حياة أميرة عثمانية في المنفى"21"
وتبقى سلمى وحيدة في بلاد تركب الأفيال ... (هاهو النهار قد أدبر إلا قليلا ،والشمس الموشكة على المغيب تذهّب ماء البحيرات. وهذه سلمى متمددة على الرخام الأبيض،لتسعد بلحظات الجو اللطيف. ولم تعد الخادمات بعد الآن لتزعجها في هذه الحديقة الداخلية،الأخيرة بعد أفنية النساء. فجعلت لنفسها منها معبدا. فهنا تحلم،وهنا تبكي،وأحيانا تكتب الرسائل إلى أمها،تتحدث لها فيها عن سعادتها.واليوم،هو الذكرى الشهرية لزواجها : فلقد مضى شهران،شهران فقط! .. وعندما أخذت الكآبة تستبد بها،انتصبت واقفة. لتتساءل فجأة عما تعمله هنا،وما تعمل بحياتها ... هنالك شاي ... ثم شاي. وعشرات من النساء اللطيفات،ممن لا ترغب في أن تحدثهن بشيء،وهناك بسمة زهراء،ولعبة الورق مع الراني،ثم ... أمير،أمير في النهار،وأمير في الليل،وهذا الراجا المغري،الجنتلمان الكامل،المنشغل بالسياسة،وبإدارة شؤون دولته،وهذا الجسم القاتم،الصامت،الشره،اللامبالي ... فمنذ صدمة الليلة الأولى تعودت،تلك الكلمة الفظيعة ... ولكن ماذا تستطيع أن تفعل،إذا كان زوجها أصما،وأخرسا{هكذا} وأعمى. وهاهي تسمع وقع خطوات على البلاط. من يجرؤ؟ - آه زينل،يا زينل الطيب،لم هذه السحنة الحزينة؟- الهم،يا أميرة. فالسلطانة وحدها في بيروت .. وصحتها ..مسكين هذا الزينل. كم هو قلق! إن لدى أينديجم،كالفتين تحيطانها بكل حب،ولكن منذ بدأ مرضها،أصبحت وكأنها ولده. ولكن المرأة الشابة لا تملك أن تكبت رغبتها في مناكاته. - أتريد أن تتخلى عني؟ ألم تعد تحب سلماك؟ فيحمر خجلا،ويعض شفتيه. فتأسف هي. - ولكن لم أنت هكذا،كنت أمزح. فأنا أيضا أريد أن تعود إلى بيروت. وأكون أكثر اطمئنانا إذا عرفت أنك بقرب أمي. (..) وضحكت ضحكة كأنها خارجة من حنجرتها.- أفلا ترى كم أنا محاطة،ومدللة. فقل لأيندجيم أني زوجة تغمرها السعادة. (..) - كنت على وشك أن أنسى. إن السيدة غزاوي تريد أن تكلمك. - هل تريد هي أيضا،أن تسافر .. لها الحق،فليس لديها هنا ما تعمله.ذلك أن هذه اللبنانية أتعبت سلمى بنقدها،وشكاواها المتتابعة.){ص 425 - 427}. بينما كانت سلمى في السوق،بدأ الاقتتال .. وتسألولكن لم يقتتلون؟ - إنهم السنة الذين بدءوا،فقد هاجموا مظاهرة دينية شيعية،مدعين أنها تشتم حظرة{هكذا} عمر،الخليفة الثاني. (..) {وبينما يتحدث النساء في المجلس،عن رواية حب إنجليزية} فتنفجر :وماذا يهمنا من هذه التفاهات! فانظرن إلى ما حولكم{هكذا} وفي مدينتكم،وتحت نوافذكم : فالناس يقتتلون فيما بينهم،وأنا عائدة من أميناباد،حيث كنت أكاد أشنق.وتخونها أعصابها فجأة. وهي تكاد تختنق،فتحيطها النسوة من كل جانب،وتؤتى بالماء البارد،والأملاح ... وتندهش النسوة،ويستنكرن. إذ أن مثل هذا الأمر لم يحدث منذ ثلاثين سنة،أو منذ منعت في عام 1908 القراءة العاملة لتاريخ الصحابة،وهي نصوص سنية،تحكي فضائل ومزايا الخلفاء الأول{رضي الله عنهم} "مما تعتبره الطائفة الشيعية إساءة لشهدائها،وترد عليه بقراءة التبارة Tabarrah التي توضح أن هؤلاء الخلفاء كانوا مغتصبين"ولكن ماذا يجري الآن؟ ولِمَ هذه الاضطرابات من جديد؟غير أن البيجوم ياسمين تنظر إلى راني خامبور الجديدة نظرة قاسية،وتقول : - وهذه لعبة أخرى للإنكليز،على ما أفترض : وهي أن يثيروا الانقسام بين الهنود لكي يقولوا لنا،عندما نطالب بالاستقلال،إنهم يريدون أن يقدموه لنا،ولكن شريطة أن نتفق أولا فيما بيننا.){ص 435 - 437 }.وتذهب سلمى لزيارة جدة الراجا،وهناك تجد راحتها بعيدا عن الراني عزيزة،ويأتيها وفد من النساء يطالبن بفتح مدرسة للبنات،مثل تلك التي ستفتح للذكور،ويطلبن منها ألا تخبر زوجا بأنهن وراء الطلب،لكي لا يعرف أزوجهن،فيعاقبن بالضرب!!!!! ويردن للأمر أن يصدر عن الراجا. ولكن الرجال يعلمون بالخبر قبل أن تخبر سلمى الراجا،فينفي وجود الفكرة،ثم يغضب حين يعرف أنها لم تخبره ... وكأنه آخر من يعلم .. ويتخوف من عصيان الرعية!!! ثم يتفشى الطاعون .. (وبعد أن زرق { الطبيب} سلمى بمصل – موثوق بنسبة 95% - طلب منها،كما لو كان الأمر طبيعي تماما،ما إذا كانت تريد أن تسعاده. - وإلا فإنني سأجد الكثير من العناء في الدخول على الفلاحات : فأكثريتهن ترضى بالموت،وتفضله على أن يقوم رجل بفحصها. ولم أجد زميلة من الزميلات ترضى بأن ترافقني ..وينبغي أن يكون الذهول قد ظهر على سلمى. فابتسم،وقال بصوت عذب : - وعلى كل حال،فأنت رانيتهن،وكما يقول المسيحيون عندما يتزوجون : "للخير كما للشر".وقالت سلمى،على الرغم من أن جسدها يتأبى هذه الفكرة : بلى.وخلال أيام وأيام،كانت تتبع الطبيب،كآلة أوتوماتيكية،ويداها مغطاتان بالقفازات. وأدنى الوجه مستور بالقطن. وكانا يدخلان البيوت. ولسوء الحظ كان الأضعف مقاومة،من الأطفال والنساء،قد أصيبوا. وكانت وجوههم مصبوغة بلون قريب من البنفسجي. ويكادون يختنقون،ويتبرزون برازا سائلا أسود. أما الرائحة فهي لا تحتمل. وتقف سلمى عن التنفس،من شدة الهلع. وبهدوء يلمس الطبيب النبض،ويفحص الحنجرة،والإبطين،والأعين،ويشق الغدد التي ينفجر منها القيح،ويطهر الجرح،ويجفف العرق،ويشجع،ويطمئن. وعرضت كانيز فاطمة وامرأتان أخريان أن تساعداها. فتنظر سلمى إليهما،يمسكن الأحواض،,يغلين الماء،ويغسلن الصديد والبراز. أما هي فإنها تعجز عن القيام بأي حركة،فتتذكر إستانبول،ومستشفى هاسيكي،حيث كانت أمها تأخذها معها لزيارة الجنود الجرحى. وتتذكر خوفها وغثيانها. ولكن الدكتور رضا لا يراعيها. - إني بحاجة إلى مساعدتك،فأعطيني الضمادات.وينتظر. فتقترب من السرير شبه مرغمة،وتقدم القطن ولفائف التضميد. - تفضلي بالبقاء إلى جانبي،وإعطائي الأدوية.فتنقاد لما يطلبه منها،وكأنها مسحورة. وخلال دقائق تبدو وكأنها لا تنتهي،تراه يقبل على عمله برقة ونعومة. ثم إنه ينتصب،ولأول مرة تبتسم عيناه عندما يرى سلمى،ويقول : - .. شكرا.فتهز رأسها،وقد فوجئت بهذا الطبيب،وهذا الذكاء. - كلا،إن عليّ أنا أن أشكرك.وفي الأيام التالية،يراها تبقى إلى جانبه. وما من مرة طلب منها أن تمس المرضى،بل اكتفى منها بأن تكون هنا،حيث هو،للحديث معهم،والابتسام لهم.وعندما مضى أسبوعان،كان الوباء قد أوقف. ومن ألفي قرية مات خمسون : إنها أعجوبة. فيقرر أمير عندئذ أن يعود إلى لوكنوف. أما الدكتور رضا فيبقى بضعة أيام أخرى في القرية لمزيد من الاطمئنان.وفي صباح يوم السفر،جاء لتحية سلمى. فقالت له : - أيمكن أن تصدقني. إني حزينة تقريبا أني أسافر. - وأنا إذن! إنني أفقد أفضل ممرضة عندي!ويتمازحان. لكن ضحكتهما تبدو مزيفة. فلقد كانا قريبين جدا،بصورة يندر أن توجد. ولكن كل واحد الآن مضطر للعودة إلى العالم الذي يخصه. وعلى الأرجح فإنهما لن يلتقيا أبدا.وهو الأفضل – إذ ما عسى الراني والطبيب الصغير،أن يقول أحدهما للآخر؟وكان المطر يسقط مدرار،عندما تركت السيارة القصر. ومن خلال الستائر تنظر سلمى،والقلب منها منقبض،إلى الزول الساكن الواقف تحت هذه الأمطار. ){ص 469 - 470}.ويقيم الراجا حفلا لصديق قديم .. اللورد ستيلتلتون ..(وهاهي الآن تتجه ببطء إلى البيانو،الملجأ المبارك الذي تستطيع أن تعزل نفسها فيه دون أن يظهر عليها أنها تهرب. وهذا البيانو،إنما هو مدينة به إلى تدخل رشيد خان،على الرغم من ثورة الراني عزيزة.أيها العزيز خان! لقد حظيت هذا المساء بمفاجأة سعيدة،هي أنها رأته للمرة الأولى منذ وصولها إلى لوكنوف. وعلى الرغم من أنه أكبر عمرا،فإنه هو الآخر صديقا لضيفها اللورد،الذي لم يكن من مبرر لغيابه عن العشاء. وكذلك فإن أمير لم يشعر بالشجاعة الكافية لكي يشرح لرفيقه القديم أنه هو ذو الفكر القوي،العقلاني المتحرر من المستبقات،كان يحتفظ بامرأته في البرداه. {في الهامش : كثيرا ما كان الهنود يحرصون على أن لا تظهر زوجاتهم بلا برداه أمام الهنود مع التسامح بذلك أمام الأجانب}. وبدأت تداعب بأصابعها،أصابع البيانو العاجية وأخذت تعزف الضربات الأولى من إحدى ليليات (سمر) شوبان. فمن اكتئاب إلى أمل،إلى هوى يتحطم ويعود فيولد من جديد،مرتجفا،عاصفا،ثم من جديد يتجلى في شهقة بكاء،في شكوى مرهفة،كخد وردة،أو كنقطة ندى تموت.وكانت تحس على يديها،وعنقها،نظرة رشيد،الحارة الرقيقة إلى ما لا نهاية. وكانا خلال تلك السهرة يتجافيان،والآن فقط،الآن إذ يظنها ضائعة في أحلامها المنسجمة،يجرؤ أن ينظر إليها. وهي تقطع أنفاسها،لكي تتلقى كل جزئ من هذا الهيجان،وهذه العبادة،التي تجعلها تتفتح،وتُعطّر،وتحيا مرة أخرى،كشعاعات الشمس على زهرة الحقل.){ص 495 - 496}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة