8
من الصعب أن يجد المرء القدوة والمثل ينهار في نظره، رغم أن الكثير من النساء والرجال ضحوا من أجل قناعاتهم وانتمائهم الحقيقي والمبدئي.
كانت تراوده صورهم وهو في المصحة ، منها صورة تلك المرأة الجميلة، زوجة صديقه الذي يسكن في مدينة الثورة. كان لا يستطيع أن يلتقي معها في البيت أو في مدينة الثورة كي لا يكشف صلتها الحزبية معه، فيواعدها في ساحة النصر.
سابقاً كانت العباءة العراقية هي ستر المرأة، والغانيات هنّ من يرتدين القصير والعاري من أجل جلب الزبون. ولكن في أعوام السبعينات تخفـّت المومس في العبــــــاءة، وصار ارتداء المرأة لملابس محتشمة يُعدّ جذباً للتحرشات والمعاكسات. تعرضت تلك الرفيقة للإساءة، وكان الراغبون في امرأة يسألونه، وهو يسير معها لتوصيل خبر أو تعليمات حزبية، عن أجرة الساعة بصفته القواد، المرافق.
لقد تعرضت للاعتقال والتعذيب، وسمع في بلغاريا أنها ماتت صامدة ولم تخبر عن رفاقها، كما سمع عن إعدام شقيق زوجته الذي وقع على كفالته بأن المعلومات الكاذبة التي قدّمها هي معلومات صحيحة. قصته تكفي أن ينتظر قليلاً، ويكفّ عن الكلام. لذا لم يكمل عما عانى في بلغاريا، وظنّ أن هذه المعلومات تزيد إحباط وليد، فاختصرها في رسالته الطويلة.
أخبره أن الأوامر اقتضت إرساله إلى اليمن، وأرسل عن وضعه في اليمن ديواناً شعرياً يترجم فيه كل شيء، سمّاه "الصهيل المبتور".
ثم وضع نقطة سوداء كبيرة في نهاية الرسالة، وترك ملاحظة يشرح فيها كيف عرف عنوانه من صديق يعمل في الصحافة في ألمانيا، فكانت تلك اللحظات بالنسبة إليه لحظات استثنائية أن يعرف عن صديقه الفنان. كما أن الصديق ذاته دبّر له عملاً معه ، وراح ينشر أشعاره مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومرة بالعربية. *

عاين وليد يمنة ويسرة، فوجد أشرطة تسجيل مرمية أرضاً حيث يعتبرها أشرطة غسل الذاكرة، أدار المسجل بعد أن وضع فيه شريطاً لأغانٍ قديمة، وترك هاجس المرأة يعبث بمخيلته.
غمرته نشوة جنونية وهو يحاول الوصول إلى حلمة متوردة، كلما انتهي من رسم امرأة من المخيلة مزقها، وبحث عن أخرى. يقترب منها،تسحره عيناها،تزحف النشوة إلى جسده وهو يحرك الكرسي الهزاز ويداعب شفتيها.
تسير يده ببطء، تقرأ وجنتيها ورقبتها، يمرر طرف إصبعه على زندها وعظمات رقبتها ناحية الظهر، ينزلق إصبعه في ممر العظمات ويستقر عند قراءة المفرق، آخر عظمة تتربع بين تلـّين من اللحم الأبيض.
خطوط جديدة تزيح اللحم البضّ عن مخيلته، فتأتي عابرة ودون استئذان صورة "علية"، يفتح عينيه ويهرب من صورتها القديسة، يجلس على الأرض، ومعه ثلاث علب من البيرة، يضعها أمامه دفعة واحدة، ويضع عشرات من السنين في خزانة قلبه.
يقضم أظافره بأسنانه، لا يجد أمامه غير صورة الفراغ، يفرك عينيه باحثاً عن لون. يبرهن لنفسه أنه مازال يتنفسها ويشم رائحتها:
- تعالى، تعالى يا علية ، تعالى ولو في الحلم.
يسند ظهره إلى حافة الأريكة، يندف شعره الذي تركه على سجيته دون حلاقة أو صبغة، يستحضر كل ما يمتّ" لعلية" بصلة، فيجده عصياً عليه، يتمدّد على الأرض كسفينة لا تجرؤ على الإبحار، يجلب له خمس علب أخرى، ويتركها قرب الثلاث الفارغة. ثم يرجع لسفينته، ليعطيها قليلاً من جرأة، وحين عصت.. حثـَّها، ولما استكبرت، دفعها إلى حافة الرمل ، انزلقت قليلاً إلى الماء.
أغمض عينيه بارتخــــاء ساخن، كانــــت على صدره اثنتان تجددان القُبل، وختم الشفتين يزيّن رقبته ويديه وبطنه العارية. نفَـَس حار، وشعر أشقر أُسدِل على وجهه، شمّ رائحة عطر لم يشمه من قبل ، نساء هاي ستريت كنزكتن، أجورد رود، بيكاديللي، الناصرية، بغداد ، لم يجده على بطاقات السفر اليومية وعلى تذاكر الطائرات. بينما سمراء متمردة بشعرها المتمرد، تطوقه وتشمه، وتصطك أضلاعه بأضلاعها، ويكاد أن يحيي الميت فيه.. فإذا بعربدة جاره السكير تستقر في رأسه وتعيد إليه صحوته .
أفزعته الوحشة والفراغ بينما العزلة أصابته بالخرَس، لم يجد أثراً لقُبل. تفحّص بطنه، فتح منخاريه ليشم رائحة امرأة، لم يجد أية شفة تتصدق عليه بقبلة، كان قلبه بوسعه أن يتسع لحلم استثنائي. وكاد أن يدخل صدر الشقراء، يخترق نبضات قلبها ويدخل.
دار في الصالة عشر دورات، دخل غرفة نومه، شعر برقصة على أصابعه. عضّ شفتيه ومدّهما، عضّ الفرشاة الصغيرة، ابتعد مسافة مترين، تحسس يده المبتورة، سكت، فاض في قلبه شيء غريب،أحسّ بجسارة سؤال في صدره : ما الذي يمكنه أن يصور امرأة تفضح النهدين؟ امرأة هي غايتي وجرحي العابث باللذة.
التفّ حول نفسه، وقف أمام المرآة :
- هذه اللوحة الأخيرة، وسأعلن عند إتمامها عن معرضي، وأدعو إليه أصدقائي المقربين؛ لقد نالت مني العزلة ونلت منها ما يكفي. نعم يا (دافنشي)،العزلة هي الحرية، وصدقتَ حين قلت:
- ( إذا كنت وحيداً فأنت تملك نفسك، وإذا كنت مع رفيق واحد فلن تملك إلا نصفك ).

بعد حمّام دافئ، فتح صدره لهواء الشرفة، صرخته اليوم أكبر من صدره، وجدها تهتزّ مع الشجر على مرأى من الهواء لسعته البرودة، زرّ بلوزته الرمادية ضامّاً صدره إليه، قبل أن يغلق النافذة أخذ نفَساً عميقاً، وأغلقها بهدوء، أعدّ كوباً من الشاي، استخرج رسائل قديمة وصوراً قديمة لأهله، تضاعف حجم السؤال حين وجد صورته في الناصرية، ابتسم لنخيلها:
- أيتها الجميلة يا ناصريتي الموقرة، سأحفرك في مجرى الروح.
- احمرّت عيناه، واحتقنت وجنتاه، تطلـّع إلى المنفضة، وجد السيجارة قد أكلت نفسها. خطا نحو مرسمه فرحاً : أيتها اللوحة خُذيني إليك.
سألته الحبيبة: لا بدّ أن أطير على جناحيك.
لم يسمعها، هيّئ له أن صوت "علية" مرّ قرب ريشته المغموسة في اللون الأحمر، سأل وجه أمه من الفرشاة، دهش حين وجد الوجه يبتسم له قائلاً:
- جِدْ نفسك يا بني، جدها. هيا ارسم، مازال في الوقت متسع، ومازال في العمر نفَسٌ لعزف ناي.
ضرب جبينه براحته اليمنى:
- مازلت تحلم يا وليد، خذ ما يكفي من اللون، خُذ ما يكفي من النسيان ، ما يكفيك من الذكــّر وارسم.
بعد أن شعر بالجوع يعصر معدته، تطلع إلى ساعة يده، وجدها تشير إلى السادسة مساء. لم يعبأ بالوقت الذي مرّ، ولم يعِـر للجوع أهمية ،استسلم للألوان، اهتدى إلى شعاعها ، راح يهذي كمن يحادث شخصا حقيقياً :
- سأرسمكِ كما رأيتك في الحلم أيتها الشقراء، مومسٌ بحفنة امرأة.
- سمرائي أين ساعدك الجميل، سأرسمه صيحةً تعرّي إطارك، واعذريني فقد قلت سأرسمك وأجسّد شقرائي، هذه حكمة الرجال حين يصبحون عبيداً لسراويلهم. أرسمكما لتمثلا الحرب، وسأردّه إلى ضميره وضمير سادته واعذريني حبيبتي "علية"، لن تموتي حرباً إثر حرب، لقد حفرتك في مجرى الدم، لا تقوليّ؛ يهذي أو يثرثر.
شمّ رائحة نساء مختلفة المصدر، عجين أمه، غطاء رأسها. بعثر ملابسه أرضاً بعد أن داهمته سخونة الرائحة، صوت أنثوي يصبّ بمصبّات الجسد. اقتربت منه حورية سمراء، دنت من رقبته وقبّلتها، شقراء ضمّت رأسه بين نهديها، دارت به دوامة مومس، بينما مومس ثانية تتبادل معه سكرته، تعيد له النصف الخالي من العمر، وتسكره معها ثانية.
لم يدرِ ِ كم مضى من الوقت، لكنه حين أفاق إلى نفسه، اكتشف أنه جالس في ركن قريب جداً من اللوحة المربعة الشكل. غمس فرشاة جديدة باللون الأصفر: شعرك كالحصان سأتركه يلتفّ على عنقك، الفجر يخاف من القمر، أنتِ قمري.
فتح ثلاثة أزرار من ثوبها، فبانت استدارة النهدين البضّين:
- ويحك يا وليد أمازلت تحدّث لوحاتك؟،
غيّر طبعك هذا، وإلا أكلتك الألوان؛ لن تحتاج لوليد آخر.
مرّر إصبعه بين نهديّ الشقراء بينما السمراء ظلـّت تراقبه، وعيناها تكادان تأكلانه. سحب كـمّ فستانها، ليظهر الكتف عارياً محدثا لوحته:
- في الناصرية حين يتعرّى الكتف يعني يا قاتل يا مقتول، والدماء تصل الرُّكب، فالعار لا بدّ أن يُغسل. أما في لندن فالأكتاف العارية ببلاش، والنـهود النافرة على قفا من يشيل