سؤال الأستاذة ريمة
فهل نتعمق ونطلب مزيدا من التفسير مادمنا في حال مكاشفة رائعة؟ وادور على سؤالي من جهة اخرى لأقول: كل من له دراسة اكاديمية علمية وأخص علمية ابدعوا في عالم الادب والبحث.. اتمنى ان يكون السؤال الآن واضحا.. فما تفسير ذلك من وجهة نظرك؟
الإجابة
بعد التحية والشكر للأستاذة ريمة
بعد أن فهمت مغزى سؤالك بالشكل الذي تقصدين إليه، أود أن أقول أنني مثلك ألمس جانبا من صحة هذه الظاهرة التي نوهتِ إليها، لكنني لا أملك لها تفسيرا.
ولك مني بالغ الشكر
أسامة عكنان
أسئلة الأستاذ عبد الرزاق أبو عامر
ألا ترى معي أن السيادة تصير بهذا الاعتبار للعقل وحده؟ وأن تمييز سقيم المرويات من صحيحها يصير بلا معنى؟ وأن مراتب أمهات كتب الحديث من حيث الصحة والضعف (مثل مرتبة صحيح البخاري وصحيح مسلم بالنظر إلى سائر الأمهات) مجرد ترف فكري؟ وأن الجهود التي بذلت - ولا تزال في تصنيف الحديث على هذا المنوال - جهود زائدة إن لم نقل إنها بدون جدوى؟ وأن كل العلوم التي نشأت لخدمة هذا الشأن (علم الرجال، الجرح والتعديل) لا قيمة لها لأنها عبارة عن مواقف رجال من رجال لا تخلو من تداعيات الخلافات الشخصية والصراعات المذهبية سلبا (تجريح) وإيجابا (تعديل)؟ وما محل القرآن من هذا؟ مادام هو الآخر إنما وصل إلينا مرويا.. أليست قاعدة الإيمان به تصديق المتواتر (جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب).. وهي قاعدة مردها إلى النقل لا إلى العقل؟.. هل نعرّض القرآن لما عرضنا له السنة من حتمية تسرب المكذوب الخاضع للصراعات؟ ثم نجعل مصيره كمصيرها: إخضاعا مطلقا للعقل؟ كيف يقرأ العقل مثل هذه النصوص: 1 - (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا). سنن الترمذي 2312 (حسن). 2 - (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع فقال رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم خطبتك؟ قال: نعم. فصنع له ثلاث درجات فهي التي أعلى المنبر، فلما وضع المنبر وضعوه في موضعه الذي هو فيه. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم إلى المنبر مر إلى الجذع الذي كان يخطب إليه. فلما جاوز الجذع خار حتى تصدع وانشق، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده حتى سكن ثم رجع إلى المنبر). صحيح ابن ماجة للألباني رقم 1169.
الإجابة
وبعد التحية والشكر للأستاذ "عبد الرزاق أبو عامر"
يبدو أستاذي الكبير أن الحوار من خلال إطلالة أسئلتكم المثيرة حوار ذو شجون يفتح الشهية ويحفز القريحة على عبور الصعاب، نرجو أن نكون قادرين على أداء حقها والتزود بعدتها وعتادها. وبعد..
سأبدأ إجابتي بسؤال مثير وحساس وموضوعي يفرض نفسه هو..
"كيف عرفنا الله، ذاتا وصفة وفعلا؟!"
بالعقل، وبالعقل وحده عرفنا الله ذاتاً، فمعرفته ليست نَصِّيَّة. وإذا كان العقل قد عرف الله ذاتا، فهو لا شك قد عرفه صفة وفعلا أيضا. ولا يصح القول بأننا بالعقل نعرف الله ذاتا، لكننا لن نعرفه صفة وفعلا بذات العقل. لأن من حقنا عندئذ أن نتساءل عن هذا المعروف لدينا بذاته عقلا، كيف عرفناه من غير أن نعرف صفته وفعله اللذين هما أساساً مُؤَشِّرَين هامين للتعرف عليه ذاتا، من حيث هو كائن ومعروف بهما لا بدونهما. فنحن لا نعرف الموصوفَ إلاَّ مقترنا بصفته، ولا نعرف الفاعل إلاَّ مقترنا بفعله. ومادامت الألوهية صفته والخلق فعله، فمعرفتنا به عقلا تعني قطعا معرفتنا به بصفته تلك وبفعله ذاك.
ولكن لماذا يُفترض أن تكون معرفة صفة الله ومعرفة فعله عقليتين؟ ولماذا لا يتم القبول بأن تكون معرفته ذاتا عقلية فيما تُحال معرفته صفة وفعلا إلى الوحي الذي أوحى به إلى أنبيائه؟ في الواقع إن المسألة ليست مسألة تفضيل واختيار. فنحن إنما نعرفه ذاتا بالعقل لأن هذه هي طبائع الأمور، وبالتالي فنحن نعرفه صفة وفعلا بالعقل أيضا لأن هذه هي طبائع الأمور. فنحن لا نجد أن معرفة صفة الله وفعله بحاجة إلى العقل والوحي معا ومع ذلك ندعو إلى الاقتصار على العقل في ذلك! إن ما لا يعرف إلاَّ بدليلين فإنه لا يعرف بأحدهما، تماما مثلما أن ما لا يعرف إلاَّ بدليل محدد فإنه لا يعرف لا بدونه ولا بغيره. وهكذا فإن معرفة الله صفة وفعلا مادامت عقلية فهي لن تُفْهَم إلاَّ به وما كانت لتُفْهَم إلاَّ به، أي إلاَّ بالعقل.
ومع ذلك فإن افتراض حاجة الصفة أو الفعل إلى دليل من خارج العقل لمعرفتهما، هو افتراض لا يصمد أمام التحليل. فمعرفة الله عقلا لو كانت مقتصرة على معرفته ذاتا، لأمكن القول بأن تَصَوُّر النقص في حق صفة الله وفعله جائزٌ عقلا، مادام النص هو الذي سيزودنا بحقيقة الصفة الكاملة وبحقيقة الفعل الكامل. إذ لا معنى لأن يقوم النَّصُّ بفعل التزويد هذا لولا تصور القصور العقلي الذي يعني قطعا إمكانَ تَصَوُّر العقل للنَّقْصِ في صفة وفعل الذات. ولكن هذا غير صحيح، فالله ضروري الوجود بصفة الألوهية المريدة وبفعل الخلق العادل. والضرورة هي حكم العقل القاطع على شيئ ما، وبالتالي فصفة الكمال فيه وفي فعله واجبة عقلا.
وإذا كان الله ذاتا وصفة وفعلا يُعرف بالعقل، فلا شك أيضا في أن مقتضيات هذه الصفة ومقتضيات ذلك الفعل تعرف كلها بالعقل. إذ لا معنى على الإطلاق لأن نَدَّعِيَ معرفتَنا العقلية بأن اللهَ عادلٌ دون أن نعرف وبعقولنا أيضا المحتوى المفهومي لهذا المصطلح الذي هو العدل. كما أنه لا معنى على الإطلاق لأن ندعي معرفتنا العقلية بأن اللهَ مُرِيدٌ دون أن نعرف وبعقولنا أيضا المحتوى المفهومي لمصطلح الإرادة.. إلخ. إن عقولنا قادرة في هذا السياق وبالضرورة على معرفة معنى الإطلاق في العدل ومعنى الإطلاق في الإرادة.. إلخ. إنه لمن المفيد التأكيد على أنه من التناقض بمكان القول بأن العقل يعرف أن الله عادل ولكنه لا يعرف كيف ذلك، أو أنه يعرف أن الله مريد دون أن يعرف كيف تكون الإرادة وكيف تُمارس نشاطَها. إن من يعرف أن الله مريد يعرف قطعا أن ذلك يتم بالتفكير وبالعلم وبالقدرة، ويعرف قطعا ما معنى كل ذلك. كما أن من يعرف أن الله عادل يعرف قطعا أن العدل يعني المسؤولية والتكافؤ والتخيير، ويعرف أيضا كيف يتم كل ذلك في الواقع.
إن من يزعم أن معرفة كون الله عادلا لا تستلزم معرفة كيف يكون هذا العدل منه، هو أشبهَ بِمن يزعم أنه يعرف كيف يقود السيارة، ولكنه لا يعرف ما هي السيارة ولا كيف هي ولا معنى القيادة!! أن تعرف أن الله عادل يعني أن تعرف قطعا معنى ذلك وكيف يكون، وهو الأمر الذي يعني أيضا أن تعرف الخريطة المتكاملة لمصطلح العدل الذي يغدو من باب أولى معرفة بُعْدِه الحياتي، مادمنا بعقولنا قد عرفنا بعده الإلهي الصفاتي التنزيهي المطلق.
خلاصة القول إذن أن القِيَمَ وهي مصطلح اجتماعي أخلاقي يُطلق على الإسقاطات الموضوعية لصفة الله، تُعْرَف بالعقل جملة وتفصيلا، كالعدل والصدق والحكمة.. إلخ. وأن العقلَ إذ يعرفها في بعدها الإسقاطي هذا، فإنما هو يُعَبِّر عن قدرته على وضع النماذج والصِّيَغِ القِيمِيَّة في إطارها الموضوعي التطبيقي الاجتماعي. وإن دورَ النَّصِّ الوَحْيَوِي هو في هذا المجال دورٌ تكميلي يُفترض أن يكون منسجما تَمام الانسجام مع الصيغ القيمية العقلية.
إن النصوص – ونقصد بها هنا نصوص القرآن والسنة – التي تصدت لاستصدار أحكامٍ بِخصوص القيم – التي هي في نهاية المطاف أحكام العقل على الأفعال الاختيارية – لم تُعَالِجْ تلك القيم بصورة تنم عن انفرادها بِحَقِّ معالجتها. فهي – أي النصوص – في هذا المقام لم تفعل شيئا أكثر من تأكيد ما قرره العقل. ولو لم ترد تلك النصوص محتوية على تلك الأحكام لما تغير شيئ ولبقيت الأفعال الاختيارية خاضعةً لحكم العقل، ولبقيت المواقف منها معروفة من خلاله.
وإذن فإن كافة النصوص التي عالجت أحكاما شرعية يملك العقل حُكْمَه بخصوصها تَحْسِيناً أو تقبيحا بموجب محتوياته المعرفية، إنما هي نصوص تَتَّسِم بإحدى سمتين. فإما أن معالجاتها لتلك الأحكام الشرعية تمت بصورة منسجمة كل الانسجام مع محتوى العقل ومع حكمه بخصوصها. وإما أن معالجاتها تلك تُظْهِر تعارضا واختلافا – بشكل أو بآخر – مع هذا المحتوى وهذا الحكم العقلي. في هذه الحالة، ومادام كلٌّ من النص والعقل من عند الله، بحيث يُفْتَرض أن يكون هناك تكامل وظيفي بينهما في ميدان المعرفة، ولا نقول تطابقا، لأن افتراض التطابق الوظيفي في المعرفة بين مصدرين معرفيين، ينفي الحاجة إليهما معا، ليتم الاكتفاء بالحاجة إلى أحدهما، ومادامت الحاجة إليهما معا قائمة، فلا شك في أن العلاقة المعرفية بينهما هي علاقة تكامل وليست علاقة تطابق، يتولى فيها كل واحد منهما دورا خاصا به يكمل دور الآخر.
نقول.. مادام كلٌّ من العقل والنص من عند الله، فنحن في واقع الأمر أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما.. فإماَّ أن تكون هذه المعالجات النَّصِّيَّة منسوبةً إلى هذا الدين خطأً لاستحالة أن يناقض الله نفسَه، بأن يزوِّدَنا عبر العقل بمجموعة معالجاتٍ تختلف – بصورة يمتنع معها التوفيق – عن تلك المعالجات التي يزودنا بها الله أيضا عبر مصدر معرفي آخر ارتضاه لنا هو أيضا، وهو النص الموحَى به من عنده. وإماَّ أن تكون هذه المعالجات – أمام يقينية الأحكام العقلية – مُتَضَمِّنَة وبالضرورة لمعنى المرحلية التي يمكن على ضوئها إيجاد قاعدة تفسيرية مقبولة ومعقولة لهذا التعارض بين معطى العقل القيمي ومعطى النص التشريعي.
فحين لا يكون هناك حكم للعقل على فعلٍ اختياري ما – والأفعال الاختيارية هي السلوكات التي تُمَحْوِر العملية التشريعية ككل– لا توجد هناك مشكلة، إذ أن المسألة برمتها مُحالة ضمنا إلى غير العقل. وحين يكون حكم النص متطابقا مع مُعطى العقل وحُكمه عند تَوَفُّرِه، لا توجد مشكلة أيضا، لأننا لسنا في حاجة للبحث عن مخرج للتوفيق بين مصادر معرفية أعطتنا في الأساس أحكاما غير متعارضة وغير متباينة. المشكلة تبدأ فقط حينما نكون بصدد فعل اختياري ينظمه العقل بصورة تختلف عن صورة التنظيم النَّصِّي له، بالصورة التي وصلنا فيها هذا النص سندا ومتنا، فكيف الحل عندئذ؟!
لا شك في أن الحالة التي تُبْرِز المشكلة المشار إليها موجودة وملموسة، وقد فرضت نفسها على كل رواد الفكر والفلسفة في التاريخ الإسلامي، على الرغم من أن السلطة السياسية حسمتها بقوة السيف في الغالب. إن طبيعة الأمور أدت إلى الوقوف منها – أي من الإشكالية المشار إليها – أحد موقفين. وكلا الموقفين قامَ على القفز على العنصر الهام نفسه، وهو عنصر التطور ومتطلباته ومؤدياته، على الصعيد الاجتماعي بالدرجة الأولى، وذلك عبر إسقاط أحد مصادر المعرفة الأساسية. الموقف الأول أسقط النص ولم يُؤَصِّل بطريقة ناضجة ومقنعة دورا ووظيفة لهذا النص، منطلقا من نقطةِ أَوَّلِيَّةِ بل ووحدانيةِ العقل في كل معرفة وتشريع، فوقف من النص من ثَمَّ موقفَ المتخوف والمشكك والنابذ. الموقف الثاني أسقط العقل ولم يُؤَصِّل بطريقة ناضجة ومقنعة دورا ووظيفة لهذا العقل، منطلقا من النقطة المقابلة لما انطلق منه الموقف الأول، وهي أَوَّلِيَّة النص في كل معرفة وتشريع، بل وأُحاَدِيَّتَه أحيانا كثيرة. وبدوره وقف هذا الموقف من العقل موقف المتشكك والمتخوف والنابذ، وإن كان قد بدا من خلال طريقته في التأصيل وكأنه ينطلق من العقل الذي ما لبث أن عاد ليُلَجِّمَه.
إن كلا الموقفين قد أسقط في الحقيقة أمرا قائما، ومصدرا معرفيا موجودا لا مجال لإسقاطه. فالنص موجود لأن الله أرسل الأنبياء وأوحى إليهم، وبرز وحيه عبر النص الذي خوطب به البشر منتهيا بآخر الأنبياء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. والعقل أيضا موجود، لأن الله أودعه فينا وجعله مناط المعرفة. فلا مجال إذن لإسقاط مصدر لصالح آخر، لأن من يفعل ذلك يضل الطريق بكل تأكيد.
فالفلاسفة الذين أقاموا صرحَهم المعرفي مُخرجين الوحيَ من دائرة المصدرية المعرفية بِما يملكه من دور ووظيفة لابد من الاعتراف بهما، لم يُوَّفقُوا في استكمال بناء هرمٍ معرفي متماسك وغير منقوص تُفَسَّر به كافة التعارضات والثغرات في بناء المعرفة الإنسانية. والوَحْيَوِيُّون الذين أقاموا صرحَهم المعرفي متجاوزين أسبقية العقل المعرفية والتشريعية على النص وهيمنته عليه، كان فشلهم وإخفاقهم في بناء الهرم المعرفي المتماسك وغير المنقوص أكثر وضوحا وجلاء، وربما أكثر خطرا أيضا، نظرا لما للعقل أساسا من دور أصيل وعظيم جدا في صنع واقع الإنسان ومستقبله على كل الصعد، وعلى رأسها الصعيد التشريعي.
قانون التطور بكل تداعياته، هو وحده القادر على تفسير ما يظهر من تعارض في الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية بين ما يحكم به العقل، وما يُشِّعُ به النص. وقانون التطور هذا هو الذي من شأنه أن يحل الإشكالية دونما حاجة من البعض إلى إسقاط النص، ودونما حاجة من البعض الآخر إلى إسقاط العقل. فالنص موجود وهو حقيقة موضوعية وله مهمة ووظيفة، والعقل موجود وهو حقيقة موضوعية وله مهمة ووظيفة مختلفتان، وقانون التطور موجود تُثْبِتُه كل الدلائل والمشاهدات، وهو صمام الأمان المعرفي الذي يُعْتَبر بمثابة الصاعق السحري الذي يذيب كل التعارضات والخلافات ويحولها إلى أمور مفهومة سلسة، بعد أن كانت عصيةً على الفهم صعبةً على الإدراك.
إن الأحكام بطبيعتها تنظم العلاقة بين طرفين أو أكثر يعتريهما أو يعتريهم التغيير، ويخضعان أو يخضعون للتطور والتبدل، ما يجب أن ينعكسَ بالضرورة على تلك الأحكام جاعلا إياها مضطرة إلى التبدل والتغير والتطور، شأنها في ذلك شأن أولئك الذين جاءت لتنظيم العلاقة بينهم. ولو امتنع في حق هذه الأحكام التبدل في الوقت الذي تتبدل فيه أطرافها بحكم قانون التطور، فهذا يعني حتما الوصول إلى مرحلة تخلق تناقضا بين الدفع التقدمي الذي يخضع له هؤلاء الأطراف باستمرار، وبين التقوقع والجمود والانكفاء الذي تصطبغ به تلك الأحكام وتصر عليه. وبالتالي فسيحدث التغيير بصورة رفضٍ وتَمردٍ كاملين عليها. ونستطيع أن نوضح العلاقة بين الأحكام وبين الأطراف التي جاءت تلك الأحكام لتنظيم العلاقة بينها بضرب المثال التالي.
فلنفترض أن لدينا حبلا مطاطا متوسطَ الحجم، أمسكنا كل طرف بيد، ثم قمنا بتثبيت إحدى اليدين على طاولة، وقمنا بتحريك الأخرى الممسكة بدورها بالطرف الآخر من الحبل المطاط. ما الذي سيحدث؟ يدُنا المتحركة ستستمر في الحركة المبتعدة عن اليد المثبتة مادام الحبل المطاط ما يزال يحوي نوعا من المرونة التي تساعده على الاستمرار في التمدد. كلما تحركت يدنا مسافة أكبر، كلما خَفَّت وتَقَلَّصت مرونة الحبل، وكلما احتاجت يدنا المتحركة بدورها إلى قوة تحريك ودفع أكبر كي تحافظَ على حركتها المتصاعدة ومنعها من التباطؤ المرتقب. وماذا بعد؟
إن لهذه العملية سقفَ احتمالٍ مُحَدَّدٍ أّوَّلٍ لن تتواصلَ بعدَه بسلاسة ومرونة، وسقفَ احتمالٍ مُحَدَّدٍ ثانٍ لن تتواصل بعدَه بالمرة. ففي لحظة معينة، إما أن ينقطع الحبل إذا أصبحت قوى التمدد فيه معدومة، وقوة أيدينا أكبر من قدرته على التماسك، وإما أن يُفْلِتَ أحد طرفي الحبل من أَيٍّ من يَدَيْنا المُثَبَّتَة أو المُتَحَرِّكَة، وإما أن تتحرك يدنا المثبتة باتجاه اليد المتحركة أساسا لتساعد على الاستمرار في الحركة الصاعدة، وإما أن تتجمد الحركة وتبقى على آخر مستوى مقدور عليه من الشد.
يُعتبر هذا المثال – في تصورنا – إسقاطا أمينا لعلاقة الأحكام الناظمة للمجتمع – حيث أطراف العلاقة يعتريهم التغيير – بذلك المجتمع، أي بتلك الأطراف. يدنا المتحركة تمثل الأطراف القابلة للتغير أثناء حالةِ التغيرِ التي عبَّرت عنها حركة اليد المتصاعدة، يدُنا المُثَبَّتَة تُمثل الأحكام الناظمة لتلك الأطراف عندما كانت ملاصقةً لها ومتوافقة ومنسجمة ومتجاوبة معها، وقبل اندفاعها الحركي بعيداً عنها، الحبل المطاط يمثل العلاقة بين الأحكام وبين الأطراف.
مادامت حركة الأطراف لم تصل بعد إلى مستوىً لم تعد تقوى معه على الاستمرار في الحركة بدون إحداث حركة تقدمية في الأحكام، فإن الأحكام لا تُصَوِّرُ حالةً من الشَّدِّ والتوتر المقلقة. يُعَبِّرُ عن ذلك كلِّه الحبل المطاط الذي ما يزال يَتَّسِم بالمرونة. أي أن العلاقة مازالت مرنة. إن الاستمرار التصاعدي في حركة الأطراف – وهو الاستمرار الذي لا يتوقف أبدا لأنه يُعَبِّرُ عن قانون حتمي في هذا الوجود – يستنزف قدرةَ الأحكام على تلبية مُتطلبات التجاوب المرن مع مستوى الحركة الحاصل، فتبدأ حالات الانشداد والتوتر، سواء في الأطراف المتحركة التي أصبح استمرارها في الحركة في ظل أحكام لا تريد التغير يتطلب جهدا كبيرا، أو في العلاقة بين الأطراف والأحكام وهي تقترب من حالة استنزاف القدرة على التمدد، أو في الأحكام ذاتها، وهي تمارس أقسى أنواع الشَّدِّ الرجعي لتحافظ على البُنى والأنساق المعرفية والمجتمعية قائمة كما هي.
ولكن نظرا لأن حركة التطور الصاعدة مستمرة حتما ودون انقطاع فلابد من وصول المجتمع إلى حالة من القلق يتحتم أن يحصل فيها تغيير باتجاه حل وتنفيس مستوى الاحتقان القائم. فإما أن تتحطم العلاقة بين الأطراف المتنامية الحركة وبين الأحكام المتراجعة الرافضة لأي حركة من أي نوع، وذلك بانقطاع الحبل المطاط وحدوث الطلاق الكامل بين الأطراف والأحكام، لتبحث هذه الأطراف لنفسها عن أحكام جديدة تنظم واقعَها، على قاعدة معاداة الأحكام القديمة. وإماَّ أن تُفْلِتَ العلاقة من عقال الأحكام الثابتة، وإما أن تفلت العلاقة من عقال الأطراف المتحركة. في هذه الحالات الثلاث إنَّما نحن أمام تغيير هو حتمي لكنه مدمر وجذري وراديكالي وثوري.
ولتَجَنُّبِ ذلك – وهو ما لم يحصل في الغالب، وما لا يحدث عادة، لأن معاداةَ قانون التطور الحتمي هو دَيْدَنُ أصحاب المصالح التي تكون قد تَرَتَّبَت على الصِّيَغِ الرجعية في نَمط العلاقات المقاومةِ للتطور – لابد من أن تبدأ الأحكام المتمترسة في مواقعها مُحَنَّطَة غير متفاعلة مع مستوى التغيير الحاصل في الأطراف، بالتحرك وبسرعةٍ أشدَّ من سرعة تلك الأطراف، كي تتمكن من اللحاق بها، أو في مستوى سرعتها على الأقل، كي تُخَفِّفَ من حدَّةِ الاحتقان الحاصل في العلاقة، وكي تتيح المجالَ لحركة الأطراف في الاستمرار بدون تهديدٍ بالانفجار. أي أن الحلَّ هو أن تتغير الأحكام وتتطور، وإلاَّ فإن التغييرَ حاصلٌ ولكن بصورة تراجيدية.
إن التعارض الذي قد يتخيَّلُه البعض بين الأحكام التي يُصدرها العقل على مختلف جوانب الواقع الاجتماعي، وبين المضامين والدلالات التي تُشِعُّ بها النصوص من أحكام وتشريعات مباشرة، هو تعارض مصطنع ومفتعل يستند إلى الخلط بين مدى العقل ومدى النص، وإلى عدم التفريق بين ما يثبت ويتضح بالعقل وبين ما يثبت ويتضح بالنص. إن مدى ومجال العقل هو المذهب في أُسُسِه الثابتة التي تعكس ثباتَ القيمِ ذاتها. ومدى النص هو إسقاط هذا المذهب الثابت على الواقع المتحرك والنسبي، والمحكوم بعلاقات وقوانين متجذرة وعميقة تهيمن على صيرورته التي تتولى مَهَمَّةَ نقلِه عبر التاريخ من النسبي إلى المذهبي. ليُصَاغَ هذا الواقع من ثَمَّ في ضوء النَّصِّ على أساسِ ما يدفعه نحو الاقتراب من الصيغة المذهبية، وعلى أساسِ ما يُسَهِّلُ للواقع المجتمعي عمليةَ الانتقال التدريجي من البُنْيَة غيرِ المذهبية التي يفرضها الواقع عبر القوانين التي تحكمه في مرحلة معينة من مراحل تطوره، إلى البُنْيَة المذهبية – أي العقلية – الهدف ذاتِها.
إن كل من يحاول إعطاءَ النَّصِّ مدىً ومجالاً أكبر وأوسع من مداه ومجاله هذين حين يكون نصاًّ يعالج واقعا خاضعا بطبيعته للتطور والتغير، يكون – في تصورنا – غير مدرك لحقيقته كمصدر تشريعي، ويكون مُحَمِّلاً إياه من ثَمَّ ما ليس من اختصاصه تَحميلا تعسفياً.
وإذا لم يتحدث النص عن حيثيات المذهب وأسسه النظرية بحكم عدم استعداد العقل البشري في مراحل معينة لتقبل المفاهيم التجريدية، بموجب مستواه الإدراكي، وبحكم عدم اختصاص النص أصلا بالخوض في البحوث المذهبية ذات الطابع النظري التجريدي، فليس هذا مِماَّ يعيب النص أو مِماَّ يعيب الوحي عموما، مادامت تلك الأسس المذهبية تثبت بالعقل الذي نعتبر مُحالين إليه بصورة تلقائية لاستصدار مجموعة المعارف التي يقدر هو على استصدارها في غير حاجة إلى سواه، كالنص مثلا.
خلاصة القول إذن أن المذاهب الاجتماعية الإسلامية واحدة وثابتة لا تتغير، فإذا كان هدف هذه المذاهب هو تحقيق العدالة الاجتماعية في أرقى صُوَرِها بين البشر، فليس لهذه العدالة من حيث هي عدالة في ذلك المستوى من الرقي سوى صيغةٍ نظريةٍ وحيدةٍ. وبِما أن الإسلام وبالضرورة يهدف إلى ذلك المستوى من العدالة، وهو مستوىً يُقَرِّرُه العقل، فهذا يعني أن هذه الصورة تُمثل ما على الناس بدءاً من المسلمين – بطبيعة الحال – أن يحاولوا الوصول إليه عبر العلاقات الاجتماعية والأحكام الناظمة لها والتي سيتحاكمون إليها من زمن إلى آخر. ولقد كانت الأحكام الإسلامية المختلفة في مرحلة سابقة والتي عبَّرت عنها نصوص القرآن والسنة الصحيحة، أحكاما من هذا القبيل.
وكنتيجة لكل ما سبق نخلص إلى رفض المقولة السائدة في أوساط إسلاميي هذه العصور والمستندة إلى اجتهادات إسلامية قديمة، والتي تفيد بـ "ألاَّ اجتهاد مع النص"، وأن الاجتهاد يأتي فقط فيما لم يرد فيه نص. نرفضها لنؤكد على حقيقةٍ أخرى تحمل المعنى المقابل تماما لهذه المقولة. فالنص ليس حَكَماً نهائيا، على العقل أن يعمل ويتحرك داخل إطاره، وإلاَّ فلا حاجة بنا إلى هذا العقل. بل إن العقل هو الأساس وما على النص إلاَّ أن يُفْهَم في إطار مقررات العقل. وبناء عليه فـ "لا نص مع العقل" إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية.
وإذن فماذا تعني نصوص الأحكام الاجتماعية الإسلامية التي وردت كحلٍّ مرحلي في نصوص القرآن والسنة الصحيحة؟ إننا بتفحصنا لنصوص القرآن والسنة الصحيحة التي عالجت الجوانب الاجتماعية المختلفة من حياة البشر، نستطيع حصرها وإيجازها فيما يلي..
1 – المعاملات الاقتصادية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص تقابلها في وقتنا الحاضر، القوانين المدنية والتجارية وما شابَهَها. وبالتالي فتلك النصوص ومهما كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي بِمثابة قانونٍ مدني أو قانون تجاري ليس إلاَّ.
2 – المعاملات الأُسَرِيَّة.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص، تقابلها في وقتنا الحاضر قوانين الأُسْرَة أو قوانين الأحوال الشخصية وما شابَهَها. وبالتالي فتلك النصوص وأياًّ كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي عبارة عن قانون أحوال شخصية ليس إلاَّ.
3 – المعاملات السياسية الداخلية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص يقابلها في وقتنا الحاضر القانون الإداري والقانون الدستوري والقانون المالي وما شابَهَها. وبالتالي فتلك النصوص حيثما كان موقعها الفقهي القديم، هي بمثابة قانون دستوري أو قانون إداري أو قانون مالي ليس إلاَّ.
4 – المعاملات السياسية الخارجية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص يقابلها في وقتنا الحاضر كل من القانونين الدوليين الخاص والعام، وربما القانون الاقتصادي الدولي أو القانون الجنائي الدولي أو حتى القانون البحري والنهري.. إلخ. وبالتالي فإن تلك النصوص وأياًّ كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي مجرد قوانين دولية مختلفة ليس إلاَّ.
5 – المعاملات الحدودية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص تقابل في وقتنا الحاضر القانون الجنائي أو قانون العقوبات وما شابَهها، وبالتالي فإن تلك النصوص وأياًّ كانت تصنيفاتها الفقهية القديمة هي عبارة عن قوانين جنائية ليس إلاَّ.
6 – المعاملات القضائية.. وقد عالجتها مجموعة من النصوص تقابل في وقتنا الحاضر كلاًّ من قانون الإجراءات المدنية والإجراءات الجزائية وربما المرافعات وما شابَهَها. وبالتالي فإن تلك النصوص ومهما كانت مواقعها الفقهية القديمة، هي عبارة عن قوانين إجراءات ليس إلاَّ.
7 – المعاملات غير المُصَنَّفَة.. وقد عالجت مواضيع كاللباس والزينة والأشربة والأطعمة والآداب وماشابهها، ولم تنظمها مجموعات قانونية متكاملة في وقتنا الحاضر، لأنها تُصَنَّف خارج حدود المجال الحقوقي الذي يُرَتِّب قوانين تحفظ الحقوق الخاصة والعامة بناء على تصور معين عن العدالة. ولها وضعها الخاص في التعامل معها تطوريا بحكم افتقار العقل بخصوصها إلى أحكامٍ يقينية ثابتة لها علاقة بالمذهبية العدلية.
8 – و أخيرا.. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن هناك مجموعة من النصوص التي عالجت ونظمت الرِّقَّ، والتي لا نرى ما يقابلها من قوانين في وقتنا الحاضر، بحكم عدم وجود نظام للرق في الواقع بالصورة المعروفة قديما والتي أدت إلى ظهور تلك النصوص الوحيوية الناظمة لها.
والعبرة من هذا التفصيل أن نوضح أن "أحكام الشريعة الإسلامية" الواردة في آلاف النصوص "سنة وقرآنا"، ليست سوى أحكام وقواعد قانونية مُحددة، وهي بالتالي وككل القواعد القانونية المعمول بها في العالم لها مَصادرُها وليست هي مصدرا في حدِّ ذاتِها. ومصدر القواعد القانونية المسماة "أحكام الشريعة الإسلامية"، هي العقل بحسب التفصيل والتوضيح الذي سبق وأن أوردناه لمداه ولطبيعة العلاقة بينه وبين الواقع الاجتماعي المتطور، والتجرية والوحي في علاقتهما التفاعلية فيما بينهما من جهة، وفيما بينهما وبين العقل من جهة أخرى. الأمر الذي يجب أن تنتفي معه في تصورنا كل أنواع الحساسية في التعامل مع "أحكام الشريعة الإسلامية"، بمنظار التطور والمرحلية والتأقيت، ما دام المرجع في ذلك هو العقل الذي خوَّله الله تلك الصلاحيات المعرفية المذهبية الممتدة عبر الزمان والمكان.
وبعد عرضنا لهذه المقدمة الأصولية الفلسفية الهامة، نود أن ننتقل إلى مستوى متقدم من مستويات التعامل مع "النقل"، نستهله بالتعامل مع نصوص "السنة" تحديدا - لأن للقرآن وضعه الخاص الذي سنأتي على ذكره لاحقا - لنثبت أن ما قلناه من أسبقية العقل عليها، لا يعني انعدام القيمة لكل العلوم والدراسات المتعلقة بأبحاث السنة من مثل "الجرح والتعديل" و"علم الرجال" و"مصطلح الحديث".. إلخ، ولا هو يعني أن كتب الحديث والبحث فيما فيها من صحيح أو ضعيف.. إلخ، غدا ترفا لا قيمة معرفية له، ولا هو يعني أن كتبا من مثل "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم" باتت بناء على مقولة أسبقية العقل على الوحي، بلا قيمة دينية ومعرفية على الإطلاق.
لأن من يقيمُ مشروعيتَه المعرفية على أساس نِدِّيَّتِه المطلقة للعقل، وعدم إبداء الاستعاد لخلق أواصر التوافق المعرفي معه، فهو في الواقع لا يمتلك أي مشروعية معرفية. ولا نظن أن هناك مسلما يفعل ذلك حتى مع القرآن ذاته، لأنه والعقل آيتان من آيات الله، وآيات الله لا تعارضُ نفسها. وكل ما علينا فعله هو أن نمتلك ناصية العلم القادر على رؤية التوافق بين إشعاعات هاتين الآيتين، في ظل ما يُخَيَّلُ إلينا أنه تعارض، أو ذلك القادر على غربلة الصحيح من السقيم مما نسب إلى هاتين الآيتين، فضلا عن ذلك العلم القادر على الغوص في أعماق هاتين الآيتين لمعرفة الدور المعرفي الذي منحه الله لكل واحدة منهما، لا أن نُجَرِّدَ سيوفَنا كي نسفك دم العقل بالنقل، أو العكس.
إن لكل تلك العلوم التي خشيت عليها يا أستاذنا الكبير "أبا عامر" من "جرح وتعديل" و"رجال" و"مصطلح"، دورها إلى جانب العقل والقرآن في استكمال دائرة الاعتمادية لتلك النصوص في مجال الأحكام والأخبار. وهو الأمر الذي نورده فيما تبقى من تحليل آملين أن تكون فيه الإجابة المباشرة على تفاصيل أسئلتكم يا أستاذنا الكبير.. وسنورد تحليلنا في ما توصلنا إليه من قواعد أطلقنا عليها "مقاييس التَّثَبُّت من صحة المأثورات"..
مقاييس التَّثَبُّت الجديدة من صحة المأثورات
من الضروري أن يكون هناك علم يُعْنَى بالتَّثَبُّت من صحة المرويات المنقولة "عن"، والمنسوبة "إلى" شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. ومن الضروري أن يكون هذا العلم قائما على مجموعةٍ من القواعد القادرة على حسم مسألة صحة النسبة مَحَلَّ التَّثَبُّت هذه. ومادامت المسألة ستؤول في المحصلة إلى إقرار مجموعة قواعد تُحَاكَمُ المرويات المنقولة على ضوئها، فلاشك إذن في أن الحاجة إلى مرجعية معرفية واضحة وقاطعة في دلالتها، لإعطاء هذه القواعد مشروعيتها في المحاكمة، هي حاجة ملحة وضرورية.
إن أي حديث عن منظومة القواعد التي ستمثل الركيزة المعيارية لمحاكمة المرويات المنسوبة إلى شخص الرسول، يتطلب أمرين اثنين، أولهما، القيام بتحليل مكونات جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي" للتعرف من خلال هذا التحليل على حقيقة التنوع في هذه المكونات، وهو التنوع الذي سيترتب عليه بالضرورة تنوع مقابل في آليات المحاكمة "أي في قواعد المحاكمة". أما الأمر الثاني الذي يتطلبه الحديث عن قواعد محاكمة النص المروي، فهو التَّعَرُّف – انطلاقا من المرجعية المعرفية المعتمدة لدينا – على الآليات المفترض اتباعها لمحاكمة كلِّ واحد من مكونات جسم النص، المحاكمة التَّثَبُّتِيَّة التي من شأنها أن تحسم قطعا مسألة صحة أو عدم صحة نسبة ذلك النص المروي إلى مصدره الذي هو الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
إن ما نحن بصدد التأكيد عليه هنا من ضرورة وجود علم محدد وقواعد محددة لغرض التَّثَبُّت من صحة المرويات، قد عرفه المسلمون باسم "علم الحديث ومصطلحه"، وبالتالي فلسنا نَدَّعِي أننا ندعو إلى إبداع علم غَفِلَ عنه السابقون. ولكننا مع ذلك ندعو إلى إحداث تطوير فعال في بعض جوانب هذا العلم، بعدما أيقنا أنه بحدوده المعروفة لم يعد قادرا – في تصورنا – على الإحاطة بكافة مقاييس التصحيح التي تعتبرُ الهدفَ الأساسي من وراء كل قواعده. في هذا التحليل سنحاول عرض مدخل نحسبه جديدا لمعالجة معضلة ما يفترض تطويره في هذا العلم.
من الضروري أن نوضح أولا أن المعالجة التي نقدمها في هذا التحليل، هي شيئ آخر مختلف عن المعالجة التي تُعْنَى بمناقشة حُجِّيَّة النصوص المروية عن الرسول الكريم من حيث المبدأ. فمعالجة قضيةِ صحةِ نسبةِ نصٍّ ماَّ إلى مصدره، تختلف عن معالجة قضية الفعالية التشريعية والدور الوظيفي لذلك النص في الواقع. أو بعبارة أخرى فإننا لن نتحدث عن حُجِّيَّة السنة من حيث هي قناة الوحي الثانية، بل عن صحة ما نُسِبَ إليها من مرويات. فمن حيث الحُجِّيَّة فهي قطعا حجة بحكم حُجِّيَّة الوحي ابتداء، وبحكم كونها إحدى قناتيه اللتين وَصَلَنا من خلالهما أساسا، وإن تكن تلك الحجِّيَّة محكومة بدورها بمجموعة من القواعد الصارمة في تأطيرها لوظيفِيَّة النص السُّنِّي ضمن حدودها.
إن هذا يعني أن أي موقف تَثَبُّتِّي نتخذه تجاه أي نص وارد عن الرسول لا يمكنه أن يتعرض للدحض أو للتفنيد بردٍّ ينطوي على إشارة إلى حُجِّيَّة السنة "أي حجية ما يصدر عن الرسول". فعندما نؤمن بحُجِّيَّة "السُّنَّة" ضمن سياقات معينة، فنحن سنؤمن بها لكل ما سيثبت أنه من "السنة"، في حين أن هذه الحُجِّيَّة لن تنطبق على ما نتوصل – وفق مقاييس التَّثَبُّت التي نعتمدها – إلى أنه غير صحيح النسبة إلى هذه "السنة". وهكذا فلا مكان استدلاليا في تحليلنا هذا لأي آية قرآنية تحدثت عن ضرورة اتباع النبي وطاعته والتأسي به والالتزام بأوامره، إذ ليس هذا مكان الاحتجاج بها.
من جهة أخرى لا تصح آلية أو قاعدة للتَّثَبُّت من المروي المنسوب إلى الرسول، إذا تم استنتاجها من نص مروي منسوب إلى الرسول ذاته. فهذا غير معقول ولا منطقي. فمادامت النصوص المنسوبة إلى النبي هي كلُّها جملةً وتفصيلاً مَحَلَّ تَثَبُتٍ للتأكد من صحة نسبتها إليه عبر مجموعة القواعد والآليات التي نحاول وضعها واستنتاجها وبلورتها في سياق علمي منطقي، فلا يمكن أن يُسْتَدَلَّ على هذه الأخيرة بنصوصٍ لا تثبت صحتُها أساسا إلاَّ بِها.
وهذه قاعدة بديهية في أصول الاستدلال. ومن يتعامل مع الرياضيات يدرك بوضوح بداهة هذه القاعدة. فنحن نعلم مثلا أن "موضوعة إقليدس" في الخطوط المتوازية، تنص على أنه لا يمكن من نقطة "م" تقع خارج مستقيم ماَّ أن نرسم إلاَّ مستقيما واحدا يوازي ذلك المستقيم. حاول بعضهم أن يستدل على صحة هذه القاعدة الموضوعة "البديهية"، باللجوء إلى قواعد الزوايا "المكملة والمتممة"، وهي مجموعة قواعد لا تصح أساسا إلاَّ بعد الاعتراف بصحة موضوعة إقليدس ذاتها. فهل يعقل أن يكون الاستدلال بها صحيحا لإثبات ما لا تثبت هي أساسا إلاَّ به؟!
وباختصار فإذا كانت القضية "س" هي الدليل على القضية "ص"، فلا يمكن بأي حال أن تكون القضية "ص" دليلا في الوقت ذاته على القضية "س"، نظرا لتحقق معنى الدور الممتنع عقلا. الأمر الذي تتأكد معه استحالة أن يصار إلى الاستدلال بنص مروي عن الرسول لإثبات صحة قاعدة من قواعد علم التَّثَبُّت من صحة المرويات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم.
إن كل نص رُوِيَ عن الرسول يتكون من جزءين رئيسين يمثلان معا جسم النص ككل. وهذان الجزءان هما "السند" و"المتن". أما السَّنَد فهو التوثيق التاريخي الزَّمني للنص ويتضمن سلسلة الناقلين الذين مَرَّ النص عبرهم إلى أن وصل إلى آخر من رواه. وأما المتن فهو النص في ذاته مُتَضَمِّناً الفكرةَ التي تم تناقلُها عبر الرواة مَصْبُوبَةً في قالب لغوي تعبيري معين. وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن، بل وما تم وضع أسس التَّثَبُّت القاسية من السند إلاَّ من أجل المتن، لأن إيصالَه إلى اللاحقين هو الهدف من العملية ككل. فسند بلا متن كلام فارغ لا معنى له، لأن الناقلين والرواة إنما يفترض فيهم أنهم ينقلون نصا مُتَضَمِّناً لفكرة ما. في حين أن متنا بلا سند هو كلام له معنىً واضح، وإن أمكن القول أنه غير صحيح النسبة إلى مصدره. فعدم صحة النسبة لا تُلغي المعنى عن المشكوك في صحته هذا.
والنص الصحيح كما يفرض ذلك منطق الأمور، هو النص الذي يصح سندا ومتنا في الوقت ذاته. فلا صحة إذن لنص صَحَّ سنده ولم يصح متنه، كما أنه لا صحة لنص صَحَّ متنه ولم يصح سنده. وإنه إذا كان النص الصحيح متنا غير الصحيح سندا لا تصح نسبته إلى الرسول بسبب عدم القدرة على التأكد من أن الرسول قد قاله أو نطق به فعلا، فإن صِحَّةَ النص الصحيح سندا وغير الصحيح متنا تسقط لاعتبار آخر مُختلف، هو استحالة أن يكون الرسول الكريم قد قاله أو نطق به من حيث المبدأ.
من الناحية النظرية المجردة، قد يصح نصٌّ – في نسبته إلى الرسول – صح متنا ولم يصح سندا، بينما لا يصح نص صح سندا ولم يصح متنا، وذلك لإمكان أن يحدث خلل في سلسلة الرواة وهم يتناقلون متنا ورد من مصدره، لكن يستحيل أن يكون الرواة مصيبين في تناقلهم متنا غير صحيح، لاستحالة أن يصدر عن رسول الله أساسا متن يعارض العقل والتجربة ولا ينسجم مع أي من أنساقهما المعتمدة، بل وقد يعارض القرآن أيضا. وإذن فلا وجود في صحة المرويات عن الرسول لصحة مطلقة بأي حال. بل إن الصحة نسبية، أو لنقل أنها واقعية عملية، أي تكفي عقلا لإيجاب العمل بالنص في ضوء استحالة الصحة المطلقة.
إن هذه الاستحالة تَنَبَّه إليها بعض الحاذقين في علم الحديث حينما أكدوا على أن الحديث المتواتر ليس هو النص الذي يُنْقَلُ عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب، عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب، إلى منتهاه، بل هو النص الذي يُنْقَلُ عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب "عادةً"، عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب "عادةً" إلى منتهاه. وكلمة "عادةً" هذه، هي للدلالة على اللاإطلاق وعلى النِّسْبِيَّة الموجبة للعمل. ولكن الخطأ المطلق مُمكن في هذه المرويات، وذلك عندما يتحقق الخطأ في المتن بالتحديد. وبناء على ما سبق نستطيع أن نُصَنِّفَ النصوص المروية عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، على النحو التالي..
1 – نص صحيح سندا، صحيح متنا، وهو نص صحيح صحة عملية، أي صحة موجبة للعمل به، وإن كان من الممكن ألاَّ يكون صحيحا في وروده عن الرسول نظريا، ولكن العمل به واجب نظرا لاكتمال عنصري الصحة العملية الموجبة للعمل، ولعدم إمكانية تَحَقُّق مستويات صحةٍ أعلى من ذلك في الواقع، وإن كانت مستويات الصحة العملية نفسها متفاوتة من نص لآخر، ولعل هذا ما جعل علماء الحديث يفرقون بين أحاديث الآحاد والأحاديث المتواترة. كما أن معظم علم الحديث ومصطلحه وتصنيفاته تدور حول هذه المسألة المتعلقة علاوة على مقومات الصحة بدرجات الصحة.
2 – نص صحيح متنا، غير صحيح سندا. وهو نص خاطئ خطأ عمليا، أي كاف لترك العمل به، وإن كان من الممكن أن يصح عن الرسول نظريا بسبب صحة متنه. ولكن العمل به غير ملزم ولا واجب نظرا لعدم اكتمال عنصري الصحة العملية الموجبة للعمل.
3 – نص غير صحيح متنا، صحيح سندا، وهو نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به، ولا يمكنه أن يكون صحيح النسبة إلى الرسول رغم صحة سنده، نظرا لاستحالة أن يرد عن الرسول متن خاطئ.
4 – نص غير صحيح متنا، وغير صحيح سندا. وهو من باب أولى نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به.
وهكذا يتضح لنا أن أي نص مروي عن الرسول يجب كي يصبح العمل به واجبا واقعيا وليس بصورة مطلقة، أن يصحَّ سندُه وأن يصحَّ متنُه في الوقت ذاته. ولا يُلْزِمُنا بأيِّ حالٍ من الأحوال نصٌّ اختل فيه السند أو المتن أو كلاهما. ولا يبقى علينا سوى أن نحدد شروط صحة السند، وشروط صحة المتن، كي تتضح لنا من ثم شروط صحة النص المروي. وهنا يجب أن نوضح أن علم الحديث بصيغته السائدة قد تولى إشباع مسألة صحة السند بصورة فائقة، بحيث أننا سوف نركز في تحليلنا هذا على شروط صحة المتن فقط، لأننا نرى أن هناك عناصر جديدة يُفْتَرَض أن تُأْخَذَ بعين الاعتبار في مسألة تصحيح المتون.
ونوضح أيضا، أننا عندما نقول أن المتن يسقط إذا عارض العقل أو التجربة أو القرآن أو أياًّ من الأنساق المعرفية المعتمدة لكل من العقل والتجربة، فإننا لا نزعم أن السابقين وهم يدرسون المتن لم يقولوا بذلك، بل إننا نزعم أن قضايا جديدة دخلت في معاني التعارض مع العقل ومع التجربة ومع أنساقهما المعرفية، وبالتالي مع القرآن ذاته، فرضتها التوسعات الهائلة التي حصلت في المساحات المعرفية الخاصة بالعقل وبالتجربة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى أخذ هذه التوسعات بعين الاعتبار، في سياق تحديد معاني التعارض النَّصِّي مع المرجعيات المعرفية المذكورة.
إن النصوصَ المنسوبة إلى الرسول الكريم كما وردتنا وكما هي ماثلة بين أيدينا تنقسم من حيث متونها، إلى نصوص خَبَرِيَّة وإلى نصوص حُكْمِيَّة، أي إلى "أخبار" وإلى "أحكام"، وإن لكل نوع من هذه النصوص مقاييس خاصة للتَّثَبُّت من صحة نسبته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. نحن إذن بصدد نوعين من المقاييس التَّثَبُّتِيَّة هما.. "مقاييس لصحة نسبة المتون الخبرية"، و"مقاييس لصحة نسبة المتون الحكمية".
أولا.. مقاييس صحة نسبة المتون الخبرية
ولصحة نسبة المتون الخبرية ثلاثة مقاييس هي..
1 – المقياس العقلي
وعلى ضوئه لا تصح نسبة متن خبري إلى رسول الله إذا كان هذا المتن ينقل صورة عن واقع موضوعي له في العقل صورة مخالفة لما ينطق به المتن، خاصة وأن العقل يمتلك في محتوياته المعرفية مجموعة مفردات تُؤَهِّلُه لتصور العديد من مُكَوِّنات الواقع الموضوعي بشِقَّيْه المشاهدِ والمُغَيَّبِ. ونورد فيما يلي الأمثلة التالية على ذلك..
أ – بما أن العقل لا يتصور أن لله أعضاء، فلا يصح نصٌّ عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى أن لله أعضاء، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة "أي في إطار أحد الأنساق اللغوية". وبالتالي فما يقال مثلا أنها أحاديث تكلمت عن كشف الساق يوم القيامة معتبرة أن الساق هي "ساق الله"، إنما هو كذب على الرسول، لتَضَمُّن متون مثل هذه الأحاديث تَجسيدا وتشبيها مُخالفا للعقل في حق الله، ولامتناع الفهم المجازي لمحتويات تلك المتون في إطار النسق اللغوي، ولعدم تَحَدُّثِ القرآن عن ذلك الموضوع بالشكل المنسوب إلى الرسول الكريم، كي يتسنى لنا فهمه بالتالي في إطار نسق "أسطوري" لم يصل إلى التجريد المطلوب في تصوره للذات الإلهية.
وبِمعنى أكثر دقة، فإن مثل هذه النصوص لو كانت قرآنية لأمكن فهمها في إطار نسق أسطوري غير تجريدي، ولكن وبِما أنها سُنِّيَّة، أي منسوبة إلى القناة الثانية من الوحي والتابعة لهيمنة القناة الأولى منه، فإن فهمَها لا يستقيم في إطار ذلك النسق، وإلاَّ لانتفت الحكمة في هذه الازدواجية في هذه القنوات كما مر معنا. وكأننا أمام هكذا نصوص بصدد قبولها عقلا في سياق النسق الأسطوري بصفتها وحيا – مادامت صَحَّت سندا – ليُصار بعد ذلك إلى إسقاطها بموجب القرآن لاعتبارات العلاقة بين دور القرآن ودور السنة في العملية المعرفية. وهي العلاقة التي تنزع عن السنة حقا معرفيا كهذا، وهو ما سيتضح لنا أكثر عندما نناقش المقياس القرآني على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول.
ب – بما أن العقل لا يتصور أن لله حيزا ومكانا لأنه هو المكان المطلق، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أن لله حيزا ومكانا، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة، أي في إطار النسق اللغوي. وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي يقال أن الرسول اختبر فيها إيمان وإسلام جارية بأن سألها "أين الله؟"، لأن هذه الرواية التي أشارت فيها الجارية – مُجيبةً عن مكان الله – إلى السماء، أي إلى الأعلى، تنطوي على مخالفة للمعقول مادامت قد حددت مكانا يوجد فيه الله ومكانا لا يوجد فيه. ولا يجوز أن يصدر عن رسول الله أمر كهذا فيه من التشبيه والتحجيم والتَّحْييزِ لله ما لا يتصوره العقل، خاصة وأن النص لا يحتمل تأويلا يُحَوِّله إلى المجاز بصورة يُفْهَم معها في إطار النسق اللغوي، وأن القرآن لم يتحدث عن ذلك الموضوع بشكل من الأشكال لاعتباره مفهوما ضمن "النسق الأسطوري". وما يقال عن هذه الرواية يقال وبالمنطق نفسه عن رواية أخرى تحدثت عن رؤية المؤمنين لله يوم القيامة. فمادامت هذه الرواية قد حَيَّزَت الله فإنها وللأسباب السابقة نفسِها رواية لا تصح.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن النص القرآني الذي يبدو متعارضا في ظاهره مع معطى العقل بخصوص الموضوع الذي يعالجه لا يتم فهمه في ضوء "النسق الأسطوري" إلاَّ بعد فهمه في ضوء "النسق اللغوي" أولا، فإن استعصى النص على هذا النسق يتم بعد ذلك دمجه في معطيات الأسطورة. أي أن ما يُمكن أن يُظَنَّ أنها آيات قرآنية تحدثت عن وجود الله في السماء أو عن النظر إليه يوم القيامة ليتسنى لنا القول بإمكانية فهم الأحاديث التي ناقشناها هنا في إطار الأسطورة أو في إطار "النسق الأسطوري"، هو ظن في غير مَحله، لأن آيات من مثل، "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"، أو من مثل، "ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات"، هي آيات رغم ما يبدو من تعارض معطاها المباشر مع معطى العقل، إلاَّ أنها لا تستعصي على اللغة، ويعتبر فهمها في إطار "النسق اللغوي" أمرا مُمكناً، وهو ما يجعل اللجوء إلى اعتبارها مُؤَدىًّ أسطوريا لجوءاً غير عقلاني، وبالتالي فكأن تلك النصوص القرآنية لم تتحدث عن مواضيع الرؤية والتَّمَوْضُع في مكان محدد من حيث المبدأ، وهو الأمر الذي يُخْرِج نصوص السنة التي عالجت هذه الموضوعات من دائرة الصحة أساسا. (يراجع لمعرفة الأنساق القرآنية الأسطورية واللغوية والتاريخية، كتابنا تجديد فهم الإسلام، الفصل الأول "العقل"، ففيه شروحات وتحليلات وافية بهذا الخصوص، والكتاب منشور على موقع "فرسان الثقافة").
ج – بما أن العقل لا يتصور أن تكون الأحداث المستقبلية المرتبطة في جانب من جوانب مُكَوِّناتِها على الأقل، بعنصر الإرادة البشرية المفتوحة على كمٍّ هائل من الاحتمالات التي لا يُرَجَّح بعضها على البعض الآخر في لحظة معينة، داخلة مسبقاً في دائرة علم الله، لأنها أمور غير قابلة لأن تُعْلَم قبل تحقق عنصر الإرادة الداخل في تكوينها إلى حَيِّزِ النية.. (يراجع لمعرفة العلم الإلهي وعلاقته بالإرادة الإنسانية، كتابنا تجديد فهم الإسلام، الفصل الثاني "الله"، ففيه شروحات وتحليلات وافية بهذا الخصوص، والكتاب منشور على موقع "فرسان الثقافة").
نقول.. بما أن العقل لا يتصور ذلك، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أحداث وتنبؤات مستقبلية تتضمن بشكل أو بآخر تدخلا لعنصر الإرادة في تكوينها – أي تلك الأحداث – وبالتالي فلا صحة مطلقا لأي نص مروي عن الرسول يتحدث عن المستقبل "المهدي، الدجال، نزول المسيح، ظهور الدابة، ظهور يأجوج ومأجوج، الملاحم، اقتتال الصحابة، الفتن، ما سيحدث لآل البيت،.. إلخ". خاصة وأن القرآن الكريم قد تحرر تماما من وقع الأسطورة في هذا الميدان من التنبؤات، وبالتالي فكأن في تحرره هذا إشارة واضحة إلى تحرر القناة الثانية منه حتما.
2 – المقياس التجريبي
وعلى ضوئه لا تصح نسبة متن خبري إلى رسول الله، إذا كان هذا المتن ينقل صورة عن واقع موضوعي، كشفت التجارب العلمية المستوفية لشروطها الصحيحة خلافه، ونورد فيما يلي المثال التالي على ذلك..
بما أن التجارب العلمية الصحيحة والمشاهدات الحسية اليقينية أثبتت أن الأرض تدور حول الشمس، وأن تَكَوُّن الليل والنهار وتعاقبَهما هو نتيجة لدوران الأرض حول نفسها وهي مواجهة للشمس وليس نتيجة لأي سبب آخر، كذهاب الشمس إلى أيِّ مكان. فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى خلاف ما تؤكده تلك التجارب العلمية، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَمَ على وجه المجاز فهما معقولا بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة. وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي أخرجها "البخاري" في صحيحه، والتي تشير إلى أنه أخبر فيها أبا ذر الغفاري بأن الشمس عندما تغرب تذهب عند عرش الرحمن لتسجد حتى يُؤْذَنَ لها بالشروق في اليوم التالي. وذلك بسبب انطواء هذه الرواية على مُخالفة بَيِّنَة للحقائق العلمية الثابتة بتجارب مستوفية الشروط الصحيحة، ولامتناع فهم الرواية فهما معقولا بصورة تحتملها اللغة، أي في سياق "النسق اللغوي"، مادام القرآن ذاته لم يشر إلى شيئ من ذلك لدمج تلك الرواية في إطار "النسق الأسطوري".
إن النص الذي رواه أبو ذر الغفاري لم يذكر أن أبا ذر سأل رسول الله فتلقى منه الإجابة، بل إنه يذكر أن الرسول تبرع من تلقاء نفسه بالمعلومة، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية في معاملة هذا النوع من الروايات وفق "النسق الأسطوري". إن التبرع بالمعلومة الأسطورية الطابع يثير معضلة معرفية. فإذا كان الوحي عموما عندما يلجأ إلى "النسق الأسطوري" في إظهار وإبراز معارفه، إنما يفعل ذلك لأنه ما كان إلاَّ ليفعل ذلك بحكم المستوى المعرفي للبشر الذين يخاطبهم، فإن هذا يعني قطعا أنه سيحاول قدر ما يستطيعه الحيلولة بين نفسه وبين أن يضطر إلى اللجوء إلى هذا النسق المعرفي اللاَّعقلاني. إن التَّبَرُّعَ بالمعلومة أسطورية النَّسَقِ يتعارض على الفور مع هذا المعنى في وجهة الوحي المعرفية، لأنه ينطوي على المبادرة بالنزعة الأسطورية وليس على العمل على التخلص منها.
لهذا السبب فإن النص الوحيوي عموما يُصار إلى فهمه باللجوء إلى "النسق الأسطوري" إذا كان نصا يعالج مسألة عميقة ومتجذرة في واقع الحياة، بحيث أن الحديث عنها حتى بدون استفسار مسبق من قبل المعنيين بالخطاب يُعَدُّ تحصيلَ حاصل. أما فيما عدا ذلك فيجب أن تكون النزعة الأسطورية في النص الوحيوي نزعة تظهر على شكل إجابة على تساؤل ما كان ليحتمل إجابة من نوع غير أسطوري، علما بأن الاجابة غير الأسطورية النزعة إذا كانت ممكنة فإن اللجوء إليها للتحرر من النسق الأسطوري يعد أمرا مقطوعا به في ضوء خطة الوحي المعرفية. وإذا كان الله وحده من خلال وحيه هو الذي يطلعنا ويكشف لنا عن مدى حاجة المسألة المعروضة إلى النسق الأسطوري أو عن عدم حاجتها إليه، فهو ذاته سبحانه الذي أفهمنا من خلال معطيات العقل ومن خلال منطق القرآن ذاته أنه لا يتبرع بالأسطورة إلاَّ إذا كانت أعمق وأخطر من أن لا يتبرع بها.
فعندما سئل الله عن طريق نبيه عن الأهلة، أجاب بقوله.. "ويسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج". وعندما سئل عن الروح قال.. "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وعندما سئل عن المحيض قال.. "ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض". وإذن فالله سبحانه وتعالى عندما قَدَّر أنه لا داعي إلى اللجوء إلى "النسق الأسطوري" لانسجام ذلك مع مستوى الوعي المتوقع تعامله مع طبيعة الموضوع المطروح على بساط التساؤل، فقد تجنب ذلك واكتفى بالإجابات المقتضبة التي ربما لم تكن كافية للرد على حجم الأسئلة المطروحة. ولقد كان تقديره سبحانه صحيحا للغاية، حيث اكتفى السائلون بهذه الإجابات وانتهى الأمر عند هذا الحد.
مع ملاحظة أن تقدير الله لعدم حاجته إلى الإجابة أسطورية النزعة لم يدفعه في المقابل إلى الإجابة "موضوعية النسق"، فهو لم يشرح الأَهِلَّة شرحا علميا بل اكتفى بشرح ظلالها في حياة هؤلاء القوم. كما أنه لم يشرح الروح شرحا فلسفيا لاستحالة أن يُفْهَمَ في ذلك. ولم يتعرض بالشرح والتحليل لوجه الأذى في المحيض من الناحية العلمية، لأنه كان سيضطر لأن يكون طبيبا من أطباء القرن العشرين المتخصصين في الأمراض النسائية. إنها عظمة الله وهو يوفق بين النزعة المعرفية المشدودة إلى ماضٍ ينزع إلى الأسطورة بمستويات مختلفة، وبين نزعة مقابلة مشدودة إلى مستقبل سيتحرر مع مرور الوقت من ربقة قيد الماضي والحاضر وهما يتكيفان مع منطق التطور في الوعي وفي المعرفة.
3 – المقياس القرآني
وعلى ضوئه لا تصح نسبة متن خبري إلى الرسول، إذا كان هذا المتن ينقل إلينا واحدا من الأمور التالية..
أ – تفصيلُ واقعٍ موضوعي لم يتعرض له القرآن إلاَّ بالعموم والإجمال. كأن يتحدث الله عن ذي القرنين بما نعرفه جميعا في سورة الكهف، ليورد لنا المتن المنسوب إلى الرسول الكريم تفاصيل أخرى بشأن ذي القرنين. والسبب في عدم جواز قبول نسبة هذه التفاصيل المنسوبة إلى الرسول، يرجع إلى أن الله وفي الكثير من القضايا الخبرية فَصَّل بدقة في كتابه، وبالتالي فإنه عندما لم يفصل ولجأ إلى الذكر العام والعابر والمجمل، أو عندما اكتفى بقدرٍ معين من التفصيل لم يتعداه، إنما فعل ذلك لأنه لا يريد إخبارنا بأكثر مما أخبرنا به عاما أو مجملا أو مفصلا بذلك القدر فقط، بسبب تقديره سبحانه أن حاجتنا محصورة بخصوص هذا الخبر المجمل في إطار ما أورده إلينا من إجمال وعموم.
ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لما كانت هناك من حكمة ولا كانت هناك من دلالة مفهومة في ورود تفاصيل معينة لقضايا خبرية معينة في القرآن، وفي عدم ورود مثل تلك التفاصيل فيه لقضايا وأخبار أخرى. ولأننا نوقن بعمق الحكمة في المنهج الرباني عموما، فإننا نتصور أنه لا يصح خبر عن رسول الله يفصلُ خبراً قرآنيا بمعنى الزيادة عليه من حيث المعلومات، أما فيما يتعلق بشرح الخبر القرآني بما لا ينطوي على معلومات جديدة فهو أمر ممكن ولا معضلة معرفية في قبوله.
وبناء على ما سبق فإننا نرى أن كافة الروايات المنسوبة إلى الرسول بخصوص التاريخ الماضي وبخصوص عالم الغيب غير التنبئي، هي روايات غير صحيحة المتون إذا انطوت متونها تلك على إضافات معلوماتية وأَحْداثية على ما في النصوص القرآنية التي تعرضت لها بالإجمال والعموم، فيما تُقْبَلُ المتون الشارحة مجرد شرح لما بدا غامضا من تلك الأخبار القرآنية. أما بخصوص ضوابط الفصل بين المتن الشارح والمتن المضيف للمعلومات فهي واضحة ولا لبس فيها، إذ يجب أن يقتصر الشرح على توضيح ما هو موجود من معلومات دون إضافة أي معلومة جديدة. ومن الأمثلة على ذلك، موضوع "الجن" وقصة "آدم والشيطان" و"عذاب ونعيم الآخرة" و"أحداث يوم القيامة والبعث والنشور" و"قصص الأنبياء والرسل والأمم الغابرة". فمثل هذه القضايا يُقْتَصَرُ في معرفتها الوحيوية على النص القرآني إضافة إلى النص الرسولي الشارح الذي لا ينطوي على معلومة جديدة.
إن هذه القضايا الخبرية ومثيلاتها، بعضها فُصِّل في القرآن وبعضها أُجْمِلَ. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الله فصل ما اقتضت حاجتنا أن يفصله، وأجمل ما اقتضت حاجتنا أن يجملَه وحسب. وبالتالي فلا معنى لقيام الرسول بتفصيل ما أجمله الله، لأن الله إذا كان يفصل ما يرى تفصيله ضروريا دون إحالة مسألة التفصيل إلى الرسول، فلاشك إذن في أن امتناعه عن التفصيل عندما أجمل، لن يكون بسبب رغبة منه في إحالة التفصيل إلى الرسول، بل بسبب عدم حاجتنا إلى التفصيل أصلا، لا منه سبحانه ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام.
ب – الأمر الثاني الذي يُسْقِط المتن المنسوب إلى الرسول إذا كان ينقله ذلك المتن، هو الحديث عن واقع موضوعي لم يتعرض له القرآن إطلاقا لا من قريب ولا من بعيد، خاصة إذا تضمن في الوقت ذاته أخبارا أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى مِماَّ حرص الله على ذكره وتثبيته في كتابه. فمن حيث المبدأ فإن الله إذا كان ذكر خبرا في كتابه ولم يذكر آخر، فليس ذلك بسبب أنه يريد لهذا الآخر أن يكون مذكورا في القناة الوحيوية الثانية "أي في السنة"، بل لأنه لم يكن معنيا بذكر هذا الخبر من حيث هو خبر أساسا، لا في كتابه ولا في سنة نبيه. ومن جانب آخر – ومن باب أولى – فإن الله إذا كان ذكر الخبر الأقل أهمية فلا شك في أن الأشد أهمية يفترض أن يكون أولى بالذكر في كتابه – هذا إذا قبلنا فكرة تقاسم الأخبار بين القرآن والسنة مبدئيا – إذ لا معنى ولا حكمة على الإطلاق في ذكر الهَيِّن في القرآن وترك الشديد عميم البلوى لشخص الرسول الكريم لذكره وتوضيحه.
وعلى سبيل المثال في هذا الموضوع نتناول حادثتي الإسراء والمعراج، فقد ارتبطت في أذهان المسلمين حادثة الإسراء بحادثة المعراج ارتباطا عضويا، بحيث لا تنفصل إحداهما عن الأخرى بأي شكل، علما بأن القرآن الكريم لم يتحدث بوضوح وصراحة إلاَّ عن حادثة الإسراء في الآيات الأولى من سورة الإسراء، ولم يتحدث عن المعراج بنفس الوضوح والصراحة، هذا إذا لم نجزم بأنه لم يتحدث عنه إطلاقا. لا بل إن آيات سورة النجم التي تُفَسَّر عند البعض على أنها تتعلق بالمعراج غامضة وغير قاطعة في دلالاتها وتحتمل أكثر من وجه في المعنى خلافا للصراحة والوضوح عند الحديث عن مسألة الإسراء.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو.. إن حدث المعراج إن حصل لهو أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى من حدث الإسراء، فلماذا يذكر الله الإسراء بوضوح تام فيما لم يذكر المعراج بنفس مستوى الوضوح والقطع؟ لا بل لماذا يخبر عن الإسراء في سورة، فيما يخبر عما يُظَنُّ مجرد ظن أنه "معراج" في سورة أخرى؟ أي لماذا لم يتم الإخبار عن الحادثتين معا إذا كانتا حصلتا في الليلة نفسها؟ هذا إذا افترضنا أنه بالفعل أخبر عن المعراج من غير وضوح في سورة النجم!!
والأدهى والأمر أن المسلمين يربطون بناء على مَرْوِياَّتٍ صحيحة عندهم سندا، لورودها في صحيحي البخاري ومسلم، بين حادثة المعراج وبين فرضية الصلاة في القصة الغريبة وغير المنطقية والأشبه بمساومة بين الرسول محمد وربه بواسطة نبي آخر هو موسى الذي لعب دورا أشبه بأدوار السماسرة والوسطاء والعرابين. فإذا علمنا أن الصلاة في الفهم السائد هي أهم فرائض الإسلام، فهل يعقل أن ترتبط بحادثةٍ غير محسومة قرآنيا، في الوقت الذي يحسم فيه القرآن قضيةً أقل أهمية وأقل فائدة منها حسبما هو وارد إلينا، وهي حادثة الإسراء التي لم يترتب عليها حسب النص القرآني أيُّ حكم اجتماعي أو تَعَبُّدي ذي أهمية كالصلاة؟!
إن هذا التحليل الذي نقدمه لنموذج من نماذج تعارض الأخبار القرآنية مع الأخبار الواردة عن رسول الله بهذا المستوى من الوضوح، ليؤكد لنا على ضرورة البحث من جديد في مسألة المعراج وما يشبهها من المسائل للتأكد من صحتها قرآنيا بالدرجة الأولى. ونحن لسنا معنيين بأن نجزم هنا بعدم صحة حادثة المعراج، بل نحن نثير تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي، فقد تصح وقد لا تصح، ولكننا نصر على ألاَّ تصح إلاَّ قرآنيا وبوضوح تام بناء على المنهج الذي اتبعناه في تحديد أشكال علاقة التكامل بين القرآن والسنة.
ولعل من أغرب الأمثلة وأكثرها إثارة للدهشة مما يندرج تحت هذا البند من بنود المقياسية القرآنية على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول، مقولة "عذاب القبر". فعذاب القبر كما هو وارد في المتون الخبرية المروية عن الرسول – علاوة على أن فيه مغالطات واضحة بمقاييس العقل، فإن فيه تعارضات إخبارية مع المنهج القرآني في الإخبار.
إن عذاب القبر مسألة حساسة وهامة وخطيرة إن وُجِدَت، بحيث لا يجوز أن تترك بمجملها وبتفصيلها لنص غير قرآني يعالجها، مادام النص القرآني قد تعرض بالإخبار والتحليل لما هو أقل أهمية منها من أخبار وأحداث. فهل يعقل مثلا أن يخبرنا الله بإسهاب عن الموت والولادة وعن الطبيعة والكون وعن الجنة والنار وعن يأجوج ومأجوج وعن ناقة صالح وعن هدهد سليمان وعن كلب أهل الكهف، ويهمل بالكامل أيَّ حديث عن عذاب القبر الذي يتضمن مقولة العذاب القريب الأجل بكل الأهوال والرعب المرفقين بهذا النوع من العذاب في النصوص المنقولة عن الرسول؟!
بكل تأكيد فإن هذا مما لا يعقل. وبالتالي فلا نتصور أنه يصح متن عن الرسول الكريم بخصوص عذاب القبر. وعلى من يريد بَحثَ المسألة أن يبدأ من كتاب الله، فإن وجد فيه ما يفيد صراحة بموضوعية هذا العذاب، وبعد إحداث المطابقة بين ما قد يكون موجودا بهذا الخصوص في كتاب الله وبين العقل ومواقفه منه، فعندئذ نقبل من الرسول الكريم القيام بشرح الغامض وفق ما ثبتناه في البند السابق من المقياسية القرآنية على التثبت من صحة المتن الخبري المنسوب إلى الرسول. ولكن للأسف فإن مقولة عذاب القبر تفتقر إلى الشرطين معا، فلا هي مقبولة عقلا ولا هي موجودة أو منصوص عليها قرآنا من ثم حتى يكتسب الرسول حق شرحها من حيث المبدأ.
ج – أمر ثالث هام يتسبب – في تصورنا – في سقوط المتن المروي عن الرسول وفق المقياس القرآني في التثبت من صحة المتون الخبرية، وهو أن يكون المتن متعارضا مع النص القرآني أو مكرسا لمعانٍ ولمفاهيم غير تلك التي يكرسها ذلك النص. وكمثال واضح على ذلك نتناول مقولة "آل البيت"، التي يحدد لها القرآن الكريم معنىً واضحا في سورة الأحزاب، ليأتي النص المنسوب إلى الرسول الكريم محددا لها معنى آخر وضاربا بالمعنى القرآني عرض الحائط.
ولتوضيح الأمر نقول.. إن الآيات المعنية من سورة الأحزاب حددت آل البيت بنساء النبي، بعد أن وجهت إليهن مجموعة من الأوامر والتعليمات، موضحةً في ختام الخطاب الموجه إليهن سبب ذلك بإرادة الله في تطهيرهن، ذاكرة لهن وصف "أهل البيت". ومع ذلك تفاجئنا رواية "الكساء" المنسوبة إلى الرسول عن أم سلمة إحدى نساء النبي، بأنه يعتبر آل البيت هم فاطمة والحسن والحسين وعلي ين أبي طالب فقط، في قصة استيقاظه من النوم فزعا ثم ضمه لهؤلاء وتغطيته لهم بالكساء، مُعتبرا أن الآية القرآنية التي ذكرت أهل البيت إنما هي تقصدهم تحديدا. لا بل إن الرواية تُمعن في الاستخفاف بعقول المسلمين، عندما تذكر لنا أن أم سلمة طلبت من الرسول أن يجعلها من أهل البيت المزعومين هؤلاء، فيرفض مُحاولا استرضاءها بشيء آخر.
فسبحان من أعطى لنبيه حق نزع الصفات التي أعطاها هو لعباده. فالله يعطي لأم سلمة بصريح القرآن صفةَ أهل البيت، ويريدون منا أن نصدق أن محمد بن عبد الله يتحدى الله وينزعها منها قاصراً إياها على غيرها!! لا بل هو يتبرع بهذه النسبة الشريفة لسلمان الفارسي حينما يقول.. "سلمان منا آل البيت"، ويحرم منها أم سلمة التي لم تكن في حاجة إلى أن تطلبها منه عليه الصلاة والسلام أصلا بعد أن حصلت على هذا الشرف بمرسوم رباني صدحت به آيات سورة الأحزاب. لسنا ندري كيف يُرادُ لنا أن نصدق بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يتوقف عن الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه قبل أن يزوده الوحي بها، ليبادر بمخالفة صحيح القرآن في مسألة كهذه؟!
هنا إذن نجد تعارضا صارخا وحادا مع صريح القرآن. ونستغرب أشد الاستغراب عندما نلمس تكريسا لهذا التعارض، بحيث أن تاريخ المسلمين هو في الجانب السوداوي منه صراع على السلطة بين أهل البيت وأشياعهم من جهة، وبين أعداء أهل البيت ومعارضيهم من جهة أخرى. أي أن هذا التاريخ بُنِيَ على كذبة نُسِبَت إلى الرسول الكريم مُعاَرِضَةً أشد المعارضة لصريح القرآن.
ثانيا.. مقاييس صحة نسبة المتون الحكمية
إن المتون الحكمية هي التي تنطوي على تنظيم علاقةٍ ماَّ من أي نوع كانت، سواء قامت هذه العلاقة بين الإنسان ونفسه أو بينه وبين إنسان آخر أو أناس آخرين أو بينه وبين ربه أو بينه وبين أي وجود غير إنساني في هذا العالم. وإن هناك مقياسين فقط للتَّثَبُّت من صحة نسبة المتون الحكمية إلى النبي، هما المقياس العقلي والمقياس القرآني.
1 – المقياس العقلي للتَّثَبُّت من صحة نسبة المتون الحكمية إلى النبي
إن مقياسية العقل على صحة نسبة المتون الحكمية إلى الرسول الكريم، ليست شبيهة بمقياسيته على صحة نسبة المتون الخبرية إليه. فإذا كان يُكْتَفى من المتن الخبري كي يُصًار إلى القول بعدم صحة نسبته إلى الرسول، بأن يكون متضمنا لفكرة عن واقع موضوعي يُخْبِرنا العقل بخلافها ولا نجد لها مكانا في أنساقه اللغوية والأسطورية، فإن الأمر فيما يتعلق بالمتون الحكمية مختلف عن ذلك. وبمعنىً آخر فإن ورود متنٍ حُكْمي يتضمن صيغةً عن تنظيم علاقة ما تبدو للوهلة الأولى مخالفة أو معارضة لما يُشِعُّ به العقل من صيغ تنظيمية لتلك العلاقة، لا يعني بالضرورة عدم صحة نسبة ذلك المتن الحكمي إلى الرسول الكريم، بل هو سيُحاكم في إطار نسق عقلي آخر غير النسقين اللغوي والأسطوري، هو "النسق التاريخي". وقبل أن نبدأ في شرح هذا المفهوم، يجدر بنا أن نشير إلى أن الأحكام التي تضمنتها النصوص المنقولة إلينا سواء كانت نصوص سنة أو نصوص قرآن هي من حيث المبدأ على نوعين رئيسين هما..
أ – أحكام تنظم مرافق حياةٍ يمتلك العقل بخصوص تنظيمها تصورا متكاملا مرتكزا إلى العدل في صورته العقلية المذهبية. ويمكن حصرها في كل من الأحكام التي تنظم معاملات مجتمعية، كالاقتصادية والسياسية والأسرية والجنائية وما شابهها من الأحكام الاجتماعية.
ب – أحكام تنظم مرافق حياةٍ لا يمتلك العقل بخصوصها وبخصوص تنظيمها تصورا محددا قائما على تصوره النموذجي المذهبي للعدل. ومن ذلك ما يتعلق باللباس والزينة والأطعمة والأشربة والمحرمات والمحللات في الزواج وآداب التعامل بين الناس.. إلخ.
إن العقل ليس من شأنه أن يكون حَكَماً على الصنف الثاني من الأحكام، نظرا لأنها تندرج تحت بند الممكنات وليس تحت بند الضرورات العقلية، وبالتالي فإن أيَّ نصٍّ منسوب إلى الرسول إذا كان مندرجا في الموضوع الذي يعالجه في هذا الصنف من الأحكام، فإن المقياسية التي يجب أن يخضع لها تقع خارج حدود العقل، أي أنها إما مقياسية تجريبية وإما مقياسية قرآنية. وبما أن المقياسية التجريبية تأتي لاحقة للمقياسية القرآنية، فلم تبق إلاَّ المقياسية القرآنية كي نعالجها في هذا العرض.
ولكن ومادام العقل يستطيع في الجانب الاجتماعي الذي يملك بشأنه تصورا للعدالة أن يُكَوِّنَ صيغة تنظيمية معينة، فإننا في مواجهة النصوص التي تعالج موضوعات من هذا القبيل أمام حالتين، فإما أن تكون تلك المتون مطابقة في مضمونها لمعطى العقل، وإماَّ ألاَّ تكون كذلك. فإذا كانت مطابقة فليست هناك مشكلة معرفية على الإطلاق. أما إذا كانت مختلفة وغير مطابقة له فنحن هنا في الواقع أمام تعارض أساسي وخطير، فكيف يمكن فهمه بصورة يستقيم معها الأمر موضوعيا.
نقول.. إن هذه المتون إذا صحت أسانيدها، فهي صحيحة النسبة إلى الرسول ما لم تنهزم أمام المقياسية القرآنية لاحقا، أو ما لم يعارض بعضها البعض بصورة تعصى على الفهم في إطار قواعد أصول الفقه المعتمدة. أما التعارض الظاهر بين معطاها الحُكْمي وبين معطى العقل الحُكْمي فهو راجع في الواقع إلى قانون التطور. وهو القانون الذي إذا تم تطبيقه في هذا المجال فستذوب كل التعارضات المُشاهَدَة.
إن الوصول إلى مستوى تَمَثُّل الصيغ التي يقررها العقل للعدالة الاجتماعية، مرهون بالتطور الإنساني عبر التاريخ، والإنسان لا يستطيع أن يعي ويدرك، وإن هو أدرك فإنه لا يستطيع أن يحقق ويطبق تلك الصيغ العقلية إذا لم تتوافر ظروفها وشروطها الموضوعية، وهي شروط وظروف تتعلق بمستوى عالٍ من الوعي ومن المعرفة أولا، وبمستوى عالٍ من القيم السائدة بين البشر ثانيا، وبمستوى عالٍ من التطور التقني والعلمي ثالثا، وبمستوى أكثر علوا وسموا من التآلف والتمازج الإنساني رابعا.
وبالتالي فإن الإنسان بحاجة في كل مرحلة من مراحل حياته إلى صيغ تنظيمية مرحلية ومؤقتة تكفل له أن يندفع باتجاه النموذج العقلي المذهبي للعدالة، أي هو بحاجة في كل مرحلة إلى صيغٍ تكون الأكثر قدرة في تلك المرحلة على تحقيق العدالة النسبية من جهة، وعلى دفع الواقع باتجاه العدالة المذهبية من جهة أخرى. وبكل تأكيد فإن الصيغ التنظيمية التي قررها الأنبياء والمرسلون لأقوامهم وعلى رأسها تلك التي قررها محمد بن عبد الله، هي الأكثر تعبيرا عن ذلك إبان إقرارهم لها.
وهكذا تستقيم النظرة إلى موضوع المتون الحكمية الاجتماعية المنسوبة إلى الرسول الكريم، والمتضمنة لآليات تنظيمية تخالف الصيغة العقلية المتوافرة بخصوصها، تستقيم لتغدو ممثلة – أي تلك المتون – لأرقى النماذج التنظيمية المرحلية "المؤقتة" المتاحة والمتصورة، والتي تحقق أكثر نماذج التنظيم الاجتماعي قدرة على تمرير العدالة النسبية، والقادرة من ثم في حينها وأكثر من غيرها على الدفع باتجاه العدالة المذهبية التي يقررها العقل، وذلك عبر الانتقال بالإنسانية من مرحلةٍ إلى أخرى أكثر قربا من القدرة على تمثُّل وتطبيق الصيغ العقلية النموذجية تلك.
وهكذا فقبول صحة نسبة تلك المتون إلى الرسول رغم مخالفتها الظاهرة لمعطى العقل المذهبي هو قبول لا يتعارض مع العقل، بل هو قبول يتحقق وفق مقياس عقلي يرتكز إلى قانون التطور، مادام قبولاً قائما على قاعدة إمكانية عدم الحاجة التشريعية إليها، إذا تبين في الواقع ما يدعو إلى عدم الحاجة هذه، ومن الضروري أن نُذَكِّرَ هنا بأن هذه الفكرة – فكرة عدم الامتدادية التشريعية رغم صحة النسبة إلى المصدر – لا تنطبق فقط على المتون الحكمية المنسوبة إلى الرسول، بل هي تنطبق أيضا على الآيات القرآنية الشبيهة بتلك المتون في المحتوى والمضمون التنظيمي الاجتماعي. إنها بكلمة أخرى القراءة في إطار النسق التاريخي للنص الاجتماعي التشريعي المتعارض مع معطى العقل المذهبي عندما يمتلك العقل معطىً مذهبيا بخصوص الموضوع الذي يعالجه النص.
2 – المقياس القرآني للتثبت من صحة نسبة المتون الحكمية إلى النبي
إن كافة نصوص الأحكام المنسوبة إلى الرسول، سواء منها ما كان يقع على موضوعاتِ أحكامٍ للعقل بخصوصها رؤاه المذهبية، أو ما كان منها خارج دوائر رؤى العقل المذهبية، تخضع وهي تُعالجُ في ضوء مقياسية القرآن على صحتها إلى قاعدة أساسية هي قاعدة نطلق عليها "حدِّيَّة القرآن". إن الفكرة الأساسية في هذه القاعدة تقوم على أن الرسول الكريم لم يُخَوَّل من الله ولا بأي شكل من الأشكال بإضافة شيئ منادد للقرآن لا خبرا ولا حكما، بل إن قصارى ما خُوِّلَهُ هو أن يتحرك قولا أو فعلا أو تقريرا ضمن دائرةٍ رُسِمت له حدودها وأطرها بالنص القرآني، حيث تُمَثِّل نصوصُ القرآن الحكمية فيها – مادمنا قد تحدثنا عن الأخبار فيما مضى – الحدود التي لا يصح عن رسول الله متن تجاوزها وتحرك بمحتواه الحكمي خارجها.
إن التأكيد على اقتصار دور الرسول التشريعي على الحركة داخل الحدود المقررة قرآنيا، يستند إلى حقيقة ضرورة الاختلاف في الدور الوظيفي بين كل من القناة القرآنية والقناة السُّنِّيَّة من الوحي. فإذا كان هذا الاختلاف قد تجلى في مجال الأخبار فيما سبق أن أوردناه ونحن نتحدث عن مقاييس التثبت من صحة نسبة المتون الخبرية، فإنه لابد أن يتجلى في مجال الأحكام في ظاهرة الحَدِّيَّة التي هي بمثابة الإسقاط الموضوعي لطبيعة الاختلاف المُسْتَنْبَطَة في مجال الأخبار على مجال الأحكام. فقاعدة عدم الزيادة في المعلومات السُّنِّيَّة عن المعلومات القرآنية هي معنى آخر لِلْحَدِّيَّة، وإن كانت هذه الحدية قد أخذت في مجال الدور الوظيفي للأخبار شكلا أو أشكالا، يختلف أو تختلف عن ذلك الشكل أو عن تلك الأشكال المتوقعة في مجال الأحكام.
أ – ما يقع خارج دائرة رؤى العقل المذهبية
قلنا إن هناك نوعين من الأحكام، يمتلك العقل رؤية مذهبية كاملة بخصوص نوع واحد منها، ويفتقر إلى مثل هذه الرؤية بخصوص النوع الآخر، الواقع حكما خارج دائرة قدرة العقل على تكوين رؤية مذهبية بشأنه. جاء النص القرآني بخصوص هذا النوع موضحا حدوده الدنيا التي يفترض عدم النزول عنها أو الإنقاص منها، تاركا المجال للرسول كي يزيد ويضيف عليها، على قاعدة أن عدم الإنقاص منها يمثل حقا تاريخيا وإنسانيا مكتسبا أوصل إليه التطور، لا يتغير بتغير الأزمان والأماكن، وترك الله باب الزيادة عليها مفتوحا أمام كل البشر، بدءا بالرسول الذي أضاف إليها ما أوجبته بيئته وما احتاج إليه قومه وما تطلبته عاداتهم وتقاليدهم وظروفهم المعيشية بشكل عام.
إن بإمكاننا في أي مكان وفي أي زمان أن نبقى ملتزمين بما زاده الرسول وبما أضافه، إذا كانت تلك الزيادة والإضافة تخدم حاجاتنا ومتطلباتنا في الحياة. كما أن بإمكاننا أن نلغيها راجعين إلى الحد الأدنى المنصوص عليه قرآنيا، حتى لو كان هذا الحد الأدنى أقل من العرف الاجتماعي المتفق عليه والمتبع من قبل العرب عندما نزل عليهم الوحي وهم على أعرافهم وعاداتهم الزائدة عن الحد الأدنى ذاك، وإن لم يمسسها الرسول – أي تلك العادات والأعراف – بأي تغيير تناقصي أو تراجعي.
لا بل إن بإمكاننا أن نضيف إلى أحكام الحد الأدنى أحكاما أخرى غير تلك التي أضافها الرسول إذا كان الرسول قد أضاف. وكل ذلك رهن – بطبيعة الحال – بالحاجة الموضوعية التي تمليها الظروف، وبالمصلحة التي تمليها الوقائع ومستويات التطور. ونورد فيما يلي بعض الأمثلة على قاعدة حَدِّيَّة القرآن في هذا النوع من الأحكام.
المثال الأول.. "المحرمات في الزواج"
نصَّ القرآن الكريم في الآية الثالثة والعشرين من سورة النساء، على مجموعة من النساء يحرم الزواج منهن. وفق قاعدتنا الحَدِّيَّة السابقة، فإن هذا العدد من المحرمات هو عدد غير قابل للإنقاص منه، ويمثل الحد الأدنى من النساء اللاتي لا يجوز الزواج منهن. ويجوز مع الزمن أن تضاف إلى المحرمات المنصوص عليهن، مُحرمات أخريات بحسب ما تقتضيه الحاجة. الرسول من جهته عرف دوره التشريعي العامل ضمن دائرة عدم النزول عن الحد الأدنى أو الإنقاص منه، فأضاف إلى الأصناف المذكورة في الآية أصنافا أخرى عندما رأى ذلك ضروريا لمجتمعه العربي. وكلنا يعلم أن الرسول حرم في الزواج الجمع بين المرأة وخالتها، أو بين المرأة وعمتها.
وقد نحتاج نحن في يوم من الأيام إلى تحريم الزواج من بنات العم ومن بنات الخال أو من غيرهن ممن قد يثبت علميا أن الزواج منهن ضار ومؤذ من الناحية الطبية. كما قد نحتاج – مع أن هذا افتراض بعيد جدا – إلى التراجع عن إضافة الرسول، وعلينا في كل الحالات أن نلبي متطلبات حاجتنا التي تفرضها المصالح المعترف بها. إلاَّ أن أيَّ شيئ من هذا القبيل زيادة أو نقصانا رهنٌ بقرار اجتماعي واعٍ يرى ذلك ضروريا وفق مقاييس علمية ناضجة بالارتكاز إلى التجارب والخبرات الحياتية ومتطلبات المصلحة.
المثال الثاني.. الأطعمة المحرمة
نصَّ القرآن الكريم في الآية الثالثة من سورة المائدة على تحريم مجموعة من الأطعمة. إن هذه الأطعمة المحرمة تمثل الحد الأدنى من المحرمات والذي لا يجوز الإنقاص منه، أما الزيادة عليه فهي أمر مقبول إذا تطلبت الحاجات المجتمعية ذلك. وقد قام الرسول بدور المشرع المضيف عندما أضاف إلى تلك الأصناف المحرمة من الأطعمة ما رآه مناسبا وضروريا ومُمكنا. فهو قد منع المسلمين من أكل لحوم الحُمُر الأهلية، كما أنه حرَّم "كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع".
وبالتالي فإنه يجوز للمسلمين في كل زمان وفي كل مكان أن يضيفوا إلى قائمة الأطعمة المحرمة أي طعام يرون تحريمه وضمه إلى قائمة المحرمات ضروريا. كما أنه يجوز لهم أن يقتصروا على المحرمات بنص الآية وألاَّ يلتزموا بتحريم ما حرمه الرسول على قومه. وفي كل الأحوال فإنه لا يجوز الإنقاص من الحد المذكور في الآية الكريمة. كما أن القرار بالزيادة هو قرار اجتماعي يتم وفق الأسس الصحيحة والموضوعية لاعتماد القرار الاجتماعي، والمعيار في ذلك هو على الدوام، المصلحة العامة وفق ما تمليه التجارب العلمية وحقائق الخبرات الحياتية.
المثال الثالث.. لباس المرأة
وضح القرآن الكريم الحد الأدنى للباس المرأة الاجتماعي، ونقصد باللباس الاجتماعي، اللباس الذي تمارس المرأة دورها الاجتماعي بشتى أبعاده بالالتزام بارتدائه. ولقد كان القرآن واضحا في إيجاب تغطية الجيوب كحد أدنى من جسد المرأة. لكنه لم يشر إلى أكثر من ذلك. وكل من حمَّل بعض الآيات التي تحدثت عن لباس المرأة أكثر من ذلك، إنما هو متنطع محاول لفرض رغبته الخاصة على معاني تلك الآيات. وهنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى الوقوف وقفة خاصة وفاحصة نعالج فيها بعض أبعاد الموضوع لما فيه من حساسية خاصة عند المسلمين بالتحديد، نظرا لما تمثله المرأة في الذهنية الإسلامية السائدة من كائنٍ "عورة".
إن تغطية الجيوب لا تتطلب بالضرورة اللباس المتعارف على تسميته بالزي الشرعي أو بالحجاب. إن ارتباط آية لباس المرأة ومطالبتها فيها بتغطية جيوبها، بواقع أن المرأة العربية التي تَوَجَّهَ إليها هذا الخطاب، كانت ترتدي لباسا هو أقرب ما يكون إلى تغطية معظم الجسد، وَلَّدَ انطباعا تَكَرَّسَ مع مرور الزمن مفاده أن ذلك اللباس العرفي للمرأة العربية يمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز الإنقاص منه. وهذا مكمن الخطأ.
إن المرأة العربية وقت نزول الوحي كانت ترتدي لباسا يغطي معظم جسدها، وأنه من بين كامل جيوبها التي أمر النص القرآني بتغطيتها لم تكن المرأة العربية تُظْهِر سوى ما بين ثدييها. وبالتالي فما كان من المرأة العربية المسلمة التي وُجِّه إليها الخطاب بتغطية الجيوب، إلاَّ أن وعت الآية فاتجهت إلى تغطية ما كان مكشوفا من تلك الجيوب. ولما لم تكن جيوب أخرى من جيوبها مكشوفة بموجب لباسها العرفي الذي كان يغطي معظم جسدها، فإن الموضوع لم يثر أية معضلة، إذ قد ساعد لباسها العرفي الذي كان يغطي أكثر مِماَّ تَجب تغطيته بموجب نص القرآن، على عدم وجود قضية قابلة لأن تثار أساسا.
بل إننا لم نسمع أحدا يطالب المرأة المسلمة العربية بالتخفيف من لباسها والإقتصار على تغطية الجيوب فقط كما ينص على ذلك القرآن الكريم، لأن اللباس العرفي كان مقبولا عند المسلمين العرب على ما يبدو. فالذهن الإسلامي غير العربي "الدخيل لاحقا بفعل الفتوحات" الذي كان شغوفا بالزيادة والمبالغة والتنطع والاحتراز غير المبرر من الوقوع فيما يسميه "شبهات الحرام"، لم يجد أمامه في موضوع اللباس شيئا يشغله، فالعرف العربي قد تكفل بحل المشكلة لمئات من السنين قادمة.
بدأت المشكلة الحقيقية تظهر عندما فرضت التَّغَيُّرات الاجتماعية الحاصلة في المجتمعات العربية تراجعا عن لباس المرأة العربية كما كان عليه حاله إبان نزول الوحي. عندئذ أحس الذهن الإسلامي التقليدي المُطَعَّم بالروح غير العربية المتشددة بطبيعتها، بالخطر على لباس المرأة العرفي والتقليدي، فراح يؤصل للباس المرأة العربية ولما أضافه الرسول عليه باعتباره اللباس الشرعي المعتمد. علما بأن المرأة المسلمة الآن، حتى وهي تلبس لباسا يكشف عن ساقيها وساعديها وعنقها وكاملِ شعرها، لم تخرج عن إطار الحد الأدنى المنصوص عليه في الآية السابقة، "آية تغطية الجيوب".
الحد الأدنى في موضوع لباس المرأة هو إذن تغطية الجيوب، وإنه في الوقت الذي لا يجوز فيه الإنقاص من هذا الحد، فإن الزيادة عليه ممكنة إذا اقتضت المصلحة والظروف الاجتماعية ذلك. ولقد قام الرسول الكريم بهذا الدور حين زاد على الجيوب المنصوص عليها قرآنيا عدم جواز إظهار ما سوى الوجه والكفين، وهي إضافة رآها الرسول ضرورية على ما يبدو في ذلك الوقت، هذا بطبيعة الحال إذا صحت المرويات بهذا الشأن سنداً من حيث المبدأ.
وإذن فإنه يحق للمسلمين حيثما كانوا زمانا ومكانا أن يضيفوا ما يشاءون على الحد الأدنى المنصوص عليه في القرآن الكريم كلما تطلبت ظروفهم ومصالحهم ذلك، حتى لو أضافوا إضافات أكثر من تلك التي أضافها الرسول. بل هم باقون ضمن دائرة الالتزام بحدود القرآن حتى لو قرروا تخفيضَ ما أضافه الرسول أو إلغاءَه، ما لم يخرجوا عن حَدِّ تغطية الجيوب الذي نصت عليه الآية. "حول هذا الموضوع فصل شيق وأكثر شمولا في كتاب محمد شحرور "القرآن والكتاب قراءة معاصرة" فليراجع".
وإننا إذ نؤكد على أن التحليل والتحريم في هذا النوع من الأحكام هو مرادف لعبارة موافقة المصلحة أو عدم موافقتها، فإننا نطرح الأسئلة المشروعة التالية، مختتمين بها الحديث عن تطبيق قاعدة حَدِّيَّة القرآن على ما كان من الأحكام واقعا خارج دائرة رؤى العقل المذهبية.
إذا كان الله يريد أن يكون الجمع بين المرأة وعَمَّتِها مُحرما بنفس درجة تحريم الزواج من الأم أو من الأخت أو من غيرهما ممن ذكرن في آية سورة النساء، فلماذا لم يضفه إلى الآية الكريمة؟ وإذا كانت دلالة تحريم النبي للجمع بين المرأة وعمتها كدلالة تحريم القرآن للجمع بين الأختين، فأين هي الحكمة في جعل مسألتين متساويتين ومتطابقتين حكما ودلالة، معروضتين في نصين متباينين دورا ووظيفة من حيث المبدأ؟ وإذا كان الله قد ذكر في الآية تحريم الزواج من ثلاثة عشر صنفا من النساء، فهل كان سيعجزُه أو يُعييه أن يضيف صنفا أو صنفين إذا كان يريده أو يريدهما بنفس مستوى ما يريده من التحريم لما نص عليه في قرآنه؟!
وإذا كان الله يريد أن يكون أكل لحم الحمر الأهلية مُحرماً كأكل لحم الخنزير أو كأكل الميتة، فلماذا لم يذكره في آية سورة المائدة، مع أنه فصَّل كثيرا في ذكر الأصناف المحرمة، إلى درجة أنه وكي يبعد عنا شبهة اعتبار أن الميتة هي التي تموت في مرض فقط، وَضَّحَ كافة أنواع الموت الموجبة للتحريم عندما قال في الآية الثالثة من سورة المائدة.. "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام". علما بأن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، هي في نهاية المطاف أنواعٌ من الميتة!!
ولو كان الله يريد من غطاء الرأس أو من غطاء الوجه أو من تغطية الساعدين أو الساقين أو حتى الشعر أن تكون واجبة على المرأة وجوبَ تغطية الجيوب، فلماذا لم يوضح ذلك في كتابه وقصر كلامه فقط على ذكر الجيوب وأمر بضرب الخمر عليها دون غيرها من أجزاء الجسم؟ هل لأنه اكتفى بسكوته عن لباس المرأة العربية التقليدي الدارج دليلا على وجوب ذلك أو على وجوب جزء منه على أقل تقدير؟ ما أبعد هذا عن الحقيقة!!
أما كان الأجدر به إذن أن يسكت دون أن يذكر لنا تحريم الزواج من الأم ومن الابنة ومن الأخت ومن غيرهن، مادام العرب كانوا يحرمون ذلك؟! إن الله لم يكن يسكت عما يريده أن يكون حداًّ أدنى أو حكما من أحكامه، حتى لو كان العرب يفعلونه ويعيشون وفقه منذ مئات السنين، لأنهم هم وأعرافهم ليسوا مقياسا تشريعيا، وما كان يفترض في البشر الذين خاطبهم الإسلام أن ينطلقوا من هذه القاعدة الافتراضية التي تضع العرب وتضع أعرافهم في غير موضعها التشريعي الصحيح. وإذن فلماذا يُراد لنا أن نلغي عقولنا وأن نقلب كل المعادلات ونضرب بالمنطق عرض الحائط ونعتبر أن الله في هذه النقطة بالذات – وهي نقطة لباس المرأة – قد اكتفى بلباس المرأة العربية التقليدي دليلا على إرادته؟!
إن كل هذه التساؤلات وغيرها مما ينطبق على كل الأمثلة الشبيهة في القرآن، مما لم نورده هنا، لتؤكد على أن الرسول الكريم كان يعرف دوره التشريعي الاجتماعي جيدا، وكان يلتزم به لا يتعداه، وهو العمل وفق متطلبات الواقع داخل دائرة الحدود القرآنية. ولقد كانت كافة إضافاته داخلة ضمن هذا الفهم. ولم تكن بأيِّ شكل إضافاتٍ مناددةً للقرآن الكريم لا في الدلالة ولا في الفاعلية التشريعية ولا في الدور الوظيفي. وبناء على ما سبق نستطيع القول أنه لا يمكن أن يَرِد عن رسول الله متن يتضمن حُكْما يُنْقِصُ من الحدود القرآنية شيئا، وسيعتبر عندئذ منسوبا إلى الرسول تزويراً وبهتانا، إلاَّ إذا صحَّ سنده من جهة أولى واستطعنا أن نثبت من جهة ثانية أن الرسول حكم به قبل نزول القرآن موضحا الحد الواجب بخلافه، وذلك كي يكون حكم الرسول به قبل ورود القرآن بخلافه أمرا مفهوما.
ب – ما يقع داخل دائرة رؤى العقل المذهبية
فيما يتعلق بالأحكام الاجتماعية التي يمتلك العقل بخصوصها صيغاً تنظيمية مذهبية، فإننا إزاءها أمام مستويين من التعامل، هما..
الأول.. وهو ذلك المستوى الذي يضمها جميعها قرآنا وسنة ضمن دائرة إمكانية الاستبدال حال توفر دواعي الاستبدال وشروطه، وفق مقتضيات الصيغ العقلية المذهبية في إسقاطاتها الزمانية والمكانية المرحلية.
الثاني.. وهو ذلك المستوى الذي يُخْضِع نصوص السنة "النصوص الحكمية المنسوبة إلى الرسول"، إلى مقياسية القرآن خلال مرحلة الفعالية التشريعية لها ككل، قرآنا وسنة. ومعنى ذلك أنها عندما تكون فعالة تشريعيا، فإن ما ورد عن الرسول يُقاس بما ورد في القرآن، وفق نفس قاعدة حَدِّيَّة القرآن، ولكن بطرفي الحَدِّيَّة هذه المرة، وهما الحدان الأقصى والأدنى. إذ لا يعود الأمر هنا مقتصرا على عدم صحة نسبة المتن إلى الرسول بخروجه عن حد القرآن الأدنى، بل تصبح هذه النسبة ساقطة أيضا بخروج المتن عن حد القرآن الأقصى، وذلك بسبب أن النصوص القرآنية في القضايا الاجتماعية التي من هذا القبيل، أصدرت أحكامها الحَدِّيَّة في اتجاهين. فهي أحيانا أصدرتها بصفتها تمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز الإنقاص منه، وإن جازت الزيادة عليه. وهي أحيانا أخرى أصدرتها بصفتها تمثل الحدَّ الأقصى الذي لا تجوز الزيادة عليه، وإن جاز الإنقاص منه. وكل ذلك بطبيعة الحال وفق المتطلبات والحاجات ضمن مرحلة الفعالية التشريعية الممنوحة لكافة تلك الأحكام قرآنية كانت أو سُنِّيَّة.
أما الذي يُحَدِّدُ ما إذا كان حكمٌ قرآني ما يشكل حدا أقصى أو حدا أدنى في هذا النوع من الأحكام، إنما هو الصيغ العقلية ذات العلاقة. فإذا كانت تلك الصيغ تتجه في ابتعادها عن الحكم القرآني، وهي تسير نحو الوضع المذهبي النموذجي صعودا، فالحكم القرآني الذي تبتعد عنه يمثل في هذه الحالة حدا أدنى. أما إذا كانت تتجه في ابتعادها عنه هبوطا فالحد الذي يمثله ذلك الحكم يكون حدا أقصى. وفيما يلي بعض الأمثلة التوضيحية على ذلك.
المثال الأول.. مثل الحد الأقصى "العقوبات"
إن كافة ما ورد في القرآن من عقوبات يمثل حدا أقصى لا تجوز الزيادة عليه، ويجوز الإنقاص منه. وبالتالي فلا يصح عن الرسول متن حكمي يتضمن عقوبةً أشد من عقوبات القرآن على جريمة بعينها تَحَدَّد عقابُها بالنص القرآني، كـ "رجم الزاني المحصن حتى الموت" مثلا. كما أن أي جريمة لم يحدد لها القرآن عقابا، فإن عقابها الوارد عن الرسول إن ورد، يجب ألاَّ يتجاوز في حده الأقصى ما هو دون أدنى عقوبة قرآنية على الجرائم المحدد عقابها في القرآن الكريم.
أما لماذا نعتبر أن العقوبات تمثل حدا قرآنيا أقصى، فذلك لأن العقل يمتلك بخصوص مسألة الجريمة والعقاب رؤية تستند إلى قيمة العدل مؤداها أن العقوبات في سياقها المذهبي النموذجي تقع خارج المساس الجسدي. وبالتالي فإن الصيغة العقلية تبتعد عن الحد القرآني هبوطا، الأمر الذي جعل هذا الحد، حدا أقصى. (يراجع تفصيل ذلك في حديثنا عن نظام العقوبات، في كتابنا "تجديد فهم الإسلام" الفصل الأخير).
المثال الثاني.. مثال الحد الأدنى "الإرث"
إن آيات سورة النساء التي نظمت توزيع تركة الميت، تمثل حدا أدنى في المسألة من حيث عدد وأعيان الأشخاص الذين ستوزع عليهم التركة، لا يجوز الإنقاص منه فيما تجوز الزيادة عليه. والرسول قد فعل ذلك بإعطاء الجدة حق الاشتراك في التركة. والسبب في كون هذه الآية الحدِّيَّة تمثل حدا أدنى، هو أنها تنظم جانبا من جوانب الحياة يمتلك العقل بشأنه رؤية مذهبية نموذجية تؤكد على ضرورة تداول الثروة في المجتمع، وفق قواعد عدم الإكناز، وإنفاق الزيادة عن الحاجة، وضرورة توسيع دائرة الشراكة الاقتصادية بين الناس. وبالتالي فإن توسيع دائرة الورثة يعمل في الاتجاه الدافع نحو تَمَثُّل الصيغة العقلية، فيما لا يعمل العكس في هذا الاتجاه، الأمر الذي يجعل الصيغة العقلية تبتعد عن مُعْطى الآية صعودا، لتكون الآية والحال كذلك ممثلة لحَدٍّ أدنى في المسألة. (يراجع تفصيل ذلك في حديثنا عن النظام الاقتصادي في الإسلام، في كتابنا "تجديد فهم الإسلام"، الفصل المتعلق بالنظام الاقتصادي في القرىن بين الثابت والمتطور).
نستطيع من كل ما سبق أن نستخلص ما يلي..
أولا.. في الأخبار لا دور للرسول عليه الصلاة والسلام خارج دور الشارح للأخبار القرآنية بدون إضافة أي معلومات جديدة.
ثانيا.. في الأحكام التي يمتلك العقل بخصوصها رؤاه المذهبية، وهي اجتماعية بطبيعتها، تُعتبر كافة النصوص القرآنية والسُّنِّيَّة على حدٍّ سواء مرحلية الدور والفاعلية. وتعمل نصوص السنة في مثل هذه الحالة ضمن دائرة أضيق يحددها القرآن الكريم بنوعين من الحدود، أدنى وأقصى، فيما يكشف العقل ذاتُه عماَّ إذا كانت دنيا أو قصوى.
ثالثا.. في الأحكام الاجتماعية وغير الاجتماعية التي لا يمتلك العقل بخصوصها رؤاه المذهبية، تعمل نصوص السنة ذات العلاقة ضمن دائرة يحددها القرآن الكريم بعد أن يوضح الحدود الدنيا غير القابلة للتجاوز – هبوطا – من طرف السنة.
وأخيرا فإننا نود أن نلفت الانتباه إلى أن الدكتور محمد شحرور في كتابه القّيِّم "القرآن والكتاب قراءة معاصرة"، قد تحدث عن مقولة حَدِّيَّة القرآن، إلاَّ أنه توصل إلى نتائج نختلف معه في معظمها. فالحدود عنده ستة أنواع، كما أن العقوبات عنده ليست كلها ضمن الحد الأقصى، في حين نراها جميعها من هذا القبيل، فليراجع كتاب "شحرور" فإن فيه لفتات قيمة وشيقة.
وبعد..
فأرجو أن يكون قد اتضح ألا خوف على ما يصح من السنة باستخدام العقل. وأن المسألة برمتها لم تكن إسقاطا للعلوم التي وضعها المسلمون بهدف غربلة المأثورات وتنقيح التواريخ، ولا كانت إسقاطا للكتب الأمهات – كما أسميتموها – كصحيح البخاري وغيره، بل كانت إعادة إنتاج لهذه العلوم بشكل يُفَعِّلُها ويُطَوِّرُها ويجعلها قادرةً – من وجهة نظرنا – على مواكبة منجزات العقل والتجربة، لجعل محاكمتها للنصوص محاكمة أكثر موضوعية، وإعادة تقييم وقراءة لتلك – الأمهات – وفق المنهج الجديد، وهذا حق علمي مشروع، ومنهج بحثي محايد.
أما بخصوص النصين المذكورين، وهما الحديث 2312 من سنن الترمذي، والحديث 1169 من صحيح ابن ماجة للألباني..
فالأول المتعلق "بسجود الملائكة"، لا يصح لديَّ، لأن متنَه انطوى على معلومات وتفاصيل عن عالم الملائكة إضافية على ما أورده القرآن بخصوص ذلك العالم، وهذا ما لا يصح بموجب قاعدة "المقياس القرآني في صحة نسبة النصوص الخبرية" التي ذكرناها سابقا. وعندما لا يصح النص متنا فلا قيمة لسنده. ومثل هذا النص، كل النصوص التي يمكن أن تنطبق عليها هذه القاعدة.
وأما الثاني المتعلق بـ "الجذع"، فمع أنه لا يوجد ما يمنع عقلا من تسخير الله الجذع على النحو الوارد كمعجزة للرسول إن هو أراد، إلا أن هذا النص لا يثبت أمام "المقياس القرآني"، لأن الله تحدث عن معجزات كل الأنبياء، بل وحتى عن معجزة الرسول التي هي "القرآن" وتحدى بها المشركين، وذكر في أكثر من موضع وبشكل ضمنى أنه إنما آتاه "الكتاب"، وأن هذا الكتاب العربي "المبين" و"المفصل" هو آيته ومعجزته. ورد على المشركين الذين طالبوا بالآيات، معترضا على طلبهم لأسباب وردت في أماكنها من القرآن. وبالتالي فلا يصح أن يرد في السنة حديثا عن معجزة للرسول، والقرآن لم يتحدث عنها، بل هو يشير إلى أنه لم ينتهج نهج منح الرسول معجزاتٍ كالتي كان يمنحها للأنبياء السابقين.
خلاصة القول أستاذي الكبير، أنني أطبق القواعد التي شرحتها سابقا على كل النصوص، وما تحكم به تلك القواعد ألتزم به معرفيا. ومن أراد أن يعترض، فليعترض على القواعد نفسها، وعلى المنهج نفسه، فإن تمكن من دحض هذه القواعد وهذا المنهج، فأنا معه أبحث وأياه عن الحق والصواب حيثما كان. وإلا فالنتائج منسجمة مع المنهج وقواعده.
أما بخصوص القرآن، فإنه من حيث المبدأ يخضع كمرجعية نقلية تثبت بالرواية أيضا، لما تخضع له السنة وإن كانت كل المحاكمات التي يخضع لها مما ليس سنديا، هي محاكمات عقلية وتجريبية. ومن حيث المبدإ وإذا أردنا أن نكون موضوعيين ومحايدين، يجب ان نقبل تطبيق الحقيقة بمنتهى الحياد حتى على القرآن، وأن نبدي استعدادنا للقبول بنتائجها أيا كانت.
أنا من جهتي ناضلت حتى أرقى إلى هذا المستوى من الحياد والتجرد، إلى أن تمكنت من الوصول إليه – وإن يكن بصعوبة بالغة – فالمسألة كانت مرعبة بالنسبة لي، لكن لا مفر من ذلك لأجل الحقيقة. ولكني توصلت إلى أن القرآن قادر على تجاوز كل المحاكمات العقلية والتجريبية. ولأن الموضوع له ذيول كثيرة، فإنني مازلت أبحث فيه، ولم أستكمل منهجي فيه، وسوف أكون مستعدا لعرضه ومناقشته فور الانتهاء منه. فإلى ذلك الوقت أرجو أن أكون تمكنت من توضيح بعضٍ من رأيي ومنهجي بخصوص ما شغلك أستاذي الكبير "أبا عامر".
ولك مني كل تقدير واحترام
أسامة عكنان