7ـ شرحُ لامِ الابتداء

تدخلُ لامُ الابتداء في ثلاثة مواضع.

الاولُ: في باب المبتدأ. وذلك في صورتين:

أ ـ أن تدخلَ على المبتدأ، والمبتدأ مُتقدّمٌ على الخبر، ودخولها عليه هو الأصل فيها نحو: {لأنتم أشد رَهبةً في صُدورهم}. فإن تأخرَ عن الخبر امتنعَ دخولها عليه، فلا يُقال: (قائمٌ لَزيدٌ). وما سُمعَ من ذلك فلضَرورةِ الشعر، وهو شاذٌّ لا يُقاس عليه.

ب ـ أن تدخل على الخبر بشرط أن يتقدم على المبتدأ، نحو: (لمُجتهدٌ أنت) فان تأخرَ عنهُ امتنع دخولها عليه، فلا يقال: (أنت لمجتهدٌ). وما سُمعَ من ذلك فشادٌّ لا يُلتفتُ إليه. ومن العلماءِ من لا يُجيزُ دُخولها على خبر المبتدأ، سواءٌ أتقدَّمَ أم تأخر.


الموضع الثاني: في باب (إن) المكسورةِ الهمزة. وقد سبقَ أنها تدخل على اسمها المتأخر، وعلى خبرها، اسماً كان، او فعلاً مضارعاً، او ماضياً جامداً أو ماضياً متصرفاً مقروناً بِقَدْ، أو جملة اسميَّة. وعلى الظرف والجارّ المُتعلقينِ بخبرها المحذوف دالين عليه، وعلى معمول خبرها.


الموضعُ الثالثُ: في غير بابيِ المبتدأ وإنّ. وذلك في ثلاث مسائل:


أ ـ الفعلُ المضارع، نحو: (لَتَنهض الأمة مُقتفيةً آثارَ جدودها).


ب ـ الماضي الجامد، نحو: {لَبئسَ ما كانوا يعملون}.


ج ـ الماضي المتصرف المقرون بِقَدْ، نحو: {لَقد كان لكم في يوسفَ وإخوتِهِ آياتٌ}.


ومن العلماء من يجعلُ اللامَ الداخلةَ على الماضي، في هذا الباب، لامَ القسم فالقسم عنده محذوف، ومصحوب اللام جوابُه.
واعلم أنَّ للام الابتداء فائدتين.


الفائدة الأولى: توكيدُ مضمونِ الجملة المُثبتة. ولذا تُسمّى: (لام التوكيد) وإنما يُسمونها لامَ الابتداء لأنها في الأصل، تدخل على المبتدأ، أو لأنها تقع في ابتداء الكلام.


وإذْ كانت للتوكيد فإنها متى دخلت عليها (إنَّ) زحلقوها الى الخبر، نحو:

{إنَّ ربي لَسميع الدعاء}، وذلك كراهية اجتماع مُؤكدينِ في صدر الجملة، وهما: (إنَّ واللام). ولذلك تُسمّى (اللامَ المزحلقَةً أيضاً).
وإِذْ كانت هذه اللام للتوكيد في الإثبات، امتنعت من الدخول على المنفيِّ لفظاً أو معنى، فالأول نحو: (انكَ لا تكذبُ)، والثاني نحو: (إنك لو اجتهدتَ لأكرمتُكَ. وإنك لولا إهمالك لَفُزتَ). فالاجتهادُ والإكرامُ مُنتفيانِ بعدَ (لو)، والفوزُ وحدَهُ مُنتفٍ بعدَ (لولا).

الفائدةُ الثانيةُ: تَخليصها الخبرَ للحال، لذلك كان المضارع بعدها خالصاً للزمان الحاضر، بعد أن كان مُحتملاً للحال والاستقبال.


وإذ كانت لتوكيد الخبرِ في الحال امتنعت من الماضي والمضارع المُستقبل، إلا أن يكون الماضي جامداً أو مُتصرِّفاً مقترناً بِقدْ. إما الجامدُ فلأنه لا يَدلُّ على حدثٍ ولا زمان. وأما المقترنُ بِقدْ فلأنّ (قد) تُقرِّبُ الماضيَ من الحال.


ولا فرقَ بينَ أن يكون المضارعُ المستقبلُ مسبوقاً بأداةٍ تَمحَضُه الاستقبالِ كالسين وسوفَ وأدواتِ الشرطِ الجازمة وغيرها، أو غيرَ مسبوقٍ بها، وإنما القرينةُ تدلُّ على استقباله، نحو: (إنه يجيءُ غداً). وأما قوله تعالى: {إنَّ ربكَ لَيحكُمُ بينَهم يوم القيامة}، فإنما جازَ دخولُ اللام لأنَّ المستقبل هنا مُنزَّلٌ مَنزلةَ الحاضرِ لتحقُّق وقوعهِ، لأنَّ الحكمَ بينهم واقعٌ لا محالةَ. فكأنهُ حاضر، وكذا قولهُ تعالى: {ولَسوفَ يُعطيكَ ربُّكَ فترضى}، فانَّ الإعطاءَ مُحقَّقٌ، فكأنه واقعٌ حالاً. وأما قوله عز وجلَّ على لسان يعقوبَ: {انهُ ليحزُنُني أن تذهبوا به}، فإنّ الذهابَ، وان كان مُستقبلاً فان أثرَهُ، وهو الحزنُ، حاضرٌ، فانهُ حَزِنَ لمُجرَّدِ علمهِ أنهم ذاهبُون به، فلم يخرُج المضارعُ هنا، وهو (يُحزُنني)، عن كونهِ للحال.


ويرى بعض العلماء (وهمُ الكوفيُّون) أنها لا تمحَضُ المضارع الحالَ، بل يجوز ان تدخل عَليه مُستقبل، بالأداة او بِدونها، وجعلوا الاستقبالَ في الآياتِ على حقيقته.


8ـ (ما) الكافَّةُ بعدَ هذهِ الأحرُف


إذا لحقت (ما) الزائدةُ الأحرف المُشبّهةَ بالفعل، كفتّها عن العمل، فيرجعُ ما بعدها مبتدأً وخبراً. وتُسمّى (ما) هذه (ما الكافةَ) لأنها تَكُفُّ ما تلحقُهُ عن العمل، كقوله تعالى: {إنما إِلهكُم إِلهٌ واحدٌ"}، ونحو: {كأنما العلمُ نورٌ} و (لَعلَّما اللهُ يرحمُنا).
غير أنَّ (ليتَ) يجوزُ فيها الإِعمالُ والإِهمالُ، بعدَ أن تَلحقَها (ما) هذه، تقولُ: (ليتما الشبابَ يعودُ) و (ليتما الشبابُ يعودُ). وإعمالها حينئذ أحسنُ من إهمالها. وقد رُوِيَ بالوجهينِ، نصبِ ما بعدَ (ليتما) ورفعه، قولُ الشاعرِ:
قالتْ: أَلاَ لَيتَما هذا الحمامَ لنا

إلى حَمامَتِنا، أو نِصْفَهُ فَقَدِ

(فالنصب على أن (ليتما) عاملة، و (ذا) اسمها، و (الحمام) بدل منه. والرفع على أنها مهملة مكفوفة بما، و (ذا) مبتدأ، و (الحمام) بدل منه. وكذا (نصفه) إن نصبت الحمام نصبته، وإن رفعته رفعته، لأنه معطوف عليه).


ومتى لحقت ( ما الكافَّة) هذهِ الأحرف زالَ اختصاصُها بالأسماء. فَلِذا أُهملت، وجازَ دخولُها على الجملة الفعليّة، كما تدخلُ على الجملة الاسميَّة، إلاَّ (ليتَ). فمن دخولها على الجملةِ الفعلية قولهُ تعالى: {كأنما يُساقونَ الى الموت} وقول الشاعر:



أَعِدْ نَظَراً يا عَبْدَ قَيْسٍ، لَعَلَّما

أَضاءَتْ لكَ النَّارُ الحِمارَ المُقَيَّدا

ومن دخولها على الجملة الاسميَّة قوله تعالى: {قل إنما أنا بشرٌ مثلُكُم يُوحى إلي إنما إلهكم إلهُ واحدٌ}، وقولهُ: {إنما اللهُ إِلهٌ واحدٌ}.
وأما (ليتَ) فإنها باقيةٌ على اختصاصها بالأسماءِ، بعدَ أن تلحقها (ما الكافةُ) فلا تدخلُ على الجُمل الفعليَّة، لذلك يُرَجَّحُ أن تبقى على عملها: من نصب الاسمِ ورفعِ الخبر، كما تقدَّم.


فائدة وتنبيه

(إن كانت (ما) اللاحقة لهذه الأحرف اسماً موصولاً، أو حرفاً مصدرياً، فلا تكفها عن العمل، بل تبقى ناصبة للاسم: رافعة للخبر. فإن لحقتها (ما الموصولة) كانت (ما) اسمها منصوبة محلاً، كقوله تعالى: {إن ما عندكم ينفد}، أي: إن الذي عندكم ينفد. وإن لحقتها (ما المصدرية) كان ما بعدها في تأويل مصدر منصوب، على انه اسم (إن) نحو (إن ما تستقيم حسن)، أي: إن استقامتك حسنة. وحينئذ تكتب (ما) منفصلة. كما رأيت. بخلاف (ما الكافة)، فإنها تكتب متصلة كما عرفت فيما سلف. وقد اجتمعت (ما) المصدرية و (ما) الكافة في قول امرئ القيس:

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب، قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثلٌ

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

[قليل: فاعل (كفاني)، وجملة (لم أطلب) اعتراضية. والمعنى لو كنت أسعى لحياة ساذجة لكفاني قليل المال، ولم أطلب ما فوق ذلك من عزٍ ومجد، يعني مُلك أبيه الذي كان يسعى له]
[المؤثل: المؤصَّل الثابت]

فما في البيت الأول مصدرية. والتقدير: لو أن سعيي. وفي البيت الآخر زائدة كافة، أي: ولكني أسعى لمجد مؤثل).