حياة أميرة عثمانية في المنفى"10"إلى ذلك ..(المجتمع البيروتي،المشرف على تحولات عظيمة،بتأثير سادته الجدد و"أصدقائه"وصلت السلطانة خديجة،مصحوبة بولديها،و زينل،وكالفتين.وهنا حصلوا على نجاح كبير نشأ عن فضول الناس أولا،وعن تعاطفهم ثانيا. وعلى كل حال فإن السلطان مراد الخامس لم يؤذ أحدا،لا لسبب غير أنه لم يحكم،ذلك المسكين،إلا ثلاثة أشهر .. أما ابنته البائسة! فلقد بقيت سجينة مع أبيها ثلاثين سنة،ثم عشرين سنة أخرى،مقسمة بين زوج كان على الأرجح يضربها،والآخر كان بالتأكيد يخونها،ثم جاءت الحرب،والثورة،والنفي أخيرا! وهكذا فإن كل سيدات المجتمع المحيطات بها،كن يتألمن لها،وصرن يتسابقن إلى زيارتها.ولكن إذا كن يتوقعن – وعيونهن سلفا تتألق لهذا التوقع – كنشوة مؤثرة،وتفاصيل لم يُسمع بها من قبل حول الصورة التي عوملت بها الأسرة الملكية،أو في أقل الدرجات،بعض التنهدات،والنظرات الحزينة،التي توفر الفرص للإمساك بيد الأميرة،وحلف اليمين لها بأن ستملك صداقتهن الأبدية – فإنهن قد خاب فألهن.وفي البهو ذي الستائر الحريرية الصفراء التي عفا لونها قليلا،كانت السلطانة تستقبلهن بالبسمة الأليفة،وبحس الكرامة الخاص بملكة تأتيها رعاياها لتقدم لها احترامها. أما أسئلة الزائرات التي بدأت بأن تكون رسمية،ثم مع الأيام،غدت أكثر فأكثر إلحاحا على ما يتوقعنه من كشوف ومصارحات،فإنها كانت تجيب عنها بهدوء لا يعرف الاضطراب. وحقا،فإنه ليس لديها ما يمتعهن أن تقوله،فكمال لم يفعل إلا ما قدر أنه واجبه،أما إمكانية قيام ثورة مضادة،وإعادة النظام السابق؟ فذلك خاضع لإرادة الله ... (..) وخلال أسابيع كان البهو لا يفرغ من الزائرات. ولكنهن مع الأيام،باعدن بينها. ذلك أن هذه الأميرة التي كان يقال : إنها ذكية،والتي كانت شخصيتها ممتدحة بينهن،ليس لديها ما تقوله! فيزهد المجتمع البيروتي،ويمضي ليتعلق بآخرين. فيما عدا بعض المتحذلقات من ذوات المستوى الأكثر تواضعا واللواتي واظبن على زيارتها،بغية أن يروين لصديقاتهن المنبهرات،بأن "صديقتهن"السلطانة،كانت اليوم"مزكومة"بعض الشيء أو أنها كانت تلبس ثوبا من الحرير الأخضر كان يهبها حقا سمتها السلطانية!وفي الهدوء الذي اعتادت عليه السلطانة فوجدته من جديد،كانت تضحك بصمت.لقد لقنتهن درسا،هؤلاء البله،اللواتي كن يردن التطاوس،إذ يضعن على صدورهن سلطانة! أيدعونني! حقا إنهن لا يرين ما في ذلك من حرج! فهل لأميرة من أسرة ملكية،ومن عمري،أن تتحرك من بيتها؟ فاذكري يا سلمى هذا : إنه ليس لأننا أصبحنا لا نملك المال،يجب أن نغير طريقتنا في السلوك. فأنت أميرة،ويجب ألا تنسي ذلك أبدا. وتطلق سلمى واحدة من تنهيداتها .. "أميرة بلا مال،ماذا يعني ذلك؟ إنني أضحوكة الصف كله. ورفيقاتي يسمينني بصاحبة السمو ذات الكلسات الملقوطة".ومع ذلك فإنها تكتفي بالجواب :إنه يصعب عليّ،يا أيندجيم،أن أنسى ذلك.وتنظر إليها خديجة مندهشة :هل من شيء يزعجك؟ في المدرسة؟كلا يا أيندجيم. إن المدرسة سارة جدا.كان يجب أن توفر العناء على أمها،بأي ثمن. فالسلطانة تظل شامخة الرأس،ولكن،بمرور الزمن،كانت نظراتها التي كانت ممتلئة حيوية في الماضي،وعميقة،قد غشيها تعبير مؤلم. فهي لا تفهم،ولا تقبل سوكت شعبها.وفي الصباح والمساء تصغي إلى الإذاعة،وتحاول الاستماعي إلى أخبار تركيا. فحذف المدارس والمؤسسات الدينية،وإغلاق مراكز التجمعات الصوفية،قد أثار استنكارها. وبالمقابل فإنها شعرا بلذة الانتصار عندما سمعت أنهم ينزعون الحجاب بالقوة،ويأمرون الرجال بنزع الطربوش،كرمز على الانتساب إلى الإسلام،تحت طائلة الشنق! ففي هذه المرة،لا بد للأتراك أن يثوروا! ولكن الأمر في هذه المرة ظل كما كان في غيرها من المرات،فقد قبل الأتراك ما جرى. ويوما بعد يوم كانت الثنية تتعمق أكثر فأكثر على زاوية شفتي خديجة. (..) لا ريب أن المحاكم الاستثنائية قائمة في كل مكان والمعارضة و الصحافة،ما زالتا خاضعتين للرقابة. (..) .. ذات يوم،ألغى أستاذ الرياضيات درسه،لأنه كان مريضا. فعادت سلمى إلى البيت قبل ساعة من موعدها. فأوقفت على العتبة : وسمعت جلجلات الضحك! وببطء اقتربت ورأت ... أيندجيم – أيندجيم التي تضحك كما لم ترها تضحك منذ زمان طويل منذ مغادرة إستانبول. وكان زينل جالسا على وسادتها وهي،جاثية بين قدميها،وهو سعيد يخطب :فشعرت المراهقة بأن حنجرتها تنقبض،وأنها خدعت : فأمها لا تريها إلا وجها حزينا. فلِمَ تجد مع زينل بهجتها القديمة؟ وتقدمت وهي صفراء الوجه تماما،فنهض الخصي،وتوقفت السلطانة عن الضحك،وسألتها :- ماذا هناك يا سلمى؟ أأنت مريضة؟وتتصنع القلق وتقول في نفسها : ولكني أستطيع أن أموت مادام زينل هنا.أما خيري الذي لم تكن سلمى قد رأته،فيضحك،ويقول :- هي غيرى. هذا كل شيء. أوَلا تفهمين،يا أيندجيم،أن الآنسة لا تحتمل أن تهتمي بأي إنسان آخر غيرها،حتى بي أنا؟ وعندما تبتسمين لي،يمتقع لونها كسفرجلة قديمة!وتنظر سلمى إلى أخيها نظرة أفعوية. إذ لقد كانت تسيء تقدير قوة الملاحظة لدى أخيها (الباتابوف) السمين. ولكنه سيدفع الثمن. وبانتظار ذلك،فإن من الأفضل التخلص من هذا الموقف.- أأنا غيور،أية فكرة! إني لست غيور! بل كنت مندهشة .. ومسرورة بأن أسمعك تضحكين يا أيندجيم. وتشعر آنئذ أن صوتها يرن رنة المداجاة. وقطعا لما قد يحدث،تدّعي أنها تريد ترتيب كتبها،وتنسحب إلى غرفتها.(..) - إنهم يقتلون أصحابنا بالمئات.وجذبت أمل سلمى،إلى ركن من أركان ساحة اللعب،وكان وجهها أكثر شحوبا مما هو في العادة.قام الفرنسيون،في الجبل،بإحراق قرى بكاملها،بلا أدنى شفقة على النساء والأطفال. وسوف يندمون. إن انتقام الدروز،سيكون مخيفا.وهبط بالون الأرض بين أرجلهما. وتزاحمت طالبتان وهما تضحكان،للإمساك به. إنها الأيام الأولى للخريف،والشمس أشبه ما تكون بالحرير.وأخذت سلمى بيد أمل. ذلك أن هذه الدرزية الصغيرة هي صديقتها الوحيدة في مدرسة أخوات بيزانسون،بل الوحيدة التي تجرأت على كسر العزلة التي كانت تحيط بها. وفهمت المراهقة ما في سلمى من قلق واضطراب،ذلك أنها مرت،هي الأخرى،بمثل هذا،وهي التي يقول فيها الراهبات : "أمل،جميلة،ذكية،وكم هو مؤسف أن تكون هذه المسكينة مسلمة!". وفي البداية،لم تكن تريد البقاء. وكانت تبكي كل يوم،ولكن أباها لم يقبل ذلك منها : فأفضل المدارس في لبنان هي المدارس المسيحية. وتعتبر الأسرة المسلمة أن مما يشرفها أن ترسل بناتها إليها. وتسأل سلمى أمل،بنعومة،قائلة :- أمل اشرحي لي أرجوك،فاللبنانيون الآخرون قبلوا الانتداب الفرنسي. فلم يحارب الدروز؟- إنها مسألة شرف!وتتألق العينان الزرقاوان.لم نكن في البداية ضد الفرنسيين،ولكن المندوب السامي،الجنرال ساري،شتم رؤساءنا. (..) – إذن فأنتما تتآمران؟وانتصبت أمل أمامهما،وقد استعدت للقتال.- ما أكثركما حصافة! { ما أشد حصافتكما} والواقع أننا كنا نتناقش في الطريقة الأنجع لطردكم من لبنان.وكانت ماري لور تنظر إليها بشيء من العطف.- أوه،أوه! هوني عليك،يا صغيرتي،فبعد كل حساب،لولانا،لكانت بلادكم ما تزال منطقة مستعبدة للعثمانيين! وتتدخل ماري أنييس قائلة :- أنهوا أحاديثكم. فحولنا من يستمع إلى ما نقول. ولئن علمت الأمهات أننا نتحدث في السياسة،إذن لكان عقابنا الطرد من المدرسة. واحتجت سلمى بلهجة جافة،قائلة :- إن هذا بالغ السهولة أن نهرب الآن بعد أن شتمتمانا!وهزئت ماري لور من صاحبتها،وقالت :- انظري،إن الأميرة تطلب تعويضا. حسنا. إني أقترح أن نسوي النزاع فوق ساحة الرياضة. وأنا أترك لكما اختيار الأسلحة : فإما العدو،وإما القفز.- القفز! بالمظلة. وكانت ماري لور أطول منها بعشرة سنتيمترات،وسلمى تعرف أنه ليس لها أدنى حظ في التسابق بالعدو معها.وتقع ساحة اللعب (..) وحلوهما كانت الطالبات يتجمعن منتبهات.وتتطوع اثنتان لرفع العوارض على أبعاد متساوية : عشرين فعشرين سنتيمترا. ولديهما القليل من الوقت قبل نهاية الفرصة. وهناك طالبتان للمراقبة. وأول قفزة كانت كلعبة أطفال.(..) وهنا يصبح الأمر جديا. وتقفز الواحدة بعد الأخرى،متجمعة كل منهما حول نفسها،ومتركزة. (..)ولم تكد تنهض من مكانها حتى هبطت ماري لور وراءها. فتصالبت نظراتهما،وترددتا لحظة،ثم تباعدتا.- 80 ،2 مترا.وبهدوء تسلقت سلمى الدرجات. وشعرت بارتجاف غريب في صدرها. أما تحتها فيسود الصمت. وهناك عشرون زوجا من العيون ينظر إلهيا.ولا مجال للتراجع.فتتنفس بعمق : هيا!وما كادت تنطلق حتى عرفت. وكما لو أنها تضاعفت – سجلت الكسر،وحرقة ضربة السوط،والألم اللامحتمل،,في الوقت نفسه،تسجّل نوعا من الارتياح : لقد انتهى الأمر،,ليس عليها الخوف.وكانت الصرخات تدوي حولها،وكل شيء يدور. لا .. إنها لن تتقيأ،إنها ... أين هي،وماذا حدث.ولِمَ تغسل لها الأم جان وجهها بالماء المثلج؟ ولِمَ هذا الوجه المرعوب؟وعندئذ شدها ألم في الساق اليمنى إلى الحقيقة. - لا تتحركي يا صغيرتي،ستصل عربة المستشفى. ولكن أي سوء تبصر. كان يمكن أن تقتلي نفسك. فلِم قفزت من مكان بهذا العلو؟وترد سلمى بتقطيب وجهها،وتقول :- كنت أتدرب .. كمقدمة للألعاب الأولمبية. وينقلب وجوه البنات من القلق إلى الإشراق،وتكثر الضحكات. وكان هذا أكثر مما تتحمله ماري لور. - إن الحق عليّ،يا أمي فأنا التي .. وقاطعتها سلمى بحدة :- إنك أنت التي جعلتني أتذوق الرياضة. وكان عليّ أن أفهم أني لست بحيث أضاهيك.وتتنهد الأم جان قائلة :- يا طفلتي المسكينة. أترين إلى أين يؤدي الغرور والزهو بالنفس؟ (..) وعادت سلمى بعد شهرين إلى المدرسة على عصوين،ودخلت الصف. فاستقبلت بحماسة. وحتى البنات اللواتي لم يكلمنها قط،تجمعن حولها،عَجِلات.ومن آخر الساحة كانت ماري لور،تتقدم غير مبالية. وقالت لها :- إني سعيدة أن أراك ثانية.وهي جملة بسيطة. ولكن أحدا لم يخطئ في فهمها : إذ صدرت عن رئيسة الرابطة الفرنسية المارونية،مما يعني أنها تؤكد الصداقة.أما بالنسبة لسلمى فإن النهار مضى كعيد،وحتى الراهبات كن يقدمن لها مختلف صور العناية. وفي المساء، اقترحت عليها ماري لور أن ترافقها. وكما هي الحال مع أكثر الطالبات الفرنسيات،فإن تحت تصرفها عربة لها سائق ينتظرها عند باب المدرسة. وكادت سلمى أن تقبل عندما فاجأت نظرة أمل الحزينة.- إن هذا لطف منك. ولكني أحب أن أتنفس الهواء الطلق. وشاءت أمل أن تحمل لي كتبي. ولم تُخدع ماري لور بالكلام،فهزت كتفيها،وقالت :- إني آسفة،وكنت أظن أن لدينا أشياء نقولها لبعضنا. ثم أضافت : ولكنك على حق،بلهجة اللا مبالية،التي لا تحسن إخفاء خيبة أملها. فالوفاء في المقام الأول!ورأتها سلمى تبتعد،وقلبها حزين لأنها رفضت اليد الممدودة. وكانت تشعر أنها أخطأت. وعبثا حاولت أن تفكر في الأمر،وأن تبرر ما فعلت – فهل كانت تستطيع التخلي عن أمل التي كانت إلى جانبها حتى في أسوأ الظروف؟ وأخيرا تضاءل الفرح بذلك النهار. وحتى الشمس،فإنها فقدت بعض حرارتها. ){ص 221 -235 }.إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.