ملامح عمرية بين موقفين من أسرى بدر آخر تحديث:الجمعة ,21/01/2011
أ .د . قصي الحسين بالعودة إلى أسرى بدر، لا بد من الوقوف على ما رواه الإمامان: أحمد بن حنبل ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الحادثة في تاريخ الإسلام من الحقبة النبوية الشريفة جلاءً للحقيقة وتوضيحاً للموقف العمري منها، الذي دار حوله جدل فقهي وسياسي وديني، ظلت آثاره قوية على نفوس بناة الدولة الإسلامية الأول، إلى يومنا هذا .

فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: “لمّا أسروا الأسارى (يريد يوم بدر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: “ما ترون في هؤلاء الأسارى”؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما ترى يا ابن الخطاب؟” فقال: لاî واللهî لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا، فنضرب أعناقهم . فتمكن علياً من عقيل (أي أخا علي) فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيب لعمر) . فأضرب عنقه، ومكّن فلاناً من فلانٍ (قرابته) فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده” .

قال عمر: “فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان الغد، جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان . قلت: يا رسول الله . أخبرني، من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت . وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما؟ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة” - شجرة قريبة منه - وأنزل الله عزّ وجل: “ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض” (الأنفال : 67) .

تثمين رأي أبي بكر

والواقع أن بحوثاً كثيرة للغاية ومشكلات عويصة بالغة الأثر كانت قد اتصلت بهذه القصة في أسرى بدر، التي ذكرتها الروايات في سبب نزول هذه الآية من سورة الأنفال . وقد أخذ المفسرون يجتهدون في تتبع هذه البحوث، وتبيان جوانبها الدقيقة في المواقف النبوية والعمرية والصحابية وأحكامها، لأنها تمثل طريقة بناء الإسلام في النفوس، ديناً قوياً ودولة عظيمة .

ومعظم هذه البحوث عمدت إلى إقامة الموازنات بين ما أشار به أبو بكر رضي الله عنه من سياسة الترفق واللين، وما أشار به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من سياسة العنف والشدّة، أيهما كان أخير وأجدى وأعم نفعاً على المسلمين عموماً، وهم في طور النشأة الأولى .

فهناك من العلماء من ثمّن رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورأى في موقفه صلاحاً عظيماً ورشداً بالغاً، خصوصاً أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد مال إليه وارتضاه وعمل به، وأن القرآن الكريم على الرغم من نقده له، قد أقره بعد وقوعه ولم يأمر بنقضه، ولهذا نرى أن موقف أبي بكر قد أثر تأثيراً عظيماً في النفوس، حتى كاد دعاؤه يصل إلى سيدنا جبريل عليه السلام كما يقول أهل الأخبار .

نظرة أخرى

غير أن هناك فريقاً آخر من العلماء المسلمين استندوا في مواقفهم إلى جماعة من الصحابة كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا إلى رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومالوا إليه، وقالوا: لو أن المسلمين أخذوا به يومئذ لكسروا شوكة الشرك نهائياً، ولما قامت للمشركين قائمة بعد ذلك إلى اليوم . ولكنهم لم يأخذوا برأي عمر، فلم يمض عام واحد، حتى قام المشركون بحربهم في يوم أُحُد، وهزموهم يومئذٍ شر هزيمة . ثم كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم محنة الردّة، وخروج قبائل اليمامة والبحرين على الإسلام في خلافة أبي بكر، ما ألزمه بمحاربتهم، وجرّ على المسلمين أذى معنوياً ومادياً، وخسائر في الأنفس والأموال، وهذا يطول شرحه ولا يتسع له هذا المقال .

والعلماء الذين صوبوا رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أخذ المشركين بالشدّة والعنف عقاباً لهم على محاربتهم المسلمين، بدل سياسة الترفق واللين، استندوا في تصويبهم لموقف سيدنا عمر إلى تأييد القرآن الكريم الذي نقد موقف المسلمين في قبول الفداء، ولوّح لهم بأن القتل كان أولى، حيث ذكر الإثخان في الأرض، وقرّر أنه لولا قضاء من الله سبق بالرحمة لمسهم فيما أخذوا من الفداء عذاب عظيم .

حقيقةً كان النبي صلى الله عليه وسلم بما عرف عنه من حسن إصغائه لصحابته وحسن اصطفائه لأصحاب المشورة والرأي منهم، وخصوصاً أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، كان يراجع مواقفه السياسية والاجتماعية والعسكرية والدينية، وينتظر كثيراً قبل أن يقرّ رأيه على أمر من الأمور . وربما كان ينتظر نزول الوحي، فيتبين آنئذٍ له الحق من الباطل، فيقر نفسه على اتباع الحق مهما كان الثمن . ولا شك أن سورة الأنفال التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة بدر قد أثرت في نفسه كثيراً، لأنها كما فسرها العلماء، كانت توازن بين سياسة الترفق واللين عند أبي بكر وسياسة العنف والشدة عند الفاروق رضي الله عنهما . وكان الإسلام برأينا في تلك البرهة من تاريخه المؤثر يحتاج إلى كلا الموقفين .