الشاعر راسل إدسون بلدة صغيرة وراء القنطرة تُدعى الشباب..اختيار وترجمة جهاد هديب
الشاعر راسل إدسون
بلدة صغيرة وراء القنطرة تُدعى الشباب
يُعتبر راسل إدسون، الشاعر الذي ولد العام 1935 واحداً من أهمّ كتّاب قصيدة النثر الذين عنوا باللغة في أميركا الشمالية خلال القرن الماضي، هو الذي ما زال يحيا متوارياً في الولايات المتحدة.
يقول الشاعر الأميركي بيتر جونسون عن إدسون، الذي لا يخلو شعره من أثر له، عندما قدّم مختارات له في أوائل التسعينات نُشِرت. إن هذا الذي يصف نفسه ممازحاً بـ"السيد قصيدة النثر الضئيل" هو على نحو لا يقبل الجدل الكاتب التأسيسي لشعر النثر في أميركا والذي كتب حصراً بهذا الشكل قبل أن يصبح الشكلُ طرازاً شائعاً.
أما الشاعر البلجيكي ميشيل دلفيل فيرى أن تلك الطريقة التي ابتدعها راسل إدسون في كتابته قصيدة النثر قد تورط بها أيُّ شاعرٍ وقَعَ في قصيدة النثر كخَيار حقيقي بحيث فقدَ الرقابةَ على نفسه أحياناً وعلى نحوٍ ليس من سبيل إلى معالجته. فهو، في رأي بيتر جونسون أيضاً، مُقْلقٌ ويسبب الاضطراب للتافه والشاذ. حتى أن إدسون يبتهج على ما يبدو بامتلاك الحميم والأليف ويقاسي من الممسوخ الذي لا شبيه له والخارق للطبيعة.
كتابه "النفق" الذي هو مختارات من أعمالٍ كُتِبتْ على مدارِ أكثر من ثلاثين عاماً ذاع صيتُهُ كواحدٍ من أشهرِ أعماله لما يتوفّر عليه من بساطة كأنها الجنون أو الألم... بساطة تُعَدُّ استثنائيةً قياساً بما كُتِبَ على مدى قرن من قصيدة النثر الأميركية.
البرج
في تَرْحالاتِهِ بلغَ جسرا كلُّه من عظام. قبل العبور كتب رسالةً إلى أمه : أمي العزيزة، ماذا تحسبين؟ من غيرِ قصدٍ قبضَ القردُ بأسنانِه على يديه فيما هو يأكل موزاً. الآن فقط، أنا في أسفلِ جسرٍ من عظام. ينبغي أنْ نعبرَه قريباً. أجهلُ إنْ كنتُ سوف أجدُ تلالاً وودياناً من لحمٍ بشريٍ على الجانبِ الآخر، أو ببساطةٍ ليلاً متواصلاً؛ قُرىً من نومٍ. يوبِّخُني القردُ لأنني لا أعلِّمه أفضلَ. لقد تركْتُه يرتدي خوذَتي من بابِ السلوى. يبدو الجسرُ مثلَ واحدٍ من تلك الهياكلِ العظميةِ المُعاد بناؤها لديناصور ما هائلٍ ينظر في متحف. ينظرُ القردُ إلى أصلِ الشجرةِ المتبقي من رسغه ويعنِّفني ثانية. تقدمتُ إليه بقرنِ موزٍ آخرَ فأخذه غاضباً جداً على الرغم من أنه قد حقَّرني. غداً نعبرُ الجسرَ. سوف أكتبُ إليكِ من الجانبِ الآخرَ إنْ استطعتْ؛ تطلَّعي إلى الصليب ....
نوم
كان رجلٌ لا يعرفُ كيف ينام. كل ليلة، يميل برأسه عند النعاس على نحوٍ رتيب؛ نومٌ خِلْوٌ من الاحتراف.
إنّه مَنْ يحتاج إلى معلِّمِ نوم، إلى مَنْ في يده سوطٌ وكرسيٌ وبوسعه أنْ يهذِّبَ الليلَ ويجعله يقفزُ عبْرَ أطواقٍ من نار. أحدٌ ما بوسعه أنْ يجعل نَمِراً يجلسُ على قاعدةٍ صغيرةٍ أوفي حفرة.
موتُ ذبابة
مرةً، كان رجلٌ قد تقنَّعَ بهيئةِ ذبابةِ المنزلِ ثمَّ طافَ في الجوار مخلِّفاً "قذارتها"؟.
حسنا، كان عليه أنْ يفعل شيئا ما، أليس كذلك؟ قال أحدُهم لأحدٍ ما.
بالطبع، قال أحدُهم في الخلف لأحدٍ ما
إذاً ما هذه الجلَبة كلُّها؟ قال أحدُهم لأحدٍ ما أيضا.
مَنْ الذي يثيرُها؟ إنني أقولُ هذا فقط إنْ لم يكن قد ترجّل عن حائطِ تلك البناية، سوف تطلقُ الشرطةُ النارَ لا محالة.
أوه، بالطبع، ما من شيء يقاتل مثل ذبابة ميتة.
أحبُّ الذبابَ الميِّتَ. إنها طريقةٌ تذكرِّني بالأفرادِ الذين واجهوا مصيرَهم.
مصادفات
اقتلع الحلاقُ أذنا مصادفةً. إنها تضطجعُ على الأرض مثلَ شيءٍ ما وُلِدَ للتوّ في عشٍ من الشعر.
أوووووووب، قال الحلاق، لكنْ ينبغي أنها كانت أذنا طيبة، لقد سقطت بتذمر قليل جداً.
لم تكن كذلك، قال الزبون، كانت ملصقةً بشمعٍ أكثر مما ينبغي. جرّبتُ أنْ أضعَ فتيلةً فيها كي أحرقَ الشمعَ، ومن ثَمّ أجدُ طريقي إلى الموسيقى. إنما باشتعالها وضعْتُ رأسي كله في نار. حتى إنها امتدت إلى أصلِ فخذيَّ وتحت إبطيَّ وإلى الغابة القريبة. شعرتُ أنني أشبهُ قدّيسا. اعتقَدَ أحدهم أنني جنّي.
في ذلك عزاءٌ، قال الحلاق، ما أزال غيرَ قادرٍ على إرسالِكَ إلى البيت بأُذنٍ واحدة فقط. ينبغي أنْ أنزعَ الأخرى. إنما لا تقلق، سوف يكون ذلك مصادفةً .
يقتضي التناسقُ ذلك. إنما كُنْ أكيدا أنَّ هذا مصادفة، لا أريد لك أنْ تمزِّقني عن قصد.
ربما أقُدُّ حلْقَكَ.
إنما ينبغي أنْ يكون ذلك مصادفةً...
أنتْ
بعيدا عن لا شيءَ، يأتي وقتٌ يُدعى طفولة، الذي ببساطة يقودُ عبرَ قنطرة تُدعى المراهقة. بلدةٌ صغيرةٌ وراءَ القنطرةِ تُدعى الشباب.
وحيث أحدٌ ما يتجنّبُ حياةً خيْضَتْ أبعدَ من الورد، ثمةَ في أسفلِ الطريقِ أسفلُ الطريق كوخٌ صغيرٌ في بابِهِ رقعة خُطَّ عليها، أنتْ.
إنه المستقبلُ أيضاً، ينقضي في أوضاعٍ متعددةٍ لذراعٍ على عتبةِ نافذة، خدٌ عليها؛ تنثني على ركبتين، وجهٌ بين يدين؛ أحياناً يُلقى برأسٍ إلى الخلف؛ عينان تحدقان في السقف.. في لا شيء أسفلَ أيامِ القنطرة الطويلة....
إفطار جريح
ترتفعُ أعلى الأفق قدمٌ هائلةٌ، تصرخُ بحدّةٍ وتَصِرُّ بأسنانها أمام العربات الصغيرة، حتى أنّ رجلاً جلس إلى إفطاره في شرفته قد ابتلعه فجأة ظلٌّ عظيمٌ في حجم الليل تقريباً...
نظر إلى الأعلى فرأى قدماً هائلةً ترتفعُ فوقَ الأرضِ وتقرعُ بعنفٍ.
على طرف كعبِ من غير ثقبِ وقفتْ امرأةٌ عجوزٌ إلى جوار خوذةٍ خلفَ نباحٍ عظيمٍ يتقدم على نحوٍ لولبي؛ تنجَرُّ الثقوبُ الثخينةُ ببطءٍ كأنها حبلُ سفنٍ تنجرُّ على الأرض مثل شيءٍ هائلٍ يصرخُ بحدَّةٍ ويَصِّرُّ على أسنانه؛ الأطفال في كل مكانٍ ينظرونَ من حُفَرٍ في القدمِ المثقوبةِ، تجمَّعوا حولَ المرأةِ العجوز، حتى إنها أدارت دفةَ هذه القدمِ الهائلةِ فوق الأرض...
توّاً، انحدرت القدمُ الهائلةُ باتجاهِ الأفق، يصرخ حلزونٌ رهيبٌ بحدّةٍ في الأرضِ ويَصِّر على أسنانه...
عاد الرجلُ إلى إفطارهِ ثانيةً، لكنْ رآهُ وقد صار جريحاً، سمنُ بيْضِهِ يتفطَّرُ دما.
النهد
ذاتَ ليلةٍ جاءتْ نهدٌ إلى غرفةِ رجلٍ وبدأتْ تتحدث عن شقيقتها التوأم.
شقيقتها التوأم هذه وشقيقتها التوأم تلك.
أخيراً قال الرجل، ماذا عنكِ عزيزتي نهد؟
ولذلك قضَتْ النهد بقيةَ الليل تتحدث عن نفسها.كانت هي ذاتُها عندما تتحدث عن شقيقتها: هي نفسها هذه وهي نفسها تلك.
أخيراً قبَّلَ الرجل حَلْمتَها ثمّ قال، آسف، وسقط في النوم...
الدفع إلى القبطان
ركبْنا في قاربٍ، لم نفكرْ أبداً في غرَقِه، دفعنا إلى القبطان بقذفه من أعلى السطح. ولما عاد قلنا له، أيها القبطان لا تكن غاضباً. وصفح عنّا في هذه المرّة. ولذلك قذفنا به ثانية من أعلى كي نتأكد فقط من أننا قد دفعنا الثمن كاملا متأهبينَ لرحلتنا. لما عاد لم يكن متلهفا للصفح عنا وودّ أنّ من الأفضل كثيراً لو ننصرفَ من قاربه. ما من شيء نودِّعه بالنسبة لنا كي نفعل، إنما كي نعيد الدفع إليه فيما نأملُ أن هذه المرة سوف تكون كافية، لذلك قمنا بقذفه من الأعلى ثانيةً، ولما عاد قلنا، ينبغي أنها المرة الأخيرة، سوف ندفع لا أكثر، نريد للرحلة أن تبدأ.
إنما يبدو أنه لن تكون هناك رحلة منذ أن منَحْنا القبطانَ شيئاً حسناً بالتأكيد، ولذلك ينبغي أنْ نقضي بقية أيامنا نقذف القبطانَ من أعلى سطح القارب.
أميلو الممحوّة
محى أبٌ بممحاة كبيرةٍ ابنتَهُ. لما انتهى كانتْ لطخةٌ حمراءُ على الجدار فحسب.
قالت زوجتُه. أين أميلو؟.
إنها خطأٌ ومحوْتُهُ.
ماذا عن أشيائها الجميلة؟ سألت الزوجة.
سوف أمحوها أيضاً.
كلُّ ملابسها الحسنة؟.
سوف أمحو خزانتها؛ ومَنْ يساعدها على ارتدائها... إخرسي فيما يتعلقُ بأميلو! أحضري رأسكِ وسأمحو أميلو منه.
أزال الزوجُ بممحاته جبهة الزوجة، وبدأت تنسى، قالت، همممممم، أعجبُ من كلِّ ما حدثَ لأميلو؟
لم أسمع عنها من قبل، قال زوجها.
وأنتَ، قالتْ، مَنْ أنت؟ ألسْتَ أميلو، أأنتَ؟ لا أتذكَّرُ أنكَ شخصَ أميلو. أأنتَ أميلو التي تخصّني، مَنْ، لا أتذكَّرُ أيَّ شيء آخر؟
بالطبع لا، كانت أميلو فتاةً. أأبدو مثلَ فتاة؟
لا أعرف، لا أعرف أيَّ شيء كان يشبهُ أيَّ شيء آخر...
الشجرة
طعّموا أعضاءَ من قردٍ بكلب...
ومن ثَمَّ، ماذا أضمروا، يودُّ العيشَ في شجرة.
لا، أرادَ أنْ يرفعَ قدما ويبول على الشجرة...
إنما في بضعة لحظات كان الضخمُ من بينهم قد عاد إلى نومه، يحلم أنه قد جاء بإضافةٍ تخوِّلُهُ الأمرَ كلَّه في الكون الذي لا بدّ أنْ يشمل الأرضَ والمرأةَ التي ودَّ أنْ أحبَّ...
اختيار وترجمة جهاد هديب