعمل معرفيا في ضوئها ويُفْهَمَ بالتالي على أساسها، فإن هذه المعايير تنطبق من حيث المبدأ على الوحي كله قرآنا وسنة، وإذا تبين أن للثنائية المرئية دلالة على صعيد الدور المعرفي، فإنها ستفرضُ – أي هذه الثنائية – معاييرَ جديدة تعمل داخل مساحة عمل المعايير العقلية والتجريبية. أي أن هنالك دائرتين للمعيارية تُعاَلَجُ في ضوئها نصوص الوحي. الأولى.. الدائرة العقلية التجريبية التي تُعاَلجَ فيها نصوص الوحي عموما قرآنا وسنة. والثانية.. وهي دائرة أصغر تعالج فيها نصوص إحدى قنوات الوحي في ضوء هيمنة القناة الأخرى. ولا يصح مطلقا افتراض تساوي القناتين في الدلالة الوظيفية لما في ذلك من العبث واللاحكمة وانتفاء المعنى والدلالة عن ورود نصوص الوحي عبر قناتين منفصلتين انفصالا تاما من حيث المبدأ.


    من الواضح في الوحي الأخير الذي وصل إلينا عبر قناتين هما القرآن والسنة، أن الهيمنة والقيادة المعرفية إنما هي للقناة القرآنية. وأن القناة السُّنِّيَّة هي في هذا المجال تابعٌ ومقودٌ. إن نَظْمَ النص في القناة القرآنية يختلف عن نظم النص في القناة السُّنِّيَّة بصورة تُعطيه – أي النص القرآني – تميزا وتفردا بين مختلف طرق النظم في النصوص العربية عموما. فيما لا فرق بين نظم النص السُّنِّي وبين نظم أي نص اعتيادي آخر يتحدث به العرب في أحاديثهم العادية إلاَّ فيما قل وندر، وقد انعكست هذه الظاهرة على معايير التَثَبُّت التي وضعها القدماء لحفظ الوحي بقناتيه. ففي الوقت الذي كان فيه المُتَثَبِّتون من صحة النص المنسوب إلى القرآن يعتمدون على نظم النص أحيانا كثيرة لمعرفة قرآنيته من عدمها، بحيث كان من الصعب جدا أن يَمُرَّ إلى دائرة الاعتماد القرآني نص غير قرآني أصلا، فإن النَّظْمَ لم يكن ليسعفهم كواحد من معايير التثبت من صحة نصوص السنة. ولعله لهذا السبب كَثُرَ الكذب والوضع والضعف في القناة السنية، فيما انعدم ذلك في القناة القرآنية، مادام النظم السني لا يختلف عن النظم العربي المعتاد فيما كان الاختلاف واضحا جدا بين النظمين العربي المعتاد والقرآني.


    من جهة أخرى فقد ُأْعِطَي النص القرآني حتى من قِبَلِ الرسول الأهميةَ القصوى في التبجيل والتقديس، وانعكس ذلك من ثم على تقديس واهتمام المسلمين به ذلك الاهتمام المعروف. دون أن ننسى أن القرآن نفسه قد أحاط نفسَه بصفته – كلام الله – بهالةٍ من التفرد ركزت على الهُوَّة السحيقة بينه كنص سماوي وبين أي نص آخر مهما كان، حتى لو كان نص الرسول محمد الذي عبَّر الوحي ذاته عن نفسه من خلاله كقناة من قناتيه المعتمدتين للتوصيل والتبليغ.


    لا نريد إضاعة الوقت في إثبات ما هو مثبت. القرآن هو القناة الوحيوية صاحبة الهيمنة والقيادة والتوجيه والمعيارية بالقياس للقناة الثانية "السنة". وهذا يعني قطعا أنه بالإضافة إلى المعايير العقلية والتجريبية التي ستخضع لها السنة باعتبارها إحدى قنوات الوحي، فإنها ستعود لتخضع لمعايير قرآنية، بصفة هذه المعايير – وهي تهيمن وتقود – تمثل حقوقا معرفية عليا في مواجهة الحقوق المسموح بها معرفيا للسنة والتي هي بالنسبة لحقوق القرآن حقوقٌ دنيا.


    والخلاصة أن هناك ثلاثة معايير للتَّثَبُّتِ من إلزامية المرويات المأثورة عن الرسول الكريم، هي المعيار العقلي والمعيار التجريبي والمعيار القرآني. وإذا كان نص السنة يُعاَلَج في ضوء المعيارية العقلية والمعيارية التجريبية كما يعالج نص القرآن ولا فرق، باعتباره الشق الثاني من الوحي، أي باعتباره في نهاية الأمر وحيا. فإنه في ضوء المعيارية القرآنية يُعالَج كما يُقَرِّرُ ذلك القرآن نصا أو اقتضاءً، وذلك بحكم الدلالات العقلية لمتطلبات ومقتضيات الهيمنة والتوجيه والقيادة في مجال المعرفة. إن نص السنة في نهاية المطاف سيُحاكَم محاكمة مركبة جدا، وكأننا بالعقل وبالتجربة نحدد مساحة الوحي، ليقوم القرآن في الخطوة التالية بتحديد مساحة السنة في ضوء مساحته هو وفي ضوء هيمنته هو.


    ولأن القرآنَ وَحْيٌ كُلُّه، فهو مُلْزِمٌ كُلُّه بمختلف أوجه الإلزام التي يُمكن التوصل إليها عقلا أو قرآنا. وبالتالي فإنه يُكتفى لاعتبار أن ما نُسِب إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام غيرَ مُلزمٍ، وأنه إماَّ من مَحْضِ بشريته، أو مِماَ نُسِبَ إليه خطاً، مجرد فشله في الحصول على استحقاقات الإلزام في ضوء المعايير العقلية والتجريبية والقرآنية المشار إليها أعلاه.. (بإمكانكم العودة إلى كتابنا "تجديد فهم الإسلام"، الفصل السادس ففيه تفصيل وشرح وتوضيح وتوسع).



    "3"


    على أي أسس تعاد قراءة التاريخ العربي والإسلامي


    إذا كان ما سبق هو بمثابة حديث تأصيلي لآليات التَّثَبُّت من النقل - "القرآن والسنة" - من حيث هو تاريخ، فإن المسألة عند التثبت من الوقائع والأحداث التاريخية التي أعقبت انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، وعند تطبيق الرؤية السابقة عليها، ستتخذ وجهةً تقودنا إلى نتائج شديدة الاختلاف عما في "سجل" تلك المرحلة من صيرورة وحراك تاريخيين. ولتكن أحداث مع اصطلح عليه في موروثنا التاريخي بـ "الفتنة" نموذجنا المعتمد في تكريس ما نود تكريسه.


    تعتبر "الفتنة" أكثر ما في السجل التاريخي لتلك الفترة من الزمن، إثارة للجدل "المعرفي" بالدرجة الأولى، انطلاقا من سلسلة التناقضات التي تثيرها محتويات ذلك السجل بخصوصها من أحداث ووقائع تتناقض مع العقل والقرآن.


    فنخبة الصحابة الذين قضى الرسول الكريم 23 عاما في تربيتهم وصقل نفوسهم وعقولهم وقيمهم وسلوكهم، والذين نزل فيهم القرآن متابعا ظروف حياتهم، مثنيا عليهم، حامدا معظم مواقفهم وسلوكاتهم، والذين رحل النبي الكريم وهو مطمئن إلى أنه سلم الأمانة لهم بوصفهم قادرين على حمل الرسالة ونشرها من بعده.. هؤلاء الصحابة – كما تروي لنا أحداث الفتنة في ذلك السجل المريب والغريب – اقتتلوا وأراقوا دماء بعضهم البعض، واختلفوا وتسببوا في تقسيم الأمة، وفي قتل عشرات الآلاف من المسلمين، بشكل لم يحصل بين العرب حتى قبل الإسلام!!


    هؤلاء الصحابة – أيضا – وهم الذين زهدوا في الدنيا ومتاعها، وفي تحري الحق والعدل والإنصاف، كما يُرْوَى عنهم، عندما لا يتعلق الأمر بتسجيل وتوثيق الفتنة!! تكالبوا على الدنيا ومتاعها خلال أقل من عقدين من الزمان بعد موت معلمهم وقائدهم، فتنافسوا على أرض السواد في العراق، وتحول الكثيرون منهم إلى إقطاعيين لا يقلون بشاعة عن إقطاعيي أوربا في القرون الوسطى، وتعاملوا مع "مصر" باعتبارها بقرة حلوبا لنزواتهم ورغباتهم ولثرائهم، مستغلين حب الناس لهم بموجب صحبتهم للنبي الكريم، واقتتلوا من أجل المال ومن أجل السلطة، واتهم بعضهم البعض الآخر بالنهب والسلب، وتمرد بعضهم بلا حق على السلطة الشرعية، وتساهل آخرون في تطبيق العدالة وإقامة حدود الله.. إلخ.


    هذا ما يُروى لنا في "سجل الفتنة"، مقدمات وصيرورت وتداعيات. لا بل إن كُتاَّبَ تلك الفترة من التاريخ، لا يحسون بأي حرج وهم يصفون "عثمان بن عفان" الشيخ الوقور العجوز الصحابي العظيم الحيي ذو النورين زوج ابنتي الرسول الكريم، باللص الذي سرق آلاف الدنانير من بيت مال المسلمين مستغلا مكانته كخليفة لهم، لأغراض عائلية، وهو الذي ما تُروي لنا سيرته في كل المناسبات، وخاصة عندما كان شابا يمكن أن يكون للدنيا ومتاعها مكان في حياته – باستثناء مناسبة الفتنة بطبيعة الحال – سوى أنه كان زاهدا متقشفا عازفا عن مباهج الدنيا، إلى درجة رفضه أن يبقي معه من ماله العظيم الذي لا تأكله النيران كما يقال، سوى ما يقيم أوده ويسد رمقه ورمق زوجته ابنة النبي العظيم، متبرعا دائما وأبدا بكل قوافله التجارية – التي كانت الأكبر والأضخم على الإطلاق - للمسلمين الفقراء وللدولة ولتجهيز الجيوش.. إلخ. هذا الرجل انقلب فجأة وبعد أقل من عشرين عاما من وفاه معلمه وقائده ونبيه، إلى شيخ عجوز لا هم له سوى تمييز أفراد عائلته ومنحهم المناصب والامتيازات، وتسخير بيت المال لرغباتهم التي لا تنتهي!!


    ثم يفاجئنا "سجل الفتنة"، بأغرب التحليلات وأبعدها عن المنطق وأكثرها مجانبة للحقيقة، عندما يصر على تصوير أسباب وصول الفتنة إلى ذروتها التي – يؤكد ذلك السجل – على أنها طحنت عشرات الآلاف من المسلمين، وأطارت أعناق عشرات الصحابة الكبار المنتخبين، في "الجمل" و"صفين" و"النهروان".. إلخ، في خلافٍ على "بيعةٍ" خرج عنها وتمرد عليها "معاوية"، بسبب "طلب إقامة حدٍّ مشروع" رفض الالتزام به "علي". لتكون هذه الرواية التاريخية التي صدقناها واعتنقناها جزءا من الدين، بسبب ما دفعتنا إليه من كل أنواع التأويل والالتفاف على الحقائق الدينية، للخروج من المآزق المعرفية التي فرضتها علينا.. نقول.. لتكون هذه الرواية هي النقطة السوداء في تاريخنا الذي بُنِيَ لاحقا على هذا الافتراء والدجل اللذين أفرزتهما رواية ليس فيها من الحق شيء على الإطلاق!!


    ولكن ما دليلنا على ما نقوله في ظل هذا الزخم الروائي التاريخي الذي يجعل منها حقيقة لا مجال لإنكارها؟!


    في الواقع، نحن ننطلق في تفنيدنا لهذه الرواية ككل، وفي أطرها وسياقاتها الكليَّة، ودون الخوض في تفاصيلها، من مجموعة من الثوابت التي إذا صحت الرواية بشكلها الموروث والمُسَجَّل، فإنها تهوي وتسقط، بكل ما يعنيه سقوطها من كارثة مدوية، تفقدنا اليقين في "الله" وفي "رسوله" وفي "الإسلام" وفي كل "النبوات" من حيث المبدإ، لتغدو مسيرة الوحي مجرد عبث ومسرحية لا قيمة لها!!


    قبل البدء في الحديث عن تلك الثوابت التي سنضعها في مقابلة حربٍ وجودية مع تلك الرواية، بحيث سيتضح لنا بهذه المقابلة أننا أمام خيار معرفي خطير، فإما الرواية بصورتها تلك، وإما تلك الثوابت، نحب أن نؤكد على حقيقة يجب أن يكون الوعي بها حاضرا لدينا باستمرار، فضلا عما سبق وأن ثبتناه بخصوص دلالة التعارض بين النقل والعقل في المسموع والمنقول، في تحليلنا السابق. وهذه الحقيقة هي أن تاريخ – بمعنى توقيت – البدء في تدوين السنة والسيرة والتاريخ العربي والإسلامي كله، بدأ في منتصف القرن الهجري الثاني، وليس قبل ذلك، حيث لم يكن يتم تداول أي خبر إلا بالمشافهة والرواية فقط.


    وهذا يعني أن معرفتنا بحقبة "القرن والنصف الأولى" من تاريخنا، لا دليل عليها خارج نطاق ما كتبه لنا من بدءوا بالتدوين بعد حلول النصف الثاني من القرن الهجري الأول، أي بعد أن استقر السلطان لـ "بني العباس"، وبعد أن أصبح بالإمكان كتابة التاريخ بالشكل الذي تريده السلطة الحاكمة والقوى النافذة، بلا منازعة أو تسرُّبٍ للحقيقة إلا في أضيق الحدود.


    وهذا بدوره لم يحدث إلا بعد أن كان صُناَّعُ التاريخ الحقيقيون السابقون - سواء كانوا "سلطة سياسية أموية" أو معارضة للسلطة – غالبا - "متشيعة لآل البيت" ولأعداء بني أمية - قد أغرقوا سوق المشافهة والنقل والرواية، بكل مبررات طمس الحقيقة وتجيير الوقائع والأحداث بالشكل الذي يخدم رؤية وبرنامج كل طرف.


    أي أن مرحلة الكتابة والتدوين عندما بدأت، ما كان لها أن تتمكن من معرفة حقيقة ما حدث – حتى لو كانت في منتهى النزاهة – بسبب هيمنة الروح السياسية والمعتقدية الدينية التي سادت على مدى القرن ونصف القرن الأولى سوق الرواية والمشافهة وهيمنت عليه، مُكَرِّسَة ما وصلَنا وما ورثناه بكل ما فيه من أباطيل وخرافات وأساطير تعصى على التنقيح الحقيقي، بعد أن أصبح جزءٌ كبير من تلك الأساطير بمثابة مرتكزات وثوابت يتم الانطلاق منها لمحاكمة الباقي!!


    أما الآن فلنعد للحديث عن الثوابت التي أشرنا إليها، والتي سنواجه بها وبمقتضياتها "رواية الفتنة" كما يقدمها لنا "السجل الأسطوري المريب" الذي دوَّن لنا تلك المرحلة..


    ولكن ونظرا لضخامة الموضوع، وبسبب عدم قدرتنا على تمريره في رد أو مقالة صغيرة في موقع، ولأنه يتطلب وقتا ومساحات كبيرة من الحوار والنشر، فإننا سوف نورد تلك الثوابت على شكل عناوين وخطوط عريضة، مؤجلين عرضها في الموقع بهدوء وتؤدة وروية، موضوعا موضوعا وحسبما يتيحه الوقت.


    راجين من الله أن يكون في تلك الخطوط العريضة والعناوين الرئيسة ما يعطي بعض الإشارات على الوجهة العامة لجوهر الموضوع الذي تثيره..


    1 – "عروبة النبوة" و"نبوة العروبة"، و"عروبة الرسالة" و"رسالة العروبة".. "كيف تكونت وتطورت العروبة في رحم النبوة والرسالة، وكيف تكونت وتطورت النبوة والرسالة في رحم العروبة".. عدم انفصال العروبة عن النبوة وعن الرسالة من حيث الشراكة في المُكونات القيميَّة لكل منهما.. وهنا سوف نتطرق لمكونات العروبة من حيث القيم الأساسية المُكونة لها ولكل من النبوة والرسالة.. وهذه المكونات هي القيم الكبرى الرئيسة التالية.. "الحرية"، "العدالة"، "العائلة"، "الشراكة"، "الفروسية".. وهي القيم التي تميز بها العرب عن باقي الأمم في تلك الفترة من الزمن، والتي جعلتهم مؤهلين لحمل الرسالة، بعد أن جبلتهم النبوة عبر آلاف السنين ليكونوا على هذا النحو..


    2 - بدء الانفصال بين العروبة والرسالة.. من خلال بدء الصراع بين "النزعة العروبية التبشيرية" للرسالة و"النزعة الإمبراطورية التوسعية" لها.. وهنا تكون قد بدأت المؤامرة على العروبة، والتي كانت أهم مظهر من مظاهر المؤامرة على الرسالة ذاتها.. حيث تم العمل على إظهار العروبة معزولة عن النبوة وعن الرسالة وعن قيمهما، بوصف العرب بأخس الصفات قبل الإسلام، تمهيدا لتبرير عودتهم إلى تلك الصفات بعد غياب القائد الرمز.. علما بأن الخط السابق سيكون قد أثبت أن الاختيار الرباني للعرب كي يحملوا الرسالة قام على تميزهم بتلك القيم الخمسة المشار إليها، لا بسبب انحطاطهم.. فالله لم يكن بحاجة لتحدي العالم بنشر رسالته بأمة متخلفة، بقدر ما كان معنيا بأن يثبت لنا وللعالم بأن سنته في الوجود تقتضي أن لا تكون مؤهلة لحمل الرسالة إلا أمة فيها تلك الصفات الخمسة بالدرجة الأولى..


    3 - من مظاهر المؤامرة على العروبة وعلى الرسالة بعد انتصار النزعة الإمبراطورية للرسالة.. "تزييف تاريخ الرسالة وفصلها عن رسالة العروبة".. "تزييف تاريخ العروبة وفصلها عن عروبة الرسالة".. "فصل العربي واللغة العربية عن العروبة وعن الرسالة".. فبهذه السلسة من التزييفات والانسلاخات، تحولت العروبة من حاضنة ضرورية للرسالة ومن منتج قيمي لها، إلى كيان لا قيمة له ولا أهمية، ويمكن أن يتم الاستغناء عنه، وصب الرسالة في حاضنات غير عروبية.. وكلنا نعلم ما الذي نتج عن هذه المؤامرة من تشويه للرسالة التي لا يمكن لحاضنة غير حاضنة العروبة أن تحافظ على نقائها.. لا بل أصبحت الحواضن غير العروبية للرسالة تُصَدِّر للعرب منتجاتِها الرسالية ليتبناها العرب ولتدور العروبة في فلكها.. وفي هذا السياق لا يمكننا أن نغض الطرف عن واقع أن "الإسلام السياسي" الراهن الذي يدين به العرب، هو في معظم جوانبه إسلام "بريطاني المنشأ التنظيمي"، نشأ في كل من "إيران" و"الهند"، بأدوات "آرية هندية" و"فارسية إيرانية".. أما الإسلام السياسي العروبي، فهو الذي يحاول إعادة إنتاج "نبوة العقل" من رحم البلاء والتخلف الذي تعاني منه الرسالة منذ أن تم سلخُها عن حاضنتها العروبية..


    4 - هل فشل القرآن الحكيم والرسول الكريم في إنتاج أمة العروبة والرسالة.. وهل فشلت النبوة والرسالة قبلهما في إنتاج أمة العروبة والرسالة.. فهذا على وجه الدقة والتحديد ما يمكن للعقيدة القائمة على "رواية الفتنة" الواردة في السجل التاريخي لتلك المرحلة أن تعنيه.. وهنا يجب أن يصار إلى إعادة إنتاج مرجعيات كتابة تاريخ العرب والعروبة والعربية والنبوة والرسالة على الأسس التالية.. "مسيرة النبوة والرسالة لم تكن لتفشل في مهمتها"، عبر كامل تاريخها منذ "إبراهيم" وحتى "محمد" عليهما الصلاة والسلام.. "القرآن والرسول كآخر مجليات للنبوة والرسالة لم يكونا ليفشلا في مهمتهما"، فينتجا جيلا يتحول إلى قتلة ومجرمين منتكسا حتى عن قيم العروبة التي كان عليها العرب قبل الإسلام الأخير..


    5 – أما المتطلبات التأصيلية لإبقاء الهيمنة والسيادة لـ "النزعة الإمبراطورية للرسالة" والإقصاء التام لـ "النزعة العروبية التبشيرية" لها فيمكننا أن نوردها فيما يلي.. "النزوع إلى التكفير الديني".. "النزوع إلى الإقصاء السياسي.. وهو ما انبثقت عنه المقولة الثيوقراطية البدعة "آل البيت" و"أئمة آل البيت" وحقوقهم الإلهية والتي كانت وما تزال هي الإطار السياسي الديني لكل فرق الشيعة.. والمقولة الثيوقراطية البدعة المقابلة "الأئمة في قريش"، والتي كانت الإطار السياسي الديني المرجعي لبني أمية ولمعظم أهل السنة.. فانبثق عن كل ذلك تطور مفهوم الجزية وتأصيله، وتبلور مفهوم البراء والولاء، والنكوص عن العلمانية العروبية التي كانت سائدة قبل الإسلام، والانتكاس إلى الثيوقراطية البدائية بأسوأ معانيها، متجلية في ثيوقراطية خلافتي بني العباس وبني أمية قبلهما، وكل ما تلاهما اقتداء بهما بعدهما.. وتولد عن ذلك أيضا نزوع غير مسبوق في تاريخ العرب حتى قبل الإسلام، إلى الظلم الاجتماعي.. فتبلور مفهوم الدرجات والطبقات، وتبلورت السلبية القدرية أمام مفهوم الرزق وربطه بالمشيئة التعسفية لله، وتفشي مفهوم الصبر على البلاء بمعانيه التواكلية والقبولية، وتكونت المفاهيم التجارية والإقطاعية والعبودية للتنظيم الاقتصادي وتم تأصيلها دينيا، من رحم تلك البنى السياسية والمعتقدية المتمردة على عروبة الرسالة وعلى رسالة العروبة.. ثم ظهر مفهوم العالمية والقفز على مفهوم "القومية" و"الشعوبية" الذي تحدث عنه القرآن كأمر واقع "إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".. ليس توحيدا للبشرية بقدر ما هو تأصيل للتوسع الإمبراطوري الذي دشنه واستكمله بنو أمية.. وتم ظهور وتبلور مفهوم طاعة أولي الأمر في المنشط والمكره، وظهور مفهوم دار الحرب ودار السلام، ودار الإسلام ودار الكفر، وتبلور مفهوم الجزية وأهل الذمة والمعاهدين بما ينسجم مع النزعة الإمبراطورية.. كما تبلور مفهوم الدعوة، وتحددت معاني غير حقيقية لرسالية الأمة..


    وتم تصوير "الفتنة" على غير حقيقتها.. فظهرت صراعا على السلطة، وخلافا على طريقة الحكم، بدل أن تظهر – كما هي في الواقع – صراعا بين مدرستين إسلاميتين، إحدهما تتبنى "النزعة الإمبراطورية التوسعية" بقيادة "معاوية بن أبي سفيان" وشيعته من بني أمية وأعراب العرب من ذوي الإسلام المتأخر أو من أصحاب الطموحات في الشام، والثانية تتبنى "النزعة الإسلامية التبشيرية" المؤمنة بالدولة العربية في حدود الأرض العربية التي حررتها معارك "اليرموك" و"أجنادين" و"ناهاوند" و"القادسية"، وغيرها، في كل من العراق والشام، والتوقف في الفتح والحرب عند هذا الحد، للانشغال ببناء الدولة الرسالية العربية القوية، القادرة على نشر الإسلام بالنمط الدعوي التبشيري، الذي يُعتبر هو جوهر الإسلام وجوهر العروبة في التعامل مع الآخر، وكانت هذه المدرسة بقيادة "علي بن أبي طالب" ونخبة الصحابة الذين لم يقف منهم أحد مع نهج معاوية، وكان معهم من آمن من العرب بخطهم الدعوي التبشيري.. وهي المدرسة التي هُزِمت أمام اندفاعة وقوة المدرسة الإمبراطورية المقابلة..


    أما نحن فقد أصبحنا في وقتنا الحاضر نتاجا خالصا لكل تلك المؤامرات.. ليزداد الطين بِلَّة ونحن نحاول أن ننهض من خلال تهذيب تلك الأساطير، وليس من خلال الثورة والتمرد عليها ورفضها من جذورها وإعادة قراءة ديننا وتاريخنا قراءة تنطلق من هذا التزاوج الذي كرسه الله بين العروبة والرسالة على مدى آلاف السنين..


    مع خالص شكري وتقديري


    أسامة عكنان



    سؤال الأستاذة ريمة الخاني


    لدى لقائنا مع الدكتور بهجت القبيسي دار نقاش حول فكرة تمحور جل النماذج الإبداعية الأدبية والبحثية حول المختصين أكاديميا وعلميا خاصة.. وهناك نماذج من الواقع قديما وحديثا تدل على ذلك.. إلى أي مدى نجد هذه المقولة صحيحة؟


    الإجابة


    إذا فرقنا في النماذج التي تتحدثين عنها، بين "الكم" و"النوع" من جهة، وبين "الأعمال الإبداعية" و"الأعمال البحثية" من جهة أخرى، فإن التعميم ينتفي على ما أتصور.. فمن ناحية الفرق بين الكم والنوع، نجد أن الكم يرجِّح كفة الأكاديميين والمتخصصين عندما يتعاطون مع الأعمال الإبداعية، وكفة غير المتخصصين وغير الأكاديميين عندما يتعاطون مع قضايا البحث العلمي. لكن النوع في الغالب – إلا في حالات نادرة – يرجح كفة غير الأكاديميين المتخصصين، وخاصة في الأعمال الإبداعية، فيما يرجح كفة الأكاديميين عندما ينتجون أبحاثا في حقول تخصصاتهم.


    فأهم الأعمال الإبداعية هي من إنتاج أشخاص غير أكاديميين، بل وغير متخصصين حتى في حقول الإبداع. وربما يكون الأمر مفهوما. فالإبداع لا علاقة له بالدراسة الأكاديمية لحقول الآداب والفنون، بينما الباحث كلما كان أكاديميا، كلما كان أكثر تحكما في أدوات البحث العلمي، لأنها أدوات يتأتى التحكم فيها وحسن استخدامها من خلال الدراسة الأكاديمية في الغالب. ومع ذلك فلابد من الاعتراف بوجود استثناءات في الحالتين. لكني لا أرى أن هذه الظاهرة تثير مشكلة، فليكن المبدع كائنا من يكون، المهم أن يبدع أعمالا ذات قيمة فنية عالية، وليكن الباحث العلمي كائنا من يكون، المهم أن يزودنا بأبحاث مفعمة بالفكر وبالتحليل وبالرؤى المفيدة والبناءة في مجال تخصصه.


    أسامة عكنان








  2. #72
    وعليكم خير السلام والإكرام وبعد:
    سعيدة بهذا اللقاء الحيوي الثر ولك جزيل الشكر ولجميع المحاورين واظن ان الفائدة متبادلة...وقد أثارت فضولي تلك الجملة:
    أملا في مزيد من الأسئلة الكاشفة والمسفزة، فإنها تعلمني وتثريني، أكثر مما تفيدكم وتثريكم إجاباتي البسيطة عليها

    فهل نتعمق ونطلب مزيدا من التفسير مادمنا في حال مكاشفة رائعة؟
    وادور على سؤالي من جهة اخرى لأقول:
    كل من له دراسة اكاديمية علمية وأخص علمية ابدعوا في عالم الادب والبحث...
    اتمنى ان يكون السؤال الآن واضحا..
    فما تفسير ذلك من وجهة نظرك؟
    مع جل التقدير والشكر


    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #73
    محاضر ومسؤول دراسات عليا في جامعة القاضي عياض، المغرب
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,497
    أستاذنا المتألق دوما أسامة عكنان
    لم أتوقع أن يتفرع جوابكم على سؤالي على هذا النحو الماتع المغري بالإصغاء
    لا سيما وأن سر تألقكم في دقة رؤيتكم وعمق عرضكم لها
    فيحتاج المتلقي إلى قدر لا حد له من الحضور كي يستوعب

    أبدأ هنا في تعقيبي من مسألة ( شكل تلقي المرجعية "النقلية" جوهري في تحديد الموقف منها )
    حيث انتهيتم إلى أن السيادة يجب أن تكون للعقل على الوحي لا العكس
    وأن السر في ذلك اختلاف تلقي الوحي بالنظر إلى حال التلقي المباشرة التي عرفها الصحابة رضي الله عنهم
    وحال التلقي غير المباشرة التي نمارسها نحن ، وما تخلل رواية السنة النبوية من المكذوبات ، وعوامل الصراعات ..

    ألا ترى معي أستاذي أن السيادة تصير بهذا الاعتبار للعقل وحده ؟
    وأن تمييز سقيم المرويات من صحيحها يصير بلا معنى ؟
    وأن مراتب أمهات كتب الحديث من حيث الصحة والضعف
    ( مثل مرتبة صحيح البخاري وصحيح مسلم بالنظر إلى سائر الأمهات ) مجرد ترف فكري ؟
    وأن الجهود التي بذلت - ولا تزال في تصنيف الحديث على هذا المنوال - جهود زائدة إن لم نقل إنها بدون جدوى ؟
    وأن كل العلوم التي نشأت لخدمة هذا الشأن ( علم الرجال . الجرح والتعديل ) لا قيمة لها
    لأنها عبارة عن مواقف رجال من رجال
    لا تخلو من تداعيات الخلافات الشخصية والصراعات المذهبية سلبا ( تجريح ) وإيجابا ( تعديل ) ؟
    وما محل القرآن من هذا ؟ .. ما دام هو الآخر إنما وصل إلينا مرويا ..
    أليست قاعدة الإيمان به تصديق المتواتر ( جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب ) ..
    وهي قاعدة مردها إلى النقل لا إلى العقل ؟ ..
    هل نعرّض القرآن لما عرضنا له السنة من حتمية تسرب المكذوب الخاضع للصراعات ؟
    ثم نجعل مصيره كمصيرها : إخضاعا مطلقا للعقل ؟
    أَسْرِي سَقَى شِعْرِي الْعُلا فَتَحَرَّرَا = وَرَقَى بِتَالِيهِ الْمُنَى فَتَجَاسَرَا

  4. #74
    محاضر ومسؤول دراسات عليا في جامعة القاضي عياض، المغرب
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,497
    مرحبا من جديد أستاذ أسامة
    تفريعا عن أسئلتي الأخيرة
    كيف يقرأ العقل مثل هذه النصوص :
    1 - ( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ،
    أطت السماء وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) .
    سنن الترمذي 2312 ( حسن )
    ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا
    وكان يخطب إلى ذلك الجذع فقال رجل من أصحابه :
    هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم خطبتك ؟
    قال : نعم .
    فصنع له ثلاث درجات فهي التي أعلى المنبر ، فلما وضع المنبر وضعوه في موضعه الذي هو فيه
    فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم إلى المنبر مر إلى الجذع الذي كان يخطب إليه
    فلما جاوز الجذع خار حتى تصدع وانشق ،
    فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده حتى سكن ثم رجع إلى المنبر )
    صحيح ابن ماجة للألباني رقم 1169 .


    مع بالغ شكري وتقديري
    أَسْرِي سَقَى شِعْرِي الْعُلا فَتَحَرَّرَا = وَرَقَى بِتَالِيهِ الْمُنَى فَتَجَاسَرَا

  5. #75
    سؤال الأستاذة ريمة
    فهل نتعمق ونطلب مزيدا من التفسير مادمنا في حال مكاشفة رائعة؟ وادور على سؤالي من جهة اخرى لأقول: كل من له دراسة اكاديمية علمية وأخص علمية ابدعوا في عالم الادب والبحث.. اتمنى ان يكون السؤال الآن واضحا.. فما تفسير ذلك من وجهة نظرك؟
    الإجابة
    بعد التحية والشكر للأستاذة ريمة
    بعد أن فهمت مغزى سؤالك بالشكل الذي تقصدين إليه، أود أن أقول أنني مثلك ألمس جانبا من صحة هذه الظاهرة التي نوهتِ إليها، لكنني لا أملك لها تفسيرا.
    ولك مني بالغ الشكر
    أسامة عكنان
    أسئلة الأستاذ عبد الرزاق أبو عامر
    ألا ترى معي أن السيادة تصير بهذا الاعتبار للعقل وحده؟ وأن تمييز سقيم المرويات من صحيحها يصير بلا معنى؟ وأن مراتب أمهات كتب الحديث من حيث الصحة والضعف (مثل مرتبة صحيح البخاري وصحيح مسلم بالنظر إلى سائر الأمهات) مجرد ترف فكري؟ وأن الجهود التي بذلت - ولا تزال في تصنيف الحديث على هذا المنوال - جهود زائدة إن لم نقل إنها بدون جدوى؟ وأن كل العلوم التي نشأت لخدمة هذا الشأن (علم الرجال، الجرح والتعديل) لا قيمة لها لأنها عبارة عن مواقف رجال من رجال لا تخلو من تداعيات الخلافات الشخصية والصراعات المذهبية سلبا (تجريح) وإيجابا (تعديل)؟ وما محل القرآن من هذا؟ مادام هو الآخر إنما وصل إلينا مرويا.. أليست قاعدة الإيمان به تصديق المتواتر (جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب).. وهي قاعدة مردها إلى النقل لا إلى العقل؟.. هل نعرّض القرآن لما عرضنا له السنة من حتمية تسرب المكذوب الخاضع للصراعات؟ ثم نجعل مصيره كمصيرها: إخضاعا مطلقا للعقل؟ كيف يقرأ العقل مثل هذه النصوص: 1 - (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا). سنن الترمذي 2312 (حسن). 2 - (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع فقال رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم خطبتك؟ قال: نعم. فصنع له ثلاث درجات فهي التي أعلى المنبر، فلما وضع المنبر وضعوه في موضعه الذي هو فيه. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم إلى المنبر مر إلى الجذع الذي كان يخطب إليه. فلما جاوز الجذع خار حتى تصدع وانشق، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده حتى سكن ثم رجع إلى المنبر). صحيح ابن ماجة للألباني رقم 1169.
    الإجابة
    وبعد التحية والشكر للأستاذ "عبد الرزاق أبو عامر"
    يبدو أستاذي الكبير أن الحوار من خلال إطلالة أسئلتكم المثيرة حوار ذو شجون يفتح الشهية ويحفز القريحة على عبور الصعاب، نرجو أن نكون قادرين على أداء حقها والتزود بعدتها وعتادها. وبعد..
    سأبدأ إجابتي بسؤال مثير وحساس وموضوعي يفرض نفسه هو..
    "كيف عرفنا الله، ذاتا وصفة وفعلا؟!"
    بالعقل، وبالعقل وحده عرفنا الله ذاتاً، فمعرفته ليست نَصِّيَّة. وإذا كان العقل قد عرف الله ذاتا، فهو لا شك قد عرفه صفة وفعلا أيضا. ولا يصح القول بأننا بالعقل نعرف الله ذاتا، لكننا لن نعرفه صفة وفعلا بذات العقل. لأن من حقنا عندئذ أن نتساءل عن هذا المعروف لدينا بذاته عقلا، كيف عرفناه من غير أن نعرف صفته وفعله اللذين هما أساساً مُؤَشِّرَين هامين للتعرف عليه ذاتا، من حيث هو كائن ومعروف بهما لا بدونهما. فنحن لا نعرف الموصوفَ إلاَّ مقترنا بصفته، ولا نعرف الفاعل إلاَّ مقترنا بفعله. ومادامت الألوهية صفته والخلق فعله، فمعرفتنا به عقلا تعني قطعا معرفتنا به بصفته تلك وبفعله ذاك.
    ولكن لماذا يُفترض أن تكون معرفة صفة الله ومعرفة فعله عقليتين؟ ولماذا لا يتم القبول بأن تكون معرفته ذاتا عقلية فيما تُحال معرفته صفة وفعلا إلى الوحي الذي أوحى به إلى أنبيائه؟ في الواقع إن المسألة ليست مسألة تفضيل واختيار. فنحن إنما نعرفه ذاتا بالعقل لأن هذه هي طبائع الأمور، وبالتالي فنحن نعرفه صفة وفعلا بالعقل أيضا لأن هذه هي طبائع الأمور. فنحن لا نجد أن معرفة صفة الله وفعله بحاجة إلى العقل والوحي معا ومع ذلك ندعو إلى الاقتصار على العقل في ذلك! إن ما لا يعرف إلاَّ بدليلين فإنه لا يعرف بأحدهما، تماما مثلما أن ما لا يعرف إلاَّ بدليل محدد فإنه لا يعرف لا بدونه ولا بغيره. وهكذا فإن معرفة الله صفة وفعلا مادامت عقلية فهي لن تُفْهَم إلاَّ به وما كانت لتُفْهَم إلاَّ به، أي إلاَّ بالعقل.
    ومع ذلك فإن افتراض حاجة الصفة أو الفعل إلى دليل من خارج العقل لمعرفتهما، هو افتراض لا يصمد أمام التحليل. فمعرفة الله عقلا لو كانت مقتصرة على معرفته ذاتا، لأمكن القول بأن تَصَوُّر النقص في حق صفة الله وفعله جائزٌ عقلا، مادام النص هو الذي سيزودنا بحقيقة الصفة الكاملة وبحقيقة الفعل الكامل. إذ لا معنى لأن يقوم النَّصُّ بفعل التزويد هذا لولا تصور القصور العقلي الذي يعني قطعا إمكانَ تَصَوُّر العقل للنَّقْصِ في صفة وفعل الذات. ولكن هذا غير صحيح، فالله ضروري الوجود بصفة الألوهية المريدة وبفعل الخلق العادل. والضرورة هي حكم العقل القاطع على شيئ ما، وبالتالي فصفة الكمال فيه وفي فعله واجبة عقلا.
    وإذا كان الله ذاتا وصفة وفعلا يُعرف بالعقل، فلا شك أيضا في أن مقتضيات هذه الصفة ومقتضيات ذلك الفعل تعرف كلها بالعقل. إذ لا معنى على الإطلاق لأن نَدَّعِيَ معرفتَنا العقلية بأن اللهَ عادلٌ دون أن نعرف وبعقولنا أيضا المحتوى المفهومي لهذا المصطلح الذي هو العدل. كما أنه لا معنى على الإطلاق لأن ندعي معرفتنا العقلية بأن اللهَ مُرِيدٌ دون أن نعرف وبعقولنا أيضا المحتوى المفهومي لمصطلح الإرادة.. إلخ. إن عقولنا قادرة في هذا السياق وبالضرورة على معرفة معنى الإطلاق في العدل ومعنى الإطلاق في الإرادة.. إلخ. إنه لمن المفيد التأكيد على أنه من التناقض بمكان القول بأن العقل يعرف أن الله عادل ولكنه لا يعرف كيف ذلك، أو أنه يعرف أن الله مريد دون أن يعرف كيف تكون الإرادة وكيف تُمارس نشاطَها. إن من يعرف أن الله مريد يعرف قطعا أن ذلك يتم بالتفكير وبالعلم وبالقدرة، ويعرف قطعا ما معنى كل ذلك. كما أن من يعرف أن الله عادل يعرف قطعا أن العدل يعني المسؤولية والتكافؤ والتخيير، ويعرف أيضا كيف يتم كل ذلك في الواقع.
    إن من يزعم أن معرفة كون الله عادلا لا تستلزم معرفة كيف يكون هذا العدل منه، هو أشبهَ بِمن يزعم أنه يعرف كيف يقود السيارة، ولكنه لا يعرف ما هي السيارة ولا كيف هي ولا معنى القيادة!! أن تعرف أن الله عادل يعني أن تعرف قطعا معنى ذلك وكيف يكون، وهو الأمر الذي يعني أيضا أن تعرف الخريطة المتكاملة لمصطلح العدل الذي يغدو من باب أولى معرفة بُعْدِه الحياتي، مادمنا بعقولنا قد عرفنا بعده الإلهي الصفاتي التنزيهي المطلق.
    خلاصة القول إذن أن القِيَمَ وهي مصطلح اجتماعي أخلاقي يُطلق على الإسقاطات الموضوعية لصفة الله، تُعْرَف بالعقل جملة وتفصيلا، كالعدل والصدق والحكمة.. إلخ. وأن العقلَ إذ يعرفها في بعدها الإسقاطي هذا، فإنما هو يُعَبِّر عن قدرته على وضع النماذج والصِّيَغِ القِيمِيَّة في إطارها الموضوعي التطبيقي الاجتماعي. وإن دورَ النَّصِّ الوَحْيَوِي هو في هذا المجال دورٌ تكميلي يُفترض أن يكون منسجما تَمام الانسجام مع الصيغ القيمية العقلية.
    إن النصوص – ونقصد بها هنا نصوص القرآن والسنة – التي تصدت لاستصدار أحكامٍ بِخصوص القيم – التي هي في نهاية المطاف أحكام العقل على الأفعال الاختيارية – لم تُعَالِجْ تلك القيم بصورة تنم عن انفرادها بِحَقِّ معالجتها. فهي – أي النصوص – في هذا المقام لم تفعل شيئا أكثر من تأكيد ما قرره العقل. ولو لم ترد تلك النصوص محتوية على تلك الأحكام لما تغير شيئ ولبقيت الأفعال الاختيارية خاضعةً لحكم العقل، ولبقيت المواقف منها معروفة من خلاله.
    وإذن فإن كافة النصوص التي عالجت أحكاما شرعية يملك العقل حُكْمَه بخصوصها تَحْسِيناً أو تقبيحا بموجب محتوياته المعرفية، إنما هي نصوص تَتَّسِم بإحدى سمتين. فإما أن معالجاتها لتلك الأحكام الشرعية تمت بصورة منسجمة كل الانسجام مع محتوى العقل ومع حكمه بخصوصها. وإما أن معالجاتها تلك تُظْهِر تعارضا واختلافا – بشكل أو بآخر – مع هذا المحتوى وهذا الحكم العقلي. في هذه الحالة، ومادام كلٌّ من النص والعقل من عند الله، بحيث يُفْتَرض أن يكون هناك تكامل وظيفي بينهما في ميدان المعرفة، ولا نقول تطابقا، لأن افتراض التطابق الوظيفي في المعرفة بين مصدرين معرفيين، ينفي الحاجة إليهما معا، ليتم الاكتفاء بالحاجة إلى أحدهما، ومادامت الحاجة إليهما معا قائمة، فلا شك في أن العلاقة المعرفية بينهما هي علاقة تكامل وليست علاقة تطابق، يتولى فيها كل واحد منهما دورا خاصا به يكمل دور الآخر.
    نقول.. مادام كلٌّ من العقل والنص من عند الله، فنحن في واقع الأمر أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما.. فإماَّ أن تكون هذه المعالجات النَّصِّيَّة منسوبةً إلى هذا الدين خطأً لاستحالة أن يناقض الله نفسَه، بأن يزوِّدَنا عبر العقل بمجموعة معالجاتٍ تختلف – بصورة يمتنع معها التوفيق – عن تلك المعالجات التي يزودنا بها الله أيضا عبر مصدر معرفي آخر ارتضاه لنا هو أيضا، وهو النص الموحَى به من عنده. وإماَّ أن تكون هذه المعالجات – أمام يقينية الأحكام العقلية – مُتَضَمِّنَة وبالضرورة لمعنى المرحلية التي يمكن على ضوئها إيجاد قاعدة تفسيرية مقبولة ومعقولة لهذا التعارض بين معطى العقل القيمي ومعطى النص التشريعي.
    فحين لا يكون هناك حكم للعقل على فعلٍ اختياري ما – والأفعال الاختيارية هي السلوكات التي تُمَحْوِر العملية التشريعية ككل– لا توجد هناك مشكلة، إذ أن المسألة برمتها مُحالة ضمنا إلى غير العقل. وحين يكون حكم النص متطابقا مع مُعطى العقل وحُكمه عند تَوَفُّرِه، لا توجد مشكلة أيضا، لأننا لسنا في حاجة للبحث عن مخرج للتوفيق بين مصادر معرفية أعطتنا في الأساس أحكاما غير متعارضة وغير متباينة. المشكلة تبدأ فقط حينما نكون بصدد فعل اختياري ينظمه العقل بصورة تختلف عن صورة التنظيم النَّصِّي له، بالصورة التي وصلنا فيها هذا النص سندا ومتنا، فكيف الحل عندئذ؟!
    لا شك في أن الحالة التي تُبْرِز المشكلة المشار إليها موجودة وملموسة، وقد فرضت نفسها على كل رواد الفكر والفلسفة في التاريخ الإسلامي، على الرغم من أن السلطة السياسية حسمتها بقوة السيف في الغالب. إن طبيعة الأمور أدت إلى الوقوف منها – أي من الإشكالية المشار إليها – أحد موقفين. وكلا الموقفين قامَ على القفز على العنصر الهام نفسه، وهو عنصر التطور ومتطلباته ومؤدياته، على الصعيد الاجتماعي بالدرجة الأولى، وذلك عبر إسقاط أحد مصادر المعرفة الأساسية. الموقف الأول أسقط النص ولم يُؤَصِّل بطريقة ناضجة ومقنعة دورا ووظيفة لهذا النص، منطلقا من نقطةِ أَوَّلِيَّةِ بل ووحدانيةِ العقل في كل معرفة وتشريع، فوقف من النص من ثَمَّ موقفَ المتخوف والمشكك والنابذ. الموقف الثاني أسقط العقل ولم يُؤَصِّل بطريقة ناضجة ومقنعة دورا ووظيفة لهذا العقل، منطلقا من النقطة المقابلة لما انطلق منه الموقف الأول، وهي أَوَّلِيَّة النص في كل معرفة وتشريع، بل وأُحاَدِيَّتَه أحيانا كثيرة. وبدوره وقف هذا الموقف من العقل موقف المتشكك والمتخوف والنابذ، وإن كان قد بدا من خلال طريقته في التأصيل وكأنه ينطلق من العقل الذي ما لبث أن عاد ليُلَجِّمَه.
    إن كلا الموقفين قد أسقط في الحقيقة أمرا قائما، ومصدرا معرفيا موجودا لا مجال لإسقاطه. فالنص موجود لأن الله أرسل الأنبياء وأوحى إليهم، وبرز وحيه عبر النص الذي خوطب به البشر منتهيا بآخر الأنبياء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. والعقل أيضا موجود، لأن الله أودعه فينا وجعله مناط المعرفة. فلا مجال إذن لإسقاط مصدر لصالح آخر، لأن من يفعل ذلك يضل الطريق بكل تأكيد.
    فالفلاسفة الذين أقاموا صرحَهم المعرفي مُخرجين الوحيَ من دائرة المصدرية المعرفية بِما يملكه من دور ووظيفة لابد من الاعتراف بهما، لم يُوَّفقُوا في استكمال بناء هرمٍ معرفي متماسك وغير منقوص تُفَسَّر به كافة التعارضات والثغرات في بناء المعرفة الإنسانية. والوَحْيَوِيُّون الذين أقاموا صرحَهم المعرفي متجاوزين أسبقية العقل المعرفية والتشريعية على النص وهيمنته عليه، كان فشلهم وإخفاقهم في بناء الهرم المعرفي المتماسك وغير المنقوص أكثر وضوحا وجلاء، وربما أكثر خطرا أيضا، نظرا لما للعقل أساسا من دور أصيل وعظيم جدا في صنع واقع الإنسان ومستقبله على كل الصعد، وعلى رأسها الصعيد التشريعي.
    قانون التطور بكل تداعياته، هو وحده القادر على تفسير ما يظهر من تعارض في الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية بين ما يحكم به العقل، وما يُشِّعُ به النص. وقانون التطور هذا هو الذي من شأنه أن يحل الإشكالية دونما حاجة من البعض إلى إسقاط النص، ودونما حاجة من البعض الآخر إلى إسقاط العقل. فالنص موجود وهو حقيقة موضوعية وله مهمة ووظيفة، والعقل موجود وهو حقيقة موضوعية وله مهمة ووظيفة مختلفتان، وقانون التطور موجود تُثْبِتُه كل الدلائل والمشاهدات، وهو صمام الأمان المعرفي الذي يُعْتَبر بمثابة الصاعق السحري الذي يذيب كل التعارضات والخلافات ويحولها إلى أمور مفهومة سلسة، بعد أن كانت عصيةً على الفهم صعبةً على الإدراك.
    إن الأحكام بطبيعتها تنظم العلاقة بين طرفين أو أكثر يعتريهما أو يعتريهم التغيير، ويخضعان أو يخضعون للتطور والتبدل، ما يجب أن ينعكسَ بالضرورة على تلك الأحكام جاعلا إياها مضطرة إلى التبدل والتغير والتطور، شأنها في ذلك شأن أولئك الذين جاءت لتنظيم العلاقة بينهم. ولو امتنع في حق هذه الأحكام التبدل في الوقت الذي تتبدل فيه أطرافها بحكم قانون التطور، فهذا يعني حتما الوصول إلى مرحلة تخلق تناقضا بين الدفع التقدمي الذي يخضع له هؤلاء الأطراف باستمرار، وبين التقوقع والجمود والانكفاء الذي تصطبغ به تلك الأحكام وتصر عليه. وبالتالي فسيحدث التغيير بصورة رفضٍ وتَمردٍ كاملين عليها. ونستطيع أن نوضح العلاقة بين الأحكام وبين الأطراف التي جاءت تلك الأحكام لتنظيم العلاقة بينها بضرب المثال التالي.
    فلنفترض أن لدينا حبلا مطاطا متوسطَ الحجم، أمسكنا كل طرف بيد، ثم قمنا بتثبيت إحدى اليدين على طاولة، وقمنا بتحريك الأخرى الممسكة بدورها بالطرف الآخر من الحبل المطاط. ما الذي سيحدث؟ يدُنا المتحركة ستستمر في الحركة المبتعدة عن اليد المثبتة مادام الحبل المطاط ما يزال يحوي نوعا من المرونة التي تساعده على الاستمرار في التمدد. كلما تحركت يدنا مسافة أكبر، كلما خَفَّت وتَقَلَّصت مرونة الحبل، وكلما احتاجت يدنا المتحركة بدورها إلى قوة تحريك ودفع أكبر كي تحافظَ على حركتها المتصاعدة ومنعها من التباطؤ المرتقب. وماذا بعد؟
    إن لهذه العملية سقفَ احتمالٍ مُحَدَّدٍ أّوَّلٍ لن تتواصلَ بعدَه بسلاسة ومرونة، وسقفَ احتمالٍ مُحَدَّدٍ ثانٍ لن تتواصل بعدَه بالمرة. ففي لحظة معينة، إما أن ينقطع الحبل إذا أصبحت قوى التمدد فيه معدومة، وقوة أيدينا أكبر من قدرته على التماسك، وإما أن يُفْلِتَ أحد طرفي الحبل من أَيٍّ من يَدَيْنا المُثَبَّتَة أو المُتَحَرِّكَة، وإما أن تتحرك يدنا المثبتة باتجاه اليد المتحركة أساسا لتساعد على الاستمرار في الحركة الصاعدة، وإما أن تتجمد الحركة وتبقى على آخر مستوى مقدور عليه من الشد.
    يُعتبر هذا المثال – في تصورنا – إسقاطا أمينا لعلاقة الأحكام الناظمة للمجتمع – حيث أطراف العلاقة يعتريهم التغيير – بذلك المجتمع، أي بتلك الأطراف. يدنا المتحركة تمثل الأطراف القابلة للتغير أثناء حالةِ التغيرِ التي عبَّرت عنها حركة اليد المتصاعدة، يدُنا المُثَبَّتَة تُمثل الأحكام الناظمة لتلك الأطراف عندما كانت ملاصقةً لها ومتوافقة ومنسجمة ومتجاوبة معها، وقبل اندفاعها الحركي بعيداً عنها، الحبل المطاط يمثل العلاقة بين الأحكام وبين الأطراف.
    مادامت حركة الأطراف لم تصل بعد إلى مستوىً لم تعد تقوى معه على الاستمرار في الحركة بدون إحداث حركة تقدمية في الأحكام، فإن الأحكام لا تُصَوِّرُ حالةً من الشَّدِّ والتوتر المقلقة. يُعَبِّرُ عن ذلك كلِّه الحبل المطاط الذي ما يزال يَتَّسِم بالمرونة. أي أن العلاقة مازالت مرنة. إن الاستمرار التصاعدي في حركة الأطراف – وهو الاستمرار الذي لا يتوقف أبدا لأنه يُعَبِّرُ عن قانون حتمي في هذا الوجود – يستنزف قدرةَ الأحكام على تلبية مُتطلبات التجاوب المرن مع مستوى الحركة الحاصل، فتبدأ حالات الانشداد والتوتر، سواء في الأطراف المتحركة التي أصبح استمرارها في الحركة في ظل أحكام لا تريد التغير يتطلب جهدا كبيرا، أو في العلاقة بين الأطراف والأحكام وهي تقترب من حالة استنزاف القدرة على التمدد، أو في الأحكام ذاتها، وهي تمارس أقسى أنواع الشَّدِّ الرجعي لتحافظ على البُنى والأنساق المعرفية والمجتمعية قائمة كما هي.
    ولكن نظرا لأن حركة التطور الصاعدة مستمرة حتما ودون انقطاع فلابد من وصول المجتمع إلى حالة من القلق يتحتم أن يحصل فيها تغيير باتجاه حل وتنفيس مستوى الاحتقان القائم. فإما أن تتحطم العلاقة بين الأطراف المتنامية الحركة وبين الأحكام المتراجعة الرافضة لأي حركة من أي نوع، وذلك بانقطاع الحبل المطاط وحدوث الطلاق الكامل بين الأطراف والأحكام، لتبحث هذه الأطراف لنفسها عن أحكام جديدة تنظم واقعَها، على قاعدة معاداة الأحكام القديمة. وإماَّ أن تُفْلِتَ العلاقة من عقال الأحكام الثابتة، وإما أن تفلت العلاقة من عقال الأطراف المتحركة. في هذه الحالات الثلاث إنَّما نحن أمام تغيير هو حتمي لكنه مدمر وجذري وراديكالي وثوري.
    ولتَجَنُّبِ ذلك – وهو ما لم يحصل في الغالب، وما لا يحدث عادة، لأن معاداةَ قانون التطور الحتمي هو دَيْدَنُ أصحاب المصالح التي تكون قد تَرَتَّبَت على الصِّيَغِ الرجعية في نَمط العلاقات المقاومةِ للتطور – لابد من أن تبدأ الأحكام المتمترسة في مواقعها مُحَنَّطَة غير متفاعلة مع مستوى التغيير الحاصل في الأطراف، بالتحرك وبسرعةٍ أشدَّ من سرعة تلك الأطراف، كي تتمكن من اللحاق بها، أو في مستوى سرعتها على الأقل، كي تُخَفِّفَ من حدَّةِ الاحتقان الحاصل في العلاقة، وكي تتيح المجالَ لحركة الأطراف في الاستمرار بدون تهديدٍ بالانفجار. أي أن الحلَّ هو أن تتغير الأحكام وتتطور، وإلاَّ فإن التغييرَ حاصلٌ ولكن بصورة تراجيدية.
    إن التعارض الذي قد يتخيَّلُه البعض بين الأحكام التي يُصدرها العقل على مختلف جوانب الواقع الاجتماعي، وبين المضامين والدلالات التي تُشِعُّ بها النصوص من أحكام وتشريعات مباشرة، هو تعارض مصطنع ومفتعل يستند إلى الخلط بين مدى العقل ومدى النص، وإلى عدم التفريق بين ما يثبت ويتضح بالعقل وبين ما يثبت ويتضح بالنص. إن مدى ومجال العقل هو المذهب في أُسُسِه الثابتة التي تعكس ثباتَ القيمِ ذاتها. ومدى النص هو إسقاط هذا المذهب الثابت على الواقع المتحرك والنسبي، والمحكوم بعلاقات وقوانين متجذرة وعميقة تهيمن على صيرورته التي تتولى مَهَمَّةَ نقلِه عبر التاريخ من النسبي إلى المذهبي. ليُصَاغَ هذا الواقع من ثَمَّ في ضوء النَّصِّ على أساسِ ما يدفعه نحو الاقتراب من الصيغة المذهبية، وعلى أساسِ ما يُسَهِّلُ للواقع المجتمعي عمليةَ الانتقال التدريجي من البُنْيَة غيرِ المذهبية التي يفرضها الواقع عبر القوانين التي تحكمه في مرحلة معينة من مراحل تطوره، إلى البُنْيَة المذهبية – أي العقلية – الهدف ذاتِها.
    إن كل من يحاول إعطاءَ النَّصِّ مدىً ومجالاً أكبر وأوسع من مداه ومجاله هذين حين يكون نصاًّ يعالج واقعا خاضعا بطبيعته للتطور والتغير، يكون – في تصورنا – غير مدرك لحقيقته كمصدر تشريعي، ويكون مُحَمِّلاً إياه من ثَمَّ ما ليس من اختصاصه تَحميلا تعسفياً.
    وإذا لم يتحدث النص عن حيثيات المذهب وأسسه النظرية بحكم عدم استعداد العقل البشري في مراحل معينة لتقبل المفاهيم التجريدية، بموجب مستواه الإدراكي، وبحكم عدم اختصاص النص أصلا بالخوض في البحوث المذهبية ذات الطابع النظري التجريدي، فليس هذا مِماَّ يعيب النص أو مِماَّ يعيب الوحي عموما، مادامت تلك الأسس المذهبية تثبت بالعقل الذي نعتبر مُحالين إليه بصورة تلقائية لاستصدار مجموعة المعارف التي يقدر هو على استصدارها في غير حاجة إلى سواه، كالنص مثلا.
    خلاصة القول إذن أن المذاهب الاجتماعية الإسلامية واحدة وثابتة لا تتغير، فإذا كان هدف هذه المذاهب هو تحقيق العدالة الاجتماعية في أرقى صُوَرِها بين البشر، فليس لهذه العدالة من حيث هي عدالة في ذلك المستوى من الرقي سوى صيغةٍ نظريةٍ وحيدةٍ. وبِما أن الإسلام وبالضرورة يهدف إلى ذلك المستوى من العدالة، وهو مستوىً يُقَرِّرُه العقل، فهذا يعني أن هذه الصورة تُمثل ما على الناس بدءاً من المسلمين – بطبيعة الحال – أن يحاولوا الوصول إليه عبر العلاقات الاجتماعية والأحكام الناظمة لها والتي سيتحاكمون إليها من زمن إلى آخر. ولقد كانت الأحكام الإسلامية المختلفة في مرحلة سابقة والتي عبَّرت عنها نصوص القرآن والسنة الصحيحة، أحكاما من هذا القبيل.
    وكنتيجة لكل ما سبق نخلص إلى رفض المقولة السائدة في أوساط إسلاميي هذه العصور والمستندة إلى اجتهادات إسلامية قديمة، والتي تفيد بـ "ألاَّ اجتهاد مع النص"، وأن الاجتهاد يأتي فقط فيما لم يرد فيه نص. نرفضها لنؤكد على حقيقةٍ أخرى تحمل المعنى المقابل تماما لهذه المقولة. فالنص ليس حَكَماً نهائيا، على العقل أن يعمل ويتحرك داخل إطاره، وإلاَّ فلا حاجة بنا إلى هذا العقل. بل إن العقل هو الأساس وما على النص إلاَّ أن يُفْهَم في إطار مقررات العقل. وبناء عليه فـ "لا نص مع العقل" إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية.
    وإذن فماذا تعني نصوص الأحكام الاجتماعية الإسلامية التي وردت كحلٍّ مرحلي في نصوص القرآن والسنة الصحيحة؟ إننا بتفحصنا لنصوص القرآن والسنة الصحيحة التي عالجت الجوانب الاجتماعية المختلفة من حياة البشر، نستطيع حصرها وإيجازها فيما يلي..
    1 – المعاملات الاقتصادية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص تقابلها في وقتنا الحاضر، القوانين المدنية والتجارية وما شابَهَها. وبالتالي فتلك النصوص ومهما كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي بِمثابة قانونٍ مدني أو قانون تجاري ليس إلاَّ.
    2 – المعاملات الأُسَرِيَّة.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص، تقابلها في وقتنا الحاضر قوانين الأُسْرَة أو قوانين الأحوال الشخصية وما شابَهَها. وبالتالي فتلك النصوص وأياًّ كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي عبارة عن قانون أحوال شخصية ليس إلاَّ.
    3 – المعاملات السياسية الداخلية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص يقابلها في وقتنا الحاضر القانون الإداري والقانون الدستوري والقانون المالي وما شابَهَها. وبالتالي فتلك النصوص حيثما كان موقعها الفقهي القديم، هي بمثابة قانون دستوري أو قانون إداري أو قانون مالي ليس إلاَّ.
    4 – المعاملات السياسية الخارجية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص يقابلها في وقتنا الحاضر كل من القانونين الدوليين الخاص والعام، وربما القانون الاقتصادي الدولي أو القانون الجنائي الدولي أو حتى القانون البحري والنهري.. إلخ. وبالتالي فإن تلك النصوص وأياًّ كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي مجرد قوانين دولية مختلفة ليس إلاَّ.
    5 – المعاملات الحدودية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص تقابل في وقتنا الحاضر القانون الجنائي أو قانون العقوبات وما شابَهها، وبالتالي فإن تلك النصوص وأياًّ كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي عبارة عن قوانين جنائية ليس إلاَّ.
    6 – المعاملات القضائية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص تقابل في وقتنا الحاضر كلاًّ من قانون الإجراءات المدنية والإجراءات الجزائية وربما المرافعات وما شابَهَها. وبالتالي فإن تلك النصوص ومهما كانت مواقعها الفقهية القديمة، هي عبارة عن قوانين إجراءات ليس إلاَّ.
    7 – المعاملات غير المُصَنَّفَة.. وقد عالجت مواضيع كاللباس والزينة والأشربة والأطعمة والآداب وماشابهها، ولم تنظمها مجموعات قانونية متكاملة في وقتنا الحاضر، لأنها تُصَنَّف خارج حدود المجال الحقوقي الذي يُرَتِّب قوانين تحفظ الحقوق الخاصة والعامة بناء على تصور معين عن العدالة. ولها وضعها الخاص في التعامل معها تطوريا بحكم افتقار العقل بخصوصها إلى أحكامٍ يقينية ثابتة لها علاقة بالمذهبية العدلية.
    8 – و أخيرا.. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن هناك مجموعة من النصوص التي عالجت ونظمت الرِّقَّ، والتي لا نرى ما يقابلها من قوانين في وقتنا الحاضر، بحكم عدم وجود نظام للرق في الواقع بالصورة المعروفة قديما والتي أدت إلى ظهور تلك النصوص الوحيوية الناظمة لها.
    والعبرة من هذا التفصيل أن نوضح أن "أحكام الشريعة الإسلامية" الواردة في آلاف النصوص "سنة وقرآنا"، ليست سوى أحكام وقواعد قانونية مُحددة، وهي بالتالي وككل القواعد القانونية المعمول بها في العالم لها مَصادرُها وليست هي مصدرا في حدِّ ذاتِها. ومصدر القواعد القانونية المسماة "أحكام الشريعة الإسلامية"، هي العقل بحسب التفصيل والتوضيح الذي سبق وأن أوردناه لمداه ولطبيعة العلاقة بينه وبين الواقع الاجتماعي المتطور، والتجرية والوحي في علاقتهما التفاعلية فيما بينهما من جهة، وفيما بينهما وبين العقل من جهة أخرى. الأمر الذي يجب أن تنتفي معه في تصورنا كل أنواع الحساسية في التعامل مع "أحكام الشريعة الإسلامية"، بمنظار التطور والمرحلية والتأقيت، ما دام المرجع في ذلك هو العقل الذي خوَّله الله تلك الصلاحيات المعرفية المذهبية الممتدة عبر الزمان والمكان.
    وبعد عرضنا لهذه المقدمة الأصولية الفلسفية الهامة، نود أن ننتقل إلى مستوى متقدم من مستويات التعامل مع "النقل"، نستهله بالتعامل مع نصوص "السنة" تحديدا - لأن للقرآن وضعه الخاص الذي سنأتي على ذكره لاحقا - لنثبت أن ما قلناه من أسبقية العقل عليها، لا يعني انعدام القيمة لكل العلوم والدراسات المتعلقة بأبحاث السنة من مثل "الجرح والتعديل" و"علم الرجال" و"مصطلح الحديث".. إلخ، ولا هو يعني أن كتب الحديث والبحث فيما فيها من صحيح أو ضعيف.. إلخ، غدا ترفا لا قيمة معرفية له، ولا هو يعني أن كتبا من مثل "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم" باتت بناء على مقولة أسبقية العقل على الوحي، بلا قيمة دينية ومعرفية على الإطلاق.
    لأن من يقيمُ مشروعيتَه المعرفية على أساس نِدِّيَّتِه المطلقة للعقل، وعدم إبداء الاستعاد لخلق أواصر التوافق المعرفي معه، فهو في الواقع لا يمتلك أي مشروعية معرفية. ولا نظن أن هناك مسلما يفعل ذلك حتى مع القرآن ذاته، لأنه والعقل آيتان من آيات الله، وآيات الله لا تعارضُ نفسها. وكل ما علينا فعله هو أن نمتلك ناصية العلم القادر على رؤية التوافق بين إشعاعات هاتين الآيتين، في ظل ما يُخَيَّلُ إلينا أنه تعارض، أو ذلك القادر على غربلة الصحيح من السقيم مما نسب إلى هاتين الآيتين، فضلا عن ذلك العلم القادر على الغوص في أعماق هاتين الآيتين لمعرفة الدور المعرفي الذي منحه الله لكل واحدة منهما، لا أن نُجَرِّدَ سيوفَنا كي نسفك دم العقل بالنقل، أو العكس.
    إن لكل تلك العلوم التي خشيت عليها يا أستاذنا الكبير "أبا عامر" من "جرح وتعديل" و"رجال" و"مصطلح"، دورها إلى جانب العقل والقرآن في استكمال دائرة الاعتمادية لتلك النصوص في مجال الأحكام والأخبار. وهو الأمر الذي نورده فيما تبقى من تحليل آملين أن تكون فيه الإجابة المباشرة على تفاصيل أسئلتكم يا أستاذنا الكبير.. وسنورد تحليلنا في ما توصلنا إليه من قواعد أطلقنا عليها "مقاييس التَّثَبُّت من صحة المأثورات"..
    مقاييس التَّثَبُّت الجديدة من صحة المأثورات
    من الضروري أن يكون هناك علم يُعْنَى بالتَّثَبُّت من صحة المرويات المنقولة "عن"، والمنسوبة "إلى" شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. ومن الضروري أن يكون هذا العلم قائما على مجموعةٍ من القواعد القادرة على حسم مسألة صحة النسبة مَحَلَّ التَّثَبُّت هذه. ومادامت المسألة ستؤول في المحصلة إلى إقرار مجموعة قواعد تُحَاكَمُ المرويات المنقولة على ضوئها، فلاشك إذن في أن الحاجة إلى مرجعية معرفية واضحة وقاطعة في دلالتها، لإعطاء هذه القواعد مشروعيتها في المحاكمة، هي حاجة ملحة وضرورية.
    إن أي حديث عن منظومة القواعد التي ستمثل الركيزة المعيارية لمحاكمة المرويات المنسوبة إلى شخص الرسول، يتطلب أمرين اثنين، أولهما، القيام بتحليل مكونات جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي" للتعرف من خلال هذا التحليل على حقيقة التنوع في هذه المكونات، وهو التنوع الذي سيترتب عليه بالضرورة تنوع مقابل في آليات المحاكمة "أي في قواعد المحاكمة". أما الأمر الثاني الذي يتطلبه الحديث عن قواعد محاكمة النص المروي، فهو التَّعَرُّف – انطلاقا من المرجعية المعرفية المعتمدة لدينا – على الآليات المفترض اتباعها لمحاكمة كلِّ واحد من مكونات جسم النص، المحاكمة التَّثَبُّتِيَّة التي من شأنها أن تحسم قطعا مسألة صحة أو عدم صحة نسبة ذلك النص المروي إلى مصدره الذي هو الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
    إن ما نحن بصدد التأكيد عليه هنا من ضرورة وجود علم محدد وقواعد محددة لغرض التَّثَبُّت من صحة المرويات، قد عرفه المسلمون باسم "علم الحديث ومصطلحه"، وبالتالي فلسنا نَدَّعِي أننا ندعو إلى إبداع علم غَفِلَ عنه السابقون. ولكننا مع ذلك ندعو إلى إحداث تطوير فعال في بعض جوانب هذا العلم، بعدما أيقنا أنه بحدوده المعروفة لم يعد قادرا – في تصورنا – على الإحاطة بكافة مقاييس التصحيح التي تعتبرُ الهدفَ الأساسي من وراء كل قواعده. في هذا التحليل سنحاول عرض مدخل نحسبه جديدا لمعالجة معضلة ما يفترض تطويره في هذا العلم.
    من الضروري أن نوضح أولا أن المعالجة التي نقدمها في هذا التحليل، هي شيئ آخر مختلف عن المعالجة التي تُعْنَى بمناقشة حُجِّيَّة النصوص المروية عن الرسول الكريم من حيث المبدأ. فمعالجة قضيةِ صحةِ نسبةِ نصٍّ ماَّ إلى مصدره، تختلف عن معالجة قضية الفعالية التشريعية والدور الوظيفي لذلك النص في الواقع. أو بعبارة أخرى فإننا لن نتحدث عن حُجِّيَّة السنة من حيث هي قناة الوحي الثانية، بل عن صحة ما نُسِبَ إليها من مرويات. فمن حيث الحُجِّيَّة فهي قطعا حجة بحكم حُجِّيَّة الوحي ابتداء، وبحكم كونها إحدى قناتيه اللتين وَصَلَنا من خلالهما أساسا، وإن تكن تلك الحجِّيَّة محكومة بدورها بمجموعة من القواعد الصارمة في تأطيرها لوظيفِيَّة النص السُّنِّي ضمن حدودها.
    إن هذا يعني أن أي موقف تَثَبُّتِّي نتخذه تجاه أي نص وارد عن الرسول لا يمكنه أن يتعرض للدحض أو للتفنيد بردٍّ ينطوي على إشارة إلى حُجِّيَّة السنة "أي حجية ما يصدر عن الرسول". فعندما نؤمن بحُجِّيَّة "السُّنَّة" ضمن سياقات معينة، فنحن سنؤمن بها لكل ما سيثبت أنه من "السنة"، في حين أن هذه الحُجِّيَّة لن تنطبق على ما نتوصل – وفق مقاييس التَّثَبُّت التي نعتمدها – إلى أنه غير صحيح النسبة إلى هذه "السنة". وهكذا فلا مكان استدلاليا في تحليلنا هذا لأي آية قرآنية تحدثت عن ضرورة اتباع النبي وطاعته والتأسي به والالتزام بأوامره، إذ ليس هذا مكان الاحتجاج بها.
    من جهة أخرى لا تصح آلية أو قاعدة للتَّثَبُّت من المروي المنسوب إلى الرسول، إذا تم استنتاجها من نص مروي منسوب إلى الرسول ذاته. فهذا غير معقول ولا منطقي. فمادامت النصوص المنسوبة إلى النبي هي كلُّها جملةً وتفصيلاً مَحَلَّ تَثَبُتٍ للتأكد من صحة نسبتها إليه عبر مجموعة القواعد والآليات التي نحاول وضعها واستنتاجها وبلورتها في سياق علمي منطقي، فلا يمكن أن يُسْتَدَلَّ على هذه الأخيرة بنصوصٍ لا تثبت صحتُها أساسا إلاَّ بِها.
    وهذه قاعدة بديهية في أصول الاستدلال. ومن يتعامل مع الرياضيات يدرك بوضوح بداهة هذه القاعدة. فنحن نعلم مثلا أن "موضوعة إقليدس" في الخطوط المتوازية، تنص على أنه لا يمكن من نقطة "م" تقع خارج مستقيم ماَّ أن نرسم إلاَّ مستقيما واحدا يوازي ذلك المستقيم. حاول بعضهم أن يستدل على صحة هذه القاعدة الموضوعة "البديهية"، باللجوء إلى قواعد الزوايا "المكملة والمتممة"، وهي مجموعة قواعد لا تصح أساسا إلاَّ بعد الاعتراف بصحة موضوعة إقليدس ذاتها. فهل يعقل أن يكون الاستدلال بها صحيحا لإثبات ما لا تثبت هي أساسا إلاَّ به؟!
    وباختصار فإذا كانت القضية "س" هي الدليل على القضية "ص"، فلا يمكن بأي حال أن تكون القضية "ص" دليلا في الوقت ذاته على القضية "س"، نظرا لتحقق معنى الدور الممتنع عقلا. الأمر الذي تتأكد معه استحالة أن يصار إلى الاستدلال بنص مروي عن الرسول لإثبات صحة قاعدة من قواعد علم التَّثَبُّت من صحة المرويات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم.
    إن كل نص رُوِيَ عن الرسول يتكون من جزءين رئيسين يمثلان معا جسم النص ككل. وهذان الجزءان هما "السند" و"المتن". أما السَّنَد فهو التوثيق التاريخي الزَّمني للنص ويتضمن سلسلة الناقلين الذين مَرَّ النص عبرهم إلى أن وصل إلى آخر من رواه. وأما المتن فهو النص في ذاته مُتَضَمِّناً الفكرةَ التي تم تناقلُها عبر الرواة مَصْبُوبَةً في قالب لغوي تعبيري معين. وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن، بل وما تم وضع أسس التَّثَبُّت القاسية من السند إلاَّ من أجل المتن، لأن إيصالَه إلى اللاحقين هو الهدف من العملية ككل. فسند بلا متن كلام فارغ لا معنى له، لأن الناقلين والرواة إنما يفترض فيهم أنهم ينقلون نصا مُتَضَمِّناً لفكرة ما. في حين أن متنا بلا سند هو كلام له معنىً واضح، وإن أمكن القول أنه غير صحيح النسبة إلى مصدره. فعدم صحة النسبة لا تُلغي المعنى عن المشكوك في صحته هذا.
    والنص الصحيح كما يفرض ذلك منطق الأمور، هو النص الذي يصح سندا ومتنا في الوقت ذاته. فلا صحة إذن لنص صَحَّ سنده ولم يصح متنه، كما أنه لا صحة لنص صَحَّ متنه ولم يصح سنده. وإنه إذا كان النص الصحيح متنا غير الصحيح سندا لا تصح نسبته إلى الرسول بسبب عدم القدرة على التأكد من أن الرسول قد قاله أو نطق به فعلا، فإن صِحَّةَ النص الصحيح سندا وغير الصحيح متنا تسقط لاعتبار آخر مُختلف، هو استحالة أن يكون الرسول الكريم قد قاله أو نطق به من حيث المبدأ.
    من الناحية النظرية المجردة، قد يصح نصٌّ – في نسبته إلى الرسول – صح متنا ولم يصح سندا، بينما لا يصح نص صح سندا ولم يصح متنا، وذلك لإمكان أن يحدث خلل في سلسلة الرواة وهم يتناقلون متنا ورد من مصدره، لكن يستحيل أن يكون الرواة مصيبين في تناقلهم متنا غير صحيح، لاستحالة أن يصدر عن رسول الله أساسا متن يعارض العقل والتجربة ولا ينسجم مع أي من أنساقهما المعتمدة، بل وقد يعارض القرآن أيضا. وإذن فلا وجود في صحة المرويات عن الرسول لصحة مطلقة بأي حال. بل إن الصحة نسبية، أو لنقل أنها واقعية عملية، أي تكفي عقلا لإيجاب العمل بالنص في ضوء استحالة الصحة المطلقة.
    إن هذه الاستحالة تَنَبَّه إليها بعض الحاذقين في علم الحديث حينما أكدوا على أن الحديث المتواتر ليس هو النص الذي يُنْقَلُ عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب، عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب، إلى منتهاه، بل هو النص الذي يُنْقَلُ عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب "عادةً"، عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب "عادةً" إلى منتهاه. وكلمة "عادةً" هذه، هي للدلالة على اللاإطلاق وعلى النِّسْبِيَّة الموجبة للعمل. ولكن الخطأ المطلق مُمكن في هذه المرويات، وذلك عندما يتحقق الخطأ في المتن بالتحديد. وبناء على ما سبق نستطيع أن نُصَنِّفَ النصوص المروية عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، على النحو التالي..
    1 – نص صحيح سندا، صحيح متنا، وهو نص صحيح صحة عملية، أي صحة موجبة للعمل به، وإن كان من الممكن ألاَّ يكون صحيحا في وروده عن الرسول نظريا، ولكن العمل به واجب نظرا لاكتمال عنصري الصحة العملية الموجبة للعمل، ولعدم إمكانية تَحَقُّق مستويات صحةٍ أعلى من ذلك في الواقع، وإن كانت مستويات الصحة العملية نفسها متفاوتة من نص لآخر، ولعل هذا ما جعل علماء الحديث يفرقون بين أحاديث الآحاد والأحاديث المتواترة. كما أن معظم علم الحديث ومصطلحه وتصنيفاته تدور حول هذه المسألة المتعلقة علاوة على مقومات الصحة بدرجات الصحة.
    2 – نص صحيح متنا، غير صحيح سندا. وهو نص خاطئ خطأ عمليا، أي كاف لترك العمل به، وإن كان من الممكن أن يصح عن الرسول نظريا بسبب صحة متنه. ولكن العمل به غير ملزم ولا واجب نظرا لعدم اكتمال عنصري الصحة العملية الموجبة للعمل.
    3 – نص غير صحيح متنا، صحيح سندا، وهو نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به، ولا يمكنه أن يكون صحيح النسبة إلى الرسول رغم صحة سنده، نظرا لاستحالة أن يرد عن الرسول متن خاطئ.
    4 – نص غير صحيح متنا، وغير صحيح سندا. وهو من باب أولى نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به.
    وهكذا يتضح لنا أن أي نص مروي عن الرسول يجب كي يصبح العمل به واجبا واقعيا وليس بصورة مطلقة، أن يصحَّ سندُه وأن يصحَّ متنُه في الوقت ذاته. ولا يُلْزِمُنا بأيِّ حالٍ من الأحوال نصٌّ اختل فيه السند أو المتن أو كلاهما. ولا يبقى علينا سوى أن نحدد شروط صحة السند، وشروط صحة المتن، كي تتضح لنا من ثم شروط صحة النص المروي. وهنا يجب أن نوضح أن علم الحديث بصيغته السائدة قد تولى إشباع مسألة صحة السند بصورة فائقة، بحيث أننا سوف نركز في تحليلنا هذا على شروط صحة المتن فقط، لأننا نرى أن هناك عناصر جديدة يُفْتَرَض أن تُأْخَذَ بعين الاعتبار في مسألة تصحيح المتون.
    ونوضح أيضا، أننا عندما نقول أن المتن يسقط إذا عارض العقل أو التجربة أو القرآن أو أياًّ من الأنساق المعرفية المعتمدة لكل من العقل والتجربة، فإننا لا نزعم أن السابقين وهم يدرسون المتن لم يقولوا بذلك، بل إننا نزعم أن قضايا جديدة دخلت في معاني التعارض مع العقل ومع التجربة ومع أنساقهما المعرفية، وبالتالي مع القرآن ذاته، فرضتها التوسعات الهائلة التي حصلت في المساحات المعرفية الخاصة بالعقل وبالتجربة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى أخذ هذه التوسعات بعين الاعتبار، في سياق تحديد معاني التعارض النَّصِّي مع المرجعيات المعرفية المذكورة.
    إن النصوصَ المنسوبة إلى الرسول الكريم كما وردتنا وكما هي ماثلة بين أيدينا تنقسم من حيث متونها، إلى نصوص خَبَرِيَّة وإلى نصوص حُكْمِيَّة، أي إلى "أخبار" وإلى "أحكام"، وإن لكل نوع من هذه النصوص مقاييس خاصة للتَّثَبُّت من صحة نسبته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. نحن إذن بصدد نوعين من المقاييس التَّثَبُّتِيَّة هما.. "مقاييس لصحة نسبة المتون الخبرية"، و"مقاييس لصحة نسبة المتون الحكمية".
    أولا.. مقاييس صحة نسبة المتون الخبرية
    ولصحة نسبة المتون الخبرية ثلاثة مقاييس هي..
    1 المقياس العقلي
    وعلى ضوئه لا تصح نسبة متن خبري إلى رسول الله إذا كان هذا المتن ينقل صورة عن واقع موضوعي له في العقل صورة مخالفة لما ينطق به المتن، خاصة وأن العقل يمتلك في محتوياته المعرفية مجموعة مفردات تُؤَهِّلُه لتصور العديد من مُكَوِّنات الواقع الموضوعي بشِقَّيْه المشاهدِ والمُغَيَّبِ. ونورد فيما يلي الأمثلة التالية على ذلك..
    أ – بما أن العقل لا يتصور أن لله أعضاء، فلا يصح نصٌّ عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى أن لله أعضاء، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة "أي في إطار أحد الأنساق اللغوية". وبالتالي فما يقال مثلا أنها أحاديث تكلمت عن كشف الساق يوم القيامة معتبرة أن الساق هي "ساق الله"، إنما هو كذب على الرسول، لتَضَمُّن متون مثل هذه الأحاديث تَجسيدا وتشبيها مُخالفا للعقل في حق الله، ولامتناع الفهم المجازي لمحتويات تلك المتون في إطار النسق اللغوي، ولعدم تَحَدُّثِ القرآن عن ذلك الموضوع بالشكل المنسوب إلى الرسول الكريم، كي يتسنى لنا فهمه بالتالي في إطار نسق "أسطوري" لم يصل إلى التجريد المطلوب في تصوره للذات الإلهية.
    وبِمعنى أكثر دقة، فإن مثل هذه النصوص لو كانت قرآنية لأمكن فهمها في إطار نسق أسطوري غير تجريدي، ولكن وبِما أنها سُنِّيَّة، أي منسوبة إلى القناة الثانية من الوحي والتابعة لهيمنة القناة الأولى منه، فإن فهمَها لا يستقيم في إطار ذلك النسق، وإلاَّ لانتفت الحكمة في هذه الازدواجية في هذه القنوات كما مر معنا. وكأننا أمام هكذا نصوص بصدد قبولها عقلا في سياق النسق الأسطوري بصفتها وحيا – مادامت صَحَّت سندا – ليُصار بعد ذلك إلى إسقاطها بموجب القرآن لاعتبارات العلاقة بين دور القرآن ودور السنة في العملية المعرفية. وهي العلاقة التي تنزع عن السنة حقا معرفيا كهذا، وهو ما سيتضح لنا أكثر عندما نناقش المقياس القرآني على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول.
    ب – بما أن العقل لا يتصور أن لله حيزا ومكانا لأنه هو المكان المطلق، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أن لله حيزا ومكانا، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة، أي في إطار النسق اللغوي. وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي يقال أن الرسول اختبر فيها إيمان وإسلام جارية بأن سألها "أين الله؟"، لأن هذه الرواية التي أشارت فيها الجارية – مُجيبةً عن مكان الله – إلى السماء، أي إلى الأعلى، تنطوي على مخالفة للمعقول مادامت قد حددت مكانا يوجد فيه الله ومكانا لا يوجد فيه. ولا يجوز أن يصدر عن رسول الله أمر كهذا فيه من التشبيه والتحجيم والتَّحْييزِ لله ما لا يتصوره العقل، خاصة وأن النص لا يحتمل تأويلا يُحَوِّله إلى المجاز بصورة يُفْهَم معها في إطار النسق اللغوي، وأن القرآن لم يتحدث عن ذلك الموضوع بشكل من الأشكال لاعتباره مفهوما ضمن "النسق الأسطوري". وما يقال عن هذه الرواية يقال وبالمنطق نفسه عن رواية أخرى تحدثت عن رؤية المؤمنين لله يوم القيامة. فمادامت هذه الرواية قد حَيَّزَت الله فإنها وللأسباب السابقة نفسِها رواية لا تصح.
    ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن النص القرآني الذي يبدو متعارضا في ظاهره مع معطى العقل بخصوص الموضوع الذي يعالجه لا يتم فهمه في ضوء "النسق الأسطوري" إلاَّ بعد فهمه في ضوء "النسق اللغوي" أولا، فإن استعصى النص على هذا النسق يتم بعد ذلك دمجه في معطيات الأسطورة. أي أن ما يُمكن أن يُظَنَّ أنها آيات قرآنية تحدثت عن وجود الله في السماء أو عن النظر إليه يوم القيامة ليتسنى لنا القول بإمكانية فهم الأحاديث التي ناقشناها هنا في إطار الأسطورة أو في إطار "النسق الأسطوري"، هو ظن في غير مَحله، لأن آيات من مثل، "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"، أو من مثل، "ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات"، هي آيات رغم ما يبدو من تعارض معطاها المباشر مع معطى العقل، إلاَّ أنها لا تستعصي على اللغة، ويعتبر فهمها في إطار "النسق اللغوي" أمرا مُمكناً، وهو ما يجعل اللجوء إلى اعتبارها مُؤَدىًّ أسطوريا لجوءاً غير عقلاني، وبالتالي فكأن تلك النصوص القرآنية لم تتحدث عن مواضيع الرؤية والتَّمَوْضُع في مكان محدد من حيث المبدأ، وهو الأمر الذي يُخْرِج نصوص السنة التي عالجت هذه الموضوعات من دائرة الصحة أساسا. (يراجع لمعرفة الأنساق القرآنية الأسطورية واللغوية والتاريخية، كتابنا تجديد فهم الإسلام، الفصل الأول "العقل"، ففيه شروحات وتحليلات وافية بهذا الخصوص، والكتاب منشور على موقع "فرسان الثقافة").
    ج – بما أن العقل لا يتصور أن تكون الأحداث المستقبلية المرتبطة في جانب من جوانب مُكَوِّناتِها على الأقل، بعنصر الإرادة البشرية المفتوحة على كمٍّ هائل من الاحتمالات التي لا يُرَجَّح بعضها على البعض الآخر في لحظة معينة، داخلة مسبقاً في دائرة علم الله، لأنها أمور غير قابلة لأن تُعْلَم قبل تحقق عنصر الإرادة الداخل في تكوينها إلى حَيِّزِ النية.. (يراجع لمعرفة العلم الإلهي وعلاقته بالإرادة الإنسانية، كتابنا تجديد فهم الإسلام، الفصل الثاني "الله"، ففيه شروحات وتحليلات وافية بهذا الخصوص، والكتاب منشور على موقع "فرسان الثقافة").
    نقول.. بما أن العقل لا يتصور ذلك، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أحداث وتنبؤات مستقبلية تتضمن بشكل أو بآخر تدخلا لعنصر الإرادة في تكوينها – أي تلك الأحداث – وبالتالي فلا صحة مطلقا لأي نص مروي عن الرسول يتحدث عن المستقبل "المهدي، الدجال، نزول المسيح، ظهور الدابة، ظهور يأجوج ومأجوج، الملاحم، اقتتال الصحابة، الفتن، ما سيحدث لآل البيت،.. إلخ". خاصة وأن القرآن الكريم قد تحرر تماما من وقع الأسطورة في هذا الميدان من التنبؤات، وبالتالي فكأن في تحرره هذا إشارة واضحة إلى تحرر القناة الثانية منه حتما.
    2 المقياس التجريبي
    وعلى ضوئه لا تصح نسبة متن خبري إلى رسول الله، إذا كان هذا المتن ينقل صورة عن واقع موضوعي، كشفت التجارب العلمية المستوفية لشروطها الصحيحة خلافه، ونورد فيما يلي المثال التالي على ذلك..
    بما أن التجارب العلمية الصحيحة والمشاهدات الحسية اليقينية أثبتت أن الأرض تدور حول الشمس، وأن تَكَوُّن الليل والنهار وتعاقبَهما هو نتيجة لدوران الأرض حول نفسها وهي مواجهة للشمس وليس نتيجة لأي سبب آخر، كذهاب الشمس إلى أيِّ مكان. فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى خلاف ما تؤكده تلك التجارب العلمية، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَمَ على وجه المجاز فهما معقولا بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة. وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي أخرجها "البخاري" في صحيحه، والتي تشير إلى أنه أخبر فيها أبا ذر الغفاري بأن الشمس عندما تغرب تذهب عند عرش الرحمن لتسجد حتى يُؤْذَنَ لها بالشروق في اليوم التالي. وذلك بسبب انطواء هذه الرواية على مُخالفة بَيِّنَة للحقائق العلمية الثابتة بتجارب مستوفية الشروط الصحيحة، ولامتناع فهم الرواية فهما معقولا بصورة تحتملها اللغة، أي في سياق "النسق اللغوي"، مادام القرآن ذاته لم يشر إلى شيئ من ذلك لدمج تلك الرواية في إطار "النسق الأسطوري".
    إن النص الذي رواه أبو ذر الغفاري لم يذكر أن أبا ذر سأل رسول الله فتلقى منه الإجابة، بل إنه يذكر أن الرسول تبرع من تلقاء نفسه بالمعلومة، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية في معاملة هذا النوع من الروايات وفق "النسق الأسطوري". إن التبرع بالمعلومة الأسطورية الطابع يثير معضلة معرفية. فإذا كان الوحي عموما عندما يلجأ إلى "النسق الأسطوري" في إظهار وإبراز معارفه، إنما يفعل ذلك لأنه ما كان إلاَّ ليفعل ذلك بحكم المستوى المعرفي للبشر الذين يخاطبهم، فإن هذا يعني قطعا أنه سيحاول قدر ما يستطيعه الحيلولة بين نفسه وبين أن يضطر إلى اللجوء إلى هذا النسق المعرفي اللاَّعقلاني. إن التَّبَرُّعَ بالمعلومة أسطورية النَّسَقِ يتعارض على الفور مع هذا المعنى في وجهة الوحي المعرفية، لأنه ينطوي على المبادرة بالنزعة الأسطورية وليس على العمل على التخلص منها.
    لهذا السبب فإن النص الوحيوي عموما يُصار إلى فهمه باللجوء إلى "النسق الأسطوري" إذا كان نصا يعالج مسألة عميقة ومتجذرة في واقع الحياة، بحيث أن الحديث عنها حتى بدون استفسار مسبق من قبل المعنيين بالخطاب يُعَدُّ تحصيلَ حاصل. أما فيما عدا ذلك فيجب أن تكون النزعة الأسطورية في النص الوحيوي نزعة تظهر على شكل إجابة على تساؤل ما كان ليحتمل إجابة من نوع غير أسطوري، علما بأن الاجابة غير الأسطورية النزعة إذا كانت ممكنة فإن اللجوء إليها للتحرر من النسق الأسطوري يعد أمرا مقطوعا به في ضوء خطة الوحي المعرفية. وإذا كان الله وحده من خلال وحيه هو الذي يطلعنا ويكشف لنا عن مدى حاجة المسألة المعروضة إلى النسق الأسطوري أو عن عدم حاجتها إليه، فهو ذاته سبحانه الذي أفهمنا من خلال معطيات العقل ومن خلال منطق القرآن ذاته أنه لا يتبرع بالأسطورة إلاَّ إذا كانت أعمق وأخطر من أن لا يتبرع بها.
    فعندما سئل الله عن طريق نبيه عن الأهلة، أجاب بقوله.. "ويسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج". وعندما سئل عن الروح قال.. "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وعندما سئل عن المحيض قال.. "ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض". وإذن فالله سبحانه وتعالى عندما قَدَّر أنه لا داعي إلى اللجوء إلى "النسق الأسطوري" لانسجام ذلك مع مستوى الوعي المتوقع تعامله مع طبيعة الموضوع المطروح على بساط التساؤل، فقد تجنب ذلك واكتفى بالإجابات المقتضبة التي ربما لم تكن كافية للرد على حجم الأسئلة المطروحة. ولقد كان تقديره سبحانه صحيحا للغاية، حيث اكتفى السائلون بهذه الإجابات وانتهى الأمر عند هذا الحد.
    مع ملاحظة أن تقدير الله لعدم حاجته إلى الإجابة أسطورية النزعة لم يدفعه في المقابل إلى الإجابة "موضوعية النسق"، فهو لم يشرح الأَهِلَّة شرحا علميا بل اكتفى بشرح ظلالها في حياة هؤلاء القوم. كما أنه لم يشرح الروح شرحا فلسفيا لاستحالة أن يُفْهَمَ في ذلك. ولم يتعرض بالشرح والتحليل لوجه الأذى في المحيض من الناحية العلمية، لأنه كان سيضطر لأن يكون طبيبا من أطباء القرن العشرين المتخصصين في الأمراض النسائية. إنها عظمة الله وهو يوفق بين النزعة المعرفية المشدودة إلى ماضٍ ينزع إلى الأسطورة بمستويات مختلفة، وبين نزعة مقابلة مشدودة إلى مستقبل سيتحرر مع مرور الوقت من ربقة قيد الماضي والحاضر وهما يتكيفان مع منطق التطور في الوعي وفي المعرفة.
    3 المقياس القرآني
    وعلى ضوئه لا تصح نسبة متن خبري إلى الرسول، إذا كان هذا المتن ينقل إلينا واحدا من الأمور التالية..
    أ – تفصيلُ واقعٍ موضوعي لم يتعرض له القرآن إلاَّ بالعموم والإجمال. كأن يتحدث الله عن ذي القرنين بما نعرفه جميعا في سورة الكهف، ليورد لنا المتن المنسوب إلى الرسول الكريم تفاصيل أخرى بشأن ذي القرنين. والسبب في عدم جواز قبول نسبة هذه التفاصيل المنسوبة إلى الرسول، يرجع إلى أن الله وفي الكثير من القضايا الخبرية فَصَّل بدقة في كتابه، وبالتالي فإنه عندما لم يفصل ولجأ إلى الذكر العام والعابر والمجمل، أو عندما اكتفى بقدرٍ معين من التفصيل لم يتعداه، إنما فعل ذلك لأنه لا يريد إخبارنا بأكثر مما أخبرنا به عاما أو مجملا أو مفصلا بذلك القدر فقط، بسبب تقديره سبحانه أن حاجتنا محصورة بخصوص هذا الخبر المجمل في إطار ما أورده إلينا من إجمال وعموم.
    ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لما كانت هناك من حكمة ولا كانت هناك من دلالة مفهومة في ورود تفاصيل معينة لقضايا خبرية معينة في القرآن، وفي عدم ورود مثل تلك التفاصيل فيه لقضايا وأخبار أخرى. ولأننا نوقن بعمق الحكمة في المنهج الرباني عموما، فإننا نتصور أنه لا يصح خبر عن رسول الله يفصلُ خبراً قرآنيا بمعنى الزيادة عليه من حيث المعلومات، أما فيما يتعلق بشرح الخبر القرآني بما لا ينطوي على معلومات جديدة فهو أمر ممكن ولا معضلة معرفية في قبوله.
    وبناء على ما سبق فإننا نرى أن كافة الروايات المنسوبة إلى الرسول بخصوص التاريخ الماضي وبخصوص عالم الغيب غير التنبئي، هي روايات غير صحيحة المتون إذا انطوت متونها تلك على إضافات معلوماتية وأَحْداثية على ما في النصوص القرآنية التي تعرضت لها بالإجمال والعموم، فيما تُقْبَلُ المتون الشارحة مجرد شرح لما بدا غامضا من تلك الأخبار القرآنية. أما بخصوص ضوابط الفصل بين المتن الشارح والمتن المضيف للمعلومات فهي واضحة ولا لبس فيها، إذ يجب أن يقتصر الشرح على توضيح ما هو موجود من معلومات دون إضافة أي معلومة جديدة. ومن الأمثلة على ذلك، موضوع "الجن" وقصة "آدم والشيطان" و"عذاب ونعيم الآخرة" و"أحداث يوم القيامة والبعث والنشور" و"قصص الأنبياء والرسل والأمم الغابرة". فمثل هذه القضايا يُقْتَصَرُ في معرفتها الوحيوية على النص القرآني إضافة إلى النص الرسولي الشارح الذي لا ينطوي على معلومة جديدة.
    إن هذه القضايا الخبرية ومثيلاتها، بعضها فُصِّل في القرآن وبعضها أُجْمِلَ. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الله فصل ما اقتضت حاجتنا أن يفصله، وأجمل ما اقتضت حاجتنا أن يجملَه وحسب. وبالتالي فلا معنى لقيام الرسول بتفصيل ما أجمله الله، لأن الله إذا كان يفصل ما يرى تفصيله ضروريا دون إحالة مسألة التفصيل إلى الرسول، فلاشك إذن في أن امتناعه عن التفصيل عندما أجمل، لن يكون بسبب رغبة منه في إحالة التفصيل إلى الرسول، بل بسبب عدم حاجتنا إلى التفصيل أصلا، لا منه سبحانه ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام.
    ب – الأمر الثاني الذي يُسْقِط المتن المنسوب إلى الرسول إذا كان ينقله ذلك المتن، هو الحديث عن واقع موضوعي لم يتعرض له القرآن إطلاقا لا من قريب ولا من بعيد، خاصة إذا تضمن في الوقت ذاته أخبارا أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى مِماَّ حرص الله على ذكره وتثبيته في كتابه. فمن حيث المبدأ فإن الله إذا كان ذكر خبرا في كتابه ولم يذكر آخر، فليس ذلك بسبب أنه يريد لهذا الآخر أن يكون مذكورا في القناة الوحيوية الثانية "أي في السنة"، بل لأنه لم يكن معنيا بذكر هذا الخبر من حيث هو خبر أساسا، لا في كتابه ولا في سنة نبيه. ومن جانب آخر – ومن باب أولى – فإن الله إذا كان ذكر الخبر الأقل أهمية فلا شك في أن الأشد أهمية يفترض أن يكون أولى بالذكر في كتابه – هذا إذا قبلنا فكرة تقاسم الأخبار بين القرآن والسنة مبدئيا – إذ لا معنى ولا حكمة على الإطلاق في ذكر الهَيِّن في القرآن وترك الشديد عميم البلوى لشخص الرسول الكريم لذكره وتوضيحه.
    وعلى سبيل المثال في هذا الموضوع نتناول حادثتي الإسراء والمعراج، فقد ارتبطت في أذهان المسلمين حادثة الإسراء بحادثة المعراج ارتباطا عضويا، بحيث لا تنفصل إحداهما عن الأخرى بأي شكل، علما بأن القرآن الكريم لم يتحدث بوضوح وصراحة إلاَّ عن حادثة الإسراء في الآيات الأولى من سورة الإسراء، ولم يتحدث عن المعراج بنفس الوضوح والصراحة، هذا إذا لم نجزم بأنه لم يتحدث عنه إطلاقا. لا بل إن آيات سورة النجم التي تُفَسَّر عند البعض على أنها تتعلق بالمعراج غامضة وغير قاطعة في دلالاتها وتحتمل أكثر من وجه في المعنى خلافا للصراحة والوضوح عند الحديث عن مسألة الإسراء.
    والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو.. إن حدث المعراج إن حصل لهو أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى من حدث الإسراء، فلماذا يذكر الله الإسراء بوضوح تام فيما لم يذكر المعراج بنفس مستوى الوضوح والقطع؟ لا بل لماذا يخبر عن الإسراء في سورة، فيما يخبر عما يُظَنُّ مجرد ظن أنه "معراج" في سورة أخرى؟ أي لماذا لم يتم الإخبار عن الحادثتين معا إذا كانتا حصلتا في الليلة نفسها؟ هذا إذا افترضنا أنه بالفعل أخبر عن المعراج من غير وضوح في سورة النجم!!
    والأدهى والأمر أن المسلمين يربطون بناء على مَرْوِياَّتٍ صحيحة عندهم سندا، لورودها في صحيحي البخاري ومسلم، بين حادثة المعراج وبين فرضية الصلاة في القصة الغريبة وغير المنطقية والأشبه بمساومة بين الرسول محمد وربه بواسطة نبي آخر هو موسى الذي لعب دورا أشبه بأدوار السماسرة والوسطاء والعرابين. فإذا علمنا أن الصلاة في الفهم السائد هي أهم فرائض الإسلام، فهل يعقل أن ترتبط بحادثةٍ غير محسومة قرآنيا، في الوقت الذي يحسم فيه القرآن قضيةً أقل أهمية وأقل فائدة منها حسبما هو وارد إلينا، وهي حادثة الإسراء التي لم يترتب عليها حسب النص القرآني أيُّ حكم اجتماعي أو تَعَبُّدي ذي أهمية كالصلاة؟!
    إن هذا التحليل الذي نقدمه لنموذج من نماذج تعارض الأخبار القرآنية مع الأخبار الواردة عن رسول الله بهذا المستوى من الوضوح، ليؤكد لنا على ضرورة البحث من جديد في مسألة المعراج وما يشبهها من المسائل للتأكد من صحتها قرآنيا بالدرجة الأولى. ونحن لسنا معنيين بأن نجزم هنا بعدم صحة حادثة المعراج، بل نحن نثير تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي، فقد تصح وقد لا تصح، ولكننا نصر على ألاَّ تصح إلاَّ قرآنيا وبوضوح تام بناء على المنهج الذي اتبعناه في تحديد أشكال علاقة التكامل بين القرآن والسنة.
    ولعل من أغرب الأمثلة وأكثرها إثارة للدهشة مما يندرج تحت هذا البند من بنود المقياسية القرآنية على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول، مقولة "عذاب القبر". فعذاب القبر كما هو وارد في المتون الخبرية المروية عن الرسول – علاوة على أن فيه مغالطات واضحة بمقاييس العقل، فإن فيه تعارضات إخبارية مع المنهج القرآني في الإخبار.
    إن عذاب القبر مسألة حساسة وهامة وخطيرة إن وُجِدَت، بحيث لا يجوز أن تترك بمجملها وبتفصيلها لنص غير قرآني يعالجها، مادام النص القرآني قد تعرض بالإخبار والتحليل لما هو أقل أهمية منها من أخبار وأحداث. فهل يعقل مثلا أن يخبرنا الله بإسهاب عن الموت والولادة وعن الطبيعة والكون وعن الجنة والنار وعن يأجوج ومأجوج وعن ناقة صالح وعن هدهد سليمان وعن كلب أهل الكهف، ويهمل بالكامل أيَّ حديث عن عذاب القبر الذي يتضمن مقولة العذاب القريب الأجل بكل الأهوال والرعب المرفقين بهذا النوع من العذاب في النصوص المنقولة عن الرسول؟!
    بكل تأكيد فإن هذا مما لا يعقل. وبالتالي فلا نتصور أنه يصح متن عن الرسول الكريم بخصوص عذاب القبر. وعلى من يريد بَحثَ المسألة أن يبدأ من كتاب الله، فإن وجد فيه ما يفيد صراحة بموضوعية هذا العذاب، وبعد إحداث المطابقة بين ما قد يكون موجودا بهذا الخصوص في كتاب الله وبين العقل ومواقفه منه، فعندئذ نقبل من الرسول الكريم القيام بشرح الغامض وفق ما ثبتناه في البند السابق من المقياسية القرآنية على التثبت من صحة المتن الخبري المنسوب إلى الرسول. ولكن للأسف فإن مقولة عذاب القبر تفتقر إلى الشرطين معا، فلا هي مقبولة عقلا ولا هي موجودة أو منصوص عليها قرآنا من ثم حتى يكتسب الرسول حق شرحها من حيث المبدأ.
    ج – أمر ثالث هام يتسبب – في تصورنا – في سقوط المتن المروي عن الرسول وفق المقياس القرآني في التثبت من صحة المتون الخبرية، وهو أن يكون المتن متعارضا مع النص القرآني أو مكرسا لمعانٍ ولمفاهيم غير تلك التي يكرسها ذلك النص. وكمثال واضح على ذلك نتناول مقولة "آل البيت"، التي يحدد لها القرآن الكريم معنىً واضحا في سورة الأحزاب، ليأتي النص المنسوب إلى الرسول الكريم محددا لها معنى آخر وضاربا بالمعنى القرآني عرض الحائط.
    ولتوضيح الأمر نقول.. إن الآيات المعنية من سورة الأحزاب حددت آل البيت بنساء النبي، بعد أن وجهت إليهن مجموعة من الأوامر والتعليمات، موضحةً في ختام الخطاب الموجه إليهن سبب ذلك بإرادة الله في تطهيرهن، ذاكرة لهن وصف "أهل البيت". ومع ذلك تفاجئنا رواية "الكساء" المنسوبة إلى الرسول عن أم سلمة إحدى نساء النبي، بأنه يعتبر آل البيت هم فاطمة والحسن والحسين وعلي ين أبي طالب فقط، في قصة استيقاظه من النوم فزعا ثم ضمه لهؤلاء وتغطيته لهم بالكساء، مُعتبرا أن الآية القرآنية التي ذكرت أهل البيت إنما هي تقصدهم تحديدا. لا بل إن الرواية تُمعن في الاستخفاف بعقول المسلمين، عندما تذكر لنا أن أم سلمة طلبت من الرسول أن يجعلها من أهل البيت المزعومين هؤلاء، فيرفض مُحاولا استرضاءها بشيء آخر.
    فسبحان من أعطى لنبيه حق نزع الصفات التي أعطاها هو لعباده. فالله يعطي لأم سلمة بصريح القرآن صفةَ أهل البيت، ويريدون منا أن نصدق أن محمد بن عبد الله يتحدى الله وينزعها منها قاصراً إياها على غيرها!! لا بل هو يتبرع بهذه النسبة الشريفة لسلمان الفارسي حينما يقول.. "سلمان منا آل البيت"، ويحرم منها أم سلمة التي لم تكن في حاجة إلى أن تطلبها منه عليه الصلاة والسلام أصلا بعد أن حصلت على هذا الشرف بمرسوم رباني صدحت به آيات سورة الأحزاب. لسنا ندري كيف يُرادُ لنا أن نصدق بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يتوقف عن الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه قبل أن يزوده الوحي بها، ليبادر بمخالفة صحيح القرآن في مسألة كهذه؟!
    هنا إذن نجد تعارضا صارخا وحادا مع صريح القرآن. ونستغرب أشد الاستغراب عندما نلمس تكريسا لهذا التعارض، بحيث أن تاريخ المسلمين هو في الجانب السوداوي منه صراع على السلطة بين أهل البيت وأشياعهم من جهة، وبين أعداء أهل البيت ومعارضيهم من جهة أخرى. أي أن هذا التاريخ بُنِيَ على كذبة نُسِبَت إلى الرسول الكريم مُعاَرِضَةً أشد المعارضة لصريح القرآن.
    ثانيا.. مقاييس صحة نسبة المتون الحكمية
    إن المتون الحكمية هي التي تنطوي على تنظيم علاقةٍ ماَّ من أي نوع كانت، سواء قامت هذه العلاقة بين الإنسان ونفسه أو بينه وبين إنسان آخر أو أناس آخرين أو بينه وبين ربه أو بينه وبين أي وجود غير إنساني في هذا العالم. وإن هناك مقياسين فقط للتَّثَبُّت من صحة نسبة المتون الحكمية إلى النبي، هما المقياس العقلي والمقياس القرآني.
    1 المقياس العقلي للتَّثَبُّت من صحة نسبة المتون الحكمية إلى النبي
    إن مقياسية العقل على صحة نسبة المتون الحكمية إلى الرسول الكريم، ليست شبيهة بمقياسيته على صحة نسبة المتون الخبرية إليه. فإذا كان يُكْتَفى من المتن الخبري كي يُصًار إلى القول بعدم صحة نسبته إلى الرسول، بأن يكون متضمنا لفكرة عن واقع موضوعي يُخْبِرنا العقل بخلافها ولا نجد لها مكانا في أنساقه اللغوية والأسطورية، فإن الأمر فيما يتعلق بالمتون الحكمية مختلف عن ذلك. وبمعنىً آخر فإن ورود متنٍ حُكْمي يتضمن صيغةً عن تنظيم علاقة ما تبدو للوهلة الأولى مخالفة أو معارضة لما يُشِعُّ به العقل من صيغ تنظيمية لتلك العلاقة، لا يعني بالضرورة عدم صحة نسبة ذلك المتن الحكمي إلى الرسول الكريم، بل هو سيُحاكم في إطار نسق عقلي آخر غير النسقين اللغوي والأسطوري، هو "النسق التاريخي". وقبل أن نبدأ في شرح هذا المفهوم، يجدر بنا أن نشير إلى أن الأحكام التي تضمنتها النصوص المنقولة إلينا سواء كانت نصوص سنة أو نصوص قرآن هي من حيث المبدأ على نوعين رئيسين هما..
    أ – أحكام تنظم مرافق حياةٍ يمتلك العقل بخصوص تنظيمها تصورا متكاملا مرتكزا إلى العدل في صورته العقلية المذهبية. ويمكن حصرها في كل من الأحكام التي تنظم معاملات مجتمعية، كالاقتصادية والسياسية والأسرية والجنائية وما شابهها من الأحكام الاجتماعية.
    ب – أحكام تنظم مرافق حياةٍ لا يمتلك العقل بخصوصها وبخصوص تنظيمها تصورا محددا قائما على تصوره النموذجي المذهبي للعدل. ومن ذلك ما يتعلق باللباس والزينة والأطعمة والأشربة والمحرمات والمحللات في الزواج وآداب التعامل بين الناس.. إلخ.
    إن العقل ليس من شأنه أن يكون حَكَماً على الصنف الثاني من الأحكام، نظرا لأنها تندرج تحت بند الممكنات وليس تحت بند الضرورات العقلية، وبالتالي فإن أيَّ نصٍّ منسوب إلى الرسول إذا كان مندرجا في الموضوع الذي يعالجه في هذا الصنف من الأحكام، فإن المقياسية التي يجب أن يخضع لها تقع خارج حدود العقل، أي أنها إما مقياسية تجريبية وإما مقياسية قرآنية. وبما أن المقياسية التجريبية تأتي لاحقة للمقياسية القرآنية، فلم تبق إلاَّ المقياسية القرآنية كي نعالجها في هذا العرض.
    ولكن ومادام العقل يستطيع في الجانب الاجتماعي الذي يملك بشأنه تصورا للعدالة أن يُكَوِّنَ صيغة تنظيمية معينة، فإننا في مواجهة النصوص التي تعالج موضوعات من هذا القبيل أمام حالتين، فإما أن تكون تلك المتون مطابقة في مضمونها لمعطى العقل، وإماَّ ألاَّ تكون كذلك. فإذا كانت مطابقة فليست هناك مشكلة معرفية على الإطلاق. أما إذا كانت مختلفة وغير مطابقة له فنحن هنا في الواقع أمام تعارض أساسي وخطير، فكيف يمكن فهمه بصورة يستقيم معها الأمر موضوعيا.
    نقول.. إن هذه المتون إذا صحت أسانيدها، فهي صحيحة النسبة إلى الرسول ما لم تنهزم أمام المقياسية القرآنية لاحقا، أو ما لم يعارض بعضها البعض بصورة تعصى على الفهم في إطار قواعد أصول الفقه المعتمدة. أما التعارض الظاهر بين معطاها الحُكْمي وبين معطى العقل الحُكْمي فهو راجع في الواقع إلى قانون التطور. وهو القانون الذي إذا تم تطبيقه في هذا المجال فستذوب كل التعارضات المُشاهَدَة.
    إن الوصول إلى مستوى تَمَثُّل الصيغ التي يقررها العقل للعدالة الاجتماعية، مرهون بالتطور الإنساني عبر التاريخ، والإنسان لا يستطيع أن يعي ويدرك، وإن هو أدرك فإنه لا يستطيع أن يحقق ويطبق تلك الصيغ العقلية إذا لم تتوافر ظروفها وشروطها الموضوعية، وهي شروط وظروف تتعلق بمستوى عالٍ من الوعي ومن المعرفة أولا، وبمستوى عالٍ من القيم السائدة بين البشر ثانيا، وبمستوى عالٍ من التطور التقني والعلمي ثالثا، وبمستوى أكثر علوا وسموا من التآلف والتمازج الإنساني رابعا.
    وبالتالي فإن الإنسان بحاجة في كل مرحلة من مراحل حياته إلى صيغ تنظيمية مرحلية ومؤقتة تكفل له أن يندفع باتجاه النموذج العقلي المذهبي للعدالة، أي هو بحاجة في كل مرحلة إلى صيغٍ تكون الأكثر قدرة في تلك المرحلة على تحقيق العدالة النسبية من جهة، وعلى دفع الواقع باتجاه العدالة المذهبية من جهة أخرى. وبكل تأكيد فإن الصيغ التنظيمية التي قررها الأنبياء والمرسلون لأقوامهم وعلى رأسها تلك التي قررها محمد بن عبد الله، هي الأكثر تعبيرا عن ذلك إبان إقرارهم لها.
    وهكذا تستقيم النظرة إلى موضوع المتون الحكمية الاجتماعية المنسوبة إلى الرسول الكريم، والمتضمنة لآليات تنظيمية تخالف الصيغة العقلية المتوافرة بخصوصها، تستقيم لتغدو ممثلة – أي تلك المتون – لأرقى النماذج التنظيمية المرحلية "المؤقتة" المتاحة والمتصورة، والتي تحقق أكثر نماذج التنظيم الاجتماعي قدرة على تمرير العدالة النسبية، والقادرة من ثم في حينها وأكثر من غيرها على الدفع باتجاه العدالة المذهبية التي يقررها العقل، وذلك عبر الانتقال بالإنسانية من مرحلةٍ إلى أخرى أكثر قربا من القدرة على تمثُّل وتطبيق الصيغ العقلية النموذجية تلك.
    وهكذا فقبول صحة نسبة تلك المتون إلى الرسول رغم مخالفتها الظاهرة لمعطى العقل المذهبي هو قبول لا يتعارض مع العقل، بل هو قبول يتحقق وفق مقياس عقلي يرتكز إلى قانون التطور، مادام قبولاً قائما على قاعدة إمكانية عدم الحاجة التشريعية إليها، إذا تبين في الواقع ما يدعو إلى عدم الحاجة هذه، ومن الضروري أن نُذَكِّرَ هنا بأن هذه الفكرة – فكرة عدم الامتدادية التشريعية رغم صحة النسبة إلى المصدر – لا تنطبق فقط على المتون الحكمية المنسوبة إلى الرسول، بل هي تنطبق أيضا على الآيات القرآنية الشبيهة بتلك المتون في المحتوى والمضمون التنظيمي الاجتماعي. إنها بكلمة أخرى القراءة في إطار النسق التاريخي للنص الاجتماعي التشريعي المتعارض مع معطى العقل المذهبي عندما يمتلك العقل معطىً مذهبيا بخصوص الموضوع الذي يعالجه النص.
    2 المقياس القرآني للتثبت من صحة نسبة المتون الحكمية إلى النبي
    إن كافة نصوص الأحكام المنسوبة إلى الرسول، سواء منها ما كان يقع على موضوعاتِ أحكامٍ للعقل بخصوصها رؤاه المذهبية، أو ما كان منها خارج دوائر رؤى العقل المذهبية، تخضع وهي تُعالجُ في ضوء مقياسية القرآن على صحتها إلى قاعدة أساسية هي قاعدة نطلق عليها "حدِّيَّة القرآن". إن الفكرة الأساسية في هذه القاعدة تقوم على أن الرسول الكريم لم يُخَوَّل من الله ولا بأي شكل من الأشكال بإضافة شيئ منادد للقرآن لا خبرا ولا حكما، بل إن قصارى ما خُوِّلَهُ هو أن يتحرك قولا أو فعلا أو تقريرا ضمن دائرةٍ رُسِمت له حدودها وأطرها بالنص القرآني، حيث تُمَثِّل نصوصُ القرآن الحكمية فيها – مادمنا قد تحدثنا عن الأخبار فيما مضى – الحدود التي لا يصح عن رسول الله متن تجاوزها وتحرك بمحتواه الحكمي خارجها.
    إن التأكيد على اقتصار دور الرسول التشريعي على الحركة داخل الحدود المقررة قرآنيا، يستند إلى حقيقة ضرورة الاختلاف في الدور الوظيفي بين كل من القناة القرآنية والقناة السُّنِّيَّة من الوحي. فإذا كان هذا الاختلاف قد تجلى في مجال الأخبار فيما سبق أن أوردناه ونحن نتحدث عن مقاييس التثبت من صحة نسبة المتون الخبرية، فإنه لابد أن يتجلى في مجال الأحكام في ظاهرة الحَدِّيَّة التي هي بمثابة الإسقاط الموضوعي لطبيعة الاختلاف المُسْتَنْبَطَة في مجال الأخبار على مجال الأحكام. فقاعدة عدم الزيادة في المعلومات السُّنِّيَّة عن المعلومات القرآنية هي معنى آخر لِلْحَدِّيَّة، وإن كانت هذه الحدية قد أخذت في مجال الدور الوظيفي للأخبار شكلا أو أشكالا، يختلف أو تختلف عن ذلك الشكل أو عن تلك الأشكال المتوقعة في مجال الأحكام.
    أ ما يقع خارج دائرة رؤى العقل المذهبية
    قلنا إن هناك نوعين من الأحكام، يمتلك العقل رؤية مذهبية كاملة بخصوص نوع واحد منها، ويفتقر إلى مثل هذه الرؤية بخصوص النوع الآخر، الواقع حكما خارج دائرة قدرة العقل على تكوين رؤية مذهبية بشأنه. جاء النص القرآني بخصوص هذا النوع موضحا حدوده الدنيا التي يفترض عدم النزول عنها أو الإنقاص منها، تاركا المجال للرسول كي يزيد ويضيف عليها، على قاعدة أن عدم الإنقاص منها يمثل حقا تاريخيا وإنسانيا مكتسبا أوصل إليه التطور، لا يتغير بتغير الأزمان والأماكن، وترك الله باب الزيادة عليها مفتوحا أمام كل البشر، بدءا بالرسول الذي أضاف إليها ما أوجبته بيئته وما احتاج إليه قومه وما تطلبته عاداتهم وتقاليدهم وظروفهم المعيشية بشكل عام.
    إن بإمكاننا في أي مكان وفي أي زمان أن نبقى ملتزمين بما زاده الرسول وبما أضافه، إذا كانت تلك الزيادة والإضافة تخدم حاجاتنا ومتطلباتنا في الحياة. كما أن بإمكاننا أن نلغيها راجعين إلى الحد الأدنى المنصوص عليه قرآنيا، حتى لو كان هذا الحد الأدنى أقل من العرف الاجتماعي المتفق عليه والمتبع من قبل العرب عندما نزل عليهم الوحي وهم على أعرافهم وعاداتهم الزائدة عن الحد الأدنى ذاك، وإن لم يمسسها الرسول – أي تلك العادات والأعراف – بأي تغيير تناقصي أو تراجعي.
    لا بل إن بإمكاننا أن نضيف إلى أحكام الحد الأدنى أحكاما أخرى غير تلك التي أضافها الرسول إذا كان الرسول قد أضاف. وكل ذلك رهن – بطبيعة الحال – بالحاجة الموضوعية التي تمليها الظروف، وبالمصلحة التي تمليها الوقائع ومستويات التطور. ونورد فيما يلي بعض الأمثلة على قاعدة حَدِّيَّة القرآن في هذا النوع من الأحكام.
    المثال الأول.. "المحرمات في الزواج"
    نصَّ القرآن الكريم في الآية الثالثة والعشرين من سورة النساء، على مجموعة من النساء يحرم الزواج منهن. وفق قاعدتنا الحَدِّيَّة السابقة، فإن هذا العدد من المحرمات هو عدد غير قابل للإنقاص منه، ويمثل الحد الأدنى من النساء اللاتي لا يجوز الزواج منهن. ويجوز مع الزمن أن تضاف إلى المحرمات المنصوص عليهن، مُحرمات أخريات بحسب ما تقتضيه الحاجة. الرسول من جهته عرف دوره التشريعي العامل ضمن دائرة عدم النزول عن الحد الأدنى أو الإنقاص منه، فأضاف إلى الأصناف المذكورة في الآية أصنافا أخرى عندما رأى ذلك ضروريا لمجتمعه العربي. وكلنا يعلم أن الرسول حرم في الزواج الجمع بين المرأة وخالتها، أو بين المرأة وعمتها.
    وقد نحتاج نحن في يوم من الأيام إلى تحريم الزواج من بنات العم ومن بنات الخال أو من غيرهن ممن قد يثبت علميا أن الزواج منهن ضار ومؤذ من الناحية الطبية. كما قد نحتاج – مع أن هذا افتراض بعيد جدا – إلى التراجع عن إضافة الرسول، وعلينا في كل الحالات أن نلبي متطلبات حاجتنا التي تفرضها المصالح المعترف بها. إلاَّ أن أيَّ شيئ من هذا القبيل زيادة أو نقصانا رهنٌ بقرار اجتماعي واعٍ يرى ذلك ضروريا وفق مقاييس علمية ناضجة بالارتكاز إلى التجارب والخبرات الحياتية ومتطلبات المصلحة.
    المثال الثاني.. الأطعمة المحرمة
    نصَّ القرآن الكريم في الآية الثالثة من سورة المائدة على تحريم مجموعة من الأطعمة. إن هذه الأطعمة المحرمة تمثل الحد الأدنى من المحرمات والذي لا يجوز الإنقاص منه، أما الزيادة عليه فهي أمر مقبول إذا تطلبت الحاجات المجتمعية ذلك. وقد قام الرسول بدور المشرع المضيف عندما أضاف إلى تلك الأصناف المحرمة من الأطعمة ما رآه مناسبا وضروريا ومُمكنا. فهو قد منع المسلمين من أكل لحوم الحُمُر الأهلية، كما أنه حرَّم "كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع".
    وبالتالي فإنه يجوز للمسلمين في كل زمان وفي كل مكان أن يضيفوا إلى قائمة الأطعمة المحرمة أي طعام يرون تحريمه وضمه إلى قائمة المحرمات ضروريا. كما أنه يجوز لهم أن يقتصروا على المحرمات بنص الآية وألاَّ يلتزموا بتحريم ما حرمه الرسول على قومه. وفي كل الأحوال فإنه لا يجوز الإنقاص من الحد المذكور في الآية الكريمة. كما أن القرار بالزيادة هو قرار اجتماعي يتم وفق الأسس الصحيحة والموضوعية لاعتماد القرار الاجتماعي، والمعيار في ذلك هو على الدوام، المصلحة العامة وفق ما تمليه التجارب العلمية وحقائق الخبرات الحياتية.
    المثال الثالث.. لباس المرأة
    وضح القرآن الكريم الحد الأدنى للباس المرأة الاجتماعي، ونقصد باللباس الاجتماعي، اللباس الذي تمارس المرأة دورها الاجتماعي بشتى أبعاده بالالتزام بارتدائه. ولقد كان القرآن واضحا في إيجاب تغطية الجيوب كحد أدنى من جسد المرأة. لكنه لم يشر إلى أكثر من ذلك. وكل من حمَّل بعض الآيات التي تحدثت عن لباس المرأة أكثر من ذلك، إنما هو متنطع محاول لفرض رغبته الخاصة على معاني تلك الآيات. وهنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى الوقوف وقفة خاصة وفاحصة نعالج فيها بعض أبعاد الموضوع لما فيه من حساسية خاصة عند المسلمين بالتحديد، نظرا لما تمثله المرأة في الذهنية الإسلامية السائدة من كائنٍ "عورة".
    إن تغطية الجيوب لا تتطلب بالضرورة اللباس المتعارف على تسميته بالزي الشرعي أو بالحجاب. إن ارتباط آية لباس المرأة ومطالبتها فيها بتغطية جيوبها، بواقع أن المرأة العربية التي تَوَجَّهَ إليها هذا الخطاب، كانت ترتدي لباسا هو أقرب ما يكون إلى تغطية معظم الجسد، وَلَّدَ انطباعا تَكَرَّسَ مع مرور الزمن مفاده أن ذلك اللباس العرفي للمرأة العربية يمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز الإنقاص منه. وهذا مكمن الخطأ.
    إن المرأة العربية وقت نزول الوحي كانت ترتدي لباسا يغطي معظم جسدها، وأنه من بين كامل جيوبها التي أمر النص القرآني بتغطيتها لم تكن المرأة العربية تُظْهِر سوى ما بين ثدييها. وبالتالي فما كان من المرأة العربية المسلمة التي وُجِّه إليها الخطاب بتغطية الجيوب، إلاَّ أن وعت الآية فاتجهت إلى تغطية ما كان مكشوفا من تلك الجيوب. ولما لم تكن جيوب أخرى من جيوبها مكشوفة بموجب لباسها العرفي الذي كان يغطي معظم جسدها، فإن الموضوع لم يثر أية معضلة، إذ قد ساعد لباسها العرفي الذي كان يغطي أكثر مِماَّ تَجب تغطيته بموجب نص القرآن، على عدم وجود قضية قابلة لأن تثار أساسا.
    بل إننا لم نسمع أحدا يطالب المرأة المسلمة العربية بالتخفيف من لباسها والإقتصار على تغطية الجيوب فقط كما ينص على ذلك القرآن الكريم، لأن اللباس العرفي كان مقبولا عند المسلمين العرب على ما يبدو. فالذهن الإسلامي غير العربي "الدخيل لاحقا بفعل الفتوحات" الذي كان شغوفا بالزيادة والمبالغة والتنطع والاحتراز غير المبرر من الوقوع فيما يسميه "شبهات الحرام"، لم يجد أمامه في موضوع اللباس شيئا يشغله، فالعرف العربي قد تكفل بحل المشكلة لمئات من السنين قادمة.
    بدأت المشكلة الحقيقية تظهر عندما فرضت التَّغَيُّرات الاجتماعية الحاصلة في المجتمعات العربية تراجعا عن لباس المرأة العربية كما كان عليه حاله إبان نزول الوحي. عندئذ أحس الذهن الإسلامي التقليدي المُطَعَّم بالروح غير العربية المتشددة بطبيعتها، بالخطر على لباس المرأة العرفي والتقليدي، فراح يؤصل للباس المرأة العربية ولما أضافه الرسول عليه باعتباره اللباس الشرعي المعتمد. علما بأن المرأة المسلمة الآن، حتى وهي تلبس لباسا يكشف عن ساقيها وساعديها وعنقها وكاملِ شعرها، لم تخرج عن إطار الحد الأدنى المنصوص عليه في الآية السابقة، "آية تغطية الجيوب".
    الحد الأدنى في موضوع لباس المرأة هو إذن تغطية الجيوب، وإنه في الوقت الذي لا يجوز فيه الإنقاص من هذا الحد، فإن الزيادة عليه ممكنة إذا اقتضت المصلحة والظروف الاجتماعية ذلك. ولقد قام الرسول الكريم بهذا الدور حين زاد على الجيوب المنصوص عليها قرآنيا عدم جواز إظهار ما سوى الوجه والكفين، وهي إضافة رآها الرسول ضرورية على ما يبدو في ذلك الوقت، هذا بطبيعة الحال إذا صحت المرويات بهذا الشأن سنداً من حيث المبدأ.
    وإذن فإنه يحق للمسلمين حيثما كانوا زمانا ومكانا أن يضيفوا ما يشاءون على الحد الأدنى المنصوص عليه في القرآن الكريم كلما تطلبت ظروفهم ومصالحهم ذلك، حتى لو أضافوا إضافات أكثر من تلك التي أضافها الرسول. بل هم باقون ضمن دائرة الالتزام بحدود القرآن حتى لو قرروا تخفيضَ ما أضافه الرسول أو إلغاءَه، ما لم يخرجوا عن حَدِّ تغطية الجيوب الذي نصت عليه الآية. "حول هذا الموضوع فصل شيق وأكثر شمولا في كتاب محمد شحرور "القرآن والكتاب قراءة معاصرة" فليراجع".
    وإننا إذ نؤكد على أن التحليل والتحريم في هذا النوع من الأحكام هو مرادف لعبارة موافقة المصلحة أو عدم موافقتها، فإننا نطرح الأسئلة المشروعة التالية، مختتمين بها الحديث عن تطبيق قاعدة حَدِّيَّة القرآن على ما كان من الأحكام واقعا خارج دائرة رؤى العقل المذهبية.
    إذا كان الله يريد أن يكون الجمع بين المرأة وعَمَّتِها مُحرما بنفس درجة تحريم الزواج من الأم أو من الأخت أو من غيرهما ممن ذكرن في آية سورة النساء، فلماذا لم يضفه إلى الآية الكريمة؟ وإذا كانت دلالة تحريم النبي للجمع بين المرأة وعمتها كدلالة تحريم القرآن للجمع بين الأختين، فأين هي الحكمة في جعل مسألتين متساويتين ومتطابقتين حكما ودلالة، معروضتين في نصين متباينين دورا ووظيفة من حيث المبدأ؟ وإذا كان الله قد ذكر في الآية تحريم الزواج من ثلاثة عشر صنفا من النساء، فهل كان سيعجزُه أو يُعييه أن يضيف صنفا أو صنفين إذا كان يريده أو يريدهما بنفس مستوى ما يريده من التحريم لما نص عليه في قرآنه؟!
    وإذا كان الله يريد أن يكون أكل لحم الحمر الأهلية مُحرماً كأكل لحم الخنزير أو كأكل الميتة، فلماذا لم يذكره في آية سورة المائدة، مع أنه فصَّل كثيرا في ذكر الأصناف المحرمة، إلى درجة أنه وكي يبعد عنا شبهة اعتبار أن الميتة هي التي تموت في مرض فقط، وَضَّحَ كافة أنواع الموت الموجبة للتحريم عندما قال في الآية الثالثة من سورة المائدة.. "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام". علما بأن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، هي في نهاية المطاف أنواعٌ من الميتة!!
    ولو كان الله يريد من غطاء الرأس أو من غطاء الوجه أو من تغطية الساعدين أو الساقين أو حتى الشعر أن تكون واجبة على المرأة وجوبَ تغطية الجيوب، فلماذا لم يوضح ذلك في كتابه وقصر كلامه فقط على ذكر الجيوب وأمر بضرب الخمر عليها دون غيرها من أجزاء الجسم؟ هل لأنه اكتفى بسكوته عن لباس المرأة العربية التقليدي الدارج دليلا على وجوب ذلك أو على وجوب جزء منه على أقل تقدير؟ ما أبعد هذا عن الحقيقة!!
    أما كان الأجدر به إذن أن يسكت دون أن يذكر لنا تحريم الزواج من الأم ومن الابنة ومن الأخت ومن غيرهن، مادام العرب كانوا يحرمون ذلك؟! إن الله لم يكن يسكت عما يريده أن يكون حداًّ أدنى أو حكما من أحكامه، حتى لو كان العرب يفعلونه ويعيشون وفقه منذ مئات السنين، لأنهم هم وأعرافهم ليسوا مقياسا تشريعيا، وما كان يفترض في البشر الذين خاطبهم الإسلام أن ينطلقوا من هذه القاعدة الافتراضية التي تضع العرب وتضع أعرافهم في غير موضعها التشريعي الصحيح. وإذن فلماذا يُراد لنا أن نلغي عقولنا وأن نقلب كل المعادلات ونضرب بالمنطق عرض الحائط ونعتبر أن الله في هذه النقطة بالذات – وهي نقطة لباس المرأة – قد اكتفى بلباس المرأة العربية التقليدي دليلا على إرادته؟!
    إن كل هذه التساؤلات وغيرها مما ينطبق على كل الأمثلة الشبيهة في القرآن، مما لم نورده هنا، لتؤكد على أن الرسول الكريم كان يعرف دوره التشريعي الاجتماعي جيدا، وكان يلتزم به لا يتعداه، وهو العمل وفق متطلبات الواقع داخل دائرة الحدود القرآنية. ولقد كانت كافة إضافاته داخلة ضمن هذا الفهم. ولم تكن بأيِّ شكل إضافاتٍ مناددةً للقرآن الكريم لا في الدلالة ولا في الفاعلية التشريعية ولا في الدور الوظيفي. وبناء على ما سبق نستطيع القول أنه لا يمكن أن يَرِد عن رسول الله متن يتضمن حُكْما يُنْقِصُ من الحدود القرآنية شيئا، وسيعتبر عندئذ منسوبا إلى الرسول تزويراً وبهتانا، إلاَّ إذا صحَّ سنده من جهة أولى واستطعنا أن نثبت من جهة ثانية أن الرسول حكم به قبل نزول القرآن موضحا الحد الواجب بخلافه، وذلك كي يكون حكم الرسول به قبل ورود القرآن بخلافه أمرا مفهوما.
    ب ما يقع داخل دائرة رؤى العقل المذهبية
    فيما يتعلق بالأحكام الاجتماعية التي يمتلك العقل بخصوصها صيغاً تنظيمية مذهبية، فإننا إزاءها أمام مستويين من التعامل، هما..
    الأول.. وهو ذلك المستوى الذي يضمها جميعها قرآنا وسنة ضمن دائرة إمكانية الاستبدال حال توفر دواعي الاستبدال وشروطه، وفق مقتضيات الصيغ العقلية المذهبية في إسقاطاتها الزمانية والمكانية المرحلية.
    الثاني.. وهو ذلك المستوى الذي يُخْضِع نصوص السنة "النصوص الحكمية المنسوبة إلى الرسول"، إلى مقياسية القرآن خلال مرحلة الفعالية التشريعية لها ككل، قرآنا وسنة. ومعنى ذلك أنها عندما تكون فعالة تشريعيا، فإن ما ورد عن الرسول يُقاس بما ورد في القرآن، وفق نفس قاعدة حَدِّيَّة القرآن، ولكن بطرفي الحَدِّيَّة هذه المرة، وهما الحدان الأقصى والأدنى. إذ لا يعود الأمر هنا مقتصرا على عدم صحة نسبة المتن إلى الرسول بخروجه عن حد القرآن الأدنى، بل تصبح هذه النسبة ساقطة أيضا بخروج المتن عن حد القرآن الأقصى، وذلك بسبب أن النصوص القرآنية في القضايا الاجتماعية التي من هذا القبيل، أصدرت أحكامها الحَدِّيَّة في اتجاهين. فهي أحيانا أصدرتها بصفتها تمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز الإنقاص منه، وإن جازت الزيادة عليه. وهي أحيانا أخرى أصدرتها بصفتها تمثل الحدَّ الأقصى الذي لا تجوز الزيادة عليه، وإن جاز الإنقاص منه. وكل ذلك بطبيعة الحال وفق المتطلبات والحاجات ضمن مرحلة الفعالية التشريعية الممنوحة لكافة تلك الأحكام قرآنية كانت أو سُنِّيَّة.
    أما الذي يُحَدِّدُ ما إذا كان حكمٌ قرآني ما يشكل حدا أقصى أو حدا أدنى في هذا النوع من الأحكام، إنما هو الصيغ العقلية ذات العلاقة. فإذا كانت تلك الصيغ تتجه في ابتعادها عن الحكم القرآني، وهي تسير نحو الوضع المذهبي النموذجي صعودا، فالحكم القرآني الذي تبتعد عنه يمثل في هذه الحالة حدا أدنى. أما إذا كانت تتجه في ابتعادها عنه هبوطا فالحد الذي يمثله ذلك الحكم يكون حدا أقصى. وفيما يلي بعض الأمثلة التوضيحية على ذلك.
    المثال الأول.. مثل الحد الأقصى "العقوبات"
    إن كافة ما ورد في القرآن من عقوبات يمثل حدا أقصى لا تجوز الزيادة عليه، ويجوز الإنقاص منه. وبالتالي فلا يصح عن الرسول متن حكمي يتضمن عقوبةً أشد من عقوبات القرآن على جريمة بعينها تَحَدَّد عقابُها بالنص القرآني، كـ "رجم الزاني المحصن حتى الموت" مثلا. كما أن أي جريمة لم يحدد لها القرآن عقابا، فإن عقابها الوارد عن الرسول إن ورد، يجب ألاَّ يتجاوز في حده الأقصى ما هو دون أدنى عقوبة قرآنية على الجرائم المحدد عقابها في القرآن الكريم.
    أما لماذا نعتبر أن العقوبات تمثل حدا قرآنيا أقصى، فذلك لأن العقل يمتلك بخصوص مسألة الجريمة والعقاب رؤية تستند إلى قيمة العدل مؤداها أن العقوبات في سياقها المذهبي النموذجي تقع خارج المساس الجسدي. وبالتالي فإن الصيغة العقلية تبتعد عن الحد القرآني هبوطا، الأمر الذي جعل هذا الحد، حدا أقصى. (يراجع تفصيل ذلك في حديثنا عن نظام العقوبات، في كتابنا "تجديد فهم الإسلام" الفصل الأخير).
    المثال الثاني.. مثال الحد الأدنى "الإرث"
    إن آيات سورة النساء التي نظمت توزيع تركة الميت، تمثل حدا أدنى في المسألة من حيث عدد وأعيان الأشخاص الذين ستوزع عليهم التركة، لا يجوز الإنقاص منه فيما تجوز الزيادة عليه. والرسول قد فعل ذلك بإعطاء الجدة حق الاشتراك في التركة. والسبب في كون هذه الآية الحدِّيَّة تمثل حدا أدنى، هو أنها تنظم جانبا من جوانب الحياة يمتلك العقل بشأنه رؤية مذهبية نموذجية تؤكد على ضرورة تداول الثروة في المجتمع، وفق قواعد عدم الإكناز، وإنفاق الزيادة عن الحاجة، وضرورة توسيع دائرة الشراكة الاقتصادية بين الناس. وبالتالي فإن توسيع دائرة الورثة يعمل في الاتجاه الدافع نحو تَمَثُّل الصيغة العقلية، فيما لا يعمل العكس في هذا الاتجاه، الأمر الذي يجعل الصيغة العقلية تبتعد عن مُعْطى الآية صعودا، لتكون الآية والحال كذلك ممثلة لحَدٍّ أدنى في المسألة. (يراجع تفصيل ذلك في حديثنا عن النظام الاقتصادي في الإسلام، في كتابنا "تجديد فهم الإسلام"، الفصل المتعلق بالنظام الاقتصادي في القرىن بين الثابت والمتطور).
    نستطيع من كل ما سبق أن نستخلص ما يلي..
    أولا.. في الأخبار لا دور للرسول عليه الصلاة والسلام خارج دور الشارح للأخبار القرآنية بدون إضافة أي معلومات جديدة.
    ثانيا.. في الأحكام التي يمتلك العقل بخصوصها رؤاه المذهبية، وهي اجتماعية بطبيعتها، تُعتبر كافة النصوص القرآنية والسُّنِّيَّة على حدٍّ سواء مرحلية الدور والفاعلية. وتعمل نصوص السنة في مثل هذه الحالة ضمن دائرة أضيق يحددها القرآن الكريم بنوعين من الحدود، أدنى وأقصى، فيما يكشف العقل ذاتُه عماَّ إذا كانت دنيا أو قصوى.
    ثالثا.. في الأحكام الاجتماعية وغير الاجتماعية التي لا يمتلك العقل بخصوصها رؤاه المذهبية، تعمل نصوص السنة ذات العلاقة ضمن دائرة يحددها القرآن الكريم بعد أن يوضح الحدود الدنيا غير القابلة للتجاوز – هبوطا – من طرف السنة.
    وأخيرا فإننا نود أن نلفت الانتباه إلى أن الدكتور محمد شحرور في كتابه القّيِّم "القرآن والكتاب قراءة معاصرة"، قد تحدث عن مقولة حَدِّيَّة القرآن، إلاَّ أنه توصل إلى نتائج نختلف معه في معظمها. فالحدود عنده ستة أنواع، كما أن العقوبات عنده ليست كلها ضمن الحد الأقصى، في حين نراها جميعها من هذا القبيل، فليراجع كتاب "شحرور" فإن فيه لفتات قيمة وشيقة.
    وبعد..
    فأرجو أن يكون قد اتضح ألا خوف على ما يصح من السنة باستخدام العقل. وأن المسألة برمتها لم تكن إسقاطا للعلوم التي وضعها المسلمون بهدف غربلة المأثورات وتنقيح التواريخ، ولا كانت إسقاطا للكتب الأمهات – كما أسميتموها – كصحيح البخاري وغيره، بل كانت إعادة إنتاج لهذه العلوم بشكل يُفَعِّلُها ويُطَوِّرُها ويجعلها قادرةً – من وجهة نظرنا – على مواكبة منجزات العقل والتجربة، لجعل محاكمتها للنصوص محاكمة أكثر موضوعية، وإعادة تقييم وقراءة لتلك – الأمهات – وفق المنهج الجديد، وهذا حق علمي مشروع، ومنهج بحثي محايد.
    أما بخصوص النصين المذكورين، وهما الحديث 2312 من سنن الترمذي، والحديث 1169 من صحيح ابن ماجة للألباني..
    فالأول المتعلق "بسجود الملائكة"، لا يصح لديَّ، لأن متنَه انطوى على معلومات وتفاصيل عن عالم الملائكة إضافية على ما أورده القرآن بخصوص ذلك العالم، وهذا ما لا يصح بموجب قاعدة "المقياس القرآني في صحة نسبة النصوص الخبرية" التي ذكرناها سابقا. وعندما لا يصح النص متنا فلا قيمة لسنده. ومثل هذا النص، كل النصوص التي يمكن أن تنطبق عليها هذه القاعدة.
    وأما الثاني المتعلق بـ "الجذع"، فمع أنه لا يوجد ما يمنع عقلا من تسخير الله الجذع على النحو الوارد كمعجزة للرسول إن هو أراد، إلا أن هذا النص لا يثبت أمام "المقياس القرآني"، لأن الله تحدث عن معجزات كل الأنبياء، بل وحتى عن معجزة الرسول التي هي "القرآن" وتحدى بها المشركين، وذكر في أكثر من موضع وبشكل ضمنى أنه إنما آتاه "الكتاب"، وأن هذا الكتاب العربي "المبين" و"المفصل" هو آيته ومعجزته. ورد على المشركين الذين طالبوا بالآيات، معترضا على طلبهم لأسباب وردت في أماكنها من القرآن. وبالتالي فلا يصح أن يرد في السنة حديثا عن معجزة للرسول، والقرآن لم يتحدث عنها، بل هو يشير إلى أنه لم ينتهج نهج منح الرسول معجزاتٍ كالتي كان يمنحها للأنبياء السابقين.
    خلاصة القول أستاذي الكبير، أنني أطبق القواعد التي شرحتها سابقا على كل النصوص، وما تحكم به تلك القواعد ألتزم به معرفيا. ومن أراد أن يعترض، فليعترض على القواعد نفسها، وعلى المنهج نفسه، فإن تمكن من دحض هذه القواعد وهذا المنهج، فأنا معه أبحث وأياه عن الحق والصواب حيثما كان. وإلا فالنتائج منسجمة مع المنهج وقواعده.
    أما بخصوص القرآن، فإنه من حيث المبدأ يخضع كمرجعية نقلية تثبت بالرواية أيضا، لما تخضع له السنة وإن كانت كل المحاكمات التي يخضع لها مما ليس سنديا، هي محاكمات عقلية وتجريبية. ومن حيث المبدإ وإذا أردنا أن نكون موضوعيين ومحايدين، يجب ان نقبل تطبيق الحقيقة بمنتهى الحياد حتى على القرآن، وأن نبدي استعدادنا للقبول بنتائجها أيا كانت.
    أنا من جهتي ناضلت حتى أرقى إلى هذا المستوى من الحياد والتجرد، إلى أن تمكنت من الوصول إليه – وإن يكن بصعوبة بالغة – فالمسألة كانت مرعبة بالنسبة لي، لكن لا مفر من ذلك لأجل الحقيقة. ولكني توصلت إلى أن القرآن قادر على تجاوز كل المحاكمات العقلية والتجريبية. ولأن الموضوع له ذيول كثيرة، فإنني مازلت أبحث فيه، ولم أستكمل منهجي فيه، وسوف أكون مستعدا لعرضه ومناقشته فور الانتهاء منه. فإلى ذلك الوقت أرجو أن أكون تمكنت من توضيح بعضٍ من رأيي ومنهجي بخصوص ما شغلك أستاذي الكبير "أبا عامر".
    ولك مني كل تقدير واحترام
    أسامة عكنان

  6. #76
    السلام عليكم
    وتحية كبيرة لأستاذتنا الكرام:
    أستاذ أسامة كل يوم تتكشف لنا حقائق تاريخية جديدة تدهشنا وتغير ملامح التاريخ من جديد ( كأصول الحضارة العربية ومصادرها وو)وإن سلمنا بان هذا من صنع الاستعمار ألا ترى انها جاءت بعد أن تجاوزت مفعولها التخريبي الذي كان في حينها,وصار على الغرب البحث عن طرق جديدة لتخريبنا من جديدمن الداخل؟وإلى متى سنبقى على هذه الحال؟

    أرجو التوضيح حول هذا الأمر وشكرا.
    القسم التاريخي في فرسان الثقافة للاطلاع:
    http://www.omferas.com/vb/forumdisplay.php?123-فرسان-التاريخ.
    راما
    رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء
    رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ
    **************
    قال ابن باز رحمه الله
 :

    لباسك على قدر حيائك
    وحياؤك على قدر ايمانك

    كلما زاد ايمانك زاد حياؤك
    وكلما زاد حياؤك زاد لباسك

  7. #77
    ايهما اسبق زمانيا العقل ام النقل وبمعنى ادق ايهما نتج عن الآخر الفكر ام اللغة

    في سياق البنية العقلية اتضح اليوم اللاعقلانية في العقل

    فلم يعد العقل ذلك المتعال الذي نلجا اليه لحل وفاض المعضلات

    ثبت ان العقل غير محايد وانه انحيازي عن الحقيقة

    ان مبحث علاقة العقل بالنقل يجب واقول يجب لخطورة الموقف الجديد لتلك العلاقة من حيث ان رجلا مثل ميشيل فكو وضع ثلاثيته لينقذ العقل من تسيده المزعوم فقال

    النص / السلطة /الذات

    ولو طبقنا هذا الثالوث قرآنيا لوجدنا ان القران نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي فهو نبهنا ان اللغة تعطي المفهوم من السياق وايضا من ذاتية المتلقي فهذا هارون النبي آثر السكوت امام كفر قومه وعبادتهم التجل لانه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري لكنه ادرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد
    بينما العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة اخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم فكسر الالواح واخذ بلحية( خطاب )هارون

    هل نعد تصرف النبيين في الصحة متساويان؟
    ام ان ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته

    وهنا سنضطر للاقرار بمفهوم
    الحق النسبي
    والعقلانية النسبية

    طبعاهناك عشرات الامثلة القرانية
    /


    والله تعالى اعلم واحكم

    تقبل بالغ تقديري

  8. #78
    أسئلة القلم الناشط "راما"


    كل يوم تتكشف لنا حقائق تاريخية جديدة تدهشنا وتغير ملامح التاريخ من جديد (كأصول الحضارة العربية ومصادرها، و... و...). وإن سلمنا بأن هذا من صنع الاستعمار، ألا ترى أنها جاءت بعد أن تجاوزت مفعولها التخريبي الذي كان في حينها, وصار على الغرب البحث عن طرق جديدة لتخريبنا من جديد من الداخل؟ وإلى متى سنبقى على هذه الحال؟ أرجو التوضيح حول هذا الأمر وشكرا. القسم التاريخي في فرسان الثقافة للاطلاع:




    مع أن "الاستعمار" ظاهرة حديثة في تاريخنا العربي إذا ما قيست بالعالم، حيث بدأ الاستعمار الأوربي للعالم منذ أكثر من أربعة قرون، بينما الوطن العربي – مع استثناءات قليلة – لم يُستعمر إلا في مطلع القرن العشرين، على فرض أن حكم العثمانيين وقبلهم المماليك لا يعتبر استعمارا بالمعنى الأوربي للاستعمار، نظرا لإمكان تكييفه وفق تصورات سياسية مختلفة نسبيا..


    نقول.. مع أن ظاهرة الاستعمار حديثة في تاريخنا العربي، إلا أن ظاهرة "تزوير التاريخ"، سواء في الواقع العربي أو غير العربي، هي ظاهرة قديمة قدم الحضارة الإنسانية. وبالتالي فمن غير الموضوعي تحميل وزر ظاهرةٍ رافقت الإنسانية، للعرب وحدهم، كما أنه من غير الموضوعي تحميل الظاهرة في سياقها العربي، للاستعمار الحديث نسبيا، بينما هي ظاهرة رافقت التاريخ العربي الممتد عبر آلاف السنين!!!


    ومع ذلك فإن هذا المفهوم - "التزوير" أو "التزييف" - هو مفهوم متشعب ومتشابك. فهناك فرق بين "تزييف الوعي القارئ للحركة"، و"تزييف الإرادة الفاعلة للحركة"، و"تزييف وقائع الحركة نفسها". أي وبكلمة أبسط هناك فرق بين ثلاث مستويات من التزييف هي، "تزييف الوعي"، و"تزييف الإرادة"، و"تزييف التاريخ". فتزييف التاريخ ليس هدفا في ذاته، حتى لدى من يمتلك أجندة خاصة تتطلب تزييفا في التاريخ. بل هو مرتبط بتزييف من مستوى آخر.


    فكل أصحاب الأجندات السياسية والتاريخية.. إلخ، يستهدفون "الإرادة" بالدرجة الأولى، إرادة أولئك الذين تستهدفهم أجنداتهم، لأنها هي مناط الفعل، وبالتالي فبالتحكم فيها وتسييرها، تُمكن السيطرة على الواقع المراد السيطرة عليه، ليتَّجِه الوجهةَ المتناسبة مع تلك الأجندة. ولأن المدخل للسيطرة على الإرادة هو "الوعي" الذي يحدد للإرادة مُكَوِّنات حركتها، وعناصر صيرورتها في الواقع، فإننا نرى أصحاب الأجندات هؤلاء يعملون على "تزييف الوعي".


    وإذا كانت مرحلة تاريخية معينة لا تساعد على التحكم في الوعي بتزييفه بشكل مباشر، فإنه يصار إلى تزييفه بشكل غير مباشر، من خلال العمل بحكمة وحنكة على "تزييف التاريخ" نفسه، أي "الوقائع والأحداث" باستغلال الموقع والنفوذ والسيطرة على مفاتيح تدوين التاريخ لإنجاز مهمة خطيرة كهذه، كي تُخْلَق مكوناته وتفاصيله الجديدة – بعد التزوير – وعيا يتناسب معه، فيكون وعيا مزيفا يؤدي بدورة إلى تَكَوُّن وتَشَكُّل إرادة مزيفة، لأنها مبنية على تزييف مبني على تزييف أسبق.


    في ظل انتشار وتشابك وانفتاح وسائل الاتصال، وتبادل المعلومات، يغدو تزوير الوقائع والأحداث صعبا للغاية، لأنه بقدر ما تتيح هذه الحالة المعلوماتية العنكبوتية قدرا كبيرا من فرص ضخ الكذب، فإنها تتيح في المقابل قدرا ربما يكون أكبر من القدرة على غربلة ذلك الكذب. وبالتالي تعود الأمور لتتوازن من جديد. من هنا فلم يعد الخوف في ظل الواقع المعاصر منصبا على التاريخ من حيث هو "وقائع وأحداث" خشية أن يتم تزويرها، بل يغدو منصبا على الوعي من حيث هو الأداة التي ستقرأ تلك الوقائع والأحداث، ليتم تزويرها من خلال السيطرة والقدرة والتحكم، وامتلاك وسائل الارتهان المعرفي، وعناصر وعوامل التوجيه الثقافي والسايكولوجي، لتنميطها، أي لجعلها محكومة بقواعد خاصة في قراءة الأحداث والوقائع الصحيحة في ذاتها، بشكل يحقق تلك الأجندات لأصحابها.


    وإذن فنحن اليوم نخوض معركة ثقافات، تحاول فيها كل ثقافة أن تستأثر بوعي المتلقين، كي تصنعه وفق رؤيتها، التي تناسب تَشَكُّل إرادةٍ تقرأ الواقع الموَثَّق والصحيح وقليل الأكاذيب من حيث "المعلومات والأحداث والوقائع"، على النحو المطلوب.


    نستطيع أن نستقرئ في تاريخنا العربي – المشرقي تحديدا - الممتد على مدى الخمسة ألاف سنة الأخيرة من عمر الحضارة، محطتين أساسيتين لتزييف التاريخ، هما المحطة "التوراتية" التي زيفت "قصة النبوة" وأزاحتها من "غرب الجزيرة العربية" إلى "بلاد الشام"، مع كل الإكسسوارات اللازمة لعملية التزييف هذه على الصعد الثقافية والتاريخية.. إلخ وبكل الكوارث التي ترتبت على هذه الإزاحة لاحقا..


    والمحطة "الفتنوية" – نسبة إلى الفتنة التي حصلت في بواكير الحضارة الإسلامية بين معسكر علي ومعسكر معاوية - التي زيفت "قصة الإسلام" نفسه، وازاحتها من "إسلام عروبي تبشيري تقدمي جدا منذ وقت مبكر"، إلى "إسلام إمبراطوري توسعي رجعي جدا منذ وقت مبكر". وإذا أجرينا مقارنة بين هذين المنعطفين التزييفيين في تاريخ الحضارة العربية المشرقية، وكل ما مارسه الاستعمار من تزييف للتاريخ في الجغرافية العربية، فإننا سنجد أن الاستعمار لم يفعل شيئا بالقياس لما حدث في تلك المحطات.


    وبما أن هذين الحدثين التزويريين الضخمين أثرا ليس فقط على العرب والمسلمين، بل وعلى العالم كله، فإننا نحن العرب مع الأسف بما حدث في جغرافيتنا الزمانية والمكانية عبر تلك المحطات، نُعَدُّ أكبر من أسهم في إتاحة الفرصة لتزوير التاريخ على نطاق واسع، مرة بهرطقات حاخامات بني إسرائيل، ومرة بنزوات ملوك بني أمية الذين فرض علينا أن نسميهم خلفاء رغم أنهم فتحوا المجال واسعا أمام كل المتربصين وعلى رأسهم اليهود والمجوس وكل دعاة التشيَّع المشبوه لآل البيت، ليرتكبوا أكبر مجزرة توثيقية في التاريخ، عندما أحدثوا تلك الإزاحة الخطيرة في مفهوم الإسلام، تحت عنوان "المعارضىة المشروعة" لظلم واستبداد وتوسع بني أمية اللامحدود؟


    أمامنا إذن مهمتين كبيرتين، الأولى، "نبش التاريخ القديم"، لنفض الغبار عن الحقيقة المختبئة في ركام "الإزاحتين المذكورتين" والمتسببتين في أكبر عمليتي تزييف عرفهما التاريخ العربي، والثانية، "اليقظة" و"وضوح الرؤية" لحماية وعينا المعاصر من تزييفٍ يلاحقنا ويستهدفنا من الغرب هذه المرة.


    ولك الشكر والتقدر أيها القلم الناشط "راما"


    أسامة عكنان


    تعقيب وتعليق من الأديب والباحث "خليل حلاوجي"


    أيهما أسبق زمانيا العقل ام النقل، وبمعنى ادق ايهما نتج عن الآخر الفكر ام اللغة؟ في سياق البنية العقلية اتضح اليوم اللاعقلانية في العقل؟ فلم يعد العقل ذلك المتعال الذي نلجا اليه لحل وفاض المعضلات؟ ثبت ان العقل غير محايد وانه انحيازي عن الحقيقة؟ ان مبحث علاقة العقل بالنقل يجب واقول يجب لخطورة الموقف الجديد لتلك العلاقة من حيث ان رجلا مثل ميشيل فكو وضع ثلاثيته لينقذ العقل من تسيده المزعوم فقال: النص/السلطة/الذات. ولو طبقنا هذا الثالوث قرآنيا لوجدنا ان القران نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي فهو نبهنا ان اللغة تعطي المفهوم من السياق وايضا من ذاتية المتلقي فهذا هارون النبي آثر السكوت امام كفر قومه وعبادتهم التجل لانه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري لكنه ادرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد بينما العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة اخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم فكسر الالواح واخذ بلحية (خطاب) هارون. هل نعد تصرف النبيين في الصحة متساويان؟ ام ان ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته؟ وهنا سنضطر للاقرار بمفهوم الحق النسبي! والعقلانية النسبية! طبعاهناك عشرات الامثلة القرانية.


    الأديب والباحث خليل حلاوجي


    تعقيب على تعقيب


    إعجابا مني بالفضاءات المثيرة التي تستدرجها إلى الذهن تعليقات الأستاذ الأديب والباحث "خليل حلاوجي"، فإنني أستميحه عذرا في قبول تطفلي للتعقيب على تعقيبه، وأنا له من الشاكرين.


    وأستهل تعقيبي بإعادة صياغة تعقيبه في المحاور التالية، التي أحسب أنه طرحها فيه بكثافة شديدة.


    السؤال الأول في التعقيب..


    1 - أيهما أسبق زمانيا العقل أم النقل، وبمعنى أدق أيهما نتج عن الآخر الفكر أم اللغة؟


    الحقائق المقررة في التعقيب بلا إثبات..


    2 - في سياق البنية العقلية اتضحت اليوم اللاعقلانية في العقل؟


    3 - لم يعد العقل ذلك المتعال الذي نلجأ إليه لحلالمعضلات؟


    4 - ثبت أن العقل غير محايد، وأنه انحيازي عن الحقيقة؟


    أمثلة وردت في التعقيب لا علاقة لها بالسؤال الأول ولا بالسؤال الختامي..


    5 – "ميشيل فكو" وضع ثلاثيته لينقذ العقل من تَسَيُّدِه المزعوم، فقال: النص/السلطة/الذات!


    6 - القرآن نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي، فهو نبهنا أن اللغة تعطي المفهوم من السياق وأيضا من ذاتية المتلقي!


    أ - هارون النبي آثر السكوت أمام كفر قومه وعبادتهم العجل لأنه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري، لكنه أدرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد!


    ب - العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين، فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة أخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم، فكسر الألواح وأخذ بلحية (خطاب) هارون!


    السؤال الختامي في التعقيب..


    فهل نعد تصرفي النبيين في الصحة متساويين؟ أم أن ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته؟


    إجابة استنتاجية وردت في نهاية التعقيب، لا يلزمنا بها أيٌّ من السؤالين السابقين..


    وهنا سنضطر للاقرار بمفهوم الحق النسبي! والعقلانية النسبية!


    وبعد


    فإن من يضع نفسَه في منتصف الطريق ليكملَ المشوار، معتقدا أنه في نقطة "بداية الطريق"، ليفترضَ من ثم أن ما سوف يعرضُه، هو المنطلقات المعرفية، والبديهيات المسلَّم بها، يفقدُ البوصلة، لأنه حرم نفسَه قوةَ دفعِ الحقيقةِ الكامنةِ في "البداية" الحقيقية، وليس في البداية "المتوهَّمَة".


    ومن يُسْقِطُ مصطلحَ "العقل" الذي له مضامين محددة عند من يستخدمونه مفردةً معرفيةً فلسفيةً، على مجموعة من الأمور – الموضوعية في ذاتها - والتي لا تنطبق عليها مضامين ذلك "العقل"، كما هو عند هؤلاء، ليستنتج في ضوء ذلك، أن هناك مشكلة في فكرة "العقل"، وفي مضمونه المتداول فلسفيا، إنما يواقع أكبر أنماط الأخطاء المعرفية، لأنه في واقع الأمر يفترضُ مجموعة من "اللامعقولات"، ويمنحها صفة "المعقولات" - بينما هي ليست كذلك - وعندما يلاحظ أن العقل كما هو عند أصحابه، لا يُعَقْلِن تلك الأمور "غير المعقولة" أساسا، نراه يرفض فكرة العقل المهيمن أو السباق أو الأول.. إلخ!!


    وليس هناك انحرافا بالمعرفة وبالموضوعية وبالحياد والتجرد، وبالحقيقة من ثمَّ - عن مساراتها – أكثر من ذلك!!


    لا يمكن لأي حديث عن "العقل" وعن دوره في "المعرفة" وعن علاقته بأوعية المعرفة الأخرى الممكنة، أن يكون مثمرا وذا مردود معرفي مُنتج، إذا لم تتم معالجة مسائل أساسية من تلك التي عودتنا على طرحها "الفلسفة" باعتبارها الأداة الأقدر على معالجتها. ومن هذه المسائل، "التسلسل"، "السؤال الفلسفي"، "الضرورة والإمكان". كما لا يمكن لأي حديث عن علاقة العقل بالتجرية وبالوحي أن يكون موضوعيا، إذا أعطى المتحدثون لأنفسهم الحق في إقامة الحجَّة على الأصل بالفرع، وعلى النتيجة بالمقدمة!!


    التسلسل..


    إن توضيح ماهية العقل ومن ثم العلاقة المعرفية بينه وبين أدوات المعرفة الأخرى المتاحة، أمر ضروري وملح. إننا أمام المعضلة التاريخية المتأصلة في صميم أزمة الفكر الإنساني والمتمثلة في طبيعة العلاقة بين العقل "الروح"، و الوحي "النبوة"، من جهة أولى، وبين التجربة "الحس"، والوحي، من جهة ثانية، وبين العقل والتجربة من جهة ثالثة، لا نملك إلا أن نؤكد على جوهرية وأساسية التحليل المتعلق بتحديد مصادر المعرفة "أدوات المعرفة"، من حيث هي مصادر أولا، ومن حيث الآليات التي تتيحها هذه المصادر للإشعاع بالمعارف الكاشفة عن الواقع الموضوعي والعاكسة له ثانيا.


    إن التعددية في مصادر المعرفة كأدوات وكأوعية من جهة، والعلاقة الفريدة بين هذه المصادر، وهي العلاقة التي ستكشف لنا عن ترتيب مصدري تنازلي يبدأ بالعقل ثم يمر بالتجربة لينتهي أخيرا بالوحي من جهة أخرى، هما مسألتان تتطلبان بادئ ذي بدء القيام بقراءة فاحصة في نقطة انطلاق السلسلة المعرفية التي نتحدث عنها والتي هي العقل. إن هذه القراءة هي في حقيقتها دراسة في مقولة التسلسل.. فما التسلسل؟ وما الصيغة المعرفية المطروحة للخروج من المأزق الذي يفرضه التسلسل على العلم وعلى المعرفة ككل؟


    إن التسلسل مصطلح يُسْتخدم للدلالة في الموضوع الذي نتحدث عن التسلسل فيه، على الحالة الناجمة عن عدم وجود نقطة بداية قائمة بذاتها، تكون في غير حاجة إلى نقطة سابقة عليها تُكْسِبُها مقومات الوجود والكينونة. وهو – أي التسلسل – حالة ممتنعة عقلا، ولا يمكن تَخَيُّلُها أو تصورها أو الإقرار بموضوعيتها، لما في ذلك من هدم لكل العلوم والمعارف من الأساس.


    فالتسلسل في الاستدلال يعني الاستمرار اللانهائي في إيراد الأدلة المُثْبِتَة لحقائق قائمة، كأن نقول: إن الدليل على القضية (س) هو القضية (ص)، والدليل على القضية (ص) هو القضية (ع)، والدليل على القضية (ع) هو القضية (ل)، هكذا إلى ما لا نهاية، على قاعدة أن كل قضية يُستدل بها على صحة قضية أخرى، هي في حد ذاتها بحاجة إلى قضية تدلل عليها وعلى صحتها، كقضية تصلح للاستدلال على صحة القضايا الأخرى القائمة عليها. إن هذا الاستمرار في الاستدلال بشكل لا نهائي يسمى تسلسلاً، وهو الحالة التي نقول بأنها ممتنعة عقلا. إذ لا بد من الوقوف عند نقطة بداية في الاستدلال تُسَمى الدليل القائم بالذات والمُسْتغْني عن الأدلة السابقة.


    ومن الأمثلة على التسلسل أيضا، التسلسل في أسباب الحوادث، كأن نقول بأن الحادث (س) سببه الحادث (ص)، وأن الحادث (ص) سببه الحادث (ع)، وأن الحادث (ع) سببه الحادث (ل)، وهكذا إلى ما لا نهاية، وذلك على قاعدة الاستمرار اللانهائي نفسها في المطالبة بالأدلة. فهذا هو التسلسل في مجال الحوادث والأسباب، وهو حالة ممتنعة عقلا أيضا. إذ مما هو واجب وضروري أن تقف سلسلة الأسباب عند سبب قائم بالذات وفي غير حاجة إلى سبب سابق عليه سَبَّبَ حدوثه. والأمثلة على التسلسل كثيرة ومتنوعة وكلها امتداد للمعنى الذي أوردناه. والسؤال المطروح في قضيتنا هو مدى انطباق التسلسل أو عدمه في المعرفة ومصادرها. وما هي النتائج التي يمكنها أن تترتب على كون التسلسل ممتنعا فيهما وفي مضامينهما؟


    منذ البدء يمكننا أن نلاحظ أن المعارف التي يكتسبها الإنسان أو يكتشفها، تنمو وتتكاثر باستمرار، وأن كل معرفة لاحقة تعتمد على معرفة سابقة، وأن كل معرفة سابقة أدت أو سوف تؤدي بالبحث إلى معرفة جديدة مرتبطة بها بشكل من الأشكال. إن هذه الملاحظة تولد التساؤل التالي:


    "أليست هناك معرفة أساسية أو مجموعة معارف أساسية، وُجِدًت في إدراك الإنسان (عقله) بصورة من الصور بدون اعتمادها على معارف سابقة، بحيث يمكننا القول عندئذ أنها معارف أولية قائمة بالذات، منها ننطلق لتنمية معارفنا ومضاعفتها ولتطويرها؟ و أنه لولا هذه المجموعة الأولية من المعارف لما تسنى لنا أن نعرف أو أن ندرك شيئا على الإطلاق؟ إن الكثيرين وعلى رأسهم التجريبيون يجيبون بالنفي، أي بعدم وجود معارف قائمة بالذات. فهل ما يزعمه التجريبيون صحيح؟


    إن القول بعدم وجود معارف من القبيل المذكور، يُوَلِّد مشكلة معرفية غاية في الخطورة – لمن يدقق النظر – ستؤدي بالضرورة إلى نسف الهرم المعرفي والعلمي الشامخ الذي تعتز به الإنسانية، وعلى رأس كل ذلك ما كان منه تجريبيا. إن عدم الاعتقاد بوجود معارف أولية وأساسية في غير حاجة إلى إثبات أو إلى معارف سابقة تتولد عنها، يعني إلغاء قانون السَّبَبِيَّة القائم بذاته، والاعتقاد من ثم بأن هناك مجموعة من الأحداث في هذا الكون ليست ناتجة عن أسباب، نظراً لعدم وجود أي طريقة من أي نوع لإثبات صحة هذا القانون. ويعني أيضا سقوط مبدأ عدم التناقض القائم بذاته، والاعتقاد بالتالي بأن النفي والإثبات المتوحدين في ظروفهما يمكن تواجدهما، بسبب انتفاء أي وسيلةِ استدلالٍ على صحة مبدأ عدم النناقض هذا. ويعني أيضا الاعتقاد بأن الكل قد يكون أصغر من الجزء الذي أُخِذَ واقتُطِعَ منه، مادامت القاعدة المعاكسة غير قائمة بذاتها في الوقت الذي يستحيل إثباتها بدليل من أي نوع. كما أنه يعني الاعتقاد بأنه في واقع هندسي إقليدي لا يمثل الخط المستقيم أقصر بعد بين نقطتين، نظرا لعدم وجود معلومات قائمة بالذات كهذه القاعدة التي يستحيل إثباتها بدليل، وقد يغدو الخط المنحني من ثم أقصر من الخط المستقيم. إلى آخر ما هنالك من معارف نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتقاد بصحتها بدون ما حاجة إلى معارف سابقة تثبتها أو تُدَلِّل عليها.. ومع ذلك فإن مقولة التجريبيين السابقة مقولة خاطئة لا يمكنها أن تصمد بأيِّ حال أمام المعالجة الموضوعية، نظراً للأسباب التالية..


    أولا.. إن مقولة "لا يوجد حد أدنى من المعارف القائمة بالذات، وأن كل المعارف مهما كان شكلها لا تثبت إلاَّ عبر الإتيان بالدليل السابق في وجوده عليها"، هل هي مقولة قائمة بالذات أم أنها مقولة تحتاج إلى برهان؟ فإذا كانت قائمة بالذات فقد ثبت لدينا إذن وجود المعارف القائمة بالذات والمستغنية عن الدليل من حيث المبدأ، بصرف النظر ولو مؤقتا عن "ماهيتها" و"جوهرها" و"كميتها"، فنحن نناقش مبدأ وجود مثل هذه المعارف، ولسنا بصدد معالجة إن كانت مفردة معرفية معينة قائمة بذاتها أم لا، فمثل هذه المعالجة تأتي لاحقة للمعالجة الأولى، فإن ثبت وجود المعارف القائمة بالذات، فإن المعالجة الثانية تغدو معقولة ومفهومة، وإن لم يثبت ذلك فلا يغدو لطرحها أي معنى.. هذا بالإضافة إلى أن في القول بقيامها بالذات ليس فقط ما يثبت مبدأ القيام بالذات كمبدأ معرفي أصيل، بل ما يُسْقِطها وينفي صحتها من حيث المبدأ، لأن مضمونها يتناقض على الفور مع القول بقيامها بالذات، مادامت هي تتضمن النص على عدم وجود معرفة قائمة بالذات.


    أما إذا لم تكن المقولة إياها قائمة بالذات – وهذا هو الصحيح – فما هو الدليل على صحتها؟ إذ أنها في مثل هذه الحالة ستفتقر إلى الدليل.. ومع أنه من غير الممكن لأيٍّ كان أن يسوق دليلا يثبت به صحة تلك المقولة، ومن أي نوع كان هذا الدليل، فإنه حتى مع افتراض وجود دليل فإنه بدوره سيخضع لنفس التساؤل مادام هو نفسه غير قائم بالذات وفق منطوق المقولة نفسها، لنحصل من ثم على الإجابات الممكنة نفسها، لنعود بالتالي إلى الحلقة المفرغة نفسها.. وهكذا يتبين لنا أنه من غير الممكن الانطلاق لإثبات صحة هذه المقولة، على فرض إمكانية إثبات هذه الصحة، إلاَّ بالإقرار بقيامها بالذات، مع أن هذا الإقرار يتعارض مع مضمونها ذاته، لأن فيه إقراراً مبدئيا بوجود الحقائق القائمة في العقل بالذات والمستغنية عن البرهان.


    إن هناك إذن تناقضا ذاتيا طبيعيا تحويه تلك المقولة، بحيث لا يمكنها أن تحقق لنفسها الانسجام والتماسك. فإنها إذا صحت فيجب أن تتحقق في صورتها الأولى عبر محتواها ذاته. فمقولة الافتقار الدائم إلى دليل إذا كانت صحيحة، فمن باب أولى أن تكون أولى الحقائق المحتاجة إلى دليل هي هذه المقولة ذاتها. وهكذا تبطل إمكانية قيامها بالذات. بينما المقولة النقيضة لها متماسكة ومنسجمة لأنها أولى القضايا المعرفية القائمة بذاتها.


    ثانيا.. إن الإصرار على أن كل معرفة أياًّ كانت لا تثبت إلاَّ بالدليل عليها والسابق في وجوده على وجودها، وعلى أنه لا توجد معارف خارج نطاق هذه الدائرة الاستدلالية، يعني بصورة قطعية عدم وجود حقيقة ثابتة، لأن كل حقيقة ستفتقر إلى حقيقة أسبق منها تكون مبررا لوجودها ولأحقِّيَّتها. وبما أن إمكانية الاستمرار في التساؤل هي إمكانية لا نهائية نظريا، فإن كل معارفنا التي نتشدق بها نحن معشر البشر هي عبارة عن أوهام لا أساس لها من الصحة. ولتوضيح ذلك نقول..


    إذا كانت لدينا الفكرة (أ) وكان الدليل على صحتها هو الفكرة (ب)، فإننا هنا أمام حالتين ممكنتين، فإما أن يكون الدليل (ب) قائما بالذات، وإما أن يكون مفتقرا إلى دليل يثبت صحته. فإذا كان قائما بذاته فدلالته على صحة الفكرة (أ) تعطي هذه الفكرة وجودها الموضوعي. أما إذا لم يكن قائما بذاته فهذا يعني أن الفكرة (أ) ذاتها والقائمة على الفكرة (ب) تغدو قائمة أيضا على الفكرة (ج) التي هي الدليل على صحة (ب) مثلاً، وبدون ذلك لا تكون لـ (أ) أي قيمة.


    الشيء نفسه يتكرر بالنسبة للدليل (ج)، فإذا كان قائما بذاته فإن ما بعده موجود موضوعيا، وإذا لم يكن، فإن ما بعده، أي (أ) و(ب) لا يقومان بدون (د) الذي لا يقوم (ج) بدونه ابتداءً، وهكذا دواليك.. والخلاصة أن الاستمرار في الاستدلال إذا كان مفروضا علينا بصورة لا نهائية على قاعدة ألاَّ دليل قائم بالذات، فهذا يعني ألاَّ فكرة ولا حقيقة موجودة موضوعيا، لأن الدليل اللانهائي غير موجود أبدا لاستحالة الوصول إليه، في الوقت الذي يُعْتَبر كل شيء قائما عليه. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى نسف كل العلوم والمعارف واعتبارها مجرد أوهام وأكاذيب، لأن قيام هذه العلوم والمعارف راجع ابتداءً إلى وجود حقائق قائمة بذاتها تُكْسِبُ ما يليها مبرر وجوده وموضوعيته.


    ثالثا.. لا يمكن أن يتخلص من إلزامية الإيمان والاعتقاد بوجود حد أدنى من المعارف القائمة بالذات أحد أياًّ كان، في أسلوب معالجته للمسائل المعرفية وإن حاول، وقصارى ما يمكن أن يفعله إنسان معين هو أن يختلف مع إنسان آخر في ذات المعارف التي ليست في حاجة إلى برهان ودليل، وليس في وجود معارف من هذا القبيل أو في عدم وجودها من حيث المبدأ. فكل من يحاول أن يُكَرِّس مفردة معرفية أساسية، إنما يعبر بذلك عن وجود معارف ليست في حاجة إلى برهان انطلق منها لتكريس مفردته تلك وإلا لما استطاع ذلك.


    لا بل إن سَوْقَ شخصٍ ماَّ – أياًّ كان هذا الشخص – لدليل ماَّ – أياًّ كان هذا الدليل – في سياق إثبات قضية ماَّ – أياًّ كانت هذه القضية – ما كان ليتم أو ليكون له معنى أصلا، لو لم تكن واضحةً في ذهن ذلك الشخص وفي ذهن من يستمع إليه، حقيقةٌ مفادُها أن "سَوْقَ الدليل سببٌ ضروري وكافٍ في الوقت ذاته لثبوت صحة المسْتَدَلِّ عليه". وهذه الحقيقة التي هي بمعنىً آخر.. "لابد لكل مُفْرَدةٍ معرفية من دليل على صحتها"، عبارة عن حقيقة بدهية قائمة بذاتها، لا يقوم عليها دليل من أي نوع، ولا ينفك عن الحاجة إليها رغماً عنه، أي مُسْتَدِلٍّ على شيء في هذا العالم.


    إن هنالك إذن مجموعة من المعارف الأساسية لدى الإنسان، وهي في عقله كما تم الاصطلاح على ذلك، ليست في حاجة إلى برهان ولا إلى أي مفردة معرفية سابقة عليها تستمد منها وجودها ومبررات كينونتها المعرفية، بل هي أساس كل المعارف، والدليل على كل الحقائق الفوقية، ويجب أن ننطلق منها عندما نريد الكشف عن أي معرفة مهما كانت، ولا يسبقها في المعارف شيء. الأمر الذي يجعل الوعاء الذي يحتويها وهو العقل، المصدر الأساسي لكل المعارف، ولابد من أن يتحاكم إليه كل من يَدَّعِي معرفة معينة على ضوء تلك المعارف الأساسية المشار اليها، بحيث إذا تعارضت المعرفة المُدَّعاة أو لم تنسجم معه ومع محتوياته الأولية بشكلٍ من أشكال الانسجام التي يقبلها هو ذاته، فليست جديرة بأن تكون معرفة، ولا تتجاوز كونها سفسطة عقيمة أو خرافة متمكنة من عقولٍ بدائية.


    إن العقل كما أكدنا على ذلك سابقا لا يعني لدينا أكثر من وعاء افتراضي، يتضمن في داخله فكرة واضحة أو صورة مطابقة – في السياق التجريدي – لتلك المعارف التي نتحدث عنها. فنحن عندما نصف العقل بالمصدرية العليا للمعرفة، فإننا إنما نصف تلك المعارف المحتواة فيه أو التي فيه صورة مطابقة لها، بتلك المصدرية. وعندما نعتبره مرجعا، فنحن إنما نعتبر أن تلك المعارف هي المرجع. ولا نعني بمصطلح العقل ولا بمصطلح مصدريته العليا للمعرفة أكثر من هذا المعنى.


    كما أننا عندما نؤكد على أن تلك المعارف هي في غير حاجة إلى برهان أو دليل، فهذا يعني أنها تثبت لدى الإنسان بدون اللجوء إلى مصدر معرفي آخر من المصادر التي تقوم بتزويدنا إلى جانب العقل بالمعرفة. لأنها إذا كانت قائمة بالذات فهذا يعني أنها لا تحتاج إلى معارف أخرى تثبت صحتها، وإذا كانت هذه المعارف الأخرى لا يمكن الحصول عليها إلا بطريقة أخرى غير القيام بالذات وعبر وعاء آخر غير العقل، فإن النتيجة الضرورية من ذلك، استغناؤها – أي المعارف القائمة بالذات – عن أي مصدر آخر أو وسيلة أخرى غير قيامها هي بالذات.


    ونؤكد هنا للأهمية، على أننا نقصد بالمصدر، الوسيلةَ التي نُدْرِك بها الواقعَ الموضوعي كما هو وحيث هو، وليس هو أو مكانَ وجوده. إذ من حيث هو أو مكانُ وجودِه، فهو ذاته هذا الكون وهذه الطبيعة. إنه الوجود ذاته بكل مستوياته. ولكننا ندركه بوسيلة إدراكٍ هي العقلُ أو غيرُه. أي إما بفرضه نفسه علينا مباشرة وبدون برهان، وإما بفرضه نفسه علينا عبر سلسلة من البراهين والأدلة وطرق الإثبات. فعندما يفرض هذا الواقع الموضوعي نفسه علينا مباشرة ونقبله من ثم بدون حاجة إلى دليل، أو عندما لا يمكن إيراد دليل على صحة الصورة التي فرض بها نفسه علينا، أو عندما يكون الدليل المطلوب لإثبات صحة هذه الصورة هو من النوع التركيبي للمفردات المباشرة المُعَبِّرَة عنه نفسِها بعضِها إلى البعض الآخر، وبدون إدخالِ عنصرٍ معرفي من نوع آخر في الموضوع..


    نقول.. عندما تكون الصورة المعرفية التي يفرض الواقع الموضوعي نفسه علينا من خلالها هي واحدة من هذه الأنواع، فنحن في واقع الأمر بصدد معرفة عقلية، بسيطة كانت أو مركبة. أما إذا كانت تلك الصورة من نوع آخر لا نستطيع البت فيه مباشرة بالأوَّلِّياِّت المعرفية العقلية ولا بتركيبها إلى بعضها البعض، فنحن بصدد معرفة غير عقلية، الأمر الذي يقتضي منا القيام بطَرْقِ الموضوع بدقة، لاستجلاء حيثياته عبر فكرة التعددية في مصادر المعرفة.


    إن العقل هو المصطلح الذي نطلقه على الذات المُدْرِكَة في الإنسان. وهو كي يمارس مهمته الإدراكية بالصورة المنوطة به، قد أودِعَت فيه طائفة من المعارف تعكس جانبا من الواقع الموضوعي ذي مواصفات خاصة وتُعَبِّر عنه وتُصَوِرُه. وإن هذه الطائفة من المعارف عندما أودعت في العقل فقد أودعت بشكل يتم معه الوعي بها بصورة مباشرة، فكانت بذلك معارف قائمة بالذات. إن احتواء العقل على هذه الطائفة الخاصة والمميزة من المعارف، يعني أنه مُبَرْمج بصورة مُسْبَقة على أن يعرف الوجود من خلالها. وهذا بدوره يقودنا إلى توضيح أن كافة المعارف الأخرى – غير القائمة بالذات – يُفْتَرَض حتما أن تَنْتُج عبر تركيب الأسس المعرفية العقلية المذكورة وتآلفها بشكل أو بآخر.


    السؤال الفلسفي..


    تعالو معنا الآن لنتابع الحوار التالي بتمعن..


    س: أين كنت غائبا طيلة هذه المدة؟


    ج: ولماذا تسأل عن ذلك؟


    س: ومنذ متى تعترض على أسئلتي؟


    ج: لست أدري كيف استسلمت لك طيلة هذا الوقت؟


    س: هل أفهم من ذلك أنك تعلن العصيان والتمرد؟


    ج:………………………….


    ما أبسط هذا الحوار، وما أبسط الحقائق التي تدور حولها أسئلته.. أين؟.. لماذا؟.. متى؟.. كيف؟.. هل؟.. نستثني الكلمة الأخيرة "هل"، لأن الإجابة على السؤال الذي يستخدمها كأداة استفسارٍ، هي نوع من المفاضلة بين أوجه وأشكال مفترضة للوجود، بالاستناد بطبيعة الحال إلى أسسٍ تتم في ضوئها هذه المفاضلة.


    أين؟.. متى؟.. كيف؟.. لماذا؟.. أربع كلمات تختزل الحضارة والتاريخ والمعرفة والوجود وكل شيء تمكن معرفته في هذا العالم. أي أن كل ما تمكن معرفته هو بشكل أو بآخر من وحي هذه الكلمات. ولهذه الكلمات دلالات مجردة بعيدا عن لغة التخاطب والاستخدام. فسواء استخدمت باللغة العربية أوباللغة الإنجليزية (where,when,how,why) أو باللغة الفرنسية (ou,quand,comment,pourquoi)، أو حتى بلغة الإشارة، فليس هناك فرق، المكان.. الزمان.. الجواهر والأعراض (المادة).. العلَّة..


    كم يبدو مُنْعِشاً للذهن الذي يحب التبسيط أن يكتشف ألاَّ وجود لسؤال دون أن يكون مستفسرا عن مكان أو عن زمان أو عن مادة أو عن علَّة. وكم يبدو مثيرا للدهشة اكتشاف أن ذهن الإنسان مركب بهذه الطريقة شديدة البساطة وشديدة الاختزال للوجود من حوله. إن أبسط صِيَغ التساؤل التي يثيرها الذهن تتطابق مع أبسط القضايا المبثوثة في الوجود وتتمحور حولها، وهذه القضايا هي المكان والزمان والعلَّة والمادة.


    إن الوجود كله أزمنة وأمكنة وعلل وجواهر وأعراض، وعلاقات بين هذه الأربع تبدأ من منتهى البساطة حتى تصل إلى غاية التعقيد. ولا توجد قضية في هذا الوجود لا يمكنها أن تؤول في النهاية إلى تلك العناصر. من أراد أن يعرف الوجود في أصوله البسيطة عليه أن يعرف الزمان والمكان والعلَّة والمادة في أصولها البسيطة. ومن أراد أن يتابع هذا الوجود في مختلف مراحله ولحظاته وهيئاته، فهو مطالب في واقع الأمر بمتابعة مختلف مستويات التركيب بين تلك المسَمَّيات الأربعة.. حيثما حللت أيها الذهن باحثا عن المعرفة، فأنت غارق لا محالة في بحور من الأزمنة والأمكنة والعلل والجواهر والأعراض. فتأمل وانتبه!


    إن أي سؤال عن الزمان والمكان والعلَّة والمادة، يؤول في أبسط صوره، إلى تحليل وتركيب عقليين، لا مكان فيهما لأي وعاء معرفي آخر كي يدلي بدلوه. وهذا هو ما يقودنا حتما إلى مسألة "الضرورة والإمكان" التي تثيرها فكرة "السؤال" وفكرة "الجواب".


    الضرورة والإمكان..


    إن القيام بالذات هو الاستغناء عن سابق لاكتساب مبرر الوجود. وبناءً عليه فالقائم بالذات هو ما لا يسبقه في القيام شيء، وهو أصل لواحقه. وإن ما قام في العقل بالذات من معارف يقودنا بالضرورة وبحسب ما تقتضيه طبائع الأمور إلى تحديد مصادر المعرفة التي تجيء لاحقة للعقل، وهي التجربة بالدرجة الأولى، ثم الوحي بعد ذلك في سياقٍ خاصٍ سيتضح في حينه.


    إن قولنا بأن العقل بمعارفه الأولية البسيطة هو المصدر المعرفي الأول، لا يعني عدم وجود معارف غير أولية يعجز هذا العقل عن إدراكها أو عن الكشف عنها بصورة مباشرة وبدون ممارسة نوع من الرياضة المعرفية الضرورية بحكم بُنْيَتِه وتركيبته. كما أنه لا يعني – وهذا أمر مهم جدا – أن العقل يستطيع أن يحكم على كل شيء في هذا الوجود بالصحة أو بالخطأ، بالوجود أو باللاَّوجود، وبصورة مباشرة أيضا، وذلك عبر احتوائه على هذا الحكم المباشر على كافة جزئيات الواقع الموضوعي.


    إن ما يجب أن ننتبه إليه في هذا الصدد، هو أن هناك في الواقع مصادرَ معرفةٍ أخرى غير العقل، وذلك بمعنى الأدوات الدَّالة والمُرْشِدَة، أو الأوعية المتضمنة لطرقها الخاصة في تصوير الواقع الموضوعي وفي التعبير عنه، يعجزالعقل عن الكشف عن مفردات الواقع التي لا تعجز هي عن الكشف عنها بموجب طبيعتها في الكشف. أي أن هناك بالتالي مجموعة من جزئيات الواقع الموضوعي ومفرداته التي ليس من صلاحيات العقل ولا من اختصاصه ولا مما يندرج ضمن قدراته أن يعطي عليها حُكْمَه، بسببِ افتقاره إلى مُقومات الحكم عليها، وهو الافتقار الناجم ابتداءً عن اختلافها في طبيعتها التكوينية عمَّا رُكِّب العقل وعما فُطِر على القدرة على كشفه والحكم عليه بالصحة أو بالخطأ، وبالوجود أو اللاَّوجود. وهذا ما سيتضح لنا في سياق التحليل التالي.


    من حيث المبدأ، فإن كل الوجود تثبت معرفته ويثبت اكتشافه بالعقل وحده، وذلك من حيث ضرورة الانطلاق منه – أي من العقل – للتعرف عليه كما هو – أي على الوجود – ولا طريق غيره إليه. وإن كل من يحاول أن يسلك طريقا غير العقل – أي مبتدئا بغير العقل– إلى معرفة الوجود، فإنه يعجز عن ذلك. وإنه عندما يعرف الوجود في جانب منه متوهما أنه لم يرتكز في ذلك إلى العقل مُنْطَلَقاً، فهو جاهل بكل تأكيد بآليات المعرفة التي يستند إليها والتي هُيِّئَ له أنها بعيدة عن أيادي العقل. وإنه لتحديد المدلول الحقيقي لما نقوله يجدر بنا أن ننتبه إلى ما يلي..


    إن العقل يمتلك إزاء كافة ظواهر هذا الوجود وجزئياَّته ومفرداته التي تصادفه واقعاً ومشاهدةً وإحساساً، أو تَخَيُّلاً وافتراضاً، وأياًّ كانت طبيعتها، أحكاما ثلاثة فقط. فهو إما أن يحكم عليها بأنها أكيدة وواجبة، وإما أن يحكم عليها بأنها مستحيلة وممتنعة، وإما أن يحكم عليها بأنها جائزة وممكنة. ولا يوجد في العقل أيُّ حكمٍ آخر بخصوص تلك الظواهر. ومن الواضح أن الحكمين الأوَّلَيْن، وهما الوجوب والاستحالة يندرجان تحت عنوان الضرورة في المصطلح الفلسفي، الأمر الذي يغدو معه واضحا أن العقل يمتلك في المحصلة حكمين فقط إزاء مفردات الوجود هما: "الضرورة" و"الإمكان".


    فأما الظواهر التي يحكم عليها العقل بالضرورة، فهي كل الظواهر التي ينفرد وحده بصلاحية واختصاص الحكم عليها دون غيره، بتاًّ وقطعاً، ليغدو هو دون غيره من مصادر المعرفة المُخَوًّل بمعرفتها والكشف عنها. كما أن هذه المجموعة من الظواهر المعروفة حالتها وهيأتها عقلاً لا يجوز أن تصلنا عنها وبخصوصها فكرة من مصدر معرفيآخر وتكون مغايرةً وغيرَ مطابقةٍ لفكرة العقل عنها، وإلاَّ حُكِمَ على هذه الفكرة بالبطلان والخطأ واللاَّوجود. فإذا كانت الحقيقة هي الفكرة المطابقة للواقع الموضوعي، فلا يمكنها أن تكون حقيقةً فكرتُنا غير العقلية عن واقع موضوعي فكرتنا العقلية عنه بخلافها.


    أما الواقع الموضوعي الذي ليست لدى العقل فكرة باتَّة وقاطعة عنه، أي الواقع الذي تتساوى لدى العقل بخصوصه كل الأفكار الممكنة، فهو واقع موضوعي يقع العلم به وبحالته وبما هو عليه، خارج دائرة اختصاصات العقل. الأمر الذي لم يستطع معه تكوين فكرة باتَّة عنه وعن حالته تلك، واكتفى بالإمكان فقط، وذلك لتساوي كافة أوجه البَتِّ والقطع المتصورة، دون رجحان كفة على أخرى أو وجه على وجه آخر.. ولكننا نتساءل مرة أخرى، عن الدلالة الحقيقية لمعنى أن يحكم العقل على واقع موضوعي معين بالضرورة وعلى آخر بالإمكان؟


    عندما نقول أن العقل يحكم على حالةِ وهيئةِ الواقع الموضوعي، فنحن لا نختلق فكرة ولا ندَّعي ما لا وجود له، بل إننا لا نفعل شيئا أكثر من نقل صورة الواقع كما هي. فمن الناحية النظرية لا يوجد سؤال في الوجود، والسؤال هو بالضرورة الصيغة التي تُطْرَح من خلالها آلية التعرف على الواقع الموضوعي مدار البحث، إلاَّ ويجيب عليه العقل، لأنه موجه في الأساس إلى العقل، وليس ألى أي وجود آخر. فنحن لا نتوجه بأسئلتنا إلى المُعِداَّت العجماء في المختبرات، بل نستخدمها فقط. كما أننا ما كنا لنتوجه إلى الوحي بأي سؤال إلاَّ بعد أن لم نجد الإجابة لدى العقل. وإذن فمادام كل سؤالٍ يُوَجَّهُ في الأساس إلى العقل، فالإجابة عليه هي قطعا لدى العقل. ولا يمكن لعاقل أن يُنْكَر علينا هذه المسألة البدهية.


    إن الإجابات الممكنة على سؤال "هل"، هي "نعم" أو "لا" أو "لا أعرف". كما أن الإجابات الممكنة على الأسئلة "متى" و"أين" و"كيف" و"لماذا"، هي إما إعطاء الفكرة المطابقة للواقع الموضوعي، وإما الاعتذار بقول "لا أعرف". فعندما نوجه سؤالاً إلى العقل محوره "هل"، وتكون إجابة العقل عليه هي "نعم" أو "لا"، أو عندما نوجه إليه سؤالاً يتمحور حول "الأين" أو "المتى" أو "الكيف" أو "اللماذا"، وتكون إجابته بإعطائنا فكرة واضحة ويقينية عن الواقع الموضوعي محل التساؤل، فالعقل إنما يجيبنا بالقطع والبت، أي بالضرورة فيما هو حتما ضمن دائرة اختصاصاته المعرفية. وبالتالي فنحن في غنىً تام عن اللجوء إلى أدوات وكواشف أخرى للمعرفة، للبحث عن إجابات على أسئلتنا. لأن الهدف من وراء طرح السؤال – أي سؤال – إذا كان هو معرفة حالة الواقع الموضوعي كما هي، فمعرفتنا بهذه الحالة عقلاً تُغْنينا قطعا عن البحث خارجه لمحاولة معرفتها.


    أما إذا أجاب العقل على سؤال محوره "هل"، بـ"لا أعرف"، أو على سؤال يتمحور حول "الأين" أو "المتى" أو "الكيف" أو "اللماذا" بـ"لا أعرف" أيضاً، فهذا يعني أن البَتَّ والقطع العقليين غير مُتاحين، وأن كل الأفكار بخصوص الواقع الموضوعي محل التساؤل مُمكنةٌ في العقل ومتساوية في مدى هذه الإمكانية. وبما أن التساؤل قائم والإجابة مطلوبة بالضرورة، فلا شك إذن في ضرورة وجود أداةٍ معرفيةٍ أخرى تتصف بما يُخَوِّلها تحقيق هذا البت المعرفي الذي عجز عنه العقل. إن عدم وجود سؤال لا جواب عليه من حيث المبدأ، يقتضي مُجيبا. فإذا لم يكن المجيب هو العقل فهو قطعا غيره. وبالتالي فإذا لم يكن المصدر المعرفي الكاشف عن المعرفة هو العقل، فهو لا شك مصدر آخر غير العقل.


    وإذن فوجود مصادر معرفية أخرى – أو على الأقل مصدر معرفي آخر – غير العقل، هي مسألة ضرورية يقتضيها منطق الأمور، مادام العقل سيقف عاجزا عن البَتِّ في الكثير من جزئيات الوجود وتفاصيل الواقع الموضوعي، وعاجزا بالتالي عن الإجابة على الكثير من الأسئلة المتعلقة بهذا الوجود وبذلك الواقع. إن عجز العقل عن الإجابة مع ضرورة وجود إجابة، يستلزم وجود مصدرٍ آخر يستطيع الإجابة، وما علينا من ثم إلاَّ محاولة التعرف على هذا المصدر الذي سيُعْتَبَر عندئذ رديفا للعقل في استكمال الدائرة المعرفية التي لا يصح أن تبقى مُعَلَّقَة بوجود أسئلة مُفْتَقِرة إلى البت في أمرها بتًّا حاسما بأحد وجهي البت الممكنين.


    دعونا الآن نخوض معا تجربة عملية نختبر من خلالها هذا العقل لنكتشف ما لديه وما يفتقر إليه، لنتعرف على معالم وجهتنا المعرفية اللاَّعقلية.. وفي هذا الصدد سنقوم بتوجيه مجموعة من الأسئلة إلى العقل تنطبق عليها احتمالات الإجابات الممكنة تَصَوُّرِياًّ لنرى النتيجة..


    1 - أين الله؟.. الجواب العقلي: لا يُسْأَل عنه أين هو، لأنه هو المكان المطلق (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "الله")..


    2 - متى كان الله؟.. الجواب العقلي: لا يُسْأَل عنه متى كان، لأنه هو الزمان المطلق (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "الله")..


    3 - كيف خلق الله المادة؟.. الجواب العقلي: بأن كثَّف ذاته المطلقة (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "الله")..


    4- لماذا تتحرك المادة ولا تبقى ساكنة؟.. الجواب العقلي: لأن الله أودع فيها قابلية الحركة عندما خلقها..


    5- هل العدل حسن؟.. الجواب العقلي: نعم..


    6- هل يحدث في الواقع حادث من غير سبب؟.. الجواب العقلي: لا..


    7- هل أن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين في واقع إقليدي؟.. الجواب العقلي: نعم..


    8 - هل هناك حياة أخرى قادمة بعد الموت؟.. الجواب العقلي: نعم.. (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "البعث")..


    9 - هل يجب في حق الله أن يبعث أنبياء؟.. الجواب العقلي: نعم.. (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "النبوة")..


    10 - هل عقوبة الإعدام تتفق مع معايير العدل المطلق؟.. الجواب العقلي: لا.. (أنظر كتابنا تجديد فهم الإسلام، منشورات دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008، فصل "العقاب والنعيم")..


    11 - هل أن تكامل (1) على (س) = لوغاريتم (س)؟.. الجواب العقلي: نعم.. (راجع قواعد التكامل في الرياضيات)..


    نرجو عدم الاندهاش من بعض الإجابات التي لن نثبتها الآن وفي هذا المقام، فهي مثبتة في مختلف فصول كتابنا الذي أحلنا إليه، إذ باستثناء إجابات الأسئلة (6) و(7) و (11)، فإنه يحق للقارئ أن يبحث عن إجابات مُثْبَتَة لا مُدَّعاة.. ولنعد الآن إلى موضوعنا..


    من الواضح أن للعقل إجابات قاطعة على الأحد عشر سؤالاً التي طرحناها عليه، فهو إما أنه أجاب بـ"نعم" أو بـ"لا"، عندما كان محور السؤال هو "هل". أو أنه أعطى أفكارا مطابقة للواقع الموضوعي عن ذلك الواقع، عندما تمحورت الأسئلة حول المكان والزمان والعِلَّة والمادة. وبالتالي فالقضايا المطروحة في أسئلتنا السابقة هي قضايا تُعْرَف بالعقل ولا نحتاج في معرفتها لغيره مادام قد قطع وبتَّ.


    ولكن يجدر بنا في هذا المقام أن نُنَبِّه إلى نقطة هامة. فالأسئلة من (4) إلى (7)، هي أسئلة لا نَحتاج في الإجابة عليها إلى أي نوع من أنواع الاستدلال والبرهان. فهي – أي إجاباتها – قائمة بالذات في العقل. وبكلمة أخرى فإنها حقائق عقلية بسيطة "بديهية"، لا تمكن تجزئتها إلى قضايا أبسط تتكون منها. بينما الأسئلة المتبقية غير واضحة في العقل وضوح تلك الأسئلة الأربعة. فمع أنها عقلية وتثير قضايا إجاباتها عقلية صرف، فإنها – أي تلك الإجابات – في حاجة إلى استدلال وبرهان عقليين. فهي إذن معارف عقلية مركبة وليست واضحة في العقل وضوحا مباشرا. هذا على وجه التحديد هو ما قصدنا التنويه إليه هنا، وهو أن الحقائق المُثْبَتَة عقلاً على نوعين، بسيط لا يتجزأ و مركب يتجزأ إلى بسيط.


    فلنوجه إلى العقل الآن المجموعة التالية من الأسئلة..


    1 – أين تقع مجرة درب التبانة؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    2 – متى انقرضت حيوانات الديناصور؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    3 – كيف تُكَوِّن الشمس طاقتها؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    4 – لماذا تسقط الأجسام نحو الأسفل فوق سطح الأرض؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    5 – هل يجب الامتناع لسبب ماَّ عن أكل لحم الخنزير؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    6 – هل أن الأرض كروية؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    7 – هل توجد كائنات غير مرئية لنا حاليا؟.. الجواب العقلي: لا أعرف..


    من الواضح أن العقل في هذه الأسئلة السبعة اعتذر اعتذارا معرفيا لَبِقاًّ عندما اعترف بعجزه عن الإلمام بأي فكرة عن أي واقع موضوعي كان محلَّ أيٍّ منها – أي محل تلك الأسئلة – وهو بالتالي يعطينا الضوء الأخضر لنبحث عن إجابات عليها في مكان آخر مخَوَّل بإعطاء مثل تلك الإجابات.


    إن ملاحظة سريعة نلقيها على طبيعة الواقع الموضوعي الذي يمتلك العقل القدرة على معرفته وتكوين فكرة واضحة وقطعية عنه، تطلعنا على أنه الواقع الذي لا يمكن إخضاعه للحواس بالمعنى الواسع للحواس، وهو المعنى الذي يكافئ التجربة. بل إننا نجد أن التجربة ذاتها تستعين بأفكارنا العقلية عن ذلك الواقع أثناء ممارستها لدورها في الكشف عن المعرفة القادرة هي على كشفها. فقضية أن لكل حادث سببا، أو أن التناقض بمفهوم معين مستحيل، أو قضايا الرياضيات البسيطة والمركبة، أو معرفة الله ذاتا وصفة وفعلا، مع ما يقتضيه كل ذلك، وغيرها من القضايا الشبيهة، ليست قضايا يمكن إخضاعها للتجربة "الحواس"، فهي ثابتة بذاتها في العقل فقط.


    أما الواقع الموضوعي الذي عجز العقل عن معرفته أو عن تكوين فكرة واضحة وقاطعة عنه، مُدْخِلاً إياه في دوائر مُمْكِنَاِته، فهو الواقع الذي يمكننا إخضاعه للتجربة "الحواس" إخضاعا تاما. فالعقل لا يملك بخصوص كروية الأرض عندما يُطْرح عليه السؤال بشأنها سوى القول بأنها ممكنة. كما أنه لا يملك بخصوص وجود أو عدم وجود النُّوَى في كريات الدم الحمراء لدى الإنسان، سوى القول بأن الأمرين ممكنان وجائزان. أما الذي يَبُتُّ فيُكَوِّن الفكرة المطابقة للواقع، فإنما هو التجربة والتجربة وحدها. وتندرج تحت هذا العنوان كافة قضايا الطبيعة وتفاصيل الوجود التي يمكن للإنسان أن يسيطر عليها ويعرفها من ثم بوسائله المخبرية التجريبية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.


    وهكذا يتضح لنا أن كلا من العقل والتجربة قد غطّيَا كافة حقول المعرفة، وبالتالي فكل واقع موضوعي لم تتم معرفته بالعقل فإن معرفته تتم بالتجربة.. هل يعني هذا أنه لم يبق هناك متسع لغيرهما؟ في واقع الأمر نعم، ليس الإنسان في حاجة من حيث المبدأ إلى غير العقل والتجربة، نظرا لقدرتهما بحكم طبائع الأمور على تغطية كامل الوجود معرفيا. إن انتفاء هذه الحاجة واضح في ضوء الدور المعرفي الذي يلعبانه والمساحة المعرفية التي يغطيانها. وإذن فما هو دور "الوحي" الذي نجد له حضورا ملحا ويحاصرنا من كل جانب، وما الذي جاء ليغطيه من حيث المبدأ، إذا لم تكن الحاجة إليه قائمة عبر استغناء العقل والتجربة عما سواهما معرفيا؟


    هذا يقودنا إلى ترسيخ الدور المعرفي النَّسَقي للوحي.


    نسقيَّة دور الوحي في المعرفة ولا أصليته..


    في حقيقة الأمر فإن دور الوحي في المعرفة هو دور نَسَقِي، ونقصد بهذا المصطلح أن الوحي ليس له دور مستقل وقائم بذاته في المعرفة، مادامت المعرفة من حيث المبدأ في غير حاجة إليه، وأن دوره مرتبط بدور كل من العقل والتجربة، وذلك من خلال أنساق محددة تربط دوره بدوريهما. إن الوحي بهذا المعنى لا يخلق معرفة لم يخلقها غيره أو لن يخلقها غيره، ولا يُكَوِّن أفكارا عن الواقع الموضوعي لم أو لن يكوِّنها غيره، خلافا لكل من العقل والتجربة الخالقين للمعارف بكل ما لهذه الكلمة من معاني. إن الوحي يقوم بدور النابض الذي يُنَبِّه والبنَّاء الذي يرمم. ولكن كيف ذلك وما معناه؟


    دعونا نشرح بهدوء و تؤدة المعنى العميق لمفهوم نَسَقِيًّة الوحي..


    إن قولنا بأسبقية العقل في المعرفة على ما سواه، لا يعني أن كل ما كان العلم به عقليا فهو واضح لدى العقل بتمامه وكماله منذ لحظات الوعي الإنساني الأولى الموغلة في القدم. وإلاَّ لفقد تاريخ الوعي معناه. بل إن ما نعنيه بذلك أن الإنسان وفي كل مستوى من مستويات وعيه المتحقق عبر تاريخ هذا الوعي، ينطلق من مخزونه المعرفي العقلي المتاح ليتعامل مع الواقع الموضوعي المحيط به من خلال ذلك المخزون. وهذا المخزون يتنامى باستمرار. إن كفاءة الإنسان ونضجه الفعليين في استخدام ذلك المخزون العقلي مرهونان بالنمو الحاصل فيه، وإن هذا النمو مرهون بدوره بتنامي وعي الإنسان بمحيطه في جانبه الحسي المباشر، وذلك بسبب تلك العلاقة الجدلية الخاصة القائمة في الأساس بين تنامي المعارف العقلية وتنامي المعارف التجريبية، من حيث أن كلا منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها.


    فالإنسان إذ ينطلق مما لديه من معارف عقلية متاحة ومُتَوَصَّلٍ إليها في مرحلة ما، فإنه يوسع في دائرة معرفته بواقعه الحسي. وكلما اتسعت دائرة وعيه بذلك الواقع، كلما عاد ذلك بالتوسع على دائرة معارفه العقلية التي تستمر عبر هذه الثنائية الجدلية في التأثير على الواقع والتأثر به. المعارف الإنسانية تنمو إذن من خلال هذا التلامس الحاصل بين دائرتي المعارف العقلية والتجريبية. وبالتالي فكلما كانت مقدرة العقل المعرفية بموجب مستوى وعي الإنسان متدنية، أي كلما كانت مقدرة الإنسان المعرفية التجريبية متدنية أيضا بموجب ذلك المستوى ذاته، كلما اتسعت دائرة المعارف التي يتم اللجوء في كشفها وفهمها وتغطيتها إلى المصدر الثالث والمفارق الذي هو "الوحي". والعكس بالعكس، فكلما تقدم العقل وكلما تقدمت التجربة وتنامت من ثم هيمنتهما على المعرفة، كلما تقلص الدور المعرفي لذلك المصدر المفارق.


    إن هذا يعني أن ذلك المصدر – أي الوحي – لم يكن دوره يتمثل من حيث المبدأ في تغطية مساحة معرفية ما كان إلا ليغطيَها، نظرا لعدم الاستغناء الجوهري عنه في ذلك، مهما كان مستوى المعرفة العقلية الحاصل ومهما كان مستوى المعرفة التجريبية المتحقق. بل إن دورَه لم يكن يتجاوز فقط تغطية مساحات معرفية تستطيع المعرفة العقلية وتستطيع المعرفة التجريبية أن تغطياها تغطية فعلية في مستويات لاحقة ومتقدمة من كفاءتهما ونضجهما. في حين أنهما لم تكونا قادرتين على هذه التغطية في مراحل سابقة بموجب مستوى الوعي المتحقق.


    فالتغطية المعرفية للوحي هي إذن استجابة مؤقتة، كما أن مهمته هي مهمة مرحلية. إنه بتعبير آخر يتحرك فقط ضمن "منطقة فراغ معرفية"، بدأت مع بواكير الوعي الإنساني كبيرة ثم راحت تتقلص تدريجيا، في علاقة عكسية متنامية الوتيرة مع نمو ذلك الوعي وتطوره في التاريخ، إلى أن تزول الحاجة إليه زوالاً تاما في مجال المعرفة، لأن الوجود مركب في نهاية الأمر ليكون أداة طَيِّعَة – من حيث معرفته والعلم به – بين يدي العقل والتجربة وهما يخوضان مغامرة الوعي والمعرفة في ضوء العلاقة الجدلية وعلاقة الملامسة التي أشرنا إليها فيما بينهما لتنمية المعرفة بالواقع الموضوعي.


    نلاحظ إذن أن هناك معادلة أصيلة وجوهرية تحكم عملية المعرفة في هذا الوجود، تحدث في مستويين، الأول جدلي تلامسي بين مصدريها الأساسيين والأصيلين "العقل" و"التجربة"، بحيث تنمو المعارف باضطراد من خلال هذا المستوى، مُنَمِّيَةً بالتالي دور وفاعلية كل مصدر منهما. والثاني تنافري إزاحي بين مصدرها العقلي التجريبي الأصيل من جهة أولى، ومصدرها الوحيوي الدخيل والمفارق من جهة ثانية، تتمثل طبيعته في تكامل الأول على حساب تلاشي وتضاؤل الثاني. وإنَّ كل تمدد في الطرف الأول من المعادلة ينعكس على الفور على شكل تقلصٍ في الطرف الثاني منها، أي في الوحي الذي يتأكد لنا باستمرار ومن خلال القراءة التاريخية لتطوره أنه لم يكن يحدد لنفسه دورا خارج نطاق الاستجابة المؤقتة والمرحلية لتغطية منطقة فراغ راحت تتقلص مساحتها باستمرار.


    قد يتصور البعض أن الوحي إذا كانت هذه هي مهمته – أي تغطية منطقة فراغ – فيجب أن يستمر دوره وأن لا تزول الحاجة إليه. فمادام الإنسان ينمو بوعيه باستمرار، فهذا يعني أن هناك نقصا دائما وأبديا لديه، وبالتالي فمنطقة الفراغ قائمة وستبقى مرافقة له، وهو الأمر الذي يقضي بمرافقة الوحي للإنسان دوما.. إن هذا التصور راجع في الواقع إلى عدم اتضاح مفهوم منطقة الفراغ التي ما جاء الوحي عندما جاء إلا ليغطيها.


    إن المعارف التي تتولى مصادر المعرفة الكشف عنها في هذا الوجود لا يتم النظر إليها بصفتها كتلة محددة وثابتة بدأت حصة العقل والتجربة فيها صغيرة ثم راحت تكبر وتتسع، فيما بدأت حصة الوحي فيها كبيرة ثم راحت تصغر، بشكل يعني أن محصلة المعارف في كل مرحلة هي تلك الكتلة المحددة بمجموعها الذي لم يتغير فيه سوى نصيب المصادر وتوزيع المعارف عليها من الناحية الكمية.


    إن هذا التَّسْطِيح – وهو ما يعنيه قطعا التصور السابق لمنطقة الفراغ – أبعد ما يكون عن الواقع وعن الحقيقة. فلو كان الأمر كذلك لعرف الإنسان كل شيء منذ أول وحي ولانتهى الأمر، بل لما كان هناك من معنى لتنامي معارفه العقلية والتجريبية أساسا، وبالتالي لما كان هناك من معنى للقول بمنطقة الفراغ من حيث المبدأ. ناهيك عن أن المعارف التي ينمو وعي الإنسان بتناميها هي في المحصلة غير محدودة ولا نهائية، ولا يمكن أن يغطيها مصدر ولا أن يلم بها غير الله. وبالتالي فلم يكن من شأن الوحي أن يغطي منطقة فراغ بهذا المعنى لمنطقة الفراغ.


    في كل مرة كان ينمو فيها وعي الإنسان، كانت تزداد معارفه وينعكس ذلك بالتالي على واقعه ومحيطه تغييرا وتطويرا. ورغم أن منعطفاتٍ مِفْصَلِيَّةً كثيرة مرت بحياة الإنسان كتجاوبٍ مع تنامي وعيه، إلاَّ أن منعطفا واحدا فقط من بين كل تلك المنعطفات هو الذي مثل انقلابا في كل موازين التفكير لديه، حيث كان إرهاصا حقيقيا ببدء أفول نجم الوحي وأهميته المعرفية في حياة الإنسان. إن الإنسان عاش حِقَبًا طويلة من تاريخه تحت وطأة تصور مفاده أن ما لا يعيه بعقله أو بتجاربه المُتَاحَيْن فهو خاضع في تفسيره لقوى فوق عقلية وفوق تجريبية تنزع إلى جعله يخضع لهيمنة "الأسطورة" على حياته بكل أداءاتها المُتَصَوَّرَة معرفيا ومجتمعيا. لقد كانت تتقلص دوائر هيمنة الأسطورة على حياة الإنسان كلما اتسعت دوائر العقل والتجربة، لكنها بقيت هي الملجأ المعرفي عندما يقف عقل الإنسان وعندما تعجز تصوراته التجريبية عن الفهم.


    هنا كان يأتي دور الوحي. إن منطقة الفراغ التي كان يغطيها دائما هي منطقة "الأسطورة". إن الدائرة المعرفية التي كانت تفرض نفسها على الإنسان في كل مرحلة من مراحل وعيه كانت تُحْسَم لديه بما توصل إليه من معارف عقلية وأخرى تجريبية، بينما تتم تغطية الباقي بالأسطورة. والوحي كان يتدخل عندما يتدخل ليخفف من وطأة الأسطورة ومن وقعها على الإنسان في جميع نواحي حياته بما في ذلك ما ارتبط منها بالبُنَى والتنظيمات المجتمعية، أو على الأقل ليدفع باتجاه التخفيف من وطأتها، بِحِكْمَة بالغة. وبالتالي فقد كان من الممكن القول بديمومة الحاجة إلى الوحي كمصدر معرفي في حالة ديمومة "النسق الأسطوري" في المعرفة كمالئٍ للفراغ الذي يعجز عنه العقل والذي تعجز عنه التجربة في مراحل معينة من تاريخ تناميهما المعرفي.


    ولكن ما حدث في تاريخ الوعي – وهو الذي ما كان إلاَّ ليحدث من خلال تطور كفاءة العقل والتجربة ومن خلال دور الوحي ذاته – أَنْ تَحَرَّرَ الوعي من "النسق الأسطوري" في المعرفة. بمعنى أن الوعي وصل إلى المرحلة التي أدرك فيها أن ما لا يعرفه بعقله وما لا يعرفه بتجاربه، لا يمكنه أن يعرفه بغيرهما، وأن عجزه المرحلي هو عجز وسائل وليس عجزا في جوهر أداة الإدراك والمعرفة ذاتها. وهكذا لم يعد الإنسان يملأ منطقة الفراغ المفروضة عليه بالأساطير بل بالبحث والتحري والتفكير والافتراضات العلمية التي يُخْضِعُهَا لتجاربه ومختبراته، إلى أن يتوصل إلى الحقيقة ليملأها بالتالي - أي منطقة الفراغ - بالحقيقة ذاتها.


    وإذن فمادام العقل ومادامت التجربة قد وصلا إلى مرحلة من تاريخ الوعي لم يعودا فيها عاجزين عن فهم دورهما المعرفي على حقيقته، بما يعنيه هذا الدور من اكتمال التصور بهيمنتهما على معرفة الواقع الموضوعي كله، فعلام الوحي إذن؟ وما الذي سيفعله؟ وأين هي منطقة الفراغ التي سوف يغطيها؟ وإلى ماذا سيستجيب في حياة الإنسان؟


    إن الوحي كان يتعامل مع إنسان تحكمه مستويات معرفية عقلية وتجريبية محددة في البعد التاريخي. ولهذا فهو لم يكن يقوم فقط بمهمة الاستجابة للمطلب الإنساني ليغطي منطقة الفراغ المعرفي بعشوائية وبدون دراية أو حكمة. بل هو كان يحرص من خلال استجابته للمطلب الإنساني التاريخي، على عدم التصادم مع مستوى العقل والتجربة كما كانا يفرضان نفسيهما لحظة حضوره، كي لا يُحْرَمَ من القدرة على أداء الدور المنوط به معرفيا.


    بكلمة أخرى، فإن مستوىً عقليا وتجريبيا معينا في تاريخ المعرفة، إذا كان غير قادر على بلورة رُؤى وحلول وتفسيرات لظواهر وإجابات على تساؤلاتٍ مَّا كانت تفرض نفسها على وعيه وإدراكه – أي على وعي وإدراك الإنسان في ذلك المستوى المعرفي – فإن الإنسان كان يلجأ إلى اللاعقل وإلى اللاتجربة، أي إلى الأسطورة لتغطية منطقة الفراغ التي تُثاَرُ بشأنها تساؤلاته التي عجز عقله والتي عجزت تجاربه عن الظفر بحلول لها.


    إن هذه العلاقة الخاصة بين الإنسان وبين منطقة الفراغ المعرفي التي كانت تفرض نفسها عليه في كل مراحل تاريخه، بسبب تقدم أسئلته دائما عن مستوى وسائل وأدوات إجاباته عليها، فيلجأ في تغطيتها إلى الأسطورة، فرضت على المصدر المعرفي المفارق "الوحي"، دورا بالغ الحساسية ومهمة دقيقة للغاية – مَثَّلَث على الدوام عنصرا من عناصر طبيعته الجوهرية – لتحقيق هدفه المنوط به في الأساس والمتمثل في توجيه مسيرة العقل الإنساني نحو الاستغناء عما سواه، بما في ذلك الاستغناء حتى عن الوحي ذاته.


    إن هذه الطبيعة الجوهرية الكامنة في كيفية قيام المصدر الثالث المفارق بمهمته المعرفية في مجاورةِ عقلٍ وتجربةٍ يتناميان باستمرار، جعلت عملية الإزاحة التي يمارسها وعي الإنسان في حق المعارف الوحيوية، تتخذ لأسباب تاريخية ليس هنا مجال بحثها والخوض في تفاصيلها، أشكالا درامية من الصراع والتناحر بين تيارات معرفية متنافرة، تخفي وراء صراعها الدامي في حقيقة الأمر أشكالا عميقة من الولاءات لبُنَى مجتمعية ولتركيبات مصلحية قائمة، تُعْتَبَر مرجعيتها الأم هي "الأسطورة".


    وأخيرا..


    أين "الخلل في تصور ماهية العقل الذي تتم معارضة أسبقيته على ما سواه؟"..


    لا يسعنا ختم الحديث عن العقل إلاَّ بمحاولة تنقيته من الشوائب التي لحقت به جراء أغبرة التجريبيين حينا وأتربة الوحيويين حينا آخر. وكأننا أمام صورته المُلَوَّثَة بالشوائب تلك، بإزاء قوم افترضوا له فهما خاصا بهم هم، من وحي آلامهم أو آمالهم وربما من وحي عقدهم وأمراضهم أو حتى مصالحهم وامتيازاتهم، ثم راحوا يحاربونه في ضوء هذا الفهم الخاص غير مبالين بحقيقته النقية الناصعة البعيدة عن كل تصوراتهم وأوهامهم، والتي لم يعارضوا عندما عارضوا في واقع الأمر أياًّ من معطياتها الحقيقية لاستحالة ذلك.


    إن معاداة العقل هي عبارة عن ملهاة عبثية تُحَطِّم من حملوا لواءها قبل غيرهم. ولعل الفارابي قد تنبه إلى هذا الشيء الغريب الذي يعاديه علماء الكلام عندما يَدَّعون معاداتهم للعقل ومعارضتهم له. تنبه إلى أنه شيء آخر غير العقل، وأن كلمة (العقل) التي يستخدمونها ليست أكثر من كلمة تطلق على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. فهو يقول.. ".. أماَّ العقل الذي ما فتئ المتكلمون يتحدثون عنه، فعندما يقولون عن شيء هذا يفرضه العقل أو ينكره أو يقبله أو لا يقبله، فإنهم يعنون بذلك شيئا يقبله كل الناس عندما يبدأون في التفكير. فهم يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. وعلى رغم أن المتكلمين يقولون إن العقل الذي يتحدثون عنه فيما بينهم هو العقل الذي تحدث عنه أرسطو، فإنك إن تفحصت المقولات التي يبدأون منها، فإنك ستجد أنها كلها دون استثناء مستمدة من آراء العامة. ولذا فإنهم يعلنون أمرا ويستخدمون آخر..". (من كتاب فجر العلم الحديث، "توبي هف"، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 260 ، ص 130).


    وهذا قول صحيح للغاية..


    إذ كيف يمكن اعتباره متحدثا عن "العقل" أو ناقدا له، من يَرُدُّه بعبارةٍ منسوبة إلى أحد الصحابة الكرام يقول فيها.. "لو كان الدين بالرأي لكان المسح على الخفين باطنه أولى من أعلاه"؟ أو من يرده بدعوى تعارضه مع حادثة "الإسراء والمعراج" اللتين علينا بطبيعة الحال قبولهما باعتبارها نقلا قاطعا معارضا للمعقول؟ أو حتى بما أوردتموه أنتم أخي الأستاذ الأديب الباحث "خليل حلاوجي" عندما قلتم: "القرآن نفسه يحدثنا عن العقل النسبي والحق النسبي، فهو نبهنا أن اللغة تعطي المفهوم من السياق وأيضا من ذاتية المتلقي! هارون النبي آثر السكوت أمام كفر قومه وعبادتهم العجل لأنه شاهد السياق العقلي المشوش للسامري، لكنه أدرك معه السياق الاجتماعي للقوم وهم يستبدلون البقرة بالتوحيد! العقلية الموسوية لم تشاهد تلك المضامين، فشاهدناه ثائرا واضعا صيغة أخرى لعقلنة التوحيد مع كفر القوم، فكسر الألواح وأخذ بلحية (خطاب) هارون! فهل نعد تصرفي النبيين في الصحة متساويين؟ أم أن ثمة فارق في استهلاك النص وعقلنته؟"، ليستنتج في ضوء ذلك أن علينا الإقرار بـ "مفهوم الحق النسبي! والعقلانية النسبية!".


    نعم، إننا نتساءل: كيف يمكننا اعتبار من يتحدث على ذلك النحو، متحدثا عن العقل، أو رادا للعقل، أو مناقشا له بمفهومة الفلسفي الذي نعطيه الأسبقية والسيادة المعرفية؟!


    إن في ذلك خلطا بين العقل والتجربة، أو بين العقل والرأي غير المستند إلى مرجعية معرفية خارج نطاق الهوى، وما يُؤَثِّرُ في تشكيله من نوازع بشرية!! إن ذلك ينطوي على عدم تفريق بين تلك المفاهيم، وعدم اعترافٍ بالحدود الفاصلة بين الأدوار المعرفية لكل منها. وكأن كلَّ ما ليس نَصًّا ونقلا ووحيا فهو معطى "عقليا". وبالتالي فالمسألة تغدو معروضة على النحو التالي: إما النص "النقل"، وإما "العقل". لتنطلق من هنا مسيرة محاربة تسيُّد العقل ومعاندته معرفيا، وإن يكن بقبول كل اللامعقولات.


    فلا يوجد في العقل ما يمنع من صعود إنسان إلى أقاصي الكون وعودته إلى الأرض في بضعِ ليلة. وليس فيه ما يمنع من أن يكون المسح على الخفين بديلا لغسل القدمين في الوضوء، أي أن الطهارة المتحققة في الحالتين – المسح من أعلى ومن أسفل – هي عند العقل سواء، ولا يوجد لديه أيُّ حكمٍ بخصوص أيهما أكثر تحقيقا لها، هل هو المسح من أعلى الخف أو من أسفله، أم هو المسح من حيث المبدأ أم الوضوء بالماء. بل إن العقل ليس لديه أي تَحَفُّظٍ على وصف النبي "هارون" في مثالكم، بالمقصر والمخطئ، لأنه لم يُحَكَّم ما يُفترض أن يُحَكِّمَه، ألا وهو العقل وتعليمات الله ونبيه موسى.


    ولا يحق لأيٍّ كان أن يتحايلَ على دلالة "تقصير النبي هارون"، بتأويل هذا السلوك، وتأويل دلالته، من خطإ ورأي غير سديد بدر من هذا النبي، إلى عقلانية محتملة، منطلقا من اعتباره شكلا من أشكال "الصواب العقلي" الممكنة، ليلغي أسبقية العقل وأحقيَّتَه، فارضا علينا فهما مفادُه، أن ما فعله هارون صواب لمجرد أنه نبي، وألا فرق بين صوابيته وصوابية ما فعله "موسى". وبالتالي فكأن للعقل صوابين متناقضين أو مختلفين في مسألة واحدة، مُؤَسِّسا على ذلك أن كلاًّ منهما حكَّمَ "عقلَه الفلسفي"، وأن تَوَصُّلَه إلى ما تَوَصَّلَ إليه هو من مقتضيات هذا "العقل الفلسفي"، ما يقضي بالتالي بنسبية هذا العقل، وبعدم استحقاقه عرش السيادة المعرفية، مادام قد أصدر حكمين متناقضين، وأفرز سلوكين مختلفين، على مسألة واحدة.


    ولسنا ندري، هل أنكم تعتبرون "فعل السامري" نفسَه، فعلا عقلانيا وصوابا، مثلما حكمتم على موقف هارون "السلبي" من فعله وسلوكه الذي وصفه القرآن بما يليق به، أم أنكم لجأتم إلى ذلك مع "هارون" فقط، لمجرد أنه نبي، افترضتم أنه لا يقع في مثل هكذا أخطاء، ما استوجب أن تعقلنوا تلك الأخطاء مضحين بسمو العقل ورفعته المعرفية؟!!


    إنه أهون عند الله أن نَتَّهِمَ المُقصرين والمُخطئين والمُحَيِّدين لعقولهم والمُعْمِلين لآرائهم الذاتية في مواقف محددة، حتى لو كانوا من أنبيائه، بما يقتضيه تقصيرُهم وخطأهم، وبما تقتضيه مخالفتهم لقواعد العقل تلك، من اتهام وعتاب، بل وعقاب إن تطلب الأمر ذلك، من أن نَحْرِفَ العقل، الذي به نعرف الله ووجوده وخلقه، عن مساره الصحيح.


    هل كان "قتل موسى لرجل في مدينته" عندما حاول التدخل لحماية رجل آخر من شيعته، صوابا وعملا عقلانيا علينا الاعتراف لأجله بـ "نسبية العقل" ولا أسبقيته ولا قطعيته ولا قدرته، فقط للتعاطي مع هذه الصوابية التي افترضناها بلا مبرر في فعل شائن أدانه الله نفسه سبحانه وتعالى؟ أم أن علينا الاعتراف بأن فعلَه هذا كان خطأً ذكَّرَه الله به وعاتبه عليه، غير حارف العقل عن سياديته وسموه، لأجل إنسان أخطأ وإن كان نبيا؟


    وهل علينا أن نعتبر عتاب وتخطيء الله لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام، في أكثر من موضع في القرآن، مرة عندما "عبس في وجه الأعمى"، ومرة عندما "قبل أن يكون له أسرى في بدر"، ومرة عندما "استرضى نساءه على حساب الحق".. نقول.. هل علينا أن نعتبرَ هذا التخطيء تخطيئا بكل ما لكلمة تخطيء من معاني قد تنطبق على البشر حتى الأنبياء منهم، دون المساس بمكانة العقل وهيبته؟ أم أن علينا تأويل تلك الأخطاء التي اعترف بها الله جل وعلا، ونَسْفَ المعيارية والأسبقية العقلية التي صمدت أمام أعتى المعارك الفلسفية على مدار التاريخ، فقط لكي نتعامل مع خطأ من أخطأ من هؤلاء الأنبياء، الذين لا نريدهم أن يخطئوا، والذين لا نتصورهم مخطئين، باعتباره عنصرا من عناصر الاستدراك على العقل الذي جعلنا من أخطاء هؤلاء الأنبياء – البشر – مقياسا عليه وحجة، بينما هو – أي العقل - في نهاية المطاف "روح الله" في الإنسان، والأولى تقديمه على أفعال كل البشر حتى الأنبياء منهم؟!!!


    إن مشكلة نصوصٍ من هذا النوع ليست مع العقل، بل هي مع العلم، أي مع التجربة، المصدر الثاني للمعرفة. أو مع الهوى الذي حاربه القرآن وشَنَّعَ عليه باعتباره مصدرَ كل الأمراض والانحرافات والأباطيل. والتجربة والعقل شيئان مختلفان اختلافا جوهريا، وتَعَارُضُ النَّصِّ مع أحدهما ليس بالضرورة تعارضا مع الآخر، فالتعارض مع العقل هو تعارض مع العقل، والتعارض مع التجربة هو تعارض مع التجربة فقط.


    فرحلة الإسراء والمعراج تعصى على الفهم بمقاييس التجربة المتاحة للبشر آنذاك، أو ربما حتى في وقتنا الحاضر. لكنها لا تعصى على تصور العقل وإدراكه لقدرة الله اللاَمتناهية. والمسح على الخُّفَين يعصى على الفهم التجريبي الحِسِّي المعهود إذا فُهِمَ هذا المسح على أنه نوع من النظافة الشبيهة تماما بالنظافة الناتجة عن غسل القدمين كاملين بالماء بدون ارتداء الخفين. لكنه لا يثير مشكلة لدى العقل الذي لا فرق فيه بين المسح على الخفين وأي طريقة أخرى لتحقيق النظافة. وعدم القدرة على تصور أن ما فعله نبي الله "هارون" خطأ كبير يستحق عليه العقاب والعتاب والتأنيب، وقبول هدم العرش العقلي عن قمة الهرم المعرفي لتأويل فعله – أي فعل هارون - من خطإ وباطل إلى حق نسبي أنتجه تعاملٌ عقلي ممكن ومحتمل الصوابية.. نقول. إن عدم القدرة تلك، مردها إلى الهوى الذي نشأنا عليه، والذي لا يقبل تصور نبي يخطئ ويعاتب، مع أن القرآن الكريم حافل بأمثلة يعاتب فيها أنبياءه على أخطائهم، وليس "ذو النون إذ ذهب مغاضبا" إلا واحدا من أمثلة كثيرة من القرآن على ما نقوله من قاسي العتاب على تصرف غير مقبول من نبي مختار ومصطفى!!


    وإذا كان الكثير من الوحيويين امتهنوا العقل بأن حاربوه وهم يجهلون حقيقته، فإن التجريبيين من جهتهم قد امتهنوه بأن نحروه على مذبح الأَناَنِيَّة المفرطة التي تعني استفادتهم منه كي يؤصلوا لفلسفتهم ويؤسسوا لها، ثم التنكر له والتخلي عنه وضرب عرض الحائط به. فعندما نسمع من يقول عن العقل أنه لا يعمل إلاَّ في إطار شروط مستمدة من خارجه، "أما حين يكون خاصا منفكا من هذه الشروط فإنه لن يُوَلِّدَ حينئذ فلسفة بل لغوا غير مشروع.. وهكذا لا يقوم العقل أبدا في فراغ بل يعمل دائما في إطار مشروط موضوعيا وتاريخيا، ولذلك فإن الحديث عن أولوية العقل يعد حديثا زائفا لأن هذه الأولوية لا توجد أبدا حتى في أشد صور الفلسفة تجريدا وصورية". (د.على مبروك. كتاب النبوة. ص 108).


    نقول.. عندما نسمع من يقول ذلك عن العقل، فإننا نندهش من هذا التنكر لطبيعة المعرفة، ومن هذا العقوق لدور العقل فيها. فكيف تتكون المعرفة وكيف تتكون مفرداتها إذن، إذا لم تكن هناك نقطة بداية تنطلق منها، لتتعامل مع الشروط التاريخية والموضوعية – الخارجية – بعد ذلك؟ وما معنى أن يتم تعريف العلم باعتباره البحث عن عناصر الثبات والوحدة وسط كل مظاهر التغير والتحول، وإنكار دور العقل في أن تكون له ثوابته وسط هذا التغير والتحول؟ إن المعرفة هي الكشف عن الثابت في الوجود حتى وإن كان ثابتا يؤسس للتغير والتحول ويفسره. وبالتالي فلا معنى على الإطلاق لرفض ثوابت العقل التي ينطلق منها الإنسان لتكوين معارفه ولتنميتها.


    لو قُدِّرَ لنا أن نكون بمستوانا المعرفي الحالي مرافقين لبواكير الوعي الإنساني منذ أقدم العصور، هل كنا سنتنكر للعقل حتى وهو يمارس الوعي في أكثر صوره بدائية وفجاجة؟ إن حواس الإنسان هي ذاتها حواس الحيوان من حيث الوظيفة والآلية. والحيوان يمارس حياته الغريزية في ضوء ما تلتقطه حواسه، فلماذا لم تُسْعِفْ الحيوانَ حواسُّهُ كي يُنْشِئَ معرفة وفكرا وحضارة، بينما أسعفت الإنسان حواسه في ذلك؟ ما الذي جعل الإنسان يختلف عن الحيوان الذي يشبهه في حواسه إلى حد كبير، لو لم يكن الإنسان قد قفز بإنسانيته إلى مستوى راقٍ من الوعي يتفوق على الحس ويتمكن من توظيف مُلْتَقَطاَتِ هذا الحس بخلاف الحيوان؟


    إننا في واقع الأمر نندهش أشد الاندهاش ونحن نحاول أن نتعرف على أيِّ نوع من الفائدة يمكن لهؤلاء أن يجنوها وهم يعلنون لا أولوية العقل – مع أنهم مضطرون لاستخدام معارفه الأولية التي تنكروا لها – فكل الحقائق التي توصلوا إليها بتجاربهم الصحيحة، هي حقائق علمية لا يتنكر لها العقل، فعلام الوقوع في هذا الضرب الثقيل من ضروب التناقض والاضطرار إلى ادعاء رفض العقل كأداة معرفية أولى، واللجوء إلى استخدامه من تحت الطاولة مرة أخرى؟


    إن الوعي الناتج عن العقل وعن مفرداته المعرفية الأولية هو الذي جعل لحواس الإنسان ولما يُلْتَقَطُ عبرها معنىً ودلالة. إنه – أي العقل – أَطَّرَهاَ وأَسَّسَ لها البيئة التي تُنْتِج من خلالها علما ومعرفة وتُكَوِّن حضارة. إن الحواس ليست أكثر من قنوات تمر عبرها الطبيعة إلى أعماق الكائن الحاس. فلو كان هذا الكائن الحاس غير واع (حيوان)، لما وَظَّفَ تلك الطبيعة التي عَبَرَتْ إلى أعماقه، لتكوين معرفة، بينما هي وُظِّفَتْ عندما أصبح الحيوان إنسانا، أي عندما أصبح واعيا ومدركا ومتعقلا للأمور. وبالتالي فإن أسبقية العقل وأولويته التي نعنيها، إنما تأتي من هنا وعلى هذا الأساس. إن قفزة التطور التي حصلت مُحَوِّلَةً المادة الحية الحاسة إلى مادة حية حاسة واعية هي التي تقتضي حتما أسبقية الوعي والإدراك وبالتالي أسبقية العقل بصفته أداة هذا الوعي وهذا الإدراك، على كل ما سواه من مصادر المعرفة وقنواتها.


    إن ما فعله التجريبيون لا يختلف في جوهره عما فعله الوحيويون قبلهم عندما رفضوا العقل لأسباب غير موضوعية. فالوحيويون ظنوا أن العقل هو التجربة التي تتعارض مع بعض معطيات الوحي الراسخة لديهم، فأصَّلوا لرفضه كي يحموا تلك المعطيات مما ظنوه عقلا. والتجريبيون ظنوا أن العقل هو الوحي الذي يتعارض مع معطيات التجربة لديهم، أو هو المبرر الشرعي لهذا الوحي على الأقل، فأصَّلوا لعدم أولويته لحماية نتائج تجاربهم مما ظنوه وحيا أو مبررا للوحي بالشكل الذي لا يريدونه. والعقل من الاثنين بَراَء. فلا هو تجربة الوحيويين المبغوضة، ولا هو وحي التجريبيين المكروه. إن المعركة الحقيقية إذن هي بين الوحيويين والتجريبيين، أي بين الوحي والتجربة، وما العقل سوى ضحية الاثنين في هذه المعركة.


    ليس أدل على ما نقوله هنا من أن الكثيرين من أنصار الوحي عندما يردون على العقل إنما يردون عليه ويناقشونه فيما يفترض أن تُناقَشَ فيه التجربة لا العقل. كما أن بعض التجريبيين عندما يفعلون ذلك فهم إنما يناقشونه فيما يفترض أن يناقش فيه الوحي لا العقل. ولعله لهذه الأسباب لم تُحسم الخلافات بين الطرفين، لأن الطرفين في الأساس إنما قتلا أو حاولا أن يقتلا صمام الأمان الوحيد الذي كان كفيلا بإطفاء كل الخلافات وتحويلها إلى رماد.


    إن الإنسان الواعي حتى وهو يعي الأمور في ماضيه ببدائية، إنما كان يعيها بعقله لا بحواسه. فعلى الرغم من أن الإنسان الذي عاش قبل مليون سنة لم يكن يعبر عن قاعدة الخط المستقيم بلغة واضحة ومجردة مفادها أن "الخط المستقيم في واقع هندسي إقليدي هو أقصر بعد بين نقطتين"، لأن مثل هذا التعبير رهن بتطور لغته ومستويات التجريد الذهني لديه، إلا أنه مع ذلك كان يتصرف في حياته على أساس وعيه بها دونما حاجة إلى التعبير المجرد إياه.


    فهو إن تعرض لخطر يتطلب منه الهروب والفرار نحو كهفه الواقع قبالته على بعد عدة مئات من الأمتار، لم يكن يلجأ إلآَّ إلى الطريق المستقيم الموصل إلى مأواه إذا كان يريد الوصول في أقصى سرعة ممكنة. وهو إذا كان وجد قطعة حجر مسننة على شكل سلاح، فإنه يتصرف على الفور كمن يبحث عن إنسان آخر قريب منه قد يشكل خطرا عليه أو على حياته دون أن يعبر عن ذلك بالعبارة المجردة، "إن لكل حادث سببا"، لأن هذا التعبير يتطلب تطورا في لغته وفي مستويات التجريد الذهني لديه.


    وبالتالي فالفكر قطعا أسبق من اللغة، إلا إذا افترضنا أن أصوات الحيوانات عبارة عن لغات، فلا مانع عندئذ من الاعتراف بأسبقية اللغة على الفكر، ولكن علينا أن نعترف عندئذ بأن اللغة ليست سوى أداة بيولوجية صرف، لأنها هكذا عند الحيوان، وأنها بالتالي لم تتحول إلى لغة قادرة على الإبداع والخلق وصياغة الأفكار إلا بعد أن أصبح هناك فكر يستطيع أن يشكل ويطور لغة في الواقع الموضوعي.


    إن افتراض أي علاقة دياليكتيكية بين المعرفة العقلية وبين المعرفة التجريبية لا يمكنه أن يلغي أسبقية المعرفة العقلية على أي معرفة أخرى. إن من يستطيع أن يتصور المعنى الحقيقي للمعرفة العقلية الأولية، والمعنى الحقيقي للمعرفة التجريبية أو الحسية، سيتمكن على الفور من التحرر من عقدة "لا ثابت في العقل قبل أن يثبته الحس"، أو "لا اعتراف بالعقل إذا تعارض مع النقل!!".


    كما أن من يستطيع تصور تلك العلاقة الجدلية بين العقل والتجربة في طريقة الكشف عن الواقع الموضوعي على النحو الذي هي عليه، سيتمكن حتما من التحرر من عقدة "تاريخية المعرفة العقلية" بالشكل الموهوم الذي ناقشناه في هذا التحليل. فالمعارف – كل المعارف – ومن حيث هي معارف فقط، تعكس لنا صورة عن الواقع الموضوعي يُفْتَرَض أنها مطابقة له كي تكون بمثابة حقائق. والواقع الموضوعي من حيث هو واقع موضوعي فهو موجود باستقلال تام عن وعينا سواء وعيناه أو لم نعه. فالوجود موجود بكل حقائقه وجزئياته حتى والإنسان غير موجود وكامن في أعماق المادة الحيوانية وقبلها النباتية وقبلهما غير الحاسة وغير الحية.


    وبالتالي فالإنسان بموجب حدود القدرة التي يتيحها له وعيه وقدراته الراهنة لا يخترع حقائق بل يكتشفها ويؤلف فيما بينها، للوصول إلى مستويات متقدمة منها أو للاستفادة منها في حياته. والعقل والتجربة هما مجرد أداتين تعملان على كشف هذه الحقائق كلٌّ بطريقتها. وهذه الحقائق ثابتة لا تتغير في الغالب. وهي مبثوثة في كل أرجاء هذا الوجود، وبالتالي فلا يمكن لِلاَّثبات أن يخرج في مدلوله الحقيقي عن إطار التغير في مستويات الوعي لمواكبة الواقع في علاقاته الأزلية التي تحكمه والتي نكتشفها بالتدريج كلما ارتقينا في مستويات وعينا.


    إن حقيقة أن العالم كان موجودا قبل وعينا به، وأننا في سباحتنا في تاريخه السرمدي إنما نحاول أن نعرف كيف كان قبل أن نوجد، إن حقيقةً كهذه تصفع كل دعاة اللاَّثبات إذا كانوا يعنون به أن العالم ليس فيه ثوابت. إن علم الفلك الذي يتحدث عن حقائق وقوانين بأعمارٍ فلكية إنما يصرخ في وجوهنا ليقول لنا بملء صوته أن التَّغَيُّر في الوعي هو تَغَيُّر في قدراته، وبالتالي في حجم محتوياته ليتمكن من أن يكون بِسَعَةِ كم الحقائق المذهلة التي تتدفق إليه كل يوم عاكسةً صورَ هذا العالم ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا.


    إن العقل إن صح التعبير، هو الشاشة التي طُبِعَت عليها مجموعة من الحقائق المُنْطَلَق، والتجربة هي القنوات التي تمر عبرها الطبيعة ويمر عبرها الوجود ليصل إلى تلك الشاشة ويلامس تلك الحقائق – المنطلق - المطبوعة عليها لإنتاج معرفة جديدة. وكأننا في النهاية أمام جهاز كمبيوتر خُزِّنَتْ فيه (في ذاكرته) مجموعة من المعطيات الأولية ليعالج من خلالها كافة المدخلات التي تأتيه من خارجه. إن أياًّ من هذه المُدْخَلات لن نستطيع الاستفادة منها أو أن نشكل منها معرفة جديدة تعود علينا بالنفع إلاَّ بعد معالجتها بمخزون الكمبيوتر المخفي في أعماق قرصه الصلب.


    الكمبيوتر بدوره قد يخبرنا أحيانا عبر رسائل وإشارات خاصة يبعث بها، أن هناك مشكلات يعاني منها في معالجته لهذه المدخلات، وذلك إما بالتأكيد على أنها – أي المعالجة – غير مقدور عليها بحكم أنه غير معدٍّ مسبقا للتعامل معها، وإما بالتأكيد على أنها دخلت مُشَوَّهَةً وناقصة يفترض استكمالها حتى تُتاح له فرصة معالجتها المعالجة الفاعلة والمفيدة.


    الكمبيوتر هو العقل، ومخزونه الذي يعالج المدخلات على أساسه هو المعارف العقلية، أما تلك المدخلات فهي صور الواقع الموضوعي التي تلتقطها الحواس (التجربة) وتلقي بها إلى أعماق العقل كي يحولها من صور جامدة إلى حقائق ومعانٍ مفيدة وذات دلالة وَعْيَوِيَّة. فالتجربة في نهاية المطاف – أي الحس بمعنى من المعاني – كائن أعجم عقيم الفائدة المعرفية ما لم يحركها ويُفَعِّلها العقل، ليحولها بذلك التحريك والتفعيل إلى كائن ولاَّد بالمعارف.


    يكفينا أن نتخيل شخصين أحدهما سليم الحواس لكنه فاقدٌ لمَلَكَةِ الإدراك، والآخر عاقل مالك لتلك الملكة لكنه فاقد لحواسه, إن سلامة أدوات الحس عند الأول لم تساعده على تكوين أي نوع من المعرفة غير الغرائزية أو الحيوانية. كما لم يَحُلْ فقدان الثاني لحواسه كاملة من أن يفكر ويُكَوِّن حصيلة من المعارف وإن تكن محدودة جدا، وهي على وجه التحديد تلك الحصيلة المنطلق الموجودة في الأغوار البعيدة لكل العقلاء سواء كانت واضحة أو غير واضحة. إنها ذات الحصيلة التي جعلت "هيلين كيلر" الصماء العمياء البكماء بالولادة إحدى أكبر شخصيات الأدب في تاريخ الإنسانية. هذه هي إذن طبيعة العلاقة بين التجربة والعقل. إنها علاقة مميزة فريدة وعظيمة جدلية الطابع، احتوائية المضمون، صيِغَتْ على هذا النحو من قِبَلِ خالق العقل والتجربة لتحقيق غاية عظيمة يأبى الإنسان إلاَّ أن يقف بأهوائه ونزواته حجر عثرة في طريقها.


    مع رجاء أن أكون قد قدمت تعقيبا ألمَّ بمختلف حيثيات التعقيب الجميل الذي لفت الأستاذ "خليل حلاوجي" انتباهي بفضاءاته إلى تعقيبي المتواضع هذا.


    مع خالص الشكر والتقدير لأستاذي العزيز "خليل".


    ودمت معطاء، ومصدر قدرة دائمة على استفزاز عقول البسطاء من أمثالي كي يدلوا بهذا القليل الذي عندهم، عساه يكون نافعا.


    أسامة عكنان




  9. #79
    مشرفة قسم اللغة الغربية
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    884
    بسم الله الرحمن الرحيم
    أحترم كل العلماء و الباحثين الذين يقدمون معلوماتهم و خبراتهم بكل سخاء و إخلاص، و لكن عندما يكون الأمر يتعلق بالحق و الباطل فلن أتوانى عن دفع كل ما يشوه الحقيقة.
    أريد أولا أن أعرف من حضرتكم ما هدفكم من أن تأكيد على الأخذ بالعقل دون النقل؟ حتى أعقب عليه بما يناسبه ودون أن انتقص من حق أي فكرة صدرت عن حضرتكم مؤخرا.
    أما النقل الذي يمس العقيدة فالعقل ليس له أي حق بأن يغيرها أو يعدلها فالعقيدة محلها القلب و ليس العقل و الله خبير بنا أكثر من خبرتنا بأنفسنا.
    أما إذا كان رد حضرتكم على الأحاديث القدسية التي تصف الله سبحانه و تعالى و له المثل الأعلى و حواره مع عبده، فهولحكمة بالغة، ليس بغية التجسيد بحد ذاته معاذ الله و لكن من أجل تقريب الأمور الجوهرية إلى الناس بما يناسب عقولهم من الأمور الحياتية التي حولهم حتى يفهم المعاني العظيمة التي يراد إيصالها إلينا. لإكما رأيت فإن حضرتكم أنكم وضحتم مدى أهمية العقل و الشروط التي يجب توافرها حتى نشهد له بصلاحيته لحل المشكلات. فالنقل و الإسلام بأكمله لم ينفي دور العقل أبدا و مخطئ من يقول كذلك بل الإسلام فتح للعقل مجال واضحا جدا للإبداع بكافة المجالات إلى أبعد مدى بحدود الضوابط الرعية التي تحافظ عليه من التلف و سلب الحقوق و الكرامة و أيضا فيما يحقق هدف الإسلام المعروف (الضرورات الخمس)و هو الحفاظ على العقل و النفس و المال و العرض و الدين.
    طالبة جامعية
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    اللهم أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك

  10. #80
    الفارس المبدع، الطالبة الجامعية "سارة الحكيم"

    أحترم كل العلماء والباحثين الذين يقدمون معلوماتهم وخبراتهم بكل سخاء وإخلاص، ولكن عندما يكون الأمر يتعلق بالحق والباطل، فلن أتوانى عن دفع كل ما يشوه الحقيقة. أريد أولا أنا أعرف من حضرتكم ما هدفكم من أن تأكيد على الأخذ بالعقل دون النقل؟ حتى أعقب عليه بما يناسبه، ودون أن انتقص من حق أي فكرة صدرت عن حضرتكم مؤخرا. أما النقل الذي يمس العقيدة، فالعقل ليس له أي حق بأن يغيرها أو يعدلها فالعقيدة محلها القلب وليس العقل والله خبير بنا أكثر من خبرتنا بأنفسنا. أما إذا كان رد حضرتكم على الأحاديث القدسية التي تصف الله سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى وحواره مع عبده، فهو لحكمة بالغة، ليس بغية التجسيد بحد ذاتهن معاذ الله ولكن من أجل تقريب الأمور الجوهرية إلى الناس بما يناسب عقولهم من الأمور الحياتية التي حولهم حتى يفهم المعاني العظيمة التي يراد إيصالها إلينا. لا كما رأيت فإن حضرتكم أنكم وضحتم مدى أهمية العقل والشروط التي يجب توافرها حتى نشهد له بصلاحيته لحل المشكلات. فالنقل والإسلام بأكمله لم ينفي دور العقل أبدا ومخطئ من يقول كذلك، بل الإسلام فتح للعقل مجالا واضحا جدا للإبداع بكافة المجالات إلى أبعد مدى بحدود الضوابط الشرعية التي تحافظ عليه من التلف وسلب الحقوق والكرامة وأيضا فيما يحقق هدف الإسلام المعروف (الضرورات الخمس) وهو الحفاظ على العقل والنفس والمال والعرض والدين.

    الإجابة والتعقيب
    الفارس المبدع، "سارة الحكيم"
    لك مني كل التحية والتقدير على هذه الغيرة الواضحة على الإسلام.لم أجد في كل ما ذكرته سوى سؤال واحد ووحيد هو: "ما هدفكم من التأكيد على الأخذ بالعقل دون النقل؟ وهو سؤال ينطلق من مقدمة خاطئة. فأنا "لم أؤكد على الأخذ بالعقل دون النقل"، وإنما أصَّلْتُ لعلاقةٍ بينهما، رأيت أنها مناسبة للاستفادة من الاثنين على أكمل وجه في هذا الزمان. وبالتالي فهناك نوع من التجني عندما أوصف بأني آخذ بالعقل دون النقل!! هذه واحدة!!أما الثانية، فهي بخصوص سؤالك عن هدفي من ذلك. وهو سؤال يدل على أن هناك شكا قائما على احتمال أن يكون هدفي شيء آخر غير تحري الحقيقة، والبحث عنها إلى حين التوصل إليها!! وهذا أيضا نوع من التجني لا يتناسب مع طبيعة الحوار العلمي والموضوعي. فالفكرة عندما تطرح، فإنها تصبح ملكا للجميع، وتغدو ساحة حوار ونقاش وتبادل للأفكار بشأنها، إلى أن تتم تغطية جميع جوانبها، أو قبولها أو تفنيدها.. إلخ!!أما بخصوص تقريراتك بشأن العقيدة، وأن مكانها القلب، وأن العقل ليس له الحق في تغييرها.. إلخ، فإنني تجنبا للتكرار، أحيلك إلى كل ما كتبته ردا على أسئلة المحاورين في هذا اللقاء الشيق، كما أحيلك إلى كتابي "تجديد فهم الإسلام" الذي نشر على موقع "فرسان الثقافة" بمبادرة من الأستاذة "ريمة الخاني"، وعند الانتهاء من قراءة كل ذلك، بإمكانك تحديد أسئلتك بدقة، وأين تكمن اعتراضاتك، كي يكون النقاش مثمرا وبناء ومنتجا.وفي انتظار ردك بعد القراءة، وأسئلتك بعد الاطلاع، أتمنى لك كل الخير صدقا واحتراما وتوفيقا
    أسامة عكنان

صفحة 8 من 13 الأولىالأولى ... 678910 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. لقاء الفرسان مع الباحث/محمد عيد خربوطلي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 12:24 PM
  2. لقاء "مصر المحروسة" مع أسامة عكنان
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى تسجيلات الفرسان المسموعة والمرئية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-13-2013, 06:54 AM
  3. لقاء الفرسان مع الباحث/مصطفى إنشاصي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 37
    آخر مشاركة: 02-13-2013, 03:23 PM
  4. لقاء الفرسان مع الباحث/خليل حلاوجي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 38
    آخر مشاركة: 09-29-2011, 09:46 PM
  5. نرحب بالأستاذ الباحث/ أسامة عكنان
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-29-2011, 08:21 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •