كارتل.. كارنيفال.. كليشيه
بقلم :محمد الخولي
كارتل: «كارتيس» عند قدماء الإغريق كلمة كانوا يقصدون بها ورقة البردي ـ النبات الذي اتخذه المصريون القدماء رمزا من رموز حضارتهم.. كيف لا وقد سجلوا على أديمه صفحات من إبداعاتهم وأفكارهم وتواريخ تطورهم..
لاسيما وأن البردي كان من النباتات التي تنمو طافية على سطح النيل.. النهر الذي كان ولا يزال وريد الحياة في مصر وشريانها على نحو ما عبر يوما أمير الشعراء شوقي في رائعته التي تتغنى بها أم كلثوم.
من كلمة «كارتيس» اليونانية اشتقت لغات وحضارات الغرب كلمات ما برحت تعيش معنا في الزمن المعاصر.. ولعل أقربها وأشهرها كلمة مثل «كارد» وهي بداهة الوريقة أو هي البطاقة ـ الكارت كما تقول العاميات المتواترة.. ومنها أيضا كلمة «شارت» وهي من ذوات القربى ولو بنسب بعيدة من كلمة «خارطة» العربية..
بل أن منها كلمة موقرة الاحترام هي شارتر وقد وجدوا لها شيئا من القرابة في لغتنا العربية مع كلمات من مادة الشرط أو المشارطة التي استخدمها العلامة المصري رفاعة الطهطاوي في رحلته الباكرة المشهودة إلى فرنسا في الفترة (1826 ـ 1830).
وكان يقصد بها، وتابعته على ذلك المعاجم العربية المحدثة، معاني التعاهد الذي ينشأ مكتوبا، أو غير مكتوب بين الحاكم والمحكوم.. للأول حق الطاعة شريطة أن ينال الطرف الثاني حق العدل والسوية والإنصاف إنه «العقد» الاجتماعي عند الفرنسي ان جاك روسو (1712ـ 1778) وهو اللائحة أو الدستور بالمصطلحات العثمانية ومن بعدها مصطلحات القانون الدستوري في عالمنا العربي.
«شارتر» أيضا هي الميثاق في أدبيات السياسة العربية منذ أيام عبد الناصر في فاتح الستينات.. وربما استعاروا هذه التسمية من أشهر وثيقة تحمل هذا الاسم (شارتر) على الصعيد العالمي وهي «ميثاق الأمم المتحدة» الموقع في 26/6/1945 في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية إلى أن أصبح نافذا منذ يوم 24/10/1945 وحتى كتابة هذه السطور..
ولا يخفى على متابعتك كيف يحبس أهل العالم أنفسهم ـ وفي مقدمتهم جمهرة المراقبين والمحللين السياسيين حين يصدر قرار لمجلس الأمن الدولي وقد أحال إلى الفصل السابع من «الميثاق» في ديباجته (الحيثيات) فضلا عن منطوقة (النص) ـ وتلك مصطلحات الأمم المتحدة.
والطريف أن شارتا ـ كارتا اليونانية ومن بعدها اللاتينية بدأت أصلا بالإشارة إلى ورقة البردي المستخدمة لغرض الكتابة عليها. ولكن ضرورات التسهيل أفضت إلى المزج بين الكتابة (البردي) وبين المضمون (المادة المكتوبة ذاتها).. وعندما قاموا بتصغير الكلمة من كارت إلى كارتيللو اكتسبت الكلمة المشتقة المصغرة معنى التحدي وأصبحت الكارتيللو هي رسالة.
إعلان التصدي أو التحدي.. وبهذا المعنى استخدمها الفرنسيون وتبعهم في ذلك الإنجليز الذين اصطلحوا على كلمة «كارتل» لتعني الاستقواء والتحدي أيضا.. وفي القرن 16 أصبحت الكلمة مرادفة للاتفاق الذي تُجمع عليه الدول المتحاربة وبالذات فيما يتعلق بمعاملة أسراها.
ولكن الألمان استعاروا نفس الكلمة ـ كارتل ـ مع انتدابها إلى دور تؤديه في مضمار الاقتصاد وتعني بذلك ائتلافا.. تجمعيا.. تحالفا بين أطراف ومصالح صناعية واقتصادية تتآزر فيما بينها لكي تصدر قرارات السيادة لصالحها ولكي تنجح في الهيمنة على أسواق التبادل التجاري الخارجي..
ومن ثم فقد اشتد ساعد هذه التحالفات ـ الكارتلات تمهيدا لتحويل الاقتصاد الألماني إلى خدمة المجهود العسكري خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914 وبعدها سيطر مصطلح «كارتل» ليسود معناه الحالي الذي يصدق على الاحتكارات الكبرى الداخلية ـ المحلية والخارجية العالمية في مجال صناعة ما أو نشاط ما. وتضم هذه الكارتلات.
ـ كما هو معروف ـ أفرادا يتمتعون بنفوذ هائل على شاكلة ملوك الصلب أو بارونات النفط أو محتكري صناعات الدواء أو الكيماويات.. كما تضم مؤسسات عاتية تتحكم في البورصات والمبادلات بل وفي مقاليد النظم والدول والحكومات.. وتصدق عليها مسميات من قبيل الشركات عبر الوطنية أو المؤسسات المتعدية الجنسية.
كارنيفال: في مراحل التحول إلى العقائد الكبرى والرسالات السامية.. يشتجر الخلاف بالضرورة بين المبادئ الجديدة المطلوب ترسيخها في نفوس البشر، وبين الموروثات القديمة التي درج الناس عليها جيلا من بعد جيل:
هكذا كان على الإسلام الحنيف أن يتصدى لشعار «قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون» (الشعراء ـ آية 74) وهو أيضا شعار «قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا» (لقمان ـ آية 21).
بنفس المعيار عمدت عقيدة التوحيد الجديدة إلى إقرار ومواصلة موروثات رأت فيها سموّا ونبلا وارتقاء بمستوى الإنسان فكان أن أقرت أنماطا من شعائر الحج إلى بيت الله الحرام.
بنفس المعيار أيضا حاولت العقيدة المسيحية أن تقود مسيرة التطور تدرجا وئيدا من وثنية روما القديمة العاتية إلى الإيمان بالله وبرسالة عيسى عليه السلام بكل ما جاءت به رسالته من مبادئ وقيم ومثل عليا.
وقد عمد الآباء المؤسسون إلى أن يلتقوا في منتصف الطريق مع الموروث القديم. وتم هذا اللقاء على أرضية المهرجانات الحافلة التي كانت تقام قبل بداية الصوم الكبير عند أبناء العقيدة الفتيّة، وحملت هذه الاحتفالات اسم الكارنيفال وكانت بدايتها يوم 6 يناير من كل عام. وفيها يحتفل الناس تمهيداً لمعايشتهم المعاناة والشظف وحالة الاصطبار التي يتوقعونها خلال أيام الصوم.
والطريف أن الكلمة جاءت مشتقة من ألفاظ لاتينية قديمة منها ما يشير إلى اللحم (كارني) ومنها ما يفيد بمعنى الوداع او الامتناع وكأنها تفيد معاني وداعا للحوم أو الملذات وأهلا بالزهد والصوم والمعاناة ضراعة وتقربا.
هذه المعاني نقلها الفرنسيون حين عبروا الأطلسي واستعمروا مناطق شاسعة في العالم الجديد وخاصة الولايات الجنوبية من أميركا.. ولا يزال التأثير الفرنسي ملموسا في تلك الولايات التي احتفظت بالكثير من طابع الثقافة والمسميات والرموز الفرنسية، ومنها مثلا لويزيانا بجنوب الولايات المتحدة التي يشير اسمها إلى ملك فرنسا البوربوني لويس (لويز).
وقد دأبت على أن تحيي كل عام كرنفالها الشهير باسم «ماردي جرا» ومعناه حرفيا يوم الثلاثاء الدسم.. السمين الذي يشير بداهة إلى حكاية اللحم ومشتقاته.. دع عنك مهرجاناته الصاخبة التي يحتفل بها البشر.. لهوا وعبثا في الساحات والأسواق.
كليشيه: هو القالب المعدني أو الخشبي الذي كان يستخدمه فنيو الطباعة في صنع النسخ اللازمة من المواد التي يتولون طباعتها.. والكلمة فرنسية الأصل وقد اشتقوها من معنى التقليد أو المحاكاة أو التكرار المنقول عن أصل المادة.. والطريف أن هذا الاشتقاق لا يرجع إلى جذر لغوي أو سيمانتيكي يتصل بمعاني الكلمات أو دلالات الألفاظ ولا هو يعود من ناحية أخرى إلى أصول يونانية أو لاتينية أو سواها.
الكليشيه ببساطة لها أصل صوتي، إذ كان الطباعون في أزمنة انقضت يسمعون جْرسه وإيقاعه عند احتكاك ـ اصطكاك المعادن خلال عملية صّب السبائك في قوالبها المخصوصة من أجل تشكيل الحروف والرسومات وما إليها.
»كليشيه» ارتبطت بعد ذلك عند ناطقي الإنجليزية بمعنى الصورة النمطية أو المفاهيم المقولبة وأحيانا المعاني الثابتة المنطبعة وكلها تعبر عنها كلمة ستريوتايب والأقرب دلالة عليها هو كلمة النمط.. الجامد حيث أن كلمة ستريو في أصلها اليوناني تعني الجامد.. الذي لا يسهل تطويعه ولا تغييره..
وبعدها تحَّول الاستخدام في علوم الإتصال وفي دنيا الميديا الإعلامية المعاصرة إلى حيث ينصرف المعنى إلى الأفكار الثابتة والى الطروحات المكرورة التي تجمع بين عنصر الإملال وعنصر اللاتجديد واللاابتكار وتكاد توصل البشر لا إلى مجرد السأم من فرط الرتابة، ولكن إلى الإصابة أحيانا بآفة الفكرة الثابتة التي ربما تسيطر على أفهام الأفراد بل والجماعات فإذا بها تتحول إلى ما يكاد يشبه الوسواس الذي يعاد إنتاجه مرات ومرات.
وفي معرض إصدار الأحكام وتشكيل الاتجاهات واتخاذ المواقف على صعيد العلاقات بين الجماعات والفئات وأيضا بين الأمم والدول والشعوب تتخذ هذه الصورة النمطية.. هذه الكليشيهات النسخية.. هذه القوالب الجامدة.. ذات الأفكار الثابتة طابعا يجعلها تنطوي على التبسيط المفرط في أحكام الفرد والجماعة..
ولذلك استغلها دهاقنة الإعلام والسياسة في زماننا.. وكان من بينهم بالذات يهود وصهاينة.. في هذا الصدد يحكي الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني في كتابه عن «الأدب الصهيوني» كيف عمد اليهود الصهاينة إلى الترويج لتلك الصور النمطية الجامدة والمقولبة لتشويه الطابع القومي لأمم شتى.
. وكلها صور وقوالب تسيء إلى الأفراد والجماعات ـ فبينما يصور اليهود أنفسهم في قالب ـ كليشيه يفيد بأنهم مضطهدون.. مبدعون.. ماهرون.. إذا بهم يصورون في كتاباتهم.. كيف أن الإيطاليين خائبون.. والفرنسيين خائرون والإنجليز منافقون.. والأتراك مرتشون والعرب متخلفون والأميركان ساذجون أو.. هكذا يلوي الصهاينة أعناق المعاني والدلالات.. قاتلهم الله أنى يؤفكون.