حياة أميرة عثمانية في المنفى"22"
وتتلقى سلمى نصيحة من عجوز من أصل إنجليزي .. اهربي من الهند. وتلك العجوز،هي أم الراني شاهينا،وتحكي القصة- الماما كانت شابة إنكليزية،بسيطة جدا،ومن البورجوازية اللندنية. وكانت وقعت في غرام أبي الذي كان يتابع دراسته في الجامعة. وكان جميلا،غنيا،ساحرا. فتزوجا. وبعد سنة من ذلك،عاد بها إلى لوكنوف،وإلى أسرة لم تقبلها قط،من حيث أنها رأت أن من واجب الابن الأكبر أن يتزوج هندية.وأخال أنها في البداية،ظنت أنها بشدة اللطف،والطاعة،يمكنها أن تقضي على عواطفها العدائية. ولكن سرعان ما أدركت أن ذلك مستحيل. وأنها ستعتبر دوما تلك الدخيلة. (..) والأسوأ من ذلك،أنهم كانوا يأخذون منها الأولاد،ساعة ولادتهم. وكانت جدتي تأبى أن تربى واحدة إنكليزية،أحفادها.){ص 507 - 508}.وتصاب سلمى بالحمى ...
- هل أصيب الإنكليز ليلة البارحة،بالحمى؟هكذا طرحت السيدة الوصيفة السؤال،وعليها سيماء القلق : فنظرت إليها سلمى مذهولة وقالت لنفسها : "وماذا تريد مني هذه المجنونة؟ وكيف أعرف أنا،أن الإنكليز أصيبوا بالحمى؟ إن هذا،رغم كل شيء،مبالغة،ولعل من الأفضل أن تسألني عن أخبار صحتي!".وكانت سلمى،منذ البارحة،مريضة. ذلك أن هيجانات الأسابيع الأخيرة قد نالت من صحتها. فهي تسبح في العرق،وكان رأسها،على وشك الانفجار.وعادت الوصيفة إلى الكلام،فقالت :- إن للإنكليز دوما خدودا حمرا. فلقد سمعتهم يسعلون.وانفجرت سلمى،تقول :- آه،ولكن دعيني مرتاحة من هؤلاء الإنكليز! وماذا يهمني من هذا الأمر؟فانفجرت زهراء الجالسة بجانبها،ضاحكة.- هدّئي نفسك يا أبا. فهذه المرأة تتبع التقاليد : فهم يظنون أن الجمع بين الشر وبين اسم الأشخاص الذين نحبهم،يجلب لهم الشر. ولهذا فإنهم لا يقولون : "هل أنت مريضة؟" ولكن يقولون : "هل أعداؤك مرضى؟" والنساء اللواتي يكرهن الإنكليز في لوكنوف،اعتدن على وضع كلمة الإنكليز،مكان كلمة"العدو". ولهذا،فبدلا من القول : هل أصابتك الحمى؟ يقولون : "هل أصابت الحمى الإنكليز ..". ويقرع الباب : ذلك أن الحكيم صاحب ،قد وصل. وهذا الرجل طبيب الأسرة. وفيما ترى فإن له من العمر ما لا يقل عن ثمانين سنة. (..) وكانت الخادمات يصخبن،حول سلمى. وكانت اثنتان منهما قد أمسكتا بغطاء ثقباه،بعناية،ثقبين مختلفي القطر. وبسطتاه بصورة عمودية على السرير،فأخفيتا سلمى،وزهراء،كما أخفتا نفسيهما،إخفاء تاما.وسألت سلمى المذهولة :- ماذا تفعل هاتان؟- أرجوك يا أبا. ولكن يجب أن تستبقي البرداه.- أبرداه،من أجل رجل بهذا العمر؟وأجابت زهراء مذهولة من دهشة زوجة أخيها :- إنه رجل على كل حال!- وكيف يستطيع إذا أن يفحصني؟إن الأمر بسيط جدا. إذ تعطيه يدك من الثقب الكبير لقياس نبضك،والتحقق من ردود فعلك. أما الثقب الصغير فإنه يستطيع من خلاله فحص لسانك،وفحص حنجرتك.وعندئذ تدع سلمى نفسها تستريح على وسائدها.- حسنا،أرجو مع مثل هذا الفحص ألا يكون لدي شيء خطير ...){ص 519 - 520 }. هنا لابد من القفزة،قفزة كبيرة،لتخطى حديث طويل عن الشذوذ،والخوف من الوقوع في براثنه ... ثم إقناع سلمى لأمير بتزويج زهراء من رشيد خان ... عبر هذه القفزة،نصل إلى حفلة حضرتها سلمى،وفيها قابلت شابا إنكليزيا،حديث عهد بالقدوم إلى الهند،ولا يعرف أحدا،فيعرض على الشابة أن ترقص معه ... وهناك يتدخل أمير،ليعرض على الشاب (المبارزة) بـ(السلاح الذي يختاره) .. وبعد كثير من الاعتذار،وإظهار حسن النية ... تصبح سلمى هي المذنبة .. (اعتبارا من اليوم لن تخرجي من غرفتك. وسيحمل إليك طعامك هنا. وممنوع عليك أيضا أن تتنزهي في حديقة القصر،أو أن تستقبلي صديقاتك : إذ ستعرفين كيف تقنعيهن بإيصال الرسائل. ومنذ الآن ستضعين البرداه الأكثر احتشاما. (..) من ذو تلك الليلة المشؤومة لم تر سلمى زوجها،إذ لقد نقل حاجاته الشخصية،وعاد إلى جناحه الذي كان فيه أيام العزوبية. ولو استطاعت أن تكلمه،إذن لأمكنها أن تثنيه عن هذا كله،لأنه يحبها،رغم كل شيء،لكن الاتصالات الوحيدة،تمر بطريق الراني عزيزة،فأخت الراجاه التي تراقب الأخبار التي تخرج من الزينانا. وهنا يكمن الخطر. وربما تركت سلمى نفسها تموت،وأمير لا يعرف شيئا عن ذلك.(..) وعندما طلب الراجاه من أخته،أن تزوده بأخبار زوجته،أجابت هذه بأن العزلة الإرغامية ستكون طيبة النتائج (..) ويجيب أمير : وماذا لو أنني كلمتها،وقلت لها إنني أعفوا عنها هذه المرة وأنها إذا أعادت الكرة،فسوف أطلقها؟وإنه لبعيد عن التخيل ضحك سلمى،إذ هي سمعته يقول ذلك. فهو لا يعلم أن الأميرات،في الأسرة العثمانية،هن اللواتي يطلقن أزواجهن،إذا سمح السلطان بذلك. وما من مرة سمح لدامادا بالانفصال عن زوجته ذات الدم الملكي. إذ كان ذلك يعتبر إهانة للسلطان نفسه.وليست سلمى من هؤلاء الزوجات الهنديات اللواتي إذا هن طُلقن،فإن هذا يعني الموت،ذلك أن أسرة الزوجة لن تقبل بعودتها إليها. والبنت المطلقة،هي العار بالنسبة إلى كل الأقرباء،والبرهان على أنها خالفت القواعد التي تنظم الحياة الاجتماعية : وإذن لم يعد لها مكان،في أي مكان. وإذن فمن الأفضل للفتاة أن تقبل بشرط العبودية،والخنوع،لا لزوجها فقط،بل لأسرته كلها،بدلا من أن تكون منبوذة. والراني عزيزة أكثر فطنة،فلقد أدركت مدى الزهو الذي لا يقدر،لدى هذه الغريبة. (..) وبنظرة الأخت العطوف،تداعب وجه أخيها،المعذب.- لا تخف. فأنا سأهتم بها على أفضل الصور. فإذا تدخلت أنت،فعلينا أن نستأنف بعد ذلك عملنا،كأننا لم نفعل من قبل شيئا. (..) ومن يوم لآخر،كانت سلمى تضعف جسديا. ولقد حاولت قسر نفسها على الطعام،ولكن معدتها لم تعد تتحمل شيئا،وحتى الشاي نفسها،فإنها تسبب لها الغثيان (..) و راسّولان،الخادمة الصبية،التي جاءت ذات يوم،ورأت سلمى تعاني أزمة مرهقة بشكل خاص،هي التي أوحت لها بأن الطعام الذي يقدم لها،هو الذي لا يناسبها،على ما تقدّر ... ولم تزد على ذلك شيئا. ورأت سلمى أنها مجنونة إن هي تخيلت .. ولكنها على مدى يومين،كانت ترد الطعام كما جاء،وانقطع التقيؤ. ومنذ الآن تكتفي سلمى بشرب الماء من الصنبور،وببعض اللوز الذي تحمله راسّولان إليها،خفية. فتشعر أنها أفضل مما كانت. ولكن تعوزها القوة التي تساعدها على النهوض،أو حتى على إصلاح زينتها.(..) – إن هذه جريمة! فمن أمر بهذا؟وفي وضع متوسط بين النوم واليقظة،تدرك سلمى أن حولها صخبا،وتسمع بعض الأصوات التي تكاد ترهق طبلة أذنيها. ولكن لماذا لا يدعونها تنام؟ فتئن،وتتحرك قليلا،ثم تعود إلى الصمت،الذي هو الشرنقة الدافئة التي تتكور داخل متعتها.وتقف زهراء الخجول أمام الراني عزيزة،متهمة!- لو أننا لم نختصر رحلتنا،لعدنا ووجدناها ميتة!وحقا،فإن طبيبا شابا استدعي على عجل لزيارتها،وأكد أن وضعها خطير : فعدة أيام أخرى بلا طعام،والقلب عندئذ يتوقف.ووقف الراجاه،ممتقع الوجه أمام أخته عزيزة التي تقابل أسئلة زهراء بالصمت الذي ينطوي على الاحتقار. ولكن أيهما هو المجرم؟ أهو أم هي؟ إنه يعرف أنها تكره سلمى،ومع ذلك فقد وكل إليها السهر عليها،وصدق كلماتها المطمئنة،دون أن يحاول التحقق منها. (..) وبشيء من الضيق،ينظر إلى هذا الجسد الهزيل،والوجه الذي يشبه العصفور،ويتخيلها ميتة،ويجرب أن يتصور الألم الذي كان سيسحقه،لو ... ولكنه رغم جهوده هذه،فإنه لا يشعر إلا باللامبالاة. فهو مستاء من ذلك : وإذ هو لم يشعر قط بهذا المرض المسمى باسم"الحب"فإنه،على الأقل،شعر بحنان تجاه زوجته.(..) وتنظر زهراء بشيء من العتاب إلى أخيها الذي يبتسم لها باغتباط.- يقول الطبيب إن أبا بحاجة إلى ممرضة تبقى دائما معها (..) ولكن ينبغي أن تغير المنظر أمام عينيها،وأن يكون لها نشاط يخرجها من اكتئابها (..) - إن زوجتي سعيدة هنا تماما! فإذا انتهينا من هذا،قلنا إن هواء الريف سيفيدها،بلا ريب. سنسافر إلى بادلبور،متى أمكن ذلك.){ص 572 - 579}.وذهبا إلى بادلبور ... وقابلت سلمى جدة أمير ... وتحسنت صحتها .. ولكنها قابلت أيضا مواقف صعبة ... إحراق زوجة هندوسية شابة – كانت تحت رعاية سلمى - ،مع زوجها الميت،المسن ... ولم تستطع إنقاذها،ولا يستطيع أمير أن يغير عادات رعاياه من الهندوس .... ومات (ملك تركيا) .. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة