وفي العهد العثماني، استقطب حي الميدان عدداً من أفراد السّلك العسكري المحلي (الإنكشارية اليرليّة)، لما اختص به الحي من الثراء الكبير من خلال تجارة الحبوب والمواشي والغلال الزراعية والمنتوجات الحيوانية. فظهرت طبقة كبيرة من الأعيان بالحي، جمع أفرادها بين الانتماء إلى السلك العسكري المذكور والتجارة الوفيرة الربح، وحول هذا الموضوع نشرت صديقتنا الباحثة الأميركية ليندا شيلشر Linda Schilcher دراسة وافية (حول أسر دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، تبعتها دراسة وافية للحياة المدنيّة والاقتصادية بحي الميدان، قامت بها صديقتنا الباحثة الفرنسية بريجيت مارينو Brigitte Marino.
على أن حي الميدان، مع الأسف الشديد، لم يحظ حتى اليوم بدراسة تاريخية وافية تلخّص مسيرته الحضارية عبر العصور، وتحصي أوابده المعماريّة الهامّة، وتتقصّى تاريخه الشعبي ودور أهم عائلاته في سيرة دمشق، على صعيد العلم والدين والتربية والجهاد والفنون والصناعة والاقتصاد. وهذا الأمر نتمنّى مخلصين على أبناء هذا الحيّ العريق من المثقفين المعتزّين بتاريخ حيّهم، بأن يبادروا إلى تأليف مثل هذه الدراسة، قبل أن تضيع بقيا الذكريات ممّن تبقوا من شيوخ الميدان الذين عاصروا بدايات القرن العشرين.
ولا يمكننا أن نعبّر عن هذه الرغبة العزيزة الغالية إلا ونذكر بالأسى الفقيد الصديق منذر حَوَري من أهالي الميدان، الذي كان حلمه على مدى عمره القصير أن ينشر كتاباً عن تاريخ حيّه الذي أحبّهن ولكنه مع الأسف لقي وجه ربّه دون أن يُقدّر له تحقيق رغبته هذه.

يُقسم حي الميدان في عُرف أهله إلى ثلاثة أقسام:
الميدان التحتاني مما يلي محلّ’ باب المصلّى، ثم الميدان الوسطاني، وبعده الميدان الفوقاني عند بوابة الله. ويشقّها طريق الحج المعروف باسم «الدرب السلطاني». وفيما يلي ذكر لبعض حرات وأحياء الميدان.
في أواخر العهد العثماني بالقرن التاسع عشر، قسّمت المدينة إدارياً إلى ثمانية أثمان، فكان ثُمنان منها يشملان حيّ الميدان: التحتاني والفوقاني. وهذا هو وصفهما من مصدر معاصر، بقلم عبد العزيز العظمة:
فأمّا «ثُمن الميدان التحتاني» فبدايته من السّويقة، ويشمل بداية الدرب السّلطاني، وخان المغاربة، وزقاق الأربعين، وزقاق الاورفه لي، وزقاق النقشبندي، والقبّة الحمراء، والتّيامنة، وباب المصلى، وزقاق القملة، وقاعة النشا (تسمى القاعة اليوم اختصاراً)، وزقاق الموصلي، والتنورية، والقرشي، والعسكري، والمحمص، وزقاق البصل، والقبيبات.
وفيه جامع النارنج وجامع صُهيب (تربة أراق)، وجامع الزاوية، وجامع القوّاص، والرفاعي، وجامع منجك، والكريمي (جامع الدقاق اليوم)، ومدرسة الخانكيّة، ومدرستان أميريّتان للبنين والبنات.
وفي حمّام الزين، وحمّام السّويقة، وحمّام سُنقُر، وحمّام النّاصري، وكنيسة للروم الأرثوذوكس باسم القديس حنانيا، وكنيستان للروم الكاثوليك، ومدرسة لكل من هاتين الطائفتين.
وفي الميدان التحتاني تُباع الحبوب بأنواعها، في حوانيت فسيحة تُسمّى بَوايك (جمع بايكة)، وفيه أهراء كبيرة لخزن الحبوب، وكثير من الخانات والأحواش لربط الدّواب والجمال ولإيواء الفلاحين، ثم مصانع متعدّدة لأعمال مختلفة ومعامل للنسيج والحياكة وقاعات للنّشاء.
أما ثُمن الميدان الفوقاني فيقع في منتهى المدينة من جهة القبلة، ويمتد من سوق الجزماتية إلى بوابة الله (باب مصر). ويضم من الأحياء والمحال: سوق الجزماتية، الحقلة، ساحة عصفور، ساحة بحصيص، والراقية، وزقاق الطالع، وزقاق البرج، وزقاق الماء، وزقاق أبي حبل، والمشارقة، والحارس، والجمّالة، والقلاينية، والنصار، وزقاق قيصر.
وفي الميدان الفوقاني: جامع الدقاق، وزاوية الشيخ سعد الدين الجباوي، ومسجد العسالي، ثم الحمّام الجديد، وحمّام الجديد، وحمّام الدّرب، وحمّام التّوتة، وحمّام منجك، وحمّام الرّفاعي. ثم معمل السكة الحديدة الحجازية (أي المحطة وورشاتها)، ومحطة سكة حديد بيروت وتمديداتها، وثكنة المتطوّعة، والثكنة العزيزية.
الميدان ومحمل الحج: كانت ضاحية الميدان تزدحم الجموع الغفيرة من أهالي دمشق أربع مرّات في السنة: مرّة عند خروج
محمل الحجّ من «بوابة الله» بأسفل الميدان الفوقاني إلى الحجاز، والثانية عند خروج موكب «الجردة» الذي يحمل المؤن لقافلة الحج إبّان رجوعها، الثالثة عند رجوع «الجردة» ومعها مكاتيب الحجّاج، والرابعة عند الخروج لاستقبال موكب الحج في شهر صفر.
على ذلك ازدادت أهميّة حيّ الميدان لهذه المواسم الأربعة المباركة فلي كل عام، وكانت ترافقها طبعاً الأسواق الموسمية الحافلة بشتى أصناف الأطعمة والألبسة ولوازم الحياة إجمالاً، كما كانت تقوم حركة اقتصادية كاملة على حركة قافلة الحج، مما أفرز مهناً دائمة على مدار المواسم، مثل: المقوّمين (متعهّدو المطايا)، الجمّالة (الدّوجيّة)، والبغّالون (القاطرجيّة)، ومُكرو الدّواب (العكّامة)، والحمّالون (العتّالة)، والأجراء، والأدلاء، والسُّقاة، والحرّاس، والمهاترة (الخيميّة).
أمّا السيّاح الأوروبيّون، فكانوا عند إطلالهم على دمشق من قاسيون يشبّهون المدينة البيضويّة مع ضاحية الميدان المستطيلة الملحقة بها بشكل المقلاة أو ذراع قيثارة الماندولين.
في أثناء
الاحتلال الفرنسي لسورية (1920-1946)، حارب أهل الميدان إلى جانب أشقائهم أهل الشاغور وبقيّة أحياء دمشق والمدن السوريّة قوى الاحتلال بضراوة، حتى أن الفرنسيين قصفوا الميدان مراراً، وأكثرها شراسة ما حدث في العشرينيات أثناء الثورة السورية الكبرى.
اشتهر من أهل الميدان عدد من الأسر العريقة منها: العابد، سكّر، البيطار، الحكيم، المهايني (أصلها من القلمون)، دعبول (أصلهم من الموصل)، حبنّكة، النّوري، حتاحت، الرّفاعي،

يتبع