في جهة العمر، تعبر حفنةٌ من السنين، بلا هوية تتحسس قيدها في اختصار الهواء، تشرب قهوتها كطائر غالبه النعاس.
لوحة مخدوشة لفنان معتزل الحياة، تشاركه عزلته منفضة سجائر، ضباب يترنح بسكرة الذبح، من المدن والشوارع والأرض، لوحة خشبية نُقش عليها (شقة رقم 202) كان من المفترض أن تـُدق على باب الشقة من الخارج. وبملل طريد تكوّر الوقتُ على شكل دائرة، وعجز وليد عن إضافة لمسة فنية لشقة فقيرة الأثاث. بقيت لوحة رقم الشقة مرمية على الأرض و منذ شهور، بالتكرار اليومي الممل وإيقاع رتابة أكثر منه مللاً يقضي وليد معظم وقته، ويعدّ على أصابعه احتمالات أيامه الباقية في كأس الحياة.
موكيت أزرق باهت اللون لقدِمه، أريكة لونها أبيض ، (صوفا بيد) ، مصنوعة من الخشب الرخيص، طاولة طعام صغيرة لا تسع أكثر من كرسيين، في المطبخ رفـّان مستطيلان، المطبخ جزء من الصالة، فضاء لتسعة أمتار بمثابة قبر، على الرفوف بعض علب من الفول والحمـّص، كيس من البصل مفتوح وكيس بطاطس مفتوح أيضاً.
حبتا بطاطس قرب فوهة الكيس ذبلت عروقهما، علب فارغة من البيرة مرمية بفوضى قرب الأريكة.
بالنسبة لوليد يكفيه سد رمق، لذا لا تحتوي ثلاجته على أكثر من شرائح جبن وخبز وثلاث تفاحات ذابلات ، اللون والشاي وقليل من سد رمق، هو الزهو بالنسبة إليه، علـّمه السجن على ضمور البطن وعلى التقشف.
مسجـّل صغير أسود اللون ولقِدمه يخرج الصوت منه شبه مبحوح، كثيراً ما يجلس جلسته المفضلة حيث يضع ساقاً على ساق ويخطط في مخيلته صورة للوحة جديدة. لم يعتد الخروج إلا نادراً، وأغلب الأحيان لشراء أبسط حاجاته.
يتصل هاتفيا بأصدقائه ويطمئن عليهم، وإذا ألحّوا عليه بالخروج يرضخ لإلحاحهم، ثم يعتذر هاتفياً بعد نصف ساعة.
لوحاته أكثرها تعبيرية، قدره اختار له الفن، على عكس ما كانت ترغب به أمه، إذ تمنّت له أن يصبح طبيباً يمدّها بالطمأنينة ساعة وقوع المرض، رغم أنه لم يرفض لها طلباً وإن كلـّفه حياته، فإنه كان يطمئنها ويداعب ضفيرتيها :
ـ ابنك يعالج المرض باللون يا أمي.
حين لم تفهم قصده راح يسألها ويفسّر لها في الوقت نفسه:
ـ لدينا طبيب مختص بالقلب، وآخر مختص بالعيون، أليس كذلك يا أم وليد؟.
ـ إي والله يمّـه ما تقول إلا الصحيح.
ـ وأنا طبيب ألوان، أعالج مرضاي بالألوان وليس بالدواء.
ـ الله يسلمك يمّـه من كل شر، أكو صيدلية تبيع الألوان؟ (ثم تبدّل لهجتها ): المهم طبيب وبس، حتى يصيحوا لي أم" الدكتور" وليد.
ـ وبَسْ يا حلوة وليد.
ـ وحتى تداوي أهل المحلة، كلهم بعوز يا يمـّه، حتى الموظف ما قادر يأكل خبز، الله يخليك إلهم*
من بين الجامعات والكليات المتعددة اختار كلية الفنون، وعليه أن يعزم على الرحيل، والسفر إلى بغداد. تفادياً لعوزه باعت أمه قلادة مهرها بثلاثين ديناراً، وهي تعرف أن قيمتها أكثر من ذلك، فلطالما سمعت من عمتها أم زوجها أن مهرها ثمين وثقيل الوزن. وهي تتطلـّع بوجه الصائغ، تفقدت يدها، إذ سبق لها أن باعت أسورتها لعوز، امتلأت أعماقها صرخة وإصراراً، لا حاجة لها بالذهب، الغالي للغالي. أجبرت خاطرها بمحاولة خداع نفسها أنه أقل من ثلاثين ديناراً، من فرط غيرة عمتها منها تتصور أن قلادتها ثمينة.
ـ منين يا حسرة، قالت للصائغ، ثم استدركت أنها تحادث نفسها.
لكنه سألها: ما بك يا أختاه؟
ـ أخي أسألك سؤال.
ـ إي تفضلي.
ـ من يشتغل ببيع النفط يقدر يشترى لامرأته قلادة غالية؟
وضع القلادة في الميزان، ودون أن ينظر إليها ردّ على سؤالها:
ـ من جاء لنا بالبلاء غير النفط.
ـ أرجو أن تزّد عليها شوي، والله أحتاج فلوسها.
رماها في وجهها؛ بطّلت اشترى.
ـ لا عيوني لا تغضب، ثلاثين، ثلاثين؛ أمري لله.
خيطت له كيساً من القماش، وضعت فيه الثلاثين ديناراً وعشرين أخرى من أبيه، وتركته يتدلـّى من رقبته. بعد أن عوّذته بالمعوذات، طلبت منه أن يخفي الكيس تحت ملابسه، وأعطته كيساً من البلاستيك فيه متاع للطريق، فقد خبزت له (خفيفيـَّات) في التنـّور ورشّتها بالسمسم والسكّر.
في شقته المتواضعة لم يبقَ طعم للسكّر، غير ما تركه في بيته في مدينة الناصرية.
حين استقل القطار كان كل شيء يركض وراءه، ولا تزال تلك الأخيلة تلاحقه. صوت القطار، صفيره، الغبار المتطاير من النوافذ، أصوات بائعي الماء البارد، وبائعات الخبز الساخن، بائعي الشاي والكعك. كل تلك الذكريات تسكن جراحاته وتتولى الدفاع عن يده المبتورة.
من أجل الكشف عن شلاّل مخيلته الفنية، يدخل الحمام، يستحم ثلاث مرات بالصابون واللـّيفة، كأنه يطهّر جسده مما علق به من وسخ السجن.. لم يستطع أن يتحرّر من حالته هذه، لازمه مرض الوسواس منذ خروجه من السجن.
***