7
كانت أمه قاسية جداً، تضربه كثيراً وبعنف. كانت تعكس مشاكلها العائلية وسخطها على عائلة زوجها التي تغار منها لكونها جميلة، ولكونها استحوذت على قلب أبيه. لم يكن متعلقاً بأمه، بل بأبيه الذي كان عاملاً في شركة البيبسي كولا، ثم شرطياً، ثم سائق تكسي. كان متفوقاً في المدرسة، وخاصة في دروس اللغة العربية، وكان موضع اهتمام مدرس اللغة العربية، حيث أهداه مجموعة قصصية لـ(فهد الأسدي).
هرب من البيت إثر ضرب و إهانة من والدته، وسكن عند عمته.
كانت طفولته في (الشاكرية ). و كانت ( الشاكرية ) عرصات وصرائف للعمال والفلاحين النازحين من الجنوب، ليس فيها مدارس أو مراكز صحية. وعندما كان أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء، انتقل مع عائلته إلى مدينة الثورة، أرض مهجورة متعاطفة مع عبد الكريم قاسم ، وفي عام 1963 اعتقل الحرس القومي الشباب من جيله، ورحّلوه بعد هجوم على بيت عمته وسحل زوج العمة بدمه. ثم خرج بعد شهور من الاعتقال والتحقيق، حيث لم يعثروا على ما يدينه.
كانت ميوله دينية في بادئ الأمر، لكن القراءات في فترة عبد الرحمن عارف، لِنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس وغيرهم أبعدته وهو في سن المراهقة عن الحس الديني، ونتيجة تأثير الأقارب والأصدقاء الذين ينتمون للحزب الشيوعي، والذين كانوا يزودونه بالكتب وهو في سن السابعة عشرة، أصبح شيوعياً، ثم عضواً في اتحاد الطلبة.
في سنة 1972 تعرف في جامعـــــة بغداد على فتاة سمراء، معه في القسم نفسه، وتزوجها بعد ذلك، وفي السنة ذاتها قُدّم ضده بلاغ بأنه ضمن خلية حزبية تتآمر على اغتيال قائم مقام مدينة الثورة. واعترف عليه شيوعي سابق من المنطقة بعد تعذيبه، وعلى مجموعة من الشباب.
حين داهموا بيت عمته مرة ثانية، لم يجدوه في البيت. وسجل اسمه إثر هذه التهمة الملفقة مع الممنوعين من دخول الجامعة، فطلب منه الحزبُ الاختفاءَ لمدة سنة.
في أول سنة له في الجامعة، كوّن مع أصدقاء له من شعراء وكتاب ورسامين أصبحوا معروفين الآن (جمعية اتحاد أدباء مضاد) ؛ رغم أن بينهم من بعثيين والشيوعيين. ولقاءاتهم في مقهى المثقفين في بغداد حمّسته على كتابة الشعر ومواصلة الثقافة. ومن خلال اتحاد الطلبة توطدت علاقته مع جريدة (طريق الشعب) وتم ترشيحه للحزب قبل السن القانوني.
إثر تسرب معلومات لوالدته عن مكان الجريدة ، جاءت إليه وزارته في مقر جريدة طريق الشعب ، وأصبحت العلاقة بينهما إثر تلك الزيارة، رغم توترها، فيها شيء من الألفة وحنان الأم.
إلا إنه بقي في بيت عمته، ثم انتقل بعدها إلى بيت ابنة عمته التي تكبره بكثير، أرملة استشهد أخوها إثر اعتقاله سنة 1963 مع مجموعة القيادة المركزية بعد أن حقن في رأسه إبراً أودت به إلى الجنون ثم الموت.
أما هي فقد كانت توزّع المناشير في علاّقة ،الخضار وهي ذاهبة تتسوق، كانت غاية في الجمال، وحادة الذكاء، وتحب الحزب بشكل تلقائي وعفوي، وصاحبة نكتة.
تزوج عبد الحق سنة 1979 وفي السنة ذاتها ترك العراق، قدّم على جواز سفر بصفته عاملاً بكفالة قدرها خمسة آلاف دينار، ووقع على وثيقة صحية لكونه ذاهباً للعلاج في بلغاريا ثم السياحة في تركيا، وعقوبة تكذيب هذه الوثيقة هي الإعدام. في الحدود بقوا ليلة كاملة، بعد أن أعياهم السفر من الموصل إلى دهوك. نقطة إبراهيم الخليل كانت مرحلة الشك في سفرته، سمحوا لزوجته بالعبور لوحدها. سمحوا للمرافق أن يمر، بينما أمروا المريض أن يرجع مع شقيق زوجته الذي قادهم إلى نقطة الشك بسيارته مدعياً أنه صاحب تكسي.
انتقل مسرح التدبير للخروج من العراق إلى والد الزوجة، رجل بسيط صاحب محل لبيع وتصليح الزجاج ، يمرّ عليه ضابط يعمل في الجوازات. فطلب منه جواز سفر جديداً لصديق اسمه مظلوم، وأعطاه صورة شخصية لعبد الحق، وحين سأله الضابط عن صاحب الصورة أكد أنه عامل بناء، لكن الضابط أصرّ على أنه صحفي، وأنه شاهد صورته في جريدة طريق الشعب.
فأقسم له:
- لا والله يا أبو مخلص، هذا رجل بسيط لا يعرف طريق الشعب ولا طريق الحكومة.
عندها وافق الضابط على ذلك، وقبض قيمة الجواز مئة دينار، وهو يقول: إكراماً لك يا عم أسقط حقي في الأجرة، لكنْ لدي عمل صباغة في الدار وأريده أن يقوم بذلك.
انتقل عبد الحق من القلم إلى الفرشاة، يلطـّخ هنا ويعربد هنـــــــاك، ولمدة شهر كامل. غادر بعدها إلى سوريا، ومن سوريا التحق بزوجته في بلغاريا.
هناك أصيب بإحباط ، كانت بلغاريا بالنسبة إليه صدمة حضارية وثقافية، فبينما كان فرحاً ومتهيئاً نفسياً لمشاهدة بلد ديمقراطي مقارنة بالوطن، وجد شيئاً آخر، لكن العيب لم يكن في البلد، بل في الناس، كانوا نصّابين باسم الرفاق، أين الرفاق الذين عهدهم في العراق؟ فلاحون وعمال ، مثقفون وبسطاء، أين هم؟ من هم الحقيقيون ومن هم المزيفون؟.
إنه يعرف الكثير منهم والذين جاهد معهم، وتوقف واعتقل معهم.
ترفـّع على الصغائر واهتمّ بالانتماء، بانتمائهم ابتعد عن التشكيك بالآخر كما كانوا يفعلون. سلبية الأحزاب بالحكم وسلبية البيروقراطية والزجر والأوامر جعلته ينهار، إلى درجة أنه لم يقوَ على ممارسة الجنس مع زوجته لمدة سنة، بعد أن خضع لجلسات علاج لدى طبيب نفسي.