حياة أميرة عثمانية في المنفى"18"
س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
(الكتاب مثل الناس فيهم السيد الوقور وفيهم الكيس الظريف وفيهم الجميل وفيهم الرائع وفيهم الساذج الصادق وفيهم الأديب والمخطئ والخائن والجاهل والوضيع والخليع)عباس محمود العقاد .. وصلت سلمى إلى القصر نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيهاهم إذن خصيان طفولتها ... وشعرت سلمى فجأة بأنها عادت خمس عشرة سنة إلى الوراء. ولو لم تكن أمامها هذه السراويل الواسعة (الشالفار) والكرتاه الزرقاء اللون التي تعوّض الإستامبولينيات القاسية،إذن لظنت أنها في قصر ضولمة باهشتة. ولكن ما إن صعدت على السلم الحجري الهائل حتى تبدد هذا الإحساس. إذ تعود الهند،فتفرض نفسها بهذه الشرفات المنحوتة،كالدانتيل،وهذه الشرفات المنحوتة على الفناء الداخلي،حيث تجري المياه من النوافير جريانا غنائيا،وبصورة خاصة،بهذه المجموعات من النساء اللواتي يتلاصقن ليقبلن يدي الراني الجديدة،أو ليمسكن بطرف ساريها،بأشد المسكنة والتواضع،في حين أن أطفالا نصف عراة يحدقن { هكذا} فيها بعيونهم الواسعة السوداء المكحلة. لكن البيجوم،تدفعها لأنه لابد من السرعة،ذلك أن الراني عزيزة تنتظرهما.وراني عزيزة .. هي ابنة حماتها المقبلة،وتريد سلمى أن تعرف المزيد من المعلومات حولها. ونُصرت لا تطلب إلا هذا،فتقول :- إن راني عزيزة هي أخت غير شقيقة للراجا. وهما من أمين مختلفتين. وهي أكبر من أخيها بخمس عشرة سنة. وعندما فقد أبويه،وهو صغير،في حادث يكتنفه الغموض،كانت له بمثابة إلام. إنها سيدة كبيرة،,لديها من الذكاء مثل ما للرجال! وفي عمر الرابعة عشرة،عندما أشرف أميرنا على الموت مسموما،على يد عمه على الأرجح،عمه الذي كان له حق الحكم كرئيس للدولة،حتى بلوغ ابن أخيه سن الرشد،وقررت راني عزيزة أن ترسله إلى إنكلترا للدراسة،وأخذت على عاتقها تسيير شؤون القصر. وكان القيمون على الشؤون المالية يخافونها أكثر بكثير من الراجا العجوز الذي لم يكن يطلب قط بأي حساب،معتبرا أن هذا يحط من شأنه.{الله يذكر السلطانة خديجة بالخير!!!} وتخفض البيجوم نُصرة صوتها،فتقول :وهم يأملون أن يكون سيدنا الشاب أقل محاسبة لهم. فهذا المسكين إنما عاد حديثا،بعد غياب اثنتي عشرة سنة. وهؤلاء الأوغاد يخططون لاختلاس أمواله. ومن حسن الحظ أن أخته الراني هنا."وأنا،لن يحسب حسابي أبدا،إذن"{مكتوب بخط صغير،وكأنه منقول من "مذكرات"} ومن دون أن تعرف سلمى هذه الراني،فإن حدسها يقول : إنها لن تحب راني عزيزة.وكانتا قد مشتا أكثر من ربع ساعة،عندما دخلتا إلى غرفة ذات سقف عال : ووجدتا هناك نصف دزينة من النساء،جالسات على الأرض،يثرثرن،وهن يكسرن جوز التنبول betel (من فصيلة الفلفليات) بكسارات من الفضة. فلما وصلت سلمى أثارت موجة من الاستغراب والعجب : إذ أنهن يحطن بها،ويضممنها بين أذرعهن،ويُشدن بجمالها. ولما كانت مذهولة،ومطمئة بحكم حرارة الاستقبال،فقد سمحت لنفسها بالانطلاق مع هذه المجموعة الضاحكة : ثم يفتح لها ستارة أخيرة من الحرير وتدخل إلى قاعة واسعة مزخرفة بموزاييك من الصدف،وبمرايا على صورة العصافير والأزهار. وهناك وجدت سلمى مجموعة نساء جالسات على سُرُر من الحبال،ذات أرجل من الفضة {هذا مع فقر المواطنين المدقع!!!} وهن يتسامرن،ويمضغن البان Pan ،أي الحلوى الوطنية التي تُصنع من جوز التنبول ومن بعض أوراق مُرة، أو أنهن ينتشين بشرب نوع من التبغ المعطر،من أنابيب النرجيلة،الطويلة،المصنوعة من الكريستال. وفي آخر القاعة،,على سرير مرتفع،تلمع أرجله الذهبية،في الظل،كانت هناك امرأة تستريح بين وسائدها،على حين أن عبدين يهزان فوقها مراوح عريضة من ريش الطاووس. وعرفت سلمى مباشرة،من خلال تعابير الوجه،أنها أمام الراني عزيزة،وهي ما تزال جميلة : فقسماتها حادّة،وعيناها عميقتان،وفمها متعاظم،لا تبلغ بسمتها أن تخفيه.- تعالي واجلسي بجانب،يا بنيتي.أما الصوت فغنائي،وأما الضمة فباردة. وبلغة إنكليزية ذات لهجة غريبة،تسأل الفتاة عن رحلتها،وهي تتفحصها من الرأس حتى الأقدام.وانتهت من ذلك إلى القول :- إنك جميلة جدا – لكن الصوت يرتفع،كما لو أنها تريد أن تسمع الجميع ما تقول – وعليك أن تتعلمي لبس الغارارا (تنورة تلبسها المسلمات). أما الساري فهو لباس أتباع الديانة الهندية. ونحن،هنا، مسلمون.واحمرّ وجه سلمى حتى لكأنه كله دم : أوتُذكّرُ هي بأنها مسلمة؟ وهي حفيدة خليفة المسلمين! فلو أنها صفعتها على وجهها،لما أذلّتها أكثر مما فعلت. و تلاقت نظرات الامرأتين { هكذا} : فمنذ هذه اللحظة تعرف كل منهما أنها عدوة للأخرى.ثم حمل إليهما بعض الحلوى التي صنعت من اللوز والعسل،وشاي مشرب بالسكر. "لتحلية حموضة الاستقبال على الأرجح" {مكتوب بخط صغير،وكأنه منقول من "مذكرات"} على ما فكرت به سلمى،وهي تبلل به شفتيها. وبدأت الراني تسأل عن صحة السلطانة أمها،وحياتها في بيروت،فأجابت دون انتباه كبير. وعندما رأت أن الحديث يطول،غامرت بهذا السؤال : - عفوك يا سيدتي،لكني متعبة من السفر. أفيمكن أن أنسحب إلى غرفتي؟فارتفع حاجبا الراني،كجواب على هذا الطلب.- ولكن غرفتك هنا،يا بنيتي،فخلال هذا الأسبوع،ستسكنين معي. ولكن ماذا بك،أليست الغرفة واسعة بشكل مناسب.وحملت الخادمات "غارارا"أخضر،زمرديا،فأعفاها ذلك عن الجواب.- خذي هذا،وغيري به ثيابك،فهذا اللون يناسبك إلى أعلى الدرجات. وأكثر من ذلك أنه لون الإسلام ...وأجابت سلمى مجروحة :- إني أعرف ذلك.- وإذن فأنت تعرفين كذلك أن أسرتنا تنحدر من النبي مباشرة،عن طريق حفيده الحسين. ونحن شيعة.{ورارنا ورانا؟!! حتى ونحن في هذه السياحة .. بعيدا عن الواقع ومشاكله!!} أما أنت فسنية بطبيعة الحال – وتتصنع آنئذ التنهد،بصورة مدروسة – ولكننا،على كل حال،مسلمون جميعا!"هذه الأفعى،على ماذا تريد أن تبرهن؟ على أني لست إلا غريبة،وأنها هنا تظل ذات الكلمة العليا؟". {مكتوب بخط صغير،وكأنه منقول من "مذكرات"}. غير أن مزاج سلمى لن يقاوم طويلا رغبتها في الحمام. فتتذكر أباريق الفضة،والماء الساخن المعطر،والرغوة ذات الألوان الناعمة،وزيت العنبر في زجاجات الكريستال. (..) - ولكن أين هي إذن السيدة غزاوي؟وأجابت الراني،مطمئنة:- لا تقلقي عليها. لقد أخذت تستريح. وهي تسكن في الجهة الأخرى من البهو،بعد الفناء الثاني من جناح النساء.- كيف؟ إن هذه مرافقتي! ويجب أن تبقى معي!- أوليس لديك ما يكفي من الخادمات؟ يمكنك أن تحصلي على عشرة،أو عشرين،وبقدر ما تردين. وإن لم يعجبنك،فنستبعدهن،ونأتيك بغيرهن.وشعرت سلمى بأنها على وشك أن تبكي. فالسيدة غزاوي و زينل هما صلتاها الوحيدتان مع الماضي. وبدونهما تشعر بالضياع. ولكنها تفضل أن تموت في مكانها،على أن تعترف بضعفها. وهنا تظهر بسمة صغيرة على شفتي الراني،فتسأل : - أولستِ على ما ينبغي معنا هنا؟ نحن أسرتك منذ الآن : ويجب أن تنسي الباقي.وتسكت سلمى. وقد سجل الخصم نقطة. فهل في وسعها أن تقضي ثمانية أيام مع هذه المرأة،وتحت بصرها الثاقب،السيئ النية؟ تصبرين إذن ثمانية أيام،وأمير يكون هنا،وستشرح له ما يعنيها،وتساعدها. وبانتظار ذلك،لعل رشيد خان .. بطبيعة الحال،هذا هو الحل! فكيف لم تفكر به من قبل؟ وتنتصب،وتسأل بصوت تريد أن يكون واثقا من نفسه :- أيمكن أن نخبر رشيد خان،بأنني أود أن أكلمه.- تكلمين من ..؟ اعرفي،يا أميرة،أنه إذا كان سكرتير أخي قد ذهب لاستقبالك في بومباي،فذلك لأنه كان لابد من رجل لمواكبتك. ولكن لا مجال لك بعد الآن لرؤيته ثانية. فالرجال لا يستطيعون الدخول إلى الزنانا (جناح النساء).{هنا سجل الخصم"ثلاثية" لا نقطة!!}وبحجة الإرهاق،نزلت سلمى إلى الحديقة،وسحبت الوشاح،الذي كان يحجب عنقها،بعض الشيء. إنها تختنق. وسجينة،إنها سجينة. وكعمياء رمت نفسها في الفخ. ولكن الوقت ما زال يسمح بالخروج منه. وستعود عن عزمها. إذ ليس في وسعهم،على أي حال،أن يحتفظوا بها عندهم،بالقوة! وجلست على العشب،وحاولت أن تسترد أنفاسها. فإذا بيد توضع بيدها.- لا تخشي شيئا،هوزور. فالراني ليست بهذا السوء. إنها تريد فقط الحفاظ على التقاليد. وبدون ذلك فالمجتمع كله سينهار.وكانت هذه امرأة الحاكم التي لحقت بها،وعلى وجهها المستدير نظرة حلوة.- اصبري،أسبوعا فقط. إن زوجك المقبل رجل عصري،كإنكليزي تقريبا! ومتى كنت معه،صرت حرة،ستكونين السيدة الأولى. ولن يكون للراني عزيزة ما تقوله. وهي تعرف ذلك جيدا ولهذا فإنها تبدي المرارة،أسبوعا واحد،هوزور. ولاشك أنك تستطيعين بذل هذا الجهد.وتفكر سلمى : إنها على حق. وإذن فلن أدع نفسي تمّحي،بسبب هذه المرأة. وبقلب طيب تبتسم. إلا أن توترات هذا اليوم كانت عنيفة. وعلى شفتيها،كانت البسمة ترتعش. ونسيت مقامها كأميرة إمبراطورية،واستسلمت للبكاء.){ص 368 - 372}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله. (الحبر،ويحك،نور أسود،وكنز سائل وهو عطر الدفاتر وشبع الفراغ وري البياض وغيث الورق)الأمين نخلة