5
كانت الانفعالات كمفاتيح تطرق أبواب التذكر، تصبب العرق من جبهة ود، رغم برودة الطقس المنعشة والهواء العابث بشعرها، كانت تنقطع وتعالج توترها بشجاعة تعيد بها ما فقدته من معانٍ وكلمات معبّرة، كما كانت تخونها شجاعتها كثيراً.
ـ زوّجني أخي وأنا في السادسة عشرة، نزولاً عند رغبة زوجته التي جاهدت للتخلـّص مني بحجة الحصار الاقتصادي على العراق وضيق اليد والعوز، ولأنهم أسرة كبيرة مؤلفة من أخي وزوجته وستة أولاد، فالخلاص منى أصبح أمراً لازماً.
ساعتها فقدت ذاتي وشربت مرض الأيام، بعد أن شربت اليتم. فقد مات والدي وأنا في السنة الثانية، كما أني ابنة الزوجة الثانية، وأخي من أبي هو الذي تولـّي رعايتي حتى زوّجني.
في أسرتي الجديدة المكونة من زوجي البالغ أربعة وخمســـين عاماً، وأخته التي تصغره بسنتين ولم تتزوج، وأمه البدينة، عشت كما كنت في بيت أخي محاصرة بين الأوامر والتوبيخ وجهد الأعمال المنزلية، وفي الليل جهد الفراش.
جسد قتيل وروح مشنوقة، تحت ثقل رجل كل همّـه متعته وتكبّره علي.
لم أعرف من أي عجينة صُنع زوجي، كان يصنع مني قوساً يصوبني به، فأتيه بين روح معذّبة وجسد لا مشاعر فيه. إذا سمع لي صوتاً يخنقه، فكيف إذا لم أملك صوتي يوماً؟ إنه مجرد هيكل آدمي، أو جرذ ذليل قرب أمه.
وذات يوم أزحت النقاب عن وجهي، وجمعت أحبالي الصوتية كلها، وصرخت.. صرخت بجنون وبشكل هستيري متواصل، امرأة ما تزال قريبة من سن المراهقة، مخذولة في صوتها وإنسانيتها، لذا جاءت صرختي مجنونة. لم أرَ أحداً أمامي، ولم أسمع صوتاً سوى صوت داخلي.
فقدت السيطرة على نفسي، كسّرت كل ما وجدته أمامي، وجدتني على قارعة الطريق بثوب النوم. سمعت أمه تناديه:
- خُذها إلى أهلها ولا تعُد بها أبداً، طلـّقها وأنا أزوّجك أجمل منها وأحسن منها.
عدت وحيدة إلى غرفة صغيرة شحيحة الملاءات والأغطية، ليلتها ضربني أخي، وعضّتني زوجته، حتى تورّم جسدي وازرق، وفي الصباح عدت إلى وضعي السابق من كنس وتنظيف وطبخ ورعاية لأولاد أخي. كل ما حولي كان قاسياً، الأهل، الجيران، الشارع، الحصار الاقتصادي واليتم ونظرات الجارات وهمساتهن وهنّ يعلكن عِرضي وشرفي. قالت إحداهن مرة:
- ستر عليها لمدة، احتراماً لأخيها، ثم أعادها، إنه رجل شريف.
وقالت أخرى:
- نعم، هكذا يتصرّف ابن الأصول.
اعتدت البكاء في وحدتي، ولا أحد يربّت على كتفي أو يمسح دمعتي، فقد قرّرت أن أشرب الدموع كي لا أعطي أحداً فرصة الشماتة بي. وكم تمنيت أن تكون أمي قريبة منذ أن بلغت العاشرة، إذ كنت أسمع إحدى البنات في مثل عمري وقت فاجأتهن الدورة الشهرية تروي أنها حين رمت ثوبها المبقّع بالدم في حضن أمها، قبّلتها وعانقتها وقالت لها إنها صارت ناضجة، ووضعت في يديها قبضتين من الرز ومثلهما من السكر، وأعطتها لإحدى الفقيرات.
كنتُ أشبع جوع أذني بالاستماع لأحاديثهن، وأتمنى أن أعمل مثلهن، لكن الخوف جعلني أنزوي في غرفتي، وثيابي المبقعة بالدم كانت تهزأ مني يوم بلغت. ووجدتُني موزعة بين ضفتين لا تلتقيان، لجأت إلى الأرصفة وطويت جسدي النحيل بملاءة ونمت. عندما بدأ صدري يتكور، سمعت أخي يقول لزوجته؛ لا بدّ من تزويجها، البنت تكبر في بيت زوجها لا في بيت أهلها.
جلستُ في الليالي أخاطب ظلـّي الذي أخذ حجماً أكبر مني: -- كن قوياً لتعدّ نفسك بنفسك.
فيهزّ الظل رأسه مؤيداً، وتصبح أرضي هي سمائي، أبتعد وأقترب فأجد نفسي في بئر سحيقة.
لذا فرحت بأول عريــــس جاء لخطبتي، لم تكن أمي على حافة البئر لتنقذني،
ولم تكن أضلاعي قاسية بعد، كنت لا أعرف غير الخوف الذي جعلني أرجو أن يكون الزواج منقذي.
في بيت غريب علي، وفي ليلة عرسي شربت قهوتي مُرّة، اغتصبني الوحش سبع مرات، شاهدت حبلي السرّي يلتف حولي ويرميني في البئر. لم أدافع عن نفسي، كنت كقطعة نقود معدنية، باردة وثمينة ومستسلمة له، وهو يمزّقني بسعادة وتلذّذ. لم أدافع عن طفلة لم تكتمل سنتها السادسة عشرة، كما لم أجد لها شبراً نظيفاً تقف عليه. امتصّ رحيق أنوثتي وتركني يعصرني ريق الحياة المرّ، لم يترك لي حلماً ولو بحجم الظفر، صباحاً أدخل ظلامي مع أخواته الأربع وأمه السمينة، وليلاً أدخل باب هتكي.
في بيت أخي حين عدت إليه وأنا امرأة، أصبح خبزي جائعاً وأنيني أكثر جوعاً. لأول مرة أتعرّف على جسدي وأجده ناضجاً، أين كنت عنه كل هذا الوقت؟ في المرآة كان جسدي يصرخ:
- أحسن رجل يتمنّاك.
أداعبه ليهدأ، لكنه لم يهدأ ولم يترك لي مجالاً للاختيار. صرت أخرج متعمّدة لشراء حاجيات زوجة أخي التي أثقلها الحمل السابع، وأتشبّع بالعيون والأصوات المشبّعة بالغزل والإعجاب، بصدري وزندي وشعري ومؤخرتي المتكوّرة.
رحت أجلس لساعات قرب النافذة، ومن يوم ليوم تعلمت كيف أصطاد فريستي. وذات وقت وأنا في السوق أتبضّع شعرت برجل يمشي إثري، وسمعت كلماته تدلـلني، والتي لم أسمع مثلها من قبل ولم أتعوّد على إطراء يختصر سرابي.
كان للحياة دورها، ولزوجي وأخي وزوجته نواقيس تدقّ في رأسي. لذا قررت النفاذ بجلدي، تجاوبت معه، بل جئت مسرعة من أول دعوة. إنه أحد رجال البدو الذين حبتهم بركة الرئيس بالثراء المفاجئ، عطايا مرتزقة كبار لصغار المرتزقة. قال لي إن لديه بيتاً في بلد عربي وسيأخذني هناك تحسباً من عيون زوجته، عيون جيّرتها لحسابها. مضيت خلفه أبحث عن خلاصي، واعدته سراً دون علم أحد، وهربت معه.
مرة أخرى تفلت مني المراهقة، أرقص في الثراء نصف فراشة ونصف حجر، ومن ظلام لأخيه. لم يسلمني أي مال في يدي، لكنه كان كريماً معي، يأخذني إلى السوق وأختار ما أريد، كل ما أريد يكون بين يدي. لم تغوِني الثياب، بل رحت أكتنز لساعة عجفاء بزمن أشد عجفاً وأثقل، فاشتريت أكثر القلائد وزناً وأخلصها ذهباً، وأغلى الساعات ثمناً. لم يعقد على كزوجة شرعية، بل تركني كشجرة مثمرة يهزّ ثمرها متى شاء، ويهيئ شراباً لسيده الذي يهاتفه من العراق.
هو يأكل وأنا أشتري الأساور والخواتم، يهتز جذعي عاشرة ومائة لسادة أعلى رتبة من سادتها الأوائل، وعدد الساعات في حقيبتي يتضخم. هزّ الجذع من صنع الرجال وشهواتهم، وهم من أطلق على من تهزّ وسطها تحت شخيرهم اسم الزانية، ليستمتعوا بطعم الخيانة خارج عش الزوجية.
في ذاك البلد أضعت طريق الرجوع، خلعتُ صبيّة كنتُها، وارتديت امرأة أخرى شارف عمرها على العشرين، جسدها اختاره القدر ليكون ضحية سلطة عاهرة وزوج وأخ أكثر عهراً من سلطته. الشجرة الوحيدة في الشارع تتعرّض للنهب، وبعدد أشجار العراق وتموره نُهِبت باطمئنان خلف زجاج النوافذ.
تغيّرت طباعي، أصبحت شرسة لا أخاف أحداً، حاضري وغدي وأمسي كله فراش. كل واحد يعبر بوابات القصر يعطيني اسماً، كل حسب نظرته لجسدي، وتتفاوت العطايا حسب تفاوت الثراء، فمن وليمة إلى وليمة ومن بلد إلى بلد، ومن حقيبة إلى حقيبة، البلد في حصار. وإثر حصارهم قررت الهرب مع رجل من صنفهم، هو الذي أخبرني ساعة سكره أن له فندقاً وقصراً وأموالاً لا تحصى في لندن، كما أن هناك كثيراً من نساء لا يملكن غير شرف المال يتعرضن له ويشاركنه في أعماله التجارية، وأنه يتخفى خلف أسمائهن هروباً من الضرائب.
دون علم صاحبنا، هربنا بالموعد الذي قررته شركة الطيران.
من الغريب أني في لندن لم أحنّ لأحد، ولم أتذكر أحداً. فقط كنت كالنمرة بين رجال متنكرين بأسماء مستعارة وعصابات بجوازات مزيفة وأموال مهرّبة بأسماء شركات وهمية. طلبت منه أن يعقد على، والأغرب أنه وافق بسرعة قائلاً:
- أحب المضاجعة شرعية.
ضحكت بصوت اهتزّت عليه الستائر والنوافذ، سمعته يتردد على الجدران ويتجول بين أثاث البيت الفاخرة، قلت له:-مضاجعة شرعية، ونومك غير الشرعي معي ماذا تسميه؟
قال لي:
- تهيئة للشرعية.
- قررت الانتقام منه، وعوضاً عن ثلاثة رجال خذلوني بشرعية التفسخ وشرعية نخاسة تلقح بعضها، ولكن بتريث. فبعد حصولي على إقامة دائمة، القانون هنا يحميني، فأنا في بلد القانون ولستُ في بلد انتهاك القوانين؛ وقفت قبالته متحدية: --- النهر والصحراء لا يلتقيان.
ردّ بكل برود:
- أنت النهر وأنا الصحراء. هــ.. هـ..
قلت:- بل أنا الاثنان. الصحراء يجب أن أنزعها كما أنزع ثوبي هذا، وخلعت ثوبي أمامه.
قال لي:
-ما أجمل النهر عارياً، نهرٌ بض ممتلئ.
وراح يعضني في كل مكان:
- أيها النهر، أيها النهر، تعال لأضاجعك فقد ضاجعت الأرض قبلك، عما قريب ستشيخ وأرميك للكلاب.
حاولت الإفلات من قبضته:
- هل تعتقد أنكم باقون حتى يشيخ نهري؟ إنّ غداً لناظره قريب.
- تعمّداً بتُّ أخلق المشاجرات وأستفزّه ليضربني. لكنه يجلدني ببروده، ويتكرر مشهد البرود كلما عادت المشاجرة. كنت أسرق كل ما تقع عليه عيني وما أجد له وزناً وثمناً، وأخبّئه عند إحدى الخادمات لتأخذه إلى دارها بعد ذلك. خادمة إثيوبية وشابة مثلي، تعاطفــــــت معي حين عرفت بحكايتي، وهي التي علـّمتني حقوقي وفتحت عينيّ على حيَل الحياة؛ ورحنا ننفذ ما نخططه معاً.
حدث ما اتفقنا عليه؛ لقد اتصلت به الخادمة ذات مرة في مكتبه وأخبرته أني مع شخص آخر في غرفته، فشكرها على فعلتها.
ولم تمض غير لحظات قبل حضوره إلى البيت، حيث اتفقتُ معها أن نظهر كأننا نحاول المداراة أمامه، وأن تتأسف له وأنها أخطأت بالتبليغ، وتطرق رأسها رافضة أن تريني وجهها، وإشارة منها إلى أنها محقـة لكنها تتراجع خوفاً منى.
دخل مهرولاً نحو غرفة نومي، فوجدني أعدّل زينتي وأرشّ عطري، وكان الشرر يتطاير من عينيه، لم أنظر إليه كشخص محترم، بل رحت أرمقه بطرف عيني، متذكرة قفر الحياة التي عشتها، وفتحت شهيتي للمشاجرة.
منذ تلك اللحظة وأنا أشمّ العفونة كلما التقيت برجل، لعنت أخي الذي ضمني إلى مزابل الحياة. وأخذت أحدثه بلهجة حادة؛ لماذا تنظر إلى بهذه النظرة الغاضبة؟. وتمتمت؛ أنا لا أحبك، رافعة صوتي قليلاً بحيث يسمعنى.
ـ ماذا قلتِ؟
ـ لم أقل شيئاً.
ـ بل قلتِ لا أحبك.
تحبين مَن إذاً أيتها العاهرة؟ ومَن كان على سريري معك؟.
ـ أياً كان، هو أشرف منك.
وقفت وقفــــــة العارف بنفسه، ودفعته إلى الحائط، فانهال على ضرباً حتى أدماني. اتصلت الخادمة بالشرطة، التي أتت لتقبض عليه بالجرم المشهود. وشرحتُ لهم أنه مجنون يضربني كل ليلة قبل أن ينام معي، لذا قررت الانفصال عنه، ولم أعد أحتمل؛ وأيّـدتني الخادمة بأنها شاهدة على جرائمه.
من ساعتها غيّرت نمط حياتي، وخلعت عني رجسهم لأعود إلى إنسانيتي. أقرّت لي المحكمة بشقة استقطعوها من أملاكه، رغم توقعاتي الخائبة بنيل أكثر من شقة. وبدلاً من حصولي على نصف أمواله وأملاكه، حصلت على الشقة وقليل من المال، وما أزال أجهل أين ذهبت الأموال والأملاك، فابن الكلب سجل تصريحاً بامتلاك شقتين فقط وبعض المال، أعطتني المحكمة نصفهما، وكانت الأملاك والأموال الأخرى كلها مسجلة بغير اسمه، تحسباً لمثل ما حصل وغيره. وكما طرد الخادمة، طردني مع شقته*