ويكيليكس إستراتيجية متحركة
سوسن البرغوتي

تخصص موقع ويكيليكس بنشر معلومات معروفة مسبقاً لمن يتابع الساحة السياسية، ولكن ميزة الموقع تتمثل في توثيق الفضائح، وإنجاز أمور غير عادية، وفقاً لبرامجهم.

التسريبات التي نشرها موقع ويكيليكس، ليست أسراراً، كما يعتقد البعض، بقدر ما هي إعادة نشر فضائح وتصريحات، لأسباب عدة، ولإشغال العالم وإقناعه بـ"انتفاضة مجموعة" تأبى أن تبقي المعلومات في الأرشيف الاستخباراتي أو الديبلوماسي!.

أبدت الإدارة الأمريكية استياء كبيراً، لما نشره الموقع، إلا أن التناقض بدا واضحاً في بث ما اُتفق عليه أنه وثائق هامة، ونخص بالذكر، حول ما ورد من عدم موافقة مبارك على الانسحاب الأمريكي، وأنه لم يؤيد غزو العراق، رغم مشاركة النظام المصري في إرسال قوة عسكرية، يطرح علامات استفهام، ويستدعي التدقيق بتلك المعلومات بشكل عام.
موضوع آخر يتعلق بعلم النظام المصري وعباس مسبقاً بالاعتداء على القطاع، وكأنه أتى بخبر يدهش العالم، والكل يعلم أن ليفني كانت بقاهرة العرب، قبل يومين من الاعتداء، وأن عباس بشر بـ(عودة الفاتحين) قريباً، مع تسريب معلومات تفيد أن (إمبراطور) غزة الفار يستعد على الحدود لتسلم الحكم المحلي وعودة وباء العمالة إلى القطاع، وبرعاية من هدد بكسر أرجل (المحتلين الفلسطينيين) لسيناء!
فهل فضائحهم منذ العدوان على لبنان والاعتداء على القطاع، انقطعت أو انفصلت عن المهمة المطلوب منهم تنفيذها؟!.

تأتي أي معلومة تسلط الضوء على تصريحات وسلوكيات قيادات في أنظمة الحكم العربية وغير العربية، وانتقاد هذا أو ذاك، من قبيل الفكاهة الساخرة، أو إعادة نقل تصريحات لـ(إسرائيليين) حول المشروع النووي الايراني، وتأييد ضرب إيران، أقل بكثير مما يعرفه العامة والخاصة وما تبثه الفضائيات وتنشره الصحف والمواقع.

وفيما يتعلق بالتطبيع السري والعلني، فحدث ولا حرج، وملموس في الصحافة والقنوات الفضائية لدول التبعية والمؤتمرات المشبوهة التي تُجرى في وطننا العربي، فضلاً عن أجهزة المخابرات العربية التي ترتع وتنتعش في الضفة الغربية والعراق المحتل، وغيرهما من بلاد العرب. ولا نذيع سراً، حينما نقول إن الكثير من قادة الصف الأول والأثرياء العرب، يمضون أوقاتهم في فلسطين المحتلة، أكثر مما يمضونها في بلادهم. فما السر الجديد الذي أدهش العالم، وما تأثير تلك الانتقادات والتشبيهات في تغيير العلاقات الدبلوماسية، وتغيير علاقات دولية، حتى يعرب وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني عن خشيته أن تشكل الوثائق "11 سبتمبر للدبلوماسية العالمية"؟!.
فكل من انتقده الموقع أو أعاد صياغة نشر تسويق سياسة أمريكا "الديمقراطية"، لا يعدو أكثر من اجترار ما نُشر، وقيل ويُقال.
نشر الموقع وثائق حول العراق، وجلّها مكشوف عنها سابقاً، ولكن ما نشرته ويكيليكس هي معلومات ناقصة وكاذبة، فهناك أكثر من مليون ونصف شهيد، وليس كل الشهداء نتيجة الاقتتال الطائفي، الذي يعني تبرئة الاحتلال من دمهم، ناهيك عن المعاقين والجرحى وعددهم يتجاوز المليونين، وخمسة ملايين مهجر ومشرد، هذا غير التدمير.. وعلى الرغم من تخفيف جرائم أمريكا في العراق، أزبدت الإدارة الأمريكية وأرعدت، والآن تهدد بإجراءات وملاحقات قضائية.
إن الوثائق لم تنشر بغتة، بل كان هناك حديث مستمر عن نشرها ومتى ستنشر، ولم تتخذ أمريكا أية إجراءات قبل نشرها، أليس هذا دليل على رغبتها هي والكيان الصهيوني بنشرها، وأنه يخدم مصالحهما معاً؟!، وهل ما نُشر يعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، كما يزعمون؟!.
أغلب الظن أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والمؤسسات الأمنية المتعددة، وتعارض كل منها وراء ذلك، ولا نغفل الأصابع الصهيونية، وراء هذه المضاربات والمنافسات. فهناك عدة مؤسسات أمنية تتضارب مصالحها سواء مع بعضها أو مع الإدارة، فتقوم جهة ما بتسريب معلومات كرصاصة طائشة، لا يُسمع منها إلا دوي انفجارها، ولكن لا تلبث أن تهدأ الزوبعة، بعد تمرير أمور خلال التهاء العالم بتلك الضجة المفتعلة.
اللافت إصابة بوش بخيبة أمل، حين علم أن بعض الأشخاص لا يحترمون الاتفاق الذي وقعوه مع الحكومة بعدم كشف بعض "الأسرار"، حسب ما صرحه، أي أنه على علم بهؤلاء الأشخاص، وأن هناك اتفاقاً موقعاً، ولكن بين مَن ومَن؟، فلا الهدف من هذه التسريبات، إسقاط أي حكومة بالعالم، ولا الكشف عن أسرار عسكرية أو سياسية.

فلا تغرنكم كثيراً، تلك المفرقعات والصرعات "الهوليودية"، فقد حفظناها عن ظهر قلب، والمخططات الاستعمارية، كلها باتت أهدافها مكشوفة، ولن يعيد الموقع أي حق من حقوقنا، أو يغير واقعاً. إلا أن اعتماد إستراتيجية متحركة على قاعدة استعمارية ثابتة، يعزز فقدان هامش ضيق لمصداقية أمريكا بالعالم، وانحدار بياني في سطوتها، فاستمرار الكذب والخداع لا يخلق مناخات هادئة مستقرة، كما تدّعي الإدارة الحالية، بل يزيد العالم تخبطاً وتصارعاً باتجاه المجهول، ويضعف من قدرة هيمنة القطب الأوحد على العالم ويشتتها، وهو المطلوب توظيفه لصالح قضايانا ووطننا العربي.
--