8
المسافة بين شقتها وديوان الكوفة ليست بعيدة، رغم ذلك فضّلت صعود الحافلة رقم (7) الأشياء لا تتفجر مصادفة، ولا تتدفق إلا إذا وجدت ما يدفقها. لاحظت راوية أن عيناء تدس أصابعها في محتويات حقيبتها اليدوية، وتخرج فارغة. أغلقتها وأعادت فتحها ثانية، وبنفس التوتر سألتها فيما إذا كانت بحاجة إلى مساعدة؟
أجابتها؛ شكراً، لقد كنت أبحث عن حبة مهدئ للصداع.
رجل عربي يرتدي نظارة طبية، أكرش تفوح منه رائحة الخمر، تسمّرت عيناه على صدر الفتاة وراحتا تلتهمان مفاتنها.. نظرة التلصص تسير حيثما يسير العربي، عرضاً وطولاً، من تختّله بين الأشجار، من السطوح والنوافذ، من الثقوب الإسمنتية. ويد التحرش تهاجر معه لترتعش باكتساء آخر، وتتلـّمس رقة اللحم الأبيض، بعد أن كانت تخترق العباءات السود وقت العزاء الحسيني، أو تستقر على الصدور البارزة في الأسواق. وتصدح الحناجر المهتاجة ( فدوة أروح لهذه العيون ) ، ويتغنج الغضب الأنثوي بين اللذة والخجل .
بعد أن امتدت يد الرجل إلى ظهر عيناء، وتحركت هي بدورها غاضبة،ردّ عليها:
- ( اشدعوى دادة..عيوني ليش شنو سوّينة)..؟؟
عرفت راوية أنها في المكان الصحيح، في الموكب ذاته، أو في الأسواق المكتظة ببضاعة النساء، بادرتها بتصرف يقيها حرجها، وفسحت لها مجالاً قربها:
ـ تفضلي قربى.. هنا أفضل.
في تلك اللحظة ولد الكلام بينهما، وبعد ابتسامة ودعابة دارت بينهما، اطمأنت عيناء وأخذت تبتسم بعض الشيء لابتعادها عن العاصفة.
طلب محمود من المصور الخاص بالصحيفة التي يعملان بها، أن يلتقط له صورة تذكارية قرب لوحته المفضلة، أخذ وقفته المعهودة بفتح ساقيه وميـّل وسطه جانباً وابتسم، ثم طلب صورة أخرى على أن تكون قريبة جداً، ورغب أن يكون وجهه ووجه ذات الرداء الأحمر لصيقين. أسرع وليد إليهما وطلب هو الآخر أن تكون لديه صورة تذكارية مع الجميع، بعد أن وقف من الجهة الأخرى من اللوحة.
استدركا تصرفهما، وقدّما اعتذارهما بصوت واضح للسيدة راوية: عذرك سيدتي، تصرفنا غير مقصود.
أجابتهما: لا عليكما، لكل منكما صراع داخلي ترغبان أن تجسّداه في صورة تذكارية، أما أنا فصراعي في ثمن الكرامة، هل بمقدور مصور تجسيده في صورة؟
شعر وليد بحرج واعتبر كلام السيدة موجهاً إليه، ترك محموداً على وقفته ووقف قرب السيدة: لم أدفع كرامتي ثمناً لإبداعي، لم ولن يكون هذا في أي يوم.
بعد أن وضعت يدها على كتفه، هزت رأسها: أعرف يا وليد، أعرف، لكن في مختبر الحياة تكون النظرة معكوسة دائماً خارج المنطق.. كم تدفع، كم تقدم تنازلات، ولو فعلت أي واحدة مما قلت ستجد سرب الحشرات يركض وراءك، إنه التواطؤ مع الشذوذ، وما علينا إلا أن نكون خارج الفراغ. صدق محمود درويش حين قال؛ (ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للحنين إلى أحد).
وأنا أقول ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للشرف.
ارتدّ وليد إلى نفسه كطفل مرتبك، واعتذر آسفاً على فوات وقت الغداء دون أن يجلب ولو شطائر أو أي شيء لسدّ الرمق، أنا لم أذق الطعام منذ ظهيرة أمس.
ـ لا عليك (ردت راوية) في عالمك الجميل لسنا في حاجة لمعدة. إنه الجوع المخلـَّد، غداً سيذكر التأريخ عن جوعنا وشبعنا الإبداعي، وسيقول: ثلاثة مبدعين ممتلئي البطون، وسيتخرج آلاف الأساتذة في علم التأريخ وينالون شهادات الدكتوراه بشرح وتحليل مفردات كهذه.
فتحت حقيبة يدها لتدوّن ما قالته، سقطت ورقة على الأرض، التقطتها بسرعة، ردت إليها كلمات سبق أن كتبتها، وعاينت في وجه وليد:
- أنا مثلك أرسم على الورق، الورق هو ستري وغطائي.
ابتسم محمود:
- ما أرخص الورق في أيامنا هذه، تركتها منشورة في غرفة نومي، دوّنت عليها حتى اللحظات العابرة.
قاطعته راوية:
- هل قرأت نفسك فيها؟ هل سبق أن استيقظت من نومك مذعوراً ودارت حولك كلماتك تجسد شخوصها أمامك، حادثتهم مثلاً؟.
ـ لا سيدتي، وإلاّ لـجُننت.
ـ ما رأيك بالذي يجالس ويحادث أبطال أعماله؟ هل تسمّي هذا جنوناً؟ (وأكملت):
- أنا آكــــل معهم، أتنـــــزّه معهم، أدخل شذوذهم وسكــــــــرهم، خياناتهم وذكورتهم، ممارساتهم الخاطئة وخذلانهم، أدخل زنزانات توزّع حبوب منع الحمل على أوطانها، أدخل شوارع متكررة لها صورة واحدة وإن تعدّدت أسماء الأوطان، سورية، العراق، فلسطين، مصر، مرآة زائفة أرى فيها رجالاً يركضون خلف نصفهم الأسفل. أقرأ المنطق المقلوب، فأرى النظرية النصفية، أقصد السفلى. أضف الى نظرياتك يا وليد (التنظير السفلي).
رفع محمود يديه مستجيراً:
- الله الله، كل شي ولا تترك كاتباً يتحدث.
ردّ عليه وليد:
- كن صبوراً أو تهادى كالجمل.
ضحكت راوية حتى سالت دموعها على خديها:
ـ وأنتم على الجمل، لا تنسوا أنكم كائنات تتحرك بشبقها النصفي، وتركتم النصف العلوي تستخفّ به أمريكا.
حاول وليد استمالتها إليه :
- لم نقرأ أشعاراً في الصحف اللندنية؟.
أجابت بعد أن احتقن الدم في وجهها: لأني لا أتعامل بمنطق النصف.
محمود: بالله عليك فسّري لنا كيف تتحاورين مع أبطال أعمالك، هل تأكلين معهم حقاً؟ أهذا يُعقل؟.
ردّت:
- ولمَ لا.