منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى ... 2345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 40 من 46
  1. #31

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    5


    تذكرت السمراء سجن القلعة ومشاهد الرعب والألم والموت، حيث يجذب السياح من كل أنحاء العالم، أغمضت عينيها في محاولة طرد الصورة المرعبة. وبعد أن تركوا قصر الملكة، سألت صابراً:
    - أين نحن؟
    ـ في ساحة بيكاديللي، هنا مركز لندن. انظري كيف تنتشر محلات بيع الهدايا التذكارية وهنا دور الحفلات الموسيقية والعرض المسرحي والنوادي الليلية.
    قالت الشقراء: أنا جائعة يا صابر، ألا نتوقف قليلاً؟.
    ـ سنتناول غداءنا في مكــــــــان فخم، اصبري قليلاً. ها قد وصلنا (الطرف الأغر) هنا أيضاً تــوجد المسارح ودور العرض والنوادي الليلية والمطاعم. وأشار إلى مبني المعرض الوطني قائلاً :
    سأرافقكما لـرؤية المعرض، إنه ضخم ، ويضم ّأكثر الرســـومات براعة في العالم. كما سنزور المتحف البريطاني، إنه أقدم وأعظــم المتاحف في العالم، يضــمّ تاريخاً عالمياً يمتدّ لأكثر من مليوني سنة، ويحتوي على أكثر من 49 صالة عرض.
    تخيلت السمراء صورتها ضمن صور المتحف، ووجهت سؤالها للشقراء؛ هل من الممكن أن نكون ضمن هذا الإبداع ، ويشار لنا بالبنان ؟ .
    أجابتها الشقراء: من يدري.
    ردت عليها السمراء: مادام وليد يتحلـّى بالشرف والكرامة والكبرياء، إنسي.. إنسي.
    - ولمَ لا ( خطرت بباله بعض كلمات وأرد أن يفرد عضلاته أمامها ليتقرب إليها )
    - ستكونين أجمل امرأة تزورها الوفود وتهز الرأس إعجابا فأنت يا صغيرتي نبع ، والفنان الذي لا يرسمك أبله .
    أطالوا البقاء في المتحف البريطاني، حيث الحضارات الشرقية والغربية.
    وقفت السمراء نصف ساعة أمام الآثار السومرية، بوابات وألواح ونسور مجنّحة: إنها آثار وليد، كأني أشمّ رائحتك يا وليد، كأني أقرأ كتابك بين هذه الرموز. كم أنت عظيم يا فنان سومر، أي كلية درّبتك وأي أساتذة علـّموك؟ أنت أستاذ نفسك.
    قال صابر مبتسماً:
    - هل تكلمين نفسك؟
    ـ معك حق، من يرى عظمة تاريخ وحضارة سومر لا بدّ له أن يهذي ويكلـّم نفسه.
    أضافت السمراء: الخلق والخلاق يحتاج لما هو أكبر منه، يحتاج إلى المئات بل الألوف ممن يشبهونه ويشبهون أنفسهم ليخوضوا ساعة خلق واحدة.
    خرجوا.. قاد صابر السيارة مسرعاً:
    - أنا بدأت أشعر بالجوع، ما رأي الحلوتين لو تناولنا الغداء، فأمامنا متسع من الوقت لرؤية معالم لندن؟ سأختار مطعم بغداد، بعدها نأخذ قسطاً من النوم، فنحن مدعوون من قبل شخص مهم الليلة.


    ***


    ذات صدفة وهو يكمل ثوبها الأحمر إلى حدّ الأكمام، سمعته يحاور أحد أصدقائه عبر الهاتف، فنان مهووس بالنساء مثله، استنتجت أن ذلك المحاور يحدثه عن موديلاته العاريات، وكيف أنه استمتع بأنوثة الطبقة البورجوازية، وحسد الانتعاش الاقتصادي، وكان وليد يردّ عليه : ليس الجنس الوحي الوحيد، بل الخصوصية وامتلاء الذات، يا أخي النساء هنّ الحرب والسلام.
    لحظتها رأته كقسوة الشمس في ظهيرة قيظ، وكمن يعوم وظله في السراب.
    في أحايين كثيرة يتشبث بقوة كاذبة يتصدى بها لضعفه ، يحاول أن يعيد له اعتباره ويراهن على أسئلة تنقذه من نفسه ،لكنه حين تخور قواه، يعود إلى ألوانه بثلاث زجاجات من البيرة ويحتسيها دفعة واحدة ، يغمض عينيه من دخان سيجارة يزفر فيه سنوات علقت بالذاكرة ويسأل لنفسه :
    - كيف كنت شيوعياً،أكنت معارضاً لإرادتك أم لمؤسسات زائفة ؟
    ثم يرسم في الهواء ظلا يطارد أصابعه ويرجع يتغزل بساق شقرائه أو زندها أو نهدها، أما ذات الشعر الأسود، فلا يهوي منها إلا مزج الألوان، حين تنتابه نوبة الرسم ، مما جعلها تلعن مدير السجن على عدم بتر يده الأخرى، ثم تعود تستغفر ربها طالبة له دوام الصحة والعافية.
    في مساء ممطر، رنّ جرس الباب، كان وليد يتكوّر على نفسه ويهتزّ كطفل مذنب . لكــــــن الجرس رن عشر مرات، مما جعل وليـــــد يضجر صائحا:
    - دخيل الله مَن؟
    أجابه الطارق بصوت أجشّ :
    - قلب بشري خنقه شبح الليل والمطر وقذف به على بابك.
    ـ مرحباً، تفضل مراد، ما الذي ذكرّك بنا الليلة؟
    ـ قلبي يابس، وجئت أطرّيه عندك.
    ـ هل أجلب لك بيرة؟
    ـ لا.. أحب أن أسمع شعراً، فأنا اليوم أكثر الشعراء اغتراباً.
    ـ هل أصابتك لعنة عشق جديد؟
    ـ بل أنا توّاق لحزن أغسل به حزني، ربما أتطبّب بما هو دائي.
    نط ّ وليد حافياً وتناول كتاب جبران من مكتبة معـلـّقة على الحائط: اسمع ما يقوله جبران:
    (يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، اسمعني أيها القدر الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة. أصغ لي، فإنّي أعيش بين البشرية المشوشة).
    مدّد مراد رجليه على الأريكة، ونام مسترخياً:
    - الله، الله، يا جبران. أيها الإله الضائع سجّل، سجل وحشتي بسجلك ولا تستغرب إن قلت لك سئمت مسرتي، وسئمت انتظاري لها، لقد بلغ بي الكبر وكبرت عزلتي؛ لمَ لم تقرأني في سطورك وأنت الذي قلت؛ اقرأ؟
    - شيطان وكافر؟. ما الذي دهاك؟
    - جرعة المرارة كانت أكبر مني، كل العذاب الذي ذقته في حياتي (صمت برهة ثم تابع): نحن الشعراء تعساء الله على الأرض، حتى أحقر نقطة في الحياة تحتقرنا، وفي النهاية نموت.
    قدم له وليد زجاجة بيرة :
    ـ أعرف أنك ورّطت نفسك كعادتك، ألم أقل لك لا تمشِ على حبل؟
    ـ تقصد حبل الصراط المستقيم؟ ما ذنبي إذا فُطرت على الحق وقوله وفعله؟
    ـ ها.. انظر أطراف يدي، كم نزفت في السجن وأنت شاهد على ذلك. استمعت الى دبيب الحشرات على جسدي من أجل قيامة أخرى،من أجل أن أقول للضائعين انتبهوا، حان الوقت ، وآخر المطاف أمريكا تتربّع على صدورنا، وتقول لي صراط مستقيم، يا أخي لا صراط ولا مستقيم، آخرها محرقة.
    ـ هذا حرام ، على مهلك يا مراد .
    ـ أؤكد لك أني أكفّر عن ذنب الشيطان حين أحرَق مراد الذي بداخلي .
    المسيح قال : (أنا هو خبز الحياة ) وصُلب، فكيف نحن أولاد الكلب؟ نحن مصلوبون منذ لحظة المضاجعة، وتصوّر المسكينة أمي وأمك تنتفخ بطنها ولا تدري أنها ستلد مصلوباً، نحن بحاجة إلى شريعة خاصة بالمصلوبين*
    وهم في طريق عودتهم إلى الشقة بعد وجبة غداء دسمة ، زحفت يد صابر إلى الشعر الأشقـــــر ، تجاوزت حدودها وامتدت إلى العنق، انزلقت نحو الصدر، ظلّ الشوق مباحاً، خطّ خطاً مستقيماً، استسلمت الشقراء لمداعبته، وراح يخاطب السمراء:
    - أعرف أن لك عناد البحر، لكن ارتدي ثوباً شفافاً، ابرزي مفاتنك ودعي شعرك يثور ثورته الغجرية. لقد اشتريت لك أغلى الملابس ، أكنت تحلمين بثوب من (فالنتينو) ، أو ساعة من (فرساتشي)، ألك حقيبة يد(بألفين باوند)؟
    - داعب يدها :
    - لديّ من يقدر الجمال النافر.
    أطلق زفيراً عميقا ً وأشار بأصبعه :
    - خُذيها نصيحة منى، اضحكي على الحياة قبل أن تضحك عليك، أنت أيتها النافرة من الضلع الأعوج، يا كل النساء بامرأة.
    هزت رأسها استنكارا ً:
    ـ أنت قوّاد، وأنا جميلة لنفسي وبنفسي وسأرتدي أقراطي وأساوري لأتحرّر من عقل رجل يشتهي غزو الجسد. أيها الأعور، أنتم أطلقتم على حواء لقب الضلع الأعوج، أتدري لماذا؟ لأنكم تخافونها، تخافون سجودكم تحت قدميها. حمّلتم حواء ذنب الكون، ونسيتم ضعفكم أمام الغواية.
    دنا منها لكي يطيّب خاطرها، فنفرت:
    - سأرتدي بإرادتي ما يحلو لي وأتجمّل لنفسي.
    - طيب، المهمّ أن تكوني جميلة المظهر، وفاتنة.
    قبل أن تبرحا صالة الشقة، رجاهما صابر أن تتحليا باللباقة، وأعــاد عليهما مرتين :
    - القلوب والآذان صوب جيوبهم، فهمنا؟
    ردّت عليه الشقراء بتوتر:
    - أتعبتنا يا أخي بوصاياك، هل أنت ابن الشيطان؟
    جلستا صامتتين، كمن يضع خطاً فاصلاً للشر. اخترقت الشقراء الصمت :
    - إذا كان من تأخذنا إليه شيطانا ًمثلك فأنا أؤكد لك أني سأجعله يتوب. لا يلتقي شيطانان في مكان واحد، سأجعله يغدق علي بعطاياه لأصبح اللبوة المفضلة، وبهذا أكون قد روّضته، فيهزّ جيبه كلما اهتـزّ وسطي وأغمضت عينيّ عن خطيئـة شيطان لـه مسبحة وسجادة.
    - كيف عرفتِ أنه شيطان بمسبحة؟.
    - سمعت البارحة طقطقة المسابح الثمينة في سهرتك.
    في الطابق الخامس، من إحدى العمارات الفخمة في شارع (ريجنت) قبل أن يُطرق باب الشقة رقم (105)، كان الخدم يراقبون وصول الزائرين من العين السحرية.
    في المدخل أربع خادمات عربيات بزي موحّد، وقفن ضاحكات مهلـّلات :
    - يا هلا.. يا هلا.
    وعلى نحورهنّ قلائد ذهبية متشابهة، فالأزياء موحدٌة في كل شيء، الملبس والأحذية والذهب وحتى ترتيب الشعر. قادتهم إحداهن إلى الصالة، هبّت رائحة البخور وروائح المسك الطبيعي التي عجـّت في كل مكان.
    تنبّهت السمـــــــــراء إلى السجاد الإيراني الفاخر ، أما الأخرى فأشارت إلى صاحبتها لتنظر الى ثريات صغيرة في جانبي الشقة، وثريا كبيرة مطلية بماء الذهب في السقف، وأغمضت عينيها كطفل يريد التمسّك بلعبة أغوته، كانت غايتها الاحتفاظ بمنظر الثريات المصنوعة من الكريستال الخالص. أما صابر، فقد ذاب كفصّ ملح.
    جلستا تمسّدان الأرائك والمزهريات والتحف الثمينة، على كرسيين مصنوعين من الخشب المحفور.
    إلى الجانب الآخر طاولة مستديرة وضع عليها ملاءة من الدانتيل الأحمر المشغول بخيوط فضية، وفوق الطاولة عُلـّقت مرآة من الفضة الخالصة.
    كان يدور في خلد السمراء قلق يثير شكوكها لذا شعرت كأن سيفًاّ مسلطاً على رقبتها ، أحياناً تأتي الأفعال لا إرادية ، إذ لا يملك الإنسان إلا أن يشك في كل شيء.
    على حذر من الجميع, اتخذت لها ركنا منعزلا فثمة غموض في هذا المكان . سارت الشقراء في الصالة مدققة في كل ما تقع عيناها عليه، ثم رجعت إلى مكانها مسرعة، حالما دخلت إحدى الخادمات حاملة كأسين من العصير الطازج.
    ـ شكراً (قالتا بصوت واحد).
    استخرجت عطراً من حقيبتها، أزاحت شعرها الأشقر عن أذنيها وعطـّرت ما تحتهما مروراً برقبتها، ثم قدّمته لصاحبتها. شكرتها السمراء، دون أن تأخذ العطر.
    الأفكار والناس والمكان، وصوت يلمع في صدر السمراء، كل هذا جعلها معطـّلة عن التفكير..
    ـ لم أرَ في حياتي شقة كهذه.
    أجابتها الشقراء وعينها على ضيف وسيم :
    ـ عزيزتي ما دخلنا غير ثلاث شقق، شقة وليد وشقة صابر وهذه الشقة، ومن خلالها دخلنا أبواب الشيوعية والرأسمالية والسمسرة.
    أحسّت السمراء ببرودة هواء قادم من أحد الشبابيك، نهضت تستنشق بعضاً منه، واستدارت صوب صاحبتها بعد أن لعب الهواء بشعرها ، لحظتها فُتح الباب دون استئذان، فقد تعمّدت الخادمة أن تتركه مفتوحاً .
    ـ يا حافظ، ما حد إجا؟ وين الباقين،. عفواً، السلام عليكم.
    ـ وعليكِ السلام.( جميعا )
    دخل الحلاق خلف المرأة، الحلاق المائع الذي رأتاه البارحة، وعلقت السمراء على مشيته، أما صابر الذي غيّر لهجته حسب هوية المتحدثين وقف مهلـّلا مرحباً بالحاضرين، كأنه صاحب الدار. بعد مضي دقائق أشار للخدم إشارة معينة، فاصطفت على الطاولة أنواع المازات ودارت كؤوس الشراب. ولدى دخول أحد المطربين وفرقته، أسرع الخدم لحمل الآلات الموسيقية عنهم، وانشغلوا بتهيئة (الميكرفونات)، فأصبح كل شيء أليفاً، المعاكسات، الكأس، الوجوه، التبغ، النساء المتبرجات، الياقوت والماس؛ كل ذلك خضع للكأس. تهيأت الفرقة الموسيقية، وأصبحت رهن الإشارة.
    حضر الصحفي محمود، نظر إليهما بنظرة خاصة، وابتسم بوجه السمراء. وحين صافحها ترك يدها تنام في يده، وقف مذهولاً بعينيها الواسعتين ورموشهما الكثيفـــــة، فأحسّت برجفة يده ونبضه . وفجأة ساد صمت، ووقف الجميع إجلالاً لصاحب الدار، حالما قال السلام عليكم ردّ الحضور بصوت واحد :
    - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فلما جلس جلسوا، وحين وقف هبّ أغلبهم للوقوف بجانبه، لكن لما ابتسم منحهم بركة الابتسام، وراحوا يضحكون لمزاحه السخيف.
    - همست السمراء لصاحبتها :
    - أهذا نوع آخر من الفراغ؟
    - هِس، أصمتي.. هنا الحيطان لها آذان. ( ردت عليها صاحبتها بتوتر)
    أخافتها شفته المتهدّلة، فواصلت أسئلتها :
    - وعندما يخرجون من جلودهم، هل تسمعهم الحيطان أم تتستر عليهم؟

  2. #32

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    6
    عزفت الفرقة أغنية أم كلثوم ( أراك عصي الدمع)، تمايل الجميع معها، طلب المحفوظ أن يغيروا العزف إلى أغنية راقصة. وبأمر المحفوظ رقصت النساء، وشُـدّت الأوساط، زحفت السجاجيد مع الأقدام الراقصة، أُزيحت الطاولة الوسطية الكبيرة جانباً، وتناغموا مع حركات جسد الشقراء الراقصة وموسيقاها.
    أما الصحفي فقد اغتنم الفرصة وجلس قرب سمرائه، حيّاها، ورأى العالم كله في عينيها، نسى الكلمات، نسى الحضور، إلا حضورها ورائحتها. سألها:
    - ما اسمك؟
    ـ لا اسم لي.
    ـ أهذا معقول؟
    ـ الذي جاء بي إلى الدنيا لم يعطني اسماً.
    ـ الحق على والديك.
    ـ ليس لي أم ولا أب.
    ـ عفواً لم أقصد إيذاءك، أنت يتيمة؟
    ـ لا، لست يتيمة، كما إنني لست ابنة زوج وزوجة.
    ـ من أنت؟ جنيّة،. (وضحك)
    ـ بل أنا من ألوان.
    ـ هل أعتبر كلامك مزاحاً؟
    ـ بل جد. بصفتك صاحب قلم، هل سمعت عن فنان اسمه وليد سالم؟
    ـ أظنني سمعت به، كم عمره؟
    ـ في الثالثة والخمسين، هل تعرفه جيداً؟
    ـ لا.. لماذا لم يحضر معك؟
    ـ إنه يرفض الخضوع، إنه فنان عظيم لكنه يقولب نفسه بأفكاره ويحاصر فنه ويحاصرني معه. الفن انطلاق، تعارف. كيف تكتب عنه الصحافة، وهو لا يزال يجهل نفسه؟
    ـ معك حق. لكن هل أنت إحدى موديلاته؟. ثم من المؤكد أنه لم يصل الى قناعة تامة بفنه، ويخشى النقد. أو ربما هو قبيح ومعقد بسبب قبحه، أعرف شاعراً قبيحاً يكره من هو أجمل منه وأشعَرُ منه فيحاربه.
    ـ صحيح هو لا يملك غير رقم واحد؛ بنطلون واحد وقميص واحد ومعطف واحد، لكن سيد محمود الفنان لا يُقاس بشكله أو حسبه ونسبه بل بتجربته وبما يقدمه من إبداع.
    (تولستوي) ترعرع بين الفساد وكان سكّيراً، لكنه أكبر روائي في عصره. و(بلزاك) برجوازي، أما أعماله فيقرؤها الفقراء والأغنياء. الإبداع أكبر من الطبقات الاجتماعية، إنه يخاطب وجدان الإنسان.
    ـ يبدو أن ثقافتك عالية؟
    ـ بل محدودة. تلقيت ثقافتي من وليد، كلما يُسقط عليَ لوناً اكتسبت منه معلومة ، لأنه يرسم بيده ولسانه وقلبه.
    ـ والعقل؟
    - إذا دخل العقل ساعة الخلق ما عاد إبداعاً.
    أشار الرجل الثري لصابر أن اقترب، ووشوشه، فردّ صابر:
    على الرحب والسعة، لكنها يا سيدي عصيّة.
    رفع الثري حاجبه وبدا عليه السرور:
    ـ بيدي مفتاحها، كن مطمئناً.
    اعتراها شك مما سمعت، وزحف الدم إلى خديها، رغم ذلك بدت كمدينة محصّنة. نظرة (المحفوظ ) تلتهمها، فتشغل نفسها بمحادثة محمود. هو يسألها عن نفسها، وهي تجيبه عن وليد. تفاجأ لقولها :
    - لم يسدّد فاتورة الماء، فالألوان تستهلك نقوده كلها.
    تهالكت الشقراء من الرقص، ورمت بنفسها على الأريكة لاهثة. صفق لها الجميع، فقد ابتلّ جسدها بعَرق الرقص والتهمتها العيون بالشبق حتى أثارت غيرة النساء الباقيات. بعضهن كنّ زوجات، وبعضهن عشيقات، والأخريات بديلات لمغامرة فاشلة.

    المحفوظ يومئ لخادمته ، فتنحني احتراما وتلبية لأوامره ، يهمس بإذنها فتجيب بانحناءة: أمرك سيّدي...لكنه يشارك اثنين يتحدثان عن الحب:
    - إنّ الحب كارثة تؤذي قلب صاحبها فقط.
    ثم يقترب من يقترب من السمراء هامساً :
    - قوامك جميل يا سيدتي، وثوبك أيضاً.
    - شكراً، الجمال جمال الروح والأخلاق.
    - شعر بفسحة الأمل، اقترب منها محاولاً الالتصاق بها؛ لكن الصحفي يسبقه بتقديم بطاقته :
    - تفضلي هنا رقم هاتفي وسأكون ممتناً لو سمحت أن أدعوك إلى أي مكان ترغبين ، هذا بعد إذن المحفوظ .
    استدرك خطأه واعتذر من المحفوظ ، لكنه أشار إليه مطمئناً :
    - خذ راحتك أنت في دارك .
    اخترق تطفلهما صدغيها وضمت يديها إلى صدرها كمن يضم ما يخصه من أشياء ، شعرت ساعتها أنها الوحيدة المنسجمة مع ذاتها ورغبت مواصلة الحديث مع محمود :
    ـ أتسمح لي بسؤال؟.
    ـ تفضلي، أنا كلّي لك فاتنتي.
    ـ ما الذي قادكَ إلى هذا الوكر؟
    تلعثم وهو يحاول أن يتفادى عينها :
    ـ طويل العمر بحاجة لمن يكتب عنه، وقد رغب أن أكتب سيرته الذاتية.
    رأت أن لحظة الصمت أبلغ، فارتأت أن تصمت. تناولت حبتين من الفستق، قشرتهما وقدمتهما له:
    - هل تحترم الكاتب الذي كتب روايات صدام حسين؟
    هز كتفيه وزمّ شفتيه:
    ـ هل لديك خبرة في كرة القدم؟ الأقدام تركل والكرة تسجل الهدف، في ملاعبنا عدد كبير من الكرات والتبعية للركل.
    ـ إنه اعتداء على الأدب أليس ذلك يا سيدي ؟
    استغرق يفكر، ما الذي ستقوله عنه وماذا يفعل للحياة ومتطلباتها؟. التفت يمنة فجاء وجهه بوجه امرأة قبيحة، وقال دون تردد:
    - أعوذ بالله من شرّ ما خلق.
    هرب منها إلى وجه السمراء من جديد، كان يستعذب نظرة عينيها، فبادرته:
    ـ قل ما تريد، أحس أنك بحاجة للكلام.
    ـ هل قرأتِ شعراً، وأي نوع من الشعر تفضلين؟
    ـ سمعت من وليد شعراً كثيراً، كما إني أفضل شعر العشق لأنه ينفلت من القلب، ثم كم مـرّة أحببتَ؟
    ـ أوه.. كثيراً.
    ـ وتسمّي التعدّد حباً؟ القلب لا يعشق إلا مرة واحدة، وأنت لم تعشق سوى امرأة واحدة وخانتك، أليس كذلك؟
    ـ كيف عرفتِ؟
    ـ لأنك تخونها مع الأخريات، تخون من تتربع في صدرك، و بالتالي أنت بلا حماية، رجل قاصر، قلبك مع واحدة وجسدك مع العشرات.
    ـ المعذرة سيدتي، أظنك عاشقة حدّ النخاع، وأعتذر إذا كان سؤالي أزعجك.
    ـ ليــس الحب عيباً لأداريه؛ الحب أكبر من الأرض والسماء، لذا يطير قلب العــاشق في اللا حــدود، باختصار هو ميلاد وموت.
    كان الوقت يمضي مملاً بالنسبة لها، قرب صحفي متطفّل. تسارع وقع حبات المطر على زجاج النوافذ، دنت من الشباك لتسمع صوت المطر الذي تعشقه لعشق وليد له، كانت تستمع لخفقات قلبه كيف تتناغم وحبات المطر. وكان محمود يثني بين اللحظة واللحظة على جمالها، ويخبرها أن صورتها لم تفارقه منذ البارحة، وأنه يحس كطفل بين يديها، وبعد كل كلام يدور بينهما يذكرها برقم هاتفه. وساعة تجيبه بأنها ستحاول الاتصال به، يعود لسؤالها عن اسمها ومن أين جاءت وما هو عنوان أهلها؟
    كانت تتابع حركات صابر وهو يفرك الكأس بين يديه ككلب حول وليمة. ومع استمرار الطرب والشرب ترنّح من ترنح، وعلت أصوات الضحكات والشهقات . وامتدت في الزحمة يد إحدى الحاضرات الى جيب أحد الضيوف المهمين عند صاحب الدار وسرقت محفظته؛ كانت السمراء تراقبها كيف زحفت مثل هرّة، ولكزت محموداً لكي ينتبه إلى ما تفعله اللصة.
    لم يكن اهتمامه بحدوث السرقة كبيراً، فقال لها:
    - كلهم سارقون، وكلهن يسرقن ويطلبن أجراً. هنّ يسرقن الألباب والقلوب والجيوب، وهم يسرقون الأجساد.
    غاصت الأيادي في ثريد اللحم، صوت الملاعق والشوك والمصمصة تثير اشمئزازها ، كانت تدعو الله أن ينقذها من محنتها، وكلما شعرت بعيون محفوظ السلامة تطاردها، ودم الرغبة يفور على شفتيه المتهدلتين تقززت منه ورأتهم جميعا حيوانات بقرون .
    - نعم حيوانات بأجساد بشر .

  3. #33

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    7




    انتبهت وهي تحاكي نفسها ، كل لحظة تجدها فخا جديدا ، مرّت صورة المرسم، رجل مهووس بغيرها، يبعدها صوت رجل تجشأ، عبثاً تعيد الصورة، يشدها الصوت إلى الواقع، فتبذل أقصى جهدها لتسترجع الأشياء كلها حتى أواني المطبخ. تفحّصت المكان بتفاصيله، طريقة نفثه لدخان سجائره، أزرار قميصه المفتوحة على آخرها، أصابعه الصفر من كثرة التدخين، صدره الموشوم بعلامات الحرق والتعذيب، يده المبتورة، النسيان والذكريات، الأشعار التي يرددها، سلطته على ألوانه، لحظات تغزّله بالشقراء، عاصفة صدرها المتفجرة وهي تكاد تصرخ، كل ما يمتّ لوليد بصلة تعتبرها حياتها ومماتها*
    انتبهت للصمت، صوت الصمت يعلو، بأنفاسٍ لصيقة بها :
    - يا الله، أين الجميع؟ لا أحد في الصالة، أين كنتُ وماذا حدث لي؟
    - اهدئي (وضع يده على كتفها ولفّ ذراعه حولها) عزيزتي لقد أمرت الجميع بالانصراف، وأنا معك الآن.. هدّئي من روعك.
    - أين صاحبتي؟
    - في إحدى الغرف مع صابر.
    راحت تتمتم: عادت لفعلتها ثانية؟
    وضعت يديها على صدرها، ضغطتهما بقوة، برز أحد النهدين بينما الثاني احتفظ ببعض حياء :
    - كيف لم أشعر بخروج الجميع؟
    - حين وجدتك حالمة ولست معنا، ولم تشعري بما يجري حولك، أمـــــــرت الآخرين أن ينصرفوا بهدوء، وأنت أدرى بأوامري. حلوتي، جمالك جبار وعيناك ساحرتان، فابعدي الحزن عنهما.
    - عفوك سيدي أنا لا أستحق إطراءك.
    وضع يده على فخذها، ارتعشت مثل سعفة، دقات قلبها المسرعة بانت من وريد رقبتها، خاطبها:
    ـ بالمناسبة، اشتريت إليك عقداً ماسياً، تفضلي هو إليك.
    ـ معذرة، ما اعتدت على ارتداء الماس.
    فاجأها برمي نفسه عليها، وحملها بين ذراعيه، وبكل قوته شدها وأحاطها، حتى ما كادت تفلت من قبضته:
    - أنت العقد الثمين وأنت البرتقالة الناضجة، وكل النساء قشور.
    - أدخلها غرفة نومه، ورماها على فراشه، ارتفع ثوبها إثر الرمية، فبدت ساقاها كلمعة برق.
    - لا تخافي (أمسك بها، ونظر إليها باشتهاء) ألا تنسي؟
    - تعالي أجعلك تنسي الدنيا، أعرف أنها المرة الأولى، لمحت ذلك في عينيك وانزوائك. سأجعلك تبلغين الذروة، أنا متمرّس في ذلك.
    - سيدي أنا لستُ كما تعتقد.
    - اسمعي.. سأدفع لك أي ثمن تطلبين، شرط أن تتركيني أفعل ما أريد. أنت نصيبي اليوم، لكني لن أرغمك. كم يكفيك؟ عشرة آلاف جنيه، عشرون ألفاً؟
    - سيدي أتوسل إليك، أنا لستُ كما تريد.
    -هل في قلبك أحد؟
    - أجل.
    - ويتركني صابر الملعون أدفع ثمن العقد، بنت الكلب، تعالي.. أريد استرجاع الثمن.
    رمى جسده الثقيل عليها، ترجرج لحم كرشه ضاغطاً على بطنها، لكنها استطاعت الإفلات من قبضته. جرّها من ثوبها، فتمزّق بين يديه. أدارت مفتاح باب الغرفة، وخرجت مفزوعة، دقت باب الغرفة الثانية:
    - صابر، اخرج يا ابن الكلب ماذا فعلت بي، قم خذني إلى البيت.
    شهقت، بكت، ثار الشعر الغجري على هزات رأسها. خرج صابر عاري الصدر، يسحب زنّـار بنطلونه، وصاحبتها وراءه ترتدي آخر قطعة من ثيابها. صاحا بصوت واحد:
    - ماذا دهاكِ، هل جُننتِ؟ كيف تفرّطين بهذه الفرصة؟ المحفوظ ثروة.. ثروة.
    - أتأخذني إلى البيت الآن، أم أصرخ بأعلى صوتي في باب العمارة؟
    - وهم في السيارة، عائدين إلى دار صابر، لم يكن على فمها غير كلام واحد تقوله:
    - يا وليد خذني إلى ذراعك، أيها الجبان خذني ولو بجبن.
    وضربت الشقراء بكوعها معاتبة:
    - ماذا فعلتِ يا وقحة؟
    - دفعت ثمن بقائنا في شقة صابر.
    لم يردّ عليها صابر، ولم يكترث لهياجها، واكتفى بمتابعة حركاتها في المرآة، ولاحظ عدم وجود عقد في رقبتها، فسألها:
    ـ أين العقد؟
    ـ رميته عليه، كيف عرفت بسرّ العقد، هل كنت خلف الباب؟
    ـ أيتها الغبية أنا من اشتراه، وأنا صاحب المبادرة، أسرار المحفوظ كلها عندي.
    أكدتا بصوت واحد:
    - ونحن أيضاً لنا سرنا.
    ( نظرتا ببعض، وقالتا ببرود)؛ نحن مثل خروف يعدّ أيامه.
    ـ آه لو أعرف سرّكما، أدفع عمري ثمناً لذلك. كيف وافقت على مرافقة امرأتين لا أعرف حتى اسميهما؟، يا لغبائي.
    في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، بادرت الشقراء صاحبتها بالقول:
    - من الآن سنخرج لوحدنا، هذا الصباح سنترك صابراً في البيت ونضيع في الشوارع، هيا يا سمرائي ارتدي ملابسك.
    وفيما هي تكمل زينتها عرضت على السمراء بعض حليّها، فأخبرتها بعدم رغبتها فيها، بل قالت:
    - أريد أن أكون حرة طليقة، ولو كان بيدي لمشيت دون ثياب.
    علـّقت الشقراء:
    - والله فكرة، سيأتي الزبائن بالعشرات بل المئات.
    ـ أهذه حدود تفكيرك؟ المال فقط، ولا يهم بأية وسيلة، تتحايلين على نفسك من أجل المال؟
    مشتا على رؤوس أصابعهما حافيتين، والأحذية تتدلـّى من أيديهما، وقرب باب الشقة امتدت يدان قويتان وجرّتهما:
    -أيتها اللعينتان أتخرجان من دوني؟
    -لا، لا.. وجدناك نائماً، فقررنا أن ندعك تستريح من عبئنا اليوم ونخرج وحدنا.
    -لقد اتصل المحفوظ واعتذر، وطلب منى الاعتذار لك. لكن لا تنسي أنه وضعك نصب عينيه، وهو لا يتراجع.
    برمت السمراء شفتيها استنكاراً :
    - هذا شأنه، له ما يريد ولي ما أريد. ويا للزوجات المسكينات، أيعقل أن تُسلـّم أمور الدول لرجال طبول؟
    - شقراء هل تذكرين وليداً حين صرخ بصوت عالٍ:
    - لا فُضّ فوك يا نزار قباني؟
    - قال صابر مستفسراً:
    - وماذا قال نزار قباني؟
    قال؛ الدولة منذ بداية هذا القرن تعيد تقاسم الطبلة.
    ـ دعونا من الطبل والطبالين، لقد دعاني صديق على العشاء البارحة، وسوف تعجبكما السهرة، فيها رقص شرقي وغناء.
    انحنت الشقراء بدلال يوحي بالموافقة، بينما السمراء صمتت.
    ـ هل أعتبر الصمت علامة الرضا؟
    - أجابت السمراء: فسّره كما تشاء، بشرط أن لا أدخل غرفة نوم أحد.
    - أتحبان أن لا أرافقكما؟
    - بل نرجوك، لنا رغبة في التصعلك.
    - عودا مبكراً.
    - شكراً.
    الساعات سماء في ملح، تمطر على أرض كلها أجراس، وعلى عدد الرنين تسجل الخطوات، المدينة بسيطة وغير معقدة، وبقدر ما تقدم من هدوء واحترام الآخر تُحترم. التفاصيل لا يمكن دمجها، إذ لكل محل شاهدتاه في الشوارع خصوصيته، ولكل مقهى طرازها المميّز، وساعات النهار لا تشبه بعضها، ومن الصعب الإمساك بحالة واحدة للطقس، فمن السهل أن يتحول من المشمس إلى الغائم أو العاصف.
    تحت مطرقة اليوم الثالث وجهان حوّلتهما لغة فنان إلى إكسير عشق وفراش، سُرّة الأرض تمشي على شكل امرأة. الحسناوات الشقر كؤوس معدّة للاحتساء، فضول العيون المتورّمة من السهر والخمر تدقق بتفاصيل الأجساد العابرة، لا فرق بين المحجبة والتي وشمت ما تحت السرة. من خريطة الحافلات في الشارع عرفتا رقم الحافلة المتجهة إلى (أجورد رود) حيث يلتقي الضدان، البياض الإنجليزي والسمار العربي.
    العابرون مغامرة لحظة تستجدي إشارتها الخضراء..
    الهواتف المحمولة تطرق بتهذيــــــب دوران الرأس حول نفسه. اكتشافهما لهوامش الحياة وسطورها المحشوّة بحبر يرتجف خشية أن يُكتشف زيفه، اتضح لهما ذلك في أول خطوة بعد النزول من الحافلة.
    انطلق صمتهما الجاد في إلقاء نظراته الشهية، مثل أول استلطاف كان مشروع حب اختار قُبلة علنية ورمي تقاليده إلى الخلف ، الأحلام في بلاد الجنّيات تقطع تذاكر تجربة الحلم والفعل، بعيداً عن السماء العربية، حيث ليس من الضروري على صاحبة المبادرة أن تتفادى الخطأ.
    كثيرات جئن لتجربة فساتين منكمشة لفرط ضيقها، فيما عباءات تعطي أرقام هواتفها النقالة، وكرديات يدفعن أطفالهن بالعربات متزينات بما لا يتناسب وزينة الصباح. أساور ذهبية جئن بها من الكويت في زمن غزو الأفاعي النهمة، مشروع لحرّية تستعطي من أجل اجترار الذات ، كراسي المقاهي خاوية بخواء من تهافتوا عليها يصرفون رواتب التقاعد عن العمل في الوزارات، طواويس بشعر أحمر.
    محلات عربية البائع والبضاعة. دلال مصطنع وغنج مفتعل لشابات فررن من واقع ( الـ بدون ) ، يمشين بكعوب عالية وأظافر اصطناعية وعدسات ملوّنة، في محاولات اصطياد مواعيد تملأ فراغ الوجوه والأبواب المعدنية والمفاتيح الصدئة.
    كرد، عرب، عجم، صوماليون، أوروبيون شرقيون، هنود، باكستانيون، جميعهم أعناق تتخذ لها حيزاً في هواء عاصمة من أهم عواصم العالم. عجائز تعبُّ من ثيابهنّ روائح البخور، وأطفال مرافقون، جلسوا في المقاهي المطلة على الشارع. كراس خشبية تناولت قبــل قدومها حبوب ارتفاع ضغط الدم والسكري، شعر مصبوغ بالأسود الكثيف، وأسنان مستعارة ونظارات دُبل. وأحاديث تدور حول سهرات الليل ومفعول حبوب (الفياجرا) المنقذة للرجولة الفالتة من عقالها. لفت انتباه الشقراء حديث رجلين يسعلان، قال الأصغر:
    - في بلدنا الدولة تحافظ على سراويلنا، فأعطت أوامرها لوزارة الصحة أن تصرف (الفياجرا) بالمجان كما تصرف (الباندول).
    - جموح عربي ترك ساحات الوغى وتفوّق على وهمه وتركه الطائرات والصواريخ تفتت لحم الأطفال، وصار يناقش فاعلية الفياجرا.
    - سألت السمراء؛ هل سمعتِ ردّ العجوز؟
    - نعم، يريد أن تُشاد في الساحات تماثيل لمبتكر الفياجرا.
    - احتسى قهوته واستند على عصاه متابعاً:
    - تخيّل يا بوفهد نصحو من النوم فنلقى التماثيل كلها منتصبة ذكورتها.
    - أجابه صاحبه بضحكة عالية:
    - لا، والحمام ذرق عليها.
    - انفعلت السمراء، وفلت من فمها كلام بغير إرادة منها:
    - هي لا تستحق غير الذروق.
    انزوت خلف صاحبتها، مشتا مسرعتين تسترجعان بعض الأقوال عن الرجال والثراء، والتضحيات والخسارة.
    أكدت الشقراء قائلة :
    - والكحل العربي أيضا له دوره

  4. #34

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    اقتربتا من أسرة آسيوية، زوجان وابنتهما في الثانية من العمر، بشعر أسود ناعم، وعينين بالكاد يبرق سوادهما. لعبت الشقراء بشعر الطفلة، فبادرتها الأم بابتسامة شاكرة. رغبتا في احتساء الشاي، فدخلتا مقهى فرش كراسيه على قارعة الطريق.
    ذهبت الشقراء لشراء الشاي تاركة صاحبتها محرجة من عيون الزبائن، وسمعت صوتاً صادراً من خلفها:
    - بو سالم.
    - أجابه شخص بصوت أجش: -
    - نعم.
    - أنا أحب الحصرم، وأنت تحبه؟
    - معك حق بو سالم، الحصرم يدك بس التي تقطفه قبل ما يمسه واحد غيرك (اقترب منه) :
    - عندك واحد أو نجيب لك؟ت
    - عندي نوع هندي، وطبّاخة، وتخيل التوابل الهندية الحارة.
    - ـ أنا عندي عربية منك وفيك أحسن، ومثقفة بعد، طالبة جامعة.
    - ـ لا خوي، عربية ما أريدها، راح تدخل في القواعد العربية وتقول لي: خبزَ يخبزُ خبّـاز.
    - إي بس الخباز والخبز مفعول به.
    - هنا بكافيه ديانا ، كل شيء طازج.
    اختلفت الأحاديث وتشعبت باختلاف لغة أصحابها ولهجاتهم، وعلى مقربة منهما كان رجلان يتبادلان الأحاديث السياسية. أحدهما نحيف جداً، أبيض البشرة، شعره مائل إلى اللون الكستنائي، وعيناه عسليتان واسعتان.
    الآخر أجعد الشعر، أكرش حنطي، يتصفح العناوين الرئيسية في جريدة. وضع الجريدة جانباً وراح يسأل صاحبه:
    - فاضل، هل تريد شيئاً مع القهوة؟
    - بس قهوة من فضلك.
    - ألا تريد فطيرة محشوة بالتفاح؟ (وغمز له مشيراً للحلوتين) الفطائر حلوة وشهية اليوم.
    - وهو كذلك يا طالب، فطيرة بالتفاح .ومشـّط شعره المتجعد بإصبعه.
    جلست الشقراء تسترق السمع، وتطيل النظر بحثاً عن فريسة، مزهوّة بجمالها الذي لفت انتباه الجميع، بينما السمراء مدّت رقبتها لقراءة العنوان الرئيسي في الجريدة بيد طالب ،اكتشاف مقبرة جماعية جديدة .
    أغمضت عينيها، وفي صدرها صراخ كصراخ وليد، وهذيان غاضب كهذيانه، وعـّلقت قائلة:
    - في كل شبر قصّابون يكتبون بحبر البَـلَه، وفي كل نشيد صباحي تأريخ عفن.
    - لكزتها صاحبتها:
    - خير إن شا الله، صرنا مثل وليد مجانين؟
    - انتبهت إلى كوب الشاي وجدته بارداً، وصحن الفطيرتين فارغا:-
    ـ هنيئاً، وبألف عافية.
    ـ إي شنو أسوّي، أنت تهذين بمثالياتك ومعدتي تهذي من الجوع، سكّـتها بالفطيرتين.
    ـ الجماعة غاروا منّـا، فاشتروا فطائر بالتفاح.
    ـ يا غبية، هذا غزل على الطريقة العراقية.
    ـ يبدو أنهما مثقفان، فقد تحدثا في أمور ثقافية وسياسية.
    ـ حبيبتي، الرجل العراقي مِن يريد يفرد عضلاته يحكي في الثقافة، ومن يريد يغازل تقرقر بطنه.لا أحد يسأل عن البسمة التي تعصر الروح ، لا عَرَق في جلد الرجال ليعرقوا خجلا ، ( صمتت برهة ):
    - أكملي حديثك ، هل ترغبين بشيء خاص بك ؟
    ـ أرغب أن أنام على حصير مفروش على حافة النهر لأشعر باشتهاء وليد، وأن أجلس القرفصاء تحت جذع نخلة، وأدخل بيتهم وأجد أمه خبأت عشاءه في المطبخ وغطته بصينية معدنية، أدخل خلسة أكتشف مكان (الكليجة ) المخبأة للعيد، وأشترى ربع عرَق؛ وأسكر على السطح، وأقرأ ديوان محمود درويش:
    ( لماذا تركت الحصان وحيداً ).
    ـ ذبحتِـنا بمحمود درويش ووليد وأشعاره، و أدونيس.
    ـ أعشقهما كعشقي لوليد، اسمعي ماذا يقول، سمعته وهو يرسمنا يردد:
    أغلقوا المشهد وانتصروا
    عبروا أمسنا كله
    غيروا جرس الوقت وانتصروا .
    هذا الشاعر خلق للزمن العربي كله.
    تساءل طالب وهو يتصفح الجريدة :
    - وين كانت أمريكا عن المقابر الجماعية؟ معقول ما تدري عيني؟. والله غمضت عنها مثل ما غمضت عن حلبـﭼـة والأنفال وانتفاضة الجنوب.
    بادره بالرد فاضل :
    - عيني أفاعي وأكلت بعضها. كش ملك، حط ملك جديد ، عساهم نارهم تاكل حطبهم.
    ـ أخ لوما الشعب أكل خرا، لكن ما يخالف احنا نرجعه لحلوقهم هالزمرة الطاغية وأتباعها.
    قالت الشقراء:
    - علينا أن نسرع يا سمرائي، الحديث صار خرائي، وشكلهم مفلسين.
    عبر الشارع باتجاه المقهى رجل حيّوه من بعيد باسم طاهر، بدا كمن امتلأ قلبه بمعاناة جديدة ، سحب كرسياً وجلس قرب فاضل، ثم حدثه بطريقة إياك اعني واسمعي يا جارة :
    ـ هذا الجمر كله يمّـك ووجهك أصفر؟.
    رغبت الشقراء في المغازلة، أعطت فرصة لطاهر أن يتحدث:
    ـ ما اسم الحلوتين.
    ـ لا نعرف (بصوت واحد).
    ـ أهذه سياسة؟ (وردّ على سؤاله بنفسه) :
    - ولمَ لا، فالسياسة صارت تشريب .
    مدّ بوزه وفتح منخاره مستنشقاً عطر الشقراء، تأوّه كمن يلح عليه جرح قديم :
    - لا تحتاري سيدتي، شمس وفجر، ما رأيكما بهذين اْلاسمين ؟ (وواصل) جميلتي:
    - الاسم غير مهم، المهم هو الفعل. أنت شمس، والسمراء فجر، اتفقنا؟ حبوبتي السمراء أنت تسوين مليون مونيكا، ولو شايفك (بوش) ما دخل بغداد.
    سحب فاضل قدمه العالقة تحت الكرسي:
    - يو.. لعد فلوس نفط العراق وين راحت، على القوّادين والقصور والمونيكات، وهات أبصم بالعشرة.
    ترك طالب الجريدة التي قلبها على الصفحة الثقافية، وشارك صاحبيه قائلاً:
    -لا تستهينوا بالنساء، دساتير وحياة بأكملها أعيدت صياغتها بسبب النساء.
    - رعش بدن السمراء لصورة نساء عراقيات أمام أكداس من العظام، شبكت يديها بتوتر، وطلبت من صديقتها الخروج.
    ودعتا رفقة المقهى، وذابتا في ظهيرة الوقت. لعبت الريح بثوب شمس، تلصص أشيب على ساقيها، كما لم تنس الأخرى فمرّت بشعرها وعبثت بغرّتها.
    ـ هل ترغبين في الاستمرار بجولتنا يا فجر؟
    ـ ها هي الحافلة وصلت أريد العودة.
    صعدتا إلى الطابق الثاني، وجدتا الكرسي الأمامي فارغاً، فجلستا باتجاه الزجاج. سألت الشقراء:
    - لماذا الصمت؟
    ـ أحاول أن أصرّف لغوياً اسم أمريكا، مثلاً كلمة كرّ، تعني رجع الفارس إلى شوط القتال، فهو كرّار. ثم أم ، اعتبرت نفسها أم العالم. ولو صرّفنا كلمة (نيويورك) فالمصيبة واقعة بلا جدال، فهي من تحت الخصر، مثلاً ( في تقديم الحروف وتأخيرها يصبح الاسم ورك ، ومن الورك تتشعب أمريكا كلها هل أكمل؟
    ـ كفاك يا فجر، ألم أقل لك إن العهر أصل الأشياء؟
    حال وصولهما شقة صابر، وجدتاه منتظراً وجائعاً، فرحب بوصولهما:
    - جئتما في الوقت المناسب، أنا جائع، خذي هذا الرقم واطلبي ما يروق لك من مطعم (السلطان ) يا شقرائي.
    التفتت إليه؛ اسمي شمس، وصاحبتي فجر.
    - أخيراً، أخيراً.. عرفت الاسمين و إن شاء الله حقيقيين.
    أجابتا : غير مهم، كل شيء في عالمكم غير حقيقي.

  5. #35

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    فصــــــــــل


    عودة السماء إلى أهلها


    -----------------------------

    أوراق الحرب


    تلعب بذكاء


    والغامضُ مؤيدٌ


    لا لزوم للتسرّع


    أيها الحلم الأصفر .


    -------------------------------------------------------------------------



    أنا طريقٌ تصغي في صمت الليل


    إلى خطأ الذكريات



    طاغور

  6. #36

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    1


    منذ تلك الليلة التي رجع فيها وليد إلى البيت متأففاً، يدخن سيجارة إثر سيجارة، ثم يرمي أعقاب السجائر على الأرض، يفتح الشباك ويقف طويلاً، يتصرف كطفل مجنون في وسط الصالة، ورغبةٌ مرسومة على وجهها لمعرفة نوع الهدية التي تركها على الأريكة حال عودته من لقاء صديق عربي وطلب لقاءه في مكان يختاره قريب من مسكنه.
    أصابها هوس معرفة ما بداخل علبة مغلفة بغلاف فضي، كرد لصداقة قديمة وبعمق تلك الصداقة راح وليد يفتح العلبة بمودة ، أحسّت بطعنة في صدرها لدى رؤية الخنجر، رغم جماله لكنه متنكر بزيّ الموت المرصع بحجرين كبيرين من الفيروز، ساعتها هزّ وليد رأسه ورماه على الأريكة قائلاً:
    - ابن الكلب ألم يجد غير الخنجر كذكرى أو عربون لصداقتنا القديمة، كنت أفضـّل حفنة من تمر، أو قليلاً من تراب، هما أثمن عندي من خنجره الفضي.
    وقتها رغبت أن تنزع أيامها وترمي بثوبها الأحمر عليه لتبلـّه بالحقيقة الظامئة ، لكنه وقف في مكانه المعتاد، وبحرارة من شق جرحه بسكين حادة غمس فرشاته في اللون الأحمر، وراح يثنّي ثوبها .
    وجدته يرسم بالمقلوب ويردّد عربدة اعتادت عليها، لكنّ ما حيرها اختياره لثوبها تلك الليلة دون الشقراء، وكلما وضع لمسة من لمساته تناثر هذيانه في أرجاء المكان:
    - برج الثور، يرفع فخذيه قبل أن ينطح، أما برج العقرب فيمتص ما علق بالأرض من دم، بينما برج الميزان يزن الجرح بالجرح ، ليأتي دور برج الدلو ويمارس لعبته في سقي الأوجاع بحثا عن موتى في البيوت العاقر .
    كان يتوجب عليها النظر في التلفاز بعينين وقلبين وعقلين، لتستوعب ما يحدث.تمنت لو لم يرسم لها وليد عيوناً كي لا ترى التلفاز ينقل حالات النهب، مستشفيات بأكملها تـُسرق، امتزج العرق بالدم، والناهبون يتنقلون في المتحف العراقي بكل حرية.
    تمنّت أن تقطع يدها وتضعها بدل يد وليد المبتورة، وأن تخنق من ساهم ببترها، معتقدة أن الوقت قد حان لاستخدام يديه لمحو ورسم ما تجاهله البؤس.
    - أما كان بوسع المنسحبين الاحتفاظ بقليل من الشرف؟
    كرّر سؤاله وكررته معه في قلبها وعقلها، وهو يصيح :
    - ليت يدي تطاوعني وليت الوقت المقلوب يعتدل، أهذا انتقام الأهوار لعطشها؟ أم انتقام خياشيم الأسماك المخنوقة؟
    الدكاكين، البيوت، القبور، الذين ذهبوا ولم يرجعوا؟ لا أريد انتقامك أيتها اليد المبتورة، كنت أرغب أن تحصدي من قطعوك فقط، لا أن يؤخذ الشعب بجريرة الملك.
    لكن لا.. لكل ثورة بركان ولكل بركان نار، ومن النار تعود السماء إلى أهلها، ولكي تعود إلى أهلها لا بدّ من ثمن.
    علينا أن نستعدّ منذ الليلة، ولن نبقى عائمين بعد الآن، والشاطر من يغتنـــم الفرصة، وإن جاءت من يد عدو، المهم كيف نكمل الصورة. لقد انقلبت الكراسي على قفاها، وبانت عوراتها المخصية.
    راح إلى ألوانه، وجلس يلعب بفرشاة صغيرة، يلفّها حول دائرة وهمية، غمسها في اللون أكثر من ثلاثين مرة، ومسحها. استخرج علبة مبيد للحشرات، ورش الغرفة. دنا من لوحته كأنه في حالة تقبيل:
    - خيرٌ لي أن أكلمكما، أحقاً أيها الرسم المشلول، أحقاً جاءتك العاصفة؟ أم مازلت مجرد علبة صابون تخاف الماء وتخاف المطر؟
    سمع صوتاً يناديه:
    - لا تشك بالأسئلة.
    فتح ذراعه مذعوراً:
    - جلجامش لم يصادق أسئلته، لذا سرقته الحية.
    هزّ رأسه :
    - ما بك يا وليد، هل أصابك هوس أم مسّ من الجنون؟. لماذا كلما ضاقت بك الأرض كلمت نفسك ؟ قلبك بحيرة فاغتنمه ولا تيأس .
    تمنّت أن تشتعل بحرائقه، تدخل الحمّام معه، تفتح الدش على آخره. جسدان تحرقهما الرغبة، هبط عليها سحر حلمها فشعرت به يلف شعرها المبلـّل على خصره ويعصرها بين ذراعيه، لم يفصل بينهما غير النبض. أثارته خصلة متمردة من شعرها، مسكها بيده وداعب بها نهديها. وحين صحت وجدت فرشاته بلونها الأسود تفصل بين نهديها، رغبة في تحويل الحلم إلى قرار.
    إنها اللوحة الأخيرة ويكتمل المعرض، رقمكِ ( ثلاثة وخمسون) ، أنتِ إله قلبي وأنا طفلك، ستعودين لي وبك أخترق حاجز الإعاقة. يد واحدة، ليكن، فقط أكملك، أما تحدّى بيتهوفن الصمم في سيمفونيته التاسعة؟*
    صحت الشقراء من نومها، مدّت ذراعيها على آخرهما وتثاءبت:
    - أنت صاحية؟ بماذا كنت تفكرين، بفنانكِ؟ أقسم أنك معتوهة مثله، سوف يرتمي بأحضاني ساعة عودتنا، وسيفتح منخاره ليشمّ عطري حتى يختنق به ويتركك ضائعة في حبك العاجز. أنا أكرهه وأحقد عليه وعلى أصباغه، إنه نصف رجل لا تنسيْ ذلك.
    - العجز لا يعوق الرجال، وهو رجل مبدع، مثل غويا؛ الفنان الذي هرم وضعفت عيناه، كان يسمع حفيف الفرشاة وهي تحتك بسطح اللوحة، ومن بصيص صغير كان يرسم. من يدري، ربما سيتحدث التاريخ عن وليد،. ألم تسمعيه وهو يردّد مقولة بيكاسو (يجب أن تُفقأ عين الفنان، ليرى من بصيرته ) ليس من السهل أن يغير المرء قناعاته.
    كان الأمر بالنسبة إليها بمثابة باب موصد، لكنها رغم ذلك فرحة لأنها تتحدث عنه كثيراً، كانت تسمع حتى قرقرة بطنه وهو يكمل رسم وجهها وتنفعل معه حين ينفعل، وتفرح وقت فرحه وتحزن لحزنه.
    حين احتدّ النقاش بينهما سمعتا طرق باب الغرفة:
    - هيا، كونا جاهزتين، إنها الثامنة مساء ولدينا نزهة من العمر.
    - فتحت فجر دولاب ملابسها، وجدت فستانها الأحمر معلقاً، شمّته ومرّرت يدها عليه. سحبتها شمس بقوة:
    - كفي عن رائحة مجنونك (ومازحتها) أنت مجنونة من نوع آخر، هل سال لعاب نصفك الأسفل؟
    - أنت وقحة، وقحة لا تعرف الحب. تعالي، هل أنت راضية عن اسمك؟
    - لقد سألتني مراراً السؤال نفسه، وأردّ عليك بالجواب نفسه:
    - نعم راضية، أحسن من لا شيء، المعتوه خاصتك لم يعرّفنا باسم.
    انضمّ إليهما صابر بصوته العالي، وبمزحته الماجنة والفاضحة ما بين السراويل. ولما شاهد فجراً متذمرة، مسكها من كتفها قائلاً :
    - إنها المفتاح لباب الثراء. ثم جلس على سرير الشقراء:
    - ماذا لو حكيت لكما عن حادثة المطعم؟ هل ترغبين بذلك يا سمرائي؟
    ـ قل لي فجر، ألم نقل أصبح لنا اسمان.. ثم إذا كان الحديث عن فخذيك فلا أريده.
    - أخذ شمساً بين يديه، قبّلها قبلة طويلة، وعضّ شفتها السفلى.. فلتت من بين يديه هائجة :
    - يا ابن الكلب، أوجعتني بوحشيتك.
    راحت تنظر إليه بعينين غاضبتين، وتكمل ارتداء ملابسها.
    بادرته فجر بسؤال حيّرها :
    - لماذا سمّاك أهلك صابراً، وأنت عجول طيب وحقير، ودود وحاقد، تحمل بداخلك عدداً من المتناقضات؟
    شابت وجهه حمرة، وشعر بانقباض في صدره، لكنه قرر التظاهر باللامبالاة:
    - يولد الطفل وهو لا يعرف إن كان أبواه صالحين أم جزّارين، وأبي من الصنف الثاني، من الذين يكسرون الكؤوس والأباريق على رؤوس أطفالهم.
    - في السنة الأولي وأنا رضيع في حضن أمي، شجّ رأسي (رفع شعره ليريهما الأثر) أبٌ لا نعرف سرّه، يغيب بالأيام والأسابيع لا نعرف وجهته وماذا يملك. كلما عاد إلى البيت بعد غياب، عربد وشتم وأمر ونهى، وما على أمي غير السمع والطاعة. يتيمة زوّجها عمّها من ابنه ليصل الرحم ويحافظ عليها بعد موته، وهو لا يدري أنه وهبها إلى أكبر شرير. وللأسف الشديد، مات عمها بعد زواجها من أبي بثلاثة أشهر، وتركها بين مخالب زوج لا يحبها.
    سمعت أمي من إحدى الجارات أن له حبيبة في بيروت، ونحن نعيش في جنوبي لبنان، وجدّي أرغمه على زواج لم يرضَه. فأبي كان وسيماً وجميل الملامح، وكان جمال أمي أقل من العادي ولم تكن من حاملات الشهادات لتعمل وتنفق على نفسها. أخذها عمّها بعد وفاة والديها في الحرب الأهلية اللبنانية، وربّاها وهي ابنة ثلاث سنوات.
    كان بائع خضار، لديه سبعة أطفال، خمسة ذكور وبنتان. وزّع كل صبي في شارع، ليجد له مهنة، سباك، قهوجي، خياط وما شابه ذلك.
    أربعة من أولاده استمروا في ذلك، إلا البكر تمرّد على الشارع والعمل مع أبيه، واتخذ وسيلته في العيش واختيار قراراته.
    كان يأتي آخر النهار بجيوب ممتلئة، ويضع المال أمام والديه. لا يعلمان من أين جاء بالمال، ويشكّان في مصـــــدره، ولذا قرّر جدي تزويجه حين بلغ العشرين، متوقعاً أنه سيعقل ويعرف قيمة الأسرة حين يرزق بطفل. وكانت أمي الضحية، خصوصاً أنه قرر الانفصال عن بيت أبيه، واختار لها داراً بعيدة عن دار أهله. فعاشت وحدها في أيام غيبته، صبية في الرابعة عشرة بين جدران ووحدة، حتى رزقها الله بي.

  7. #37

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    2


    لطالما سمعتها تشكر الله على هذه النعمة، فقد وهبها من يؤنس وحدتها ويعوّض أيامها الخاسرة. لم أتذكر يوماً أنه قبّلني أو ضمني إلى صدره، ولم أسمع منه إلا مقولة واحدة:
    - يا ابن اللحظة الخطأ .
    كان المصروف الذي يتركه يكفي لعيش كفاف، ربما كان ينتقم من أبيه بنا. وفي ذات يوم غاب، ولم يعد.
    عشت مع أمي، تسحقنا الأقدار، حتى حقدت على الآباء الذين كنت أراهم يعبرون الشوارع ممسكين بأيدي أولادهم، وحقدت على ملح الدمع.
    لم أملك جسدي كطفل، وقررت أن أركن الطفولة جانباً وأعول أمي وأتكفـّل بنفسي. فعملت عند صاحب كراج لتصليح السيارات، وافق على إيوائي فور أن شاهدني. علّمني كيف يصبغ الزيت بنطلوني الوحيد، وكيف تتقرّح أصابعي من تلميع السيارات .
    كما عوّدني أن يترك سائله المنوي يسح على مؤخرتي. تحملت إيقاع حياة أقسى من الحياة مع أبي، فقط لتأكل أمي.
    كم تمنيت أن يعود إلى البيت ويشبعني ضرباً، كلما دافعت عن أمي، وأن يمســـــــح السائل المنوي عن خسارتي. ثم قررت ترك الكراج بحثاً عن عمل آخر، غير أنّ مرض أمي المفاجئ جعلني أنسى طفولتي وأتركها تحت حصار رجل شاذ. بقيت سنتيــن حتى هبّت الرياح العاتية، وقت عودتي من العمل وجدت أمي جثة هامدة.
    ضاقت بي السُبل، طفل لا يملك مالاً يكفي لدفن والدته، وتركت رحمة الجيران تقوم بدورها، فدُفنت أمي بتبرّع الجميع.
    يومها تكسّر الزمان على ظهري، ولم أرغب في البقاء بالدار. دفعت لصاحبها قسطاً متبقياً علي، وتركت قدمي للطرقات.
    لطالما تحدثت مع الشارع كرجل لرجل، أسأله من أنت؟ فيجيبني : - أسكت أيها الناقص.
    وكان التصعلك أرحم من رجلين، واحد سرق طفولتي، والآخر استعبدني وحقد على اليوم الوحيد الذي نام به مع أمي.
    دخلت بيوت دعارة، نمت مع قوّادين، مارست كل الطرق غير الشرعية في تحصيل المال، وفي أي طريق أمشيه أحقد أكثر.
    لم ترغب بسماع المزيد من الحزن، نهضت لتمشط شعرها الأسود، رفعته ولفـّته على شكل كعكة من الخلف.
    ناداها:
    - اتركيه على سجيته، أكثر ما يثير الرجل في المرأة جنونها، من شعرها إلى الفراش، وشعرك الأسود المجنون جنني.
    استدارت إليه وتركت شعرها على وضعيته:
    - هل تنتقم من الأثرياء، أم تمتصهم كما امتص الشارع ؟
    - أغلبهم سيدتي مجرد أجساد ترتدي أكاذيبها، تشتري لعريها من أغلى الماركات العالمية، غالٍ من أجل الرخيص، وكلما رخص الجسد غلا الثوب. هم سماسرة حكومات، عبيد كراسي، وأنا أستعبدهم بتعففهم المصطنع.
    أما تخفـّيهم تحت عباءة الدين والحلال والحرام وعشرة آلاف يجوز ومائة ألف لا يجوز يجوّزونه من أجل متعتهم، فهو لصوصية حتى على الدين والفنادق الفخمة.
    إيه.. سأنتظركما في الصالة، ريثما تكملان زينتكما.
    ـ لمَ أنتِ حزينة يا فجر؟ سألت شمس.
    ـ هل لكل الزناة قصص وأساليب جعلتهم يطرقون أبواب الخطأ؟
    أجابتها شمس، وقد ارتدت ثلاثة خواتم متقاربة الألوان، وقميصاً أزرق اللون، وتدلـّت من عنقها قلادة ذات فص أزرق:
    - لكل الخطايا أسباب تكتشف من خلالها الحياة، وإن تغيّرت الأسماء والأمكنة، تعدّدت الأسباب والزنا واحد.
    اختلطت الأحاديث بين الجد والمزاح، وصابر يمرّ بهما في شوارع لندن قاصداً مكاناً معيناً. وبينما كان الكلام ثنائياً بين صابر وشمس، كانت فجر مغلفة بصمتها، وخدشت سمعها نكتة فاضحة، فانبعث صوتها مبحوحاً، حاولت تغيير مجرى الحديث بسؤال:
    - صابر، لمْ تعرّفنا على جيرانك، لماذا لم تشركهم معنا في سهرتنا؟
    - في الغرب لا توجد مساحة كبيرة للعلاقات، ونحن سكارى ثقال، إذا لم تجد لك حاجة لدى أحد فانسَهُ. هنا كلٌ صاحب نفسه وجار نفسه، والسكر فاكهة الولائم؛ أحمد الله أني لا أملك شهامة لتحترق في الطرقات. سأركن السيارة هنا، ونأخذها سيرا على الأقدام، أريد أن أريكما منطقة (سوهو ) شارع الشبق البشري، أقسم لكما بحياة من نجا من فخ الأفخاذ، الرواية الوحيدة التي قرأتها هي (الضياع في سوهو ) لكولن ولسن.
    رجعوا إلى السيارة بعد مرور عابر في سوهو، بسبب موعد لم يفصح صابر عنه، وكان بين اللحظة والأخرى ينظر في وجه السمراء من مرآته، ويدور سؤال في خلده، عرفت أن لديه ما يريد قوله، واستوضحت منه :
    - هيا، هاتِ ما بحوزتك، ألديك سؤال؟
    ـ نعم، ما يحيّرني جمعك بين الثقافة والتعرّي.
    أجابته متبرّمة:
    - افتراضك بأني مومس في محله، وأنا مومس بغير إرادتي، ولكن جئت مع رفيقتي بإرادتي رغبةً في التعرف على دنياكم، وأن أرى الحياة وجهاً لوجه.
    - وهل عرفتها؟
    - نعم وعرفت لماذا انزوى وليد كي لا يبلـّله ماؤكم العكر.
    - إنها سنّة الحياة، ومَن ذلك المبجّل الذي منحك صفة المومس؟ وهل مازلت عبد اختياره؟ حتى الروح عزيزتي عبدة لجسدها، كلاهما عبد للآخر، وكلاهما سجين للآخر.

    فتحت الشقراء عينيها الواسعتين مستغربة:
    - الله الله، صابر اليوم فيلسوف.
    - ـ ولمَ الاستغراب، أنا حقاً فيلسوف، أحياناً الحشرة تفلسف قرصتها هكذا (وقرصها في فخذها).
    - رفعت يده بقوّة، وقرصته في كفـّه :
    - أيها الوقح ألم تتكاشف ونفسك في المرآة مرة؟
    - لستُ بحاجة لذلك فأنا قوّاد علناً لا أملك وجهين.
    - هل ستأخذنا لمطعم؟ أقصد نحن مدعوون للعشاء؟
    - أجابها بتلكؤ؛ نحن.. نحن.. مـ..
    - نحن ماذا؟ وأين ستأخذنا؟.
    - طلب منها الهدوء؛ الحياة خُذ وهات، وموهبتك يا ساحرة الرجال في إطفاء نارهم.
    - وأين سنذهب؟.
    - في دار محفوظ السلامة؟ (سألته السمراء).
    - بل رجل آخر (وأقسم أنه شريف وصاحب أسرة، ويجب أن يتمّ ذلك بسرّية).
    - هل لي أن أعرف عنه شيئاً؟
    - إنه هادئ الطباع وخفيف الظل، كما لم يكن زير نساء. إنه يختار من تدخل قلبه ومن يشعر بهواها يأخذ عرشا في صدره.
    - هذا احتيال على الحب، هل أحبّني؟
    - تصوريها كما تشائين، وصدقيني لو لم يقع في حبك لما طلب مني.
    لم يعجب السمراء التطاول على الحب، فردّت عليه:
    - كيف يكون الحب في خدمة الساقطين؟ وأين سأذهب أنا؟
    - سنتعشى أنا وأنت، ثم نرجع إلى شقتي.
    - لا أرغب بالعشاء، عُد إلى البيت مباشرة.
    - وهذا أفضل، لك ما تشائين.
    في الطريق شبّت نار قلبها، بعد أن أوصلوا الشقراء إلى شقة لا تعرف رقمها، في شارع عرفت اسمه من خلال لافتة مكتوب عليها اسم (بيكر ستريت ).
    حيثما تسقط عيناها على مكان، تجده فيه، إنه مختبئ تحت جفنيها، يطرق رئتيها فتشعر به يتخلل أنفاسها.
    قرّر صابر اختراق صمتها:
    - تملكين عينين كعيني أمي.
    - يعني تجد فيّ أمك، وهذا يطمئن.
    وقت وصولها شقة صابر، أسرعت إلى الغرفة وأغلقت الباب، بينما صابر أعدّ كأساً من الويسكي ووضع أمامه صحناً فيه القليل من الجبن الأبيض والزيتون.

  8. #38

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    3


    ارتدت قميص نوم أحمرَ بتول أسود، وتمددت على السرير. وجدت نفسها محاصــرة بسكنات وحركات وليد، وأحاديث الأثرياء السمجة. تعجّبــت من عدم مللهــم من مناقشــات وأحاديث متكررة حول أسماء السيارات وأنواع الهواتف النقالة وماركــــات الساعات الذهبية والماسية. استرجعت ذاكرة المعرض الوطــني وعشرات الصور، للحروب والملوك والنساء، وتمنّت أن تجد صورة لمدينة الناصرية، رجعت إلى صالة وليد ووقفته الطويلة أمام صورة ملكة سومرية.
    لطالما غارت من الصورة شبعاد، هذه الصورة التي كانت جواز سفره عبر الأماكن والطرقات ولصقها على صدره، رفض أن يراها شرطة مطار هيثرو، كي لا يتركوها تطلب اللجوء معه. في الغربة نال جواز سفر بريطانياً، وبقيت لصيقة صدره ، له وحده. نهضت من الفراش و حدثت نفسها في المرآة:
    - يا عابسة الوجه، لا أحد يتحدث معك أو يصل إليك.
    دخل عليها صابر ثملاً:
    - أنا من سيتحدث معك ويصلك (داعب رقبتها) ها أنت تجدين مَن يثيرك.
    - لا تثيرني الكلاب.
    ضربها على وجهها:
    - أتنعتينني بالكلب؟ طـُهرك المصطنع لا يعبر على صابر الذي بيده مفاتيح النساء.
    جرّها بقوة وأمطرها قـُبلاً، ثم طرحها على السرير، وكفرس عنيد صعب الترويض أفلتت من بين يديه. لحقها إلى الصالة حين هربت:
    - لن تنالي جائزة نوبل للطهر.
    ولحظة حاصرها بين الحائط وصــــــدره الضخم، ضربته بالمزهرية على رأسه، وهرعت ترتدي ملابسها. خرجت مسرعة، ثم تذكرت حقيبة يدها حيث وضعت فيها نقوداً أخذتها من شمس، وضعت الحقيبة على كتفها، وخرجت مسرعة، لم يخفها دمه الذي سال على وجهه، كان همّها الإفلات من قبضته.
    مشت نصف ساعة تاركة جسدها وروحها للتيه، لا تعرف أي اتجاه تقصد. وقفت تستطلع الحافلات، وحين وقفت الحافلة رقم (7) صعدت، وجدت كرسياً فارغاً قرب امرأة سمراء ذات شعر قصير ونظارة طبية، جلست قربها، لم تعرف ما إذا كانت الحافلة ذاهبة أم راجعة. فتحت حقيبة يدها واستخرجت منديلاً مسحت به عينيها الدامعتين، بادرتها المرأة قائلة:
    - الحياة يا ابنتي غالية وقصيرة، لا نضيّعها بالدموع.
    - ـ معك حق يا خالة، إنّ أيامي معدودات.
    ردّت عليها مبتسمة:
    - وغداً يومك الخامس.
    لم تنتبه لكلامها، كانت مشغولة بكيفية قضاء الليلة وغربتها. وقفت الحافلة، صعد ركاب ونزل مثلهم، وجدت المرأة تسألها:
    - لا تملكين مكانا تذهبين إليه أليس كذلك؟
    - وكيف عرفتِ يا خالة؟
    - أعرف.. ها قد وصلنا إلى (كوينزوي)؛ وبيتي قريب، وأعتقد أنك تفضلين المبيت مع امرأة لا مع رجل يعتدي عليك.
    - بالله عليك يا خالة هل أنت ساحرة، كيف تعرفين أشياء عني؟
    - لا عليك.
    وقدّمت نفسها إليه:
    - اسمي راوية.
    قاطعتها السمراء :
    - لا تسأليني عن اسمي، لأن اسمي مستعار ولا أعرف لي اسماً حقيقياً.
    - أعرف يا ابنتي، كما أعرف أن لا اسم لرفيقتك التي تنام مع رجل ، يحب أن يتعرّى أمام غانية تجلده بالسوط وتضربه بعنف حتى يشعر بلذة الفراش.
    - لكنها لم ترجع بعد، كيف عرفت أنها مع خنزير بهيئة رجل؟
    - وأعرف متى ستعودان لوليد.
    - أنت صديقة وليد إذاً.. لا بل أنت شبعاد، نعم إنك تشبهينها.
    - لا لستُ هي بل إحدى بناتها. هيا انزلي، لقد وصلنا.
    - نزلت مع السيدة فرحة بالصدفة الجميلة، مشت قربها كطائر مثقل الجناحين، جاهدت لكي تسأل، لكن السيدة قاطعتها:
    - أعرف ما يدور بخلدك، وكل ما تحملينه من أفكار كتبتُه مسبقاً، كما إني مَن خلط الألوان. تفضلي.
    أدارت مفتاح باب الشقة.. إنها شقة متواضعة لكنها تجمع صمت حقائبي وحقائب أصدقائي.
    توزّعت نظراتها بين جدران الشقة الضيقة والأريكة البسيطة، ثم اقتربت من مكتبة صغيرة رُصفت فيها كتب ومجلات عربية، طاولة صغيرة تتوسط الصالة وضعت عليها جريدة اليوم، وفنجان قهوة جفـّت بقاياها.
    حالما دخلت السيدة غرفتها، فتحت النافذة لتبديل هواء الغرفة، كان الشباك يطلّ على الشارع العام، فرأت المطاعم العربية والصينية لم تُغلق بعد. تذكرت أنها لم تسأل رفيقتها في ما إذا كانت جائعة، وخرجت تحمل بيدها ملاءة وسادة:
    - هنا ستنامين، فأنا لا أملك غير هذه الأريكة، حين نفتحها ستصبح سريراً.
    ثم استدارت:
    - لا بدّ أنك جائعة.
    - لا سيدتي، لست جائعة، وشكراً على كرمك.
    - إذاً كوب شاي مع فطيرة.
    دخلت إلى المطبخ المفتوح على الصالون:
    - يا ابنتي، ما يؤلمك هو عشقك لرجل لا يحبك.
    - آ..ه، أيتها الساحرة كيف عرفتِ أني أحبه؟ ثم ما هذا الاسم الذي ذكرتِه؟ من عيناء؟

    - اسمك، واسم رفيقتك ذكرى كما إني لست بساحرة، أنا فقط أرافق أبنائي وأحاورهم.
    - هل أبناؤك معكِ؟
    - بل أنا كاتبة والكتابة قدري، وأنا من فعل الكاتبة الحقيقية. وكيفما يجيء شيطان الكتابة إليها ترسم أقدارنا على الورق، هكذا رغبتْ. وكما صنعك وليد، صنعتني هي؛ لا بل صنعتنا كلنا، واسمك في روايتها هكذا، والعيناء هي واسعة العين في سواد.
    ابتهجت عيناء لاحتضان السيدة لها، وللألفة التي تولّدت بينهما، وشعرت ببصيص ضوء يبعدها عن خوفها من الاغتصاب. احتست الشاي على مهلها، مستأنسة بالأحاديث الجميلة، يشدها هدوء السيدة ووقارها، وكانت راوية تحاور روحها من الداخل. سمعتا صوت مطر يطرق بأناة على الشبابيك، لامست الحيرة قلبها، ماذا ستقول للسيدة وكيف ستشكرها على طيبتها وحسن تعاملها معها. أمام أفكارها كان الإفصاح عن ما يدور بخلدها يشوبه الخجل، خانتها عفوية الأسئلة ولعنة نشرة الأخبار.
    أغمضت السيدة عينيها، حالما فتحت التلفاز، هاربة من صور الأشلاء والدماء الملتصقة بالتراب وعلى الجدران. ثم راحتا تتابعان منظر الحزن المرسوم مسبقاً، وكمن تورّط بواقع حالك دمدمت، وعيناء تسمع وتنوح كطير مستفزّ، سمعت السيدة تتذمر:
    - الحرب دمّرت العراق، الحرب ومن ساهم فيها وشارك وخطط وتخاذل، كلهم لصوص يسرقون عنفوان العراقي. أية لعنة حلـّت على شعب العراق، أية لعنة، سُحقنا برحى قائد مجرم وحزب استخدم لصوصيته لامتصاص دمائنا وقوت الشعب ولقمة عيشه، وها هم يمرّون دون عقاب. مجرد تغيير الكراسي، والذين قبضوا الدولارات مازالوا يضحكون على ذقونهم، ونحن نترقب ماءً من وجوه صُفر.
    لم يعد ذلك الهدوء الذي رأته عيناء في وجه السيدة، يترجم وقارها، بل أصبحت كطير مشنوق من جناحيه، بدت كمن يكون بحاجة إلى أذرع تلفّ بها ضياع لحظة فلتت من زمامها. وقفت، ثم جلست جلسة مرتبك مهجور، وعادت لوقفتها ثانية. كانت تشعر باختناق، فنزعت جاكيتها المصنوع من الصوف المنسوج نسجاً ناعماً، فبدا كأنه من الحرير، ورغم هذا يزعجها. ثم واصلت قلقها، خلعت جوربيها السوداويين، دخلت الحمّام، وغسلت وجهها بماء بارد.
    عادت تلملم بعضها، وتسوّر نفسها بشيء مفقود. فوجدت عيناء قد أغلقت التلفاز، وجلست تنتظرها للخروج من توتر شاب لحظتهما. أمسكت بيد السيدة راوية:
    - على أن أجلب لك عصيراً، هل في الثلاجة عصير؟
    - اطمئني يا ابنتي أنا بخير، ولا بدّ أن نحصن أنفسنا من واقع عفن، ولكن أخبريني هل سمعت أن الأرواح المعذبة تتلاقى؟
    - أجل، وكم أنا سعيدة بلقاء مثل هذا. فأنت تقطرين أمومة، ولطالما حلمتُ أن تكون لي أم.
    - والله لم أذكر أني مررتُ بحلمك، كما لم تدوّنه الروائية على سطر، يبدو أنك تمرّدت علينا.
    لم تكن عيناء في حالة خسارة، فبتعرّفها على راوية ملكت خيطاً من الحياة المفقودة، وسيكون لها من يسمعها أو يقودها باتجاه أسئلتها، ويردّ ولو على بعــــض جوانب التساؤل؛ لمـــــاذا اختير لها أن تكون مومساً بثوب
    عذرية؟ ولماذا تركوها لرجل بيد واحدة؟ واللوحة الثالثة والخمسون، أهي اكتمال معرضه أم خسرانه؟ مَن دفعها باتجاه الحب، هذه السيدة أم وليد، أم الروائية الحقيقية؟ ولماذا تلعب الكاتبة بمصائرنا وتضعنا في مكان لسنا في حاجته، ثم تنقلنا إلى مكان آخر؟ أنحن مخيّرون أم مسيّرون؟ ومن أعطاها الحق بذلك؟. وذكرى، أهي شمس أم ذكرى؟ حتى أسماؤنا لا خيار لنا فيها، مَن نحن إذاً؟ وصابر الرجل الرخام هل مات أم أفاق من الصدمة؟
    في بيت صابر كان يعذّبها الصدق والشرف، وفي بيت وليد عذبها الحب وعذريتها والغيرة، في بيت الأثرياء لم تجد مكاناً لها. أسئلة كثيرة تصدعها، بينما راوية تراقبها وتعرف سرّ اضطرابها، تعرف أنّ لعيناء رغبةً في البقاء معها كل أيامها الباقية وستعطيها الفرصة لتعلن عن رغبتها، كما تعرف أن حياء عيناء يمنعها.

  9. #39

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    لفرط قلق عيناء، راحت تنقر بأظافر يدها على طاولة خشبية قرب الأريكة، وعيناها مسمّرتان على صورة معلقة على الجدار. ولمعرفة تفاصيل أكثر عن صاحبتها قرّرت أن تكسر حصار الصمت:
    - تبدين صبيّة في الصورة، لا بدّ أنك كنتِ في الثلاثين؟
    - بل هي قبل أربع سنوات، وفي سنتي الأربعين.
    - لكن..
    - أعرف ما تريدين قوله، إنه فعل الزمن العنكبوت.
    - من فضلك سيدتي، نسمع إشاعات تقول إنّ لدى صدام ممرات سرية في قصوره، هل هذا صحيح؟
    - أبداً، لقد دخل الأمريكان كل قصوره، ولم يجدوا غير معالم البذخ وصوره
    المتسمرة على الجدران.
    - من سيكون الرئيس القادم؟
    - الله أعلم والسيادة العليا، من يبصم بالعشرة ستكون له الأولوية.
    - هل لي أن أسألك سؤالاً شخصياً؟
    - سلي ما تشائين.
    - تقولين إنك كاتبة، هذا يعني أن بمقدورك العيش بوضع أفضل مما أنت عليه.
    - الأدب، الشاطئ الوحيد الذي كلما وصلتِ إليه أبعدكِ عنه لتبقي لاهثة وراءه، وعندما تقتربين منه يكرمك بفقره. ولأني أكتب بخمر القلب وألتصق بالنفس الخرساء، أرسم ملامح الروح، والذي يكتب بطريقتي لا يساوم. وما أقذر الساحة الثقافية، لا تتخيلين بشاعتها.
    - الحياة أخذ وعطاء سيدتي.
    - نعم أنا معك، لكن بكم كيلو الشرف ومن يشتري؟
    - هذه جريمة، وتهمة لا تعمم على الجميع.
    -الأبشع يا ابنتي أنّ مَن يتبنّون الثقافة ويدافعون عنها هم سبب البليّـة.
    - عذركِ لسؤال قد أحرجك فيه: هل لديك زوج وأولاد؟ أراك تعيشين وحدك.
    - كان لي زوج، ورأيته البارحة في المنام ينزع عني ثيابي الممزقة، يخيطها ثم يمزقها ثانية، بعد أن يُلبسني إياها ويمرّر يديه على جسدي كله، وكان لي ابن أيضاً، شجرة اقتلعت من جذورها، هل سمعت بمثل ِمن خرج ولم يعُـد؟
    - فهمت.. فهمت.
    -لقد أطلقت على العراق اسم جبّار بعد أن عرفت لماذا يكثر في بلدنا اسم كهذا، ولو لم يكن هذا الشعب جباراً لما تحمّل الجبابرة على مرّ العصور، وخاصة رئيسنا الأخير، خليط من (ستالين وهتلر وجنكيز خان) ومصاصي الدماء.
    - أيحق لكل فرد أن يطلب رئيسه القادم؟
    - اسمعي يا غاليتي، هناك مقولة لـ (ستالين)؛؛ (السؤال المهم؛ ليس من يحق له التصويت، بل من يجمع الأصوات).
    - أنا شخصيا لا أثق بالسواد والذين يعتمرون العمائم السود ، الأيام كفيلة بان تريك صدق ما أخافه ، والخوف الحقيقي يا ابنتي ليس ممن يحكم ومن يأتي بعده بل من الذين يحكمون العراق باسم من ينصبوهم علينا حكاما ً، وأعداء العراق كثيرون والطامعون أكثر ، وإذا عرض التلفاز عشرات المقابر الجماعية سيعرض المئات في السنين القادمة. والآن دعينا من السياسة، ولنطمئن على ذكرى. أعتقد أنّ لديك رقم هاتفها الجوال، قومي يا ابنتي واتصلي بها.. ولو أنها..
    - وقفت مرتبكة من توجّس السيدة، وقاطعتها قائلة:
    - ولو ماذا؟. هل أصابها مكروه، أتعرفين ما يجري لها الآن؟
    - كادت راوية أن تردّ بالإيجاب، لولا أنها تداركت أمرها:
    - لا، لا علم لي بما يجري. اتصلي فقط، كما أني أريد الاستحمام.
    - سيدة راوية ، اعرف ان الكتاب يتنبئون وأخشى يتحقق ما تخافينه .
    جاءت فكرة الحمّام في الوقت المناسب، فدخلت تاركة عيناء في الصالة. وحالمــــا شاهدتها تدير قرص التلفـــون ابتسمت، وواصلت عدم اكتراثها بما يدور، خاصة وأنها كررت محاولاتها والهاتف لا يجيب، ووجدت نفسها تلقي اللوم على صابر وصحبته وعلى وليد أيضا.
    حالما تراءت لها صورة ذكرى تحت رجل يضاجعها، لعنت الشيطان وتعوّذت من كل شيطان رجيم؛. دفعها القلق على ذكرى لإعادة الكرّة، فقامت متوترة، وكررت الأرقام ذاتها، صمتت لحظة، وتسمّرت في مكانها.. خجلت من ما سمعته من فحيح وشخير وسباب. فقد كانت ذكرى في وضع تكره فيه من يقاطعها، ففتحت الهاتف ولم تغلقه. وظلّ صوتها يخترق عيناء وتساؤلها:
    - ماذا لو سمعت السيدة؟
    خرجت السيدة من الحمام تفرك شعرها المبلول بمنشفة بيضاء، وبدل أن تسألها عن ذكرى طلبت منها الخلود إلى النوم. وكعارفة بالخبايا، فتحت دولاب ملابسها، واستخرجت منه قميص نوم وقدّمته لها:
    - أنت بحاجة إلى النوم.
    دخلت فراشها بعد أن جدلت شعرها جديلة واحدة، وتظاهرت بنعاس مفاجئ.
    كانت الغرفة بضوئها الخافت تثير النعاس، فقررت عيناء أن تخلص نفســها من شوائب اليوم، وأن تترك لأهدابها حرية العناق. ورغم فتور أجفانها لاحظت تقـلـّب السيدة في الفراش، كأنها تتقلـّب بين سكاكين، ثمة ما يفصلهــا عن فرحها أو يبعدها عن مقصــودها، فهي كلما غمض لها جفن تحركت متقلبــة على الجانب الآخر، منقادة إلى شيء بداخلها يفككها ويدمرها، ثم يعيد ترميم أوصالها، ثم يدفعها ثانية باتجاه التدمير.
    قررت أن تقطع عليها سلسلة لا تربطها بإضاءة غير الوهم واستنارته:
    - سيدة راوية، هل تخاف السكين؟
    - ردت عليها وعيناها مسمّرتان في السقف:
    - بل أنا من أسألك كيف يصبح الحلم عدوّاً؟ وهل له علاقة تآمرية مع الواقع؟ ومن يكون البادئ؟
    وواصلت الحديث:
    -الليل يا ابنتي يصهرنا بعناد ويفتّتنا، بينما نحن نذوب تحت سذاجة القلب، آمالنا كثبان رملية من أول رعشة للهواء تلاحق بعضها هاربة من التصاقها.
    في سكرة النوم والصحو أجابت عيناء:
    - كم أنت جميلة ورقيقة يا خالة، تصبحين على خير.
    - أجابتها راوية:
    - لن أكون جميلة إلا إذا عادت سمائي لي.
    - ألم تعُـد بعد؟
    - بل عادت، ولكن مشوّشة كما لو كانت سفينة سوداء تغرق في قلوبنا.
    ***

    عندما سألت راوية عن سرّ الحزن الدفين في عيني (ود)؛ حين تعرّفت عليها لأول مرة في حديقة (هايد بارك) ، أجابتها دون أن تكلف نفسها عناء الكتمان. حين تحدثت كان الغضب ينقضّ عليها انقضاض الصاعقة، فردت عليها بنبرة لا تخلو من التهكم، ولشدة ارتعاش الحزن التي تخنق صوتها، سحبت نفَساً عميقاً واقتربت من راوية:
    - خالة لقد رضعت الحزن، بل نشأت معه.
    وحالما رأت اهتمام راوية بمعرفة التفاصيل، والتي احتوتها بأمومة الصوت واللمسة، شعرت بأنها تبحث عن ذاتها قرب امرأة لا تعرفها، أو قد تصل معها إلى النهر الذي تريد أن تغرف منه؛ فقط للارتواء أو الاغتسال من قذرات حوّلت أمانيها إلى فوضى، فما الذي تبوح به وما الذي تكتمه؟
    - أتخبرها عن قسوة وحشية جعلتها تركن الى زاوية من زوايا الحياة؟ أنها امرأة لها خطوات تتقارب على افتراق؟
    - فانطلقت تشد بعضها على بعض، واقتربت من السيدة حتى كادت تلتصق بها :
    - لقد أصابني الخسران، فكيف لي أن أسرد خسارتي؟
    - كانت السيدة تبغي الاحتفاظ بقليل من زرقة السماء، حين كوّرت بصرها لاكتشاف زرقة تهرب من بين غيمات. ثم كفّت عن محاولتها وقت مرور ثلاث نسوة يرتدين العباءات الخليجية، اكتفت بتحرش دمعة بعيني ود؛ وبنظرة من طفل تدفعه أمه في عربة، ظلّلت غرته الشقراء عينيه، غادرتها الطفولة خاطفة.
    استرجعت جلستها الوقور على المسطبة، كان الهواء ينطوي على أجنحة الطيور والعصافير، استبعدت توتراً اعتراها، خضخضت صوتها وجعلته يختصر الكلام:
    - يا ابنتي كلنا ضحايا الخسران. هل حصل أن قاتلك قلبك، أن نهبك جسدك؟
    اعتراهما صمت للحظات، ثم استطردت السيدة:
    - على شمعة الظلمة تنطوي خسارتنا الشخصية؛ احكي، احكي لي.. وأريحي نفسك.

  10. #40

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    5


    كانت الانفعالات كمفاتيح تطرق أبواب التذكر، تصبب العرق من جبهة ود، رغم برودة الطقس المنعشة والهواء العابث بشعرها، كانت تنقطع وتعالج توترها بشجاعة تعيد بها ما فقدته من معانٍ وكلمات معبّرة، كما كانت تخونها شجاعتها كثيراً.
    ـ زوّجني أخي وأنا في السادسة عشرة، نزولاً عند رغبة زوجته التي جاهدت للتخلـّص مني بحجة الحصار الاقتصادي على العراق وضيق اليد والعوز، ولأنهم أسرة كبيرة مؤلفة من أخي وزوجته وستة أولاد، فالخلاص منى أصبح أمراً لازماً.
    ساعتها فقدت ذاتي وشربت مرض الأيام، بعد أن شربت اليتم. فقد مات والدي وأنا في السنة الثانية، كما أني ابنة الزوجة الثانية، وأخي من أبي هو الذي تولـّي رعايتي حتى زوّجني.
    في أسرتي الجديدة المكونة من زوجي البالغ أربعة وخمســـين عاماً، وأخته التي تصغره بسنتين ولم تتزوج، وأمه البدينة، عشت كما كنت في بيت أخي محاصرة بين الأوامر والتوبيخ وجهد الأعمال المنزلية، وفي الليل جهد الفراش.
    جسد قتيل وروح مشنوقة، تحت ثقل رجل كل همّـه متعته وتكبّره علي.
    لم أعرف من أي عجينة صُنع زوجي، كان يصنع مني قوساً يصوبني به، فأتيه بين روح معذّبة وجسد لا مشاعر فيه. إذا سمع لي صوتاً يخنقه، فكيف إذا لم أملك صوتي يوماً؟ إنه مجرد هيكل آدمي، أو جرذ ذليل قرب أمه.
    وذات يوم أزحت النقاب عن وجهي، وجمعت أحبالي الصوتية كلها، وصرخت.. صرخت بجنون وبشكل هستيري متواصل، امرأة ما تزال قريبة من سن المراهقة، مخذولة في صوتها وإنسانيتها، لذا جاءت صرختي مجنونة. لم أرَ أحداً أمامي، ولم أسمع صوتاً سوى صوت داخلي.
    فقدت السيطرة على نفسي، كسّرت كل ما وجدته أمامي، وجدتني على قارعة الطريق بثوب النوم. سمعت أمه تناديه:
    - خُذها إلى أهلها ولا تعُد بها أبداً، طلـّقها وأنا أزوّجك أجمل منها وأحسن منها.
    عدت وحيدة إلى غرفة صغيرة شحيحة الملاءات والأغطية، ليلتها ضربني أخي، وعضّتني زوجته، حتى تورّم جسدي وازرق، وفي الصباح عدت إلى وضعي السابق من كنس وتنظيف وطبخ ورعاية لأولاد أخي. كل ما حولي كان قاسياً، الأهل، الجيران، الشارع، الحصار الاقتصادي واليتم ونظرات الجارات وهمساتهن وهنّ يعلكن عِرضي وشرفي. قالت إحداهن مرة:
    - ستر عليها لمدة، احتراماً لأخيها، ثم أعادها، إنه رجل شريف.
    وقالت أخرى:
    - نعم، هكذا يتصرّف ابن الأصول.
    اعتدت البكاء في وحدتي، ولا أحد يربّت على كتفي أو يمسح دمعتي، فقد قرّرت أن أشرب الدموع كي لا أعطي أحداً فرصة الشماتة بي. وكم تمنيت أن تكون أمي قريبة منذ أن بلغت العاشرة، إذ كنت أسمع إحدى البنات في مثل عمري وقت فاجأتهن الدورة الشهرية تروي أنها حين رمت ثوبها المبقّع بالدم في حضن أمها، قبّلتها وعانقتها وقالت لها إنها صارت ناضجة، ووضعت في يديها قبضتين من الرز ومثلهما من السكر، وأعطتها لإحدى الفقيرات.
    كنتُ أشبع جوع أذني بالاستماع لأحاديثهن، وأتمنى أن أعمل مثلهن، لكن الخوف جعلني أنزوي في غرفتي، وثيابي المبقعة بالدم كانت تهزأ مني يوم بلغت. ووجدتُني موزعة بين ضفتين لا تلتقيان، لجأت إلى الأرصفة وطويت جسدي النحيل بملاءة ونمت. عندما بدأ صدري يتكور، سمعت أخي يقول لزوجته؛ لا بدّ من تزويجها، البنت تكبر في بيت زوجها لا في بيت أهلها.
    جلستُ في الليالي أخاطب ظلـّي الذي أخذ حجماً أكبر مني: -- كن قوياً لتعدّ نفسك بنفسك.
    فيهزّ الظل رأسه مؤيداً، وتصبح أرضي هي سمائي، أبتعد وأقترب فأجد نفسي في بئر سحيقة.
    لذا فرحت بأول عريــــس جاء لخطبتي، لم تكن أمي على حافة البئر لتنقذني،
    ولم تكن أضلاعي قاسية بعد، كنت لا أعرف غير الخوف الذي جعلني أرجو أن يكون الزواج منقذي.
    في بيت غريب علي، وفي ليلة عرسي شربت قهوتي مُرّة، اغتصبني الوحش سبع مرات، شاهدت حبلي السرّي يلتف حولي ويرميني في البئر. لم أدافع عن نفسي، كنت كقطعة نقود معدنية، باردة وثمينة ومستسلمة له، وهو يمزّقني بسعادة وتلذّذ. لم أدافع عن طفلة لم تكتمل سنتها السادسة عشرة، كما لم أجد لها شبراً نظيفاً تقف عليه. امتصّ رحيق أنوثتي وتركني يعصرني ريق الحياة المرّ، لم يترك لي حلماً ولو بحجم الظفر، صباحاً أدخل ظلامي مع أخواته الأربع وأمه السمينة، وليلاً أدخل باب هتكي.
    في بيت أخي حين عدت إليه وأنا امرأة، أصبح خبزي جائعاً وأنيني أكثر جوعاً. لأول مرة أتعرّف على جسدي وأجده ناضجاً، أين كنت عنه كل هذا الوقت؟ في المرآة كان جسدي يصرخ:
    - أحسن رجل يتمنّاك.
    أداعبه ليهدأ، لكنه لم يهدأ ولم يترك لي مجالاً للاختيار. صرت أخرج متعمّدة لشراء حاجيات زوجة أخي التي أثقلها الحمل السابع، وأتشبّع بالعيون والأصوات المشبّعة بالغزل والإعجاب، بصدري وزندي وشعري ومؤخرتي المتكوّرة.
    رحت أجلس لساعات قرب النافذة، ومن يوم ليوم تعلمت كيف أصطاد فريستي. وذات وقت وأنا في السوق أتبضّع شعرت برجل يمشي إثري، وسمعت كلماته تدلـلني، والتي لم أسمع مثلها من قبل ولم أتعوّد على إطراء يختصر سرابي.
    كان للحياة دورها، ولزوجي وأخي وزوجته نواقيس تدقّ في رأسي. لذا قررت النفاذ بجلدي، تجاوبت معه، بل جئت مسرعة من أول دعوة. إنه أحد رجال البدو الذين حبتهم بركة الرئيس بالثراء المفاجئ، عطايا مرتزقة كبار لصغار المرتزقة. قال لي إن لديه بيتاً في بلد عربي وسيأخذني هناك تحسباً من عيون زوجته، عيون جيّرتها لحسابها. مضيت خلفه أبحث عن خلاصي، واعدته سراً دون علم أحد، وهربت معه.
    مرة أخرى تفلت مني المراهقة، أرقص في الثراء نصف فراشة ونصف حجر، ومن ظلام لأخيه. لم يسلمني أي مال في يدي، لكنه كان كريماً معي، يأخذني إلى السوق وأختار ما أريد، كل ما أريد يكون بين يدي. لم تغوِني الثياب، بل رحت أكتنز لساعة عجفاء بزمن أشد عجفاً وأثقل، فاشتريت أكثر القلائد وزناً وأخلصها ذهباً، وأغلى الساعات ثمناً. لم يعقد على كزوجة شرعية، بل تركني كشجرة مثمرة يهزّ ثمرها متى شاء، ويهيئ شراباً لسيده الذي يهاتفه من العراق.
    هو يأكل وأنا أشتري الأساور والخواتم، يهتز جذعي عاشرة ومائة لسادة أعلى رتبة من سادتها الأوائل، وعدد الساعات في حقيبتي يتضخم. هزّ الجذع من صنع الرجال وشهواتهم، وهم من أطلق على من تهزّ وسطها تحت شخيرهم اسم الزانية، ليستمتعوا بطعم الخيانة خارج عش الزوجية.
    في ذاك البلد أضعت طريق الرجوع، خلعتُ صبيّة كنتُها، وارتديت امرأة أخرى شارف عمرها على العشرين، جسدها اختاره القدر ليكون ضحية سلطة عاهرة وزوج وأخ أكثر عهراً من سلطته. الشجرة الوحيدة في الشارع تتعرّض للنهب، وبعدد أشجار العراق وتموره نُهِبت باطمئنان خلف زجاج النوافذ.
    تغيّرت طباعي، أصبحت شرسة لا أخاف أحداً، حاضري وغدي وأمسي كله فراش. كل واحد يعبر بوابات القصر يعطيني اسماً، كل حسب نظرته لجسدي، وتتفاوت العطايا حسب تفاوت الثراء، فمن وليمة إلى وليمة ومن بلد إلى بلد، ومن حقيبة إلى حقيبة، البلد في حصار. وإثر حصارهم قررت الهرب مع رجل من صنفهم، هو الذي أخبرني ساعة سكره أن له فندقاً وقصراً وأموالاً لا تحصى في لندن، كما أن هناك كثيراً من نساء لا يملكن غير شرف المال يتعرضن له ويشاركنه في أعماله التجارية، وأنه يتخفى خلف أسمائهن هروباً من الضرائب.
    دون علم صاحبنا، هربنا بالموعد الذي قررته شركة الطيران.
    من الغريب أني في لندن لم أحنّ لأحد، ولم أتذكر أحداً. فقط كنت كالنمرة بين رجال متنكرين بأسماء مستعارة وعصابات بجوازات مزيفة وأموال مهرّبة بأسماء شركات وهمية. طلبت منه أن يعقد على، والأغرب أنه وافق بسرعة قائلاً:
    - أحب المضاجعة شرعية.
    ضحكت بصوت اهتزّت عليه الستائر والنوافذ، سمعته يتردد على الجدران ويتجول بين أثاث البيت الفاخرة، قلت له:-مضاجعة شرعية، ونومك غير الشرعي معي ماذا تسميه؟
    قال لي:
    - تهيئة للشرعية.
    - قررت الانتقام منه، وعوضاً عن ثلاثة رجال خذلوني بشرعية التفسخ وشرعية نخاسة تلقح بعضها، ولكن بتريث. فبعد حصولي على إقامة دائمة، القانون هنا يحميني، فأنا في بلد القانون ولستُ في بلد انتهاك القوانين؛ وقفت قبالته متحدية: --- النهر والصحراء لا يلتقيان.
    ردّ بكل برود:
    - أنت النهر وأنا الصحراء. هــ.. هـ..
    قلت:- بل أنا الاثنان. الصحراء يجب أن أنزعها كما أنزع ثوبي هذا، وخلعت ثوبي أمامه.
    قال لي:
    -ما أجمل النهر عارياً، نهرٌ بض ممتلئ.
    وراح يعضني في كل مكان:
    - أيها النهر، أيها النهر، تعال لأضاجعك فقد ضاجعت الأرض قبلك، عما قريب ستشيخ وأرميك للكلاب.
    حاولت الإفلات من قبضته:
    - هل تعتقد أنكم باقون حتى يشيخ نهري؟ إنّ غداً لناظره قريب.
    - تعمّداً بتُّ أخلق المشاجرات وأستفزّه ليضربني. لكنه يجلدني ببروده، ويتكرر مشهد البرود كلما عادت المشاجرة. كنت أسرق كل ما تقع عليه عيني وما أجد له وزناً وثمناً، وأخبّئه عند إحدى الخادمات لتأخذه إلى دارها بعد ذلك. خادمة إثيوبية وشابة مثلي، تعاطفــــــت معي حين عرفت بحكايتي، وهي التي علـّمتني حقوقي وفتحت عينيّ على حيَل الحياة؛ ورحنا ننفذ ما نخططه معاً.
    حدث ما اتفقنا عليه؛ لقد اتصلت به الخادمة ذات مرة في مكتبه وأخبرته أني مع شخص آخر في غرفته، فشكرها على فعلتها.
    ولم تمض غير لحظات قبل حضوره إلى البيت، حيث اتفقتُ معها أن نظهر كأننا نحاول المداراة أمامه، وأن تتأسف له وأنها أخطأت بالتبليغ، وتطرق رأسها رافضة أن تريني وجهها، وإشارة منها إلى أنها محقـة لكنها تتراجع خوفاً منى.
    دخل مهرولاً نحو غرفة نومي، فوجدني أعدّل زينتي وأرشّ عطري، وكان الشرر يتطاير من عينيه، لم أنظر إليه كشخص محترم، بل رحت أرمقه بطرف عيني، متذكرة قفر الحياة التي عشتها، وفتحت شهيتي للمشاجرة.
    منذ تلك اللحظة وأنا أشمّ العفونة كلما التقيت برجل، لعنت أخي الذي ضمني إلى مزابل الحياة. وأخذت أحدثه بلهجة حادة؛ لماذا تنظر إلى بهذه النظرة الغاضبة؟. وتمتمت؛ أنا لا أحبك، رافعة صوتي قليلاً بحيث يسمعنى.
    ـ ماذا قلتِ؟
    ـ لم أقل شيئاً.
    ـ بل قلتِ لا أحبك.
    تحبين مَن إذاً أيتها العاهرة؟ ومَن كان على سريري معك؟.
    ـ أياً كان، هو أشرف منك.
    وقفت وقفــــــة العارف بنفسه، ودفعته إلى الحائط، فانهال على ضرباً حتى أدماني. اتصلت الخادمة بالشرطة، التي أتت لتقبض عليه بالجرم المشهود. وشرحتُ لهم أنه مجنون يضربني كل ليلة قبل أن ينام معي، لذا قررت الانفصال عنه، ولم أعد أحتمل؛ وأيّـدتني الخادمة بأنها شاهدة على جرائمه.
    من ساعتها غيّرت نمط حياتي، وخلعت عني رجسهم لأعود إلى إنسانيتي. أقرّت لي المحكمة بشقة استقطعوها من أملاكه، رغم توقعاتي الخائبة بنيل أكثر من شقة. وبدلاً من حصولي على نصف أمواله وأملاكه، حصلت على الشقة وقليل من المال، وما أزال أجهل أين ذهبت الأموال والأملاك، فابن الكلب سجل تصريحاً بامتلاك شقتين فقط وبعض المال، أعطتني المحكمة نصفهما، وكانت الأملاك والأموال الأخرى كلها مسجلة بغير اسمه، تحسباً لمثل ما حصل وغيره. وكما طرد الخادمة، طردني مع شقته*

صفحة 4 من 5 الأولىالأولى ... 2345 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ثلاثة هن راجعات إلى اهلها
    بواسطة راما في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-09-2012, 07:18 AM
  2. السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3
    بواسطة وفاء عبدالرزاق في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 09-05-2010, 06:36 PM
  3. امسيات ادبية للاديبة وفاء عبدالرزاق في مصر
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-10-2010, 09:53 PM
  4. قراءة في مجموعة وفاء عبدالرزاق الجديده / نقط
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-01-2010, 09:06 PM
  5. نرحب بالاديبة/وفاء عبدالرزاق
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-07-2009, 08:17 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •