3
اختراقات الذاكرة تُقاس بحجم الهاوية وبسنتمترات التيه، بعد أن حفروا بسكاكين الأكل والملاعق في سجن نقرة سلمان، سنة كاملة، عشرة سجناء محكوم عليهم أن يناموا على التراب المحفور ويخالطوا الديدان والصراصير. ثم يعمدون إلى تغطية الفتحة في الصباح، ويسوون التراب، حتى حانت الساعة التي أوصلتهم واحداً تلو الآخر إلى مدخل مزرعة، وتوزّعوا دون هداية أو دراية. فقط توزّعوا، واختبئوا كل على طريقته.
أما وليد فقد خرج بنصفه المبتور، ويد متعبة من الحفر والتعذيب، وكرامة مهانة كل صباح ومع كل وجبة طعام تُقدم لهم. قصد بيت صديق له، كان بائع ثلج في بغداد، تعرّف عليه في مقهى يرتاده البسطاء، ونظـّمه في الحزب. وهذا بدوره أخذه لصديقة له تعيش مع أمها فقط، وخبأته أسبوعاً في دارها، خططوا فيه طريقة هروبه خارج العراق عن طريق سوريا.
تكفـّل صديقه بالمصاريف، كما وضع في جيبه عشرين ديناراً، ووعده بأنه سيخبر أهله لاحقاً بمغادرته. تحقق من دقة العنوان، وأكد كلامه ووعده له، بعد أن تهدأ الأمور: اطمئن يا وليد، سأخبر أهلك.
في طغيان الظل، تبقى النوافذ مشرعة، تتصفح الريح. وصرخة تتراكض لنهاية خربة، بعيداً عن الحكام الذين يصنعون الظلام لشعوبهم.
ضمن باب النسيان يكون أول دخول السيف حيث اختراق الرئة إلى باب المذبحة، لا عصافير تغرّد على نافذة تُثير الروح لفرحة هادئة، غربان تعدد الأسماء الجديدة، وتضحك علي، موتاها المتحركين. ترافق وليداً في رحلته البرية آخر نظرة من عيون" عليـــة"، وآخر إيقاع لقلب أمه، صــــوت عربة النفط، نهيق الحمار، مغزل جدته، وزاوية من ارتباط مقدس بشجرة التوت، وقليل من كلمات أعلن فيها اعتصامه وانتماءه الحزبي.
كما رافــقه يقين يد مبتورة، وسنوات دراسية لم يكملها. إذ كان اعتقاله قبل انتهاء السنة الدراسية الأولى بتهمة تنظيم الطلبة وإثارتهم على الشغب وقلب نظام الحكم.
سنـــة كاملة في سوريا وهو ينتظر قرار قبوله كلاجئ سياسي في بريطانيا، يده المبتورة كانت هويته للعبور، لكن على الطريقة الإنجليزية، يجب أن يقف في الصف ليأتي دوره .(The line - queue).
حفظ هذه الكلمات، زخرفها على حيطان الدار القديمة التي استأجرها لمدة شهر، وجابه الحياة الجديدة. صبي في مقهى، كل ما أراده الابتعاد عن وليد معذّب، وليد مضطهد في ماضيه وحاضره، والجَلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته.
أهو حُـرٌ الآن أم مسجون بوليد لا يعرفه..؟؟ هل يضع قدميه على عتبة هشة؟ هل يخلع نعليه في وقت الدخول؟ هل ينتظر بعثاً جديداً لموته؟
هل يلعن الموت، و مؤسّسيه أم المنتمين إليه؟
الكلمات التي حفظها لـ (جلال الدين الرومي) كانت قوته وتجلّده، في السجن وخارجه، سنده كلما ضاقت عليه الجدران واستحكمت؛ (أنت طائر نفسك، وفخّ نفسك، وصدر نفسك، أرض نفسك وسماء نفسك).
يعود إليها ويختصر المسافات، إذ لا وجود لإنسان حرّ في البلد العربي، أي بلد دون استثناء، تختلط الأشياء بعضها ببعض، لكن كما هي أوامر الحكومات: أنتَ لست إنساناً.
في لندن غربة من نوع آخر، يلاقيها وليد في وجه الأطفال اللاجئين مع ذويهم، بحثاً عن آدميتهم. الأمسيات تقترب لتألف بعضها،كل شيء، الزحام، المشي المستعجل، بائعات الهوى، العربيات والإنجليزيات، الروسيات والقادمات من أوروبا الشرقية. هزّة صدر لراقصة من (سراييفو)؛ مصادرة للرقص الشرقي، غجريات عراقيات يرقصن في المطاعم الفاخرة، مطربون من الدرجة العاشرة من بقايا أندية عدي؛ وسماسرته، أميرات عربيات، مجلات عربية، راقصات مغربيات، أسماء لا تعلق بالذاكرة، أسماء مألوفة، رجال متزينون بزينة نسائية، روج وملابس نسائية وشعر مستعار، رائحة النارجيلة، سندويشات الشاورما، الهامبرجر الأمريكي، كلها امتحان للصوت، ومفاتيح لعبور الأرصفة.
كل خطوة يخطوها وليد على الرصيف يقف بعدها متردداً، أ يبادر بالأخرى؟
بعد تساؤلات يلتقط أنفاسه من صدره ويحادث نفسه: أنت أكثر أمناً من رصيف وطنك، سر.
مع إحدى الخطوات انتبه لبقالة تبيع ورق اليانصيب بباوند واحد للعمود الواحد. خلع معطفه الأسود الذي اشتراه من سوق الحميدية، وراح يبحث في جيبه الداخلي عن بقايا عطاء الإنسانية الإنجليزية. حين اشترى البطاقة قرأ عليها (لوتري)؛ كان يعرف أنه من المستبعد الفوز بها.
وقف في الشارع يقرأ بعض الملاحظات المدوّنة في الورقة، واسترجع ذاكرة تذكرة لم تبادر والدته بشرائها له.


--------------------------------------------------------------------------------