مقالا اخر عبر النت
الاباء الصغار " فيلم مغامر على مستوى الفكرة والانتاج والابطال
ولكن المغامرة وحدها لا تكفى !!
فى عام 1984 كنت شاهدا على هذه الواقعة , اندفع الجمهور على " دريد لحام " النجم السورى وحملوه على الاعناق فى دار عرض سينما " مترو " أثناء عقد مهرجان السينما وهتفوا باسمه وعندما شاهدوا عددا من نجومنا المصريين وعلى رأسهم الملك " فريد شوقى " عاتبوه قائلين نريد افلاما مثل " الحدود "!!.
كان هذا هو أول افلام " دريد " كمخرج ، تأليف " محمد الماغوط " الكاتب السورى الكبير.. بالفيلم جرأة سياسية تنتقد الحدود بين الوطن العربى .. لم يحدد دريد بلدا بعينه ولا سلطة بعينها وكان تجريد الزمان والمكان وسيلته للتعبير وهو ماكان يعد وقتها جرأة سياسية !! خاصة أن السقف المتاح لحرية التعبير فى سوريا منخفض عما كان مسموحا به فى مصر فى منتصف الثمانينيات..
وغاب " دريد " عن السينما حوالى 7 سنوات وعاد بفيلمه الثانى " كفرون " عام 1991 وشاركته البطولة مادلين طبر .. مجرد فيلم مسل للاطفال حيث افتتح به مهرجان الطفل للسينما دورته الاولى ..
وجاء الفيلم الثالث بعد غياب دام هذه المرة 15 عاما .. لاتستطيع أن تضع حدودا بين الافلام الثلاثة وانت تقيم دريد كمخرج حيث انه لايقدم رؤية اخراجية ولا أعنى بذلك أن المخرج هو الذى يستخدم بكثرة الزووم والكرين ويضع الكاميرا لتعبر بزاوية غير تقليدية لمجرد أن يقول انه مخرج أو انه يتدخل فى المونتاج بتعسف لتحديد ايقاع خاص للفيلم, ان البساطة فى التعبير هى أكبر دليل على أن مخرج الفيلم أجاد التوصيل ولكن فى أفلام دريد الثلاثة واخرها الاباء الصغار افتقدت بنسبة كبيرة روح السينما على مستوى الصورة وكأننا بصدد سهرة تليفزيونية يلعب الحوار فيها دور البطولة..
دريد فى الفيلم الذى كتبه أيضا يبدأ المشاهد الاولى على قبر زوجته التى أدت دورها سلمى المصرى ومعه أطفاله الاربعة وقيد دريد نفسه من البداية بأن عليه أن يمنح كل طفل مساحة من الحوار وهو يضع وردة على قبر أمه..
ونكتشف أن الزوجة الراحلة كانت وراء التحاق دريد لحام بكلية الحقوق حيث انه يعمل فى الشركة السورية مساعد ـ صول ـ وعندما يحصل على ليسانس حقوق سوف تتم ترقيه الى رتبة ضابط بالاضافة الى حصوله على زيادة فى مرتبه تعينه على الانفاق على أطفاله الأربعة..
الاحساس الهندسى فى السيناريو يظل هو المحرك الاساسى عند دريد , كل طفل عليه أن يقول كلمة و أن تنتهى باصغر أطفاله التى عليها أن تنطق بأعلى ـ ايفيه ـ ضاحك لانها فى العادة هى التى تنهى الموقف الدرامى بحكم السن..
وبمجرد أن يفتح الباب دراميا الى " حنان ترك " التى تؤدى دور خبيرة فى اليونسكو تأتى الى سوريا فى مهمة علمية بمجرد أن يبدأ الخيط الدرامى يتطور فى هذا الاتجاه أرى قيدا أخر فى الحوار وهو اللعب على التناقض بين اللهجتين المصرية والسورية ولابأس من ذلك فى موقف أو اثنين ولكن لا يمكن أن يظل هذا هو الهدف الاسمى وربما ايضا الوحيد الى درجة أن تقدم له أغنية فى منتصف الفيلم تتغنى بالكلمة السورية ومرادفها المصرى أو العكس.
ان عبد الودود وهو اسم الشخصية التى يقدمها فى الاباء الصغار وهو الاسم الذى احتفظ به دريد فى أفلامه الثلاثة التى أخرجها الحدود ثم كفرون ليواصل نهجه فى هذا المجال لانه لعب شخصية " غوار " من قبل فى أكثر من فيلم سورى خلال السبعينيات..
كان غوار يقدم شخصيات ضاحكة أما " ودود " فانه أكثر دفئا فى فيلم " الاباء الصغار " يصبح تبادل المسئولية بين الكبار والصغار هو محور الفيلم الاب دائما هو المسئول عن الصغار ولكن الحب الكامن فى قلب الصغار لابيهم يجعلهم أيضا مسئولين عن الاب..
هو يعمل ليلا على تاكسى ليستطيع دفع نفقات الاسرة فى التعليم وباقى أمور المعيشة وهم يعملون بعد انتهاء دراستهم لكى يتيحوا لابيهم استكمال دراسته وتحقيق أمنية الام الراحلة وأيضا تحقيق وضع أدبى ومادى أفضل للاب...
حنان ترك فى الاحداث ودخولها بيت " دريد لحام " حيث تستأجر غرفة فى الشقة للمساهمة فى نفقات الاسرة يحيل الامر الى نوع من الصراع الخفى بينها وبين الابناء على الاب.. حتى يتأكدوا فى النهاية من أنها لاتريد أن تخطف أبيهم منهم .. وتنتهى الاحداث بحصول دريد على الشهادة ونشعر بأن كل أفراد العائلة معهم " حنان ترك " وقد فاضت مشاعرهم حبا وتضحية..
المعنى العميق الذى أراده دريد كاتب ومخرج الفيلم هو أن المسئولية ينبغى أن تقودنا الى التضحية وأنك عندما تحب تمنح الاخر ولا تنتظر .. هذا عندما يكتشف دريد أن أبناءه يعملون لتوفير نفقات دراسته يقول لهم : لا أدرى هل أحضنكم على كل هذا الحب أم أعاقبكم لانكم خالفتم أوامرى ويقرر فى النهاية أن يحضنهم ..
بالفيلم لحظات من الشجن النبيل وأيضا مواقف على مستوى حرفة الكتابة االسينمائية تحمل ولا شك خفة ظل .. مثل مشهد صلاة الجماعة التى يدعو فيها الابناء أن يوفق الله أباهم وكذلك مشهد تنصتهم عليه وهو يحاور " حنان ترك " .. كما أن دريد أجاد قيادة الاطفال ومنحهم حالة من التلقائية فى الاداء ولو لم يستطع المخرج أن يهيئ للاطفال هذا الاحساس بتجاهل الكاميرا والاضاءة والميزانسين ـ الحركة أمام الكاميرا ـ لو لم يستطع " دريد " أن يحقق كل ذلك لفقد الفيلم الكثير من الجاذبية لان جاذبيته وسره تكمن فى الحفاظ على تلقائية الاطفال وعدم تصنعهم التمثيل!! كذلك قدمت حنان ترك وسلمى المصرى دوريهما بنفس درجة تلقائية الاطفال ورغم ذلك فان الفيلم على مستوى الرؤية البصرية تنقصه عين المخرج القادر على أن يجعل الشاشة تتكلم سينما بكل تفاصيلها.. !!
" الاباء الصغار " فيلم مغامر على مستوى الفكرة والانتاج والابطال ولكن المغامرة وحدها لا تكفى !! حضر دريد وغابت السينما!!"
تحرير : طارق الشناوى
نقلاً عن جريدة صوت الأمة بتاريخ 13 فبراير 2006 - 14 محرم 1427 هـ
بالإتفاق مع الجريدة
![]()