7
في الضفة الأخرى قرأت راوية في مفكرة حياتها أول يوم لها في امتلاكها ذاتها واستردادها بعضاً من آدميتها، وهي تطأ أرض لندن، استعادتها لأنفاسها النقية، خوفها من أيام تجهل كيف سترتب لها المشهد القادم وتخطط لها حياتها القادمة، احتياجها لقلب بعد أن طردها قلبها، احتياجها للمسة حنان حقيقية.
على مرمى من الخديعة، من حرية لم تتحرر من صدور أصحابها، تعرفت على شوارع المدينة، على الوجوه العربية والآسيوية، على العيون الزرق والقوام الرشيق، على العجائز الأنيقات، والعجائز البدينات.. على الفرح المعلب، القهر المستورد والتلف المعبأ بالقناني العربية في واجهات محلات " أجورد رود"، على الجميلات بملابسهن القصيرة وكعوبهن العالية.
سيقان عارية، وسيقان ملتحفة بعباءات سود، وجوه سمراء بمساحيق وعدسات لاصقة، عرب، كرد، هنود، أفارقة، إيرانيون، طقوس عزاء حسينية في الـ (هايد بارك)، رجال الشرطة المحيطة بالموكب حماية له. ورائحة النفط في (أجورد رود)؛ تمنطق خارطة ثرائها بشرب الشيشة في المقاهي، رشوة للوقت، رشوة للمطر ولهواء عذب.
على الضفة التائهة نفسها التقت بعيناء، وقت عودتها من ديوان الكوفة، بعد انعقاد ندوة حول ديوان أدونيس (تنبأ أيها الأعمى). خلال المحاضرة كانت تتخيل العميان، المبصرين الذين يناشدهم الشاعر، وتتساءل:
ـ ماذا لو تنبّـأ العميان، هل ننال المقصود؟ أم يسوقنا القطار الى دوّامة جديدة..؟؟.
وتخيّلت كيف يتنبأ كل أعمى على طريقته الخاصة وعلى مستوى وعيه الفكري ونضجه الثقافي وفهمه لما كان يدور خلف نظارته السوداء.

***

فُـُتحت ستارة المسرح، المشهد الأول: عشرة عميان يسيرون باتجاه معاكس على خشبة المسرح، المكان قاتم بلا أنوار، لفتة إيحائية من المخرج بتصوير العمى للجمهور، تزداد حركة الرجال بازدياد إيقاع الموسيقى المصاحبة للعرض.. يتخبطون بالسير، يصطدم بعضهم ببعض، كلما احتدمت الموسيقى زاد الردم، تدخل نساء مسرعات بنفس سرعة الإيقاع، سكارى، واعون، أميرات، أمراء، عبيد، حاشية، رجال يحملون كتباً،غواني، باعة صحف، نغمات تتوالى بسرعة دخول وتوالي أمثلة الحياة على الخشبة، واحتشاد المكان بالعمى..
دخان يتصاعد من جهة واحدة، يصبح المكان ضبابياً، الاختناق يبدو على الوجوه، الرقاب تتدلـّى إعياءً، شخير الاختناق يعلو على صوت الموسيقى، تنشقّ الخشبة لنصفين، يخرج من الشق عميان جدد، يفور المكان ويدور حول ناسه، تتشقق كل أجزاء الأرضية، تتهاوى من سقف المسرح أحجار البنايات والبيوت، أصوات رعد وصيحات.
فجأة يسوّر المكان بالصمت.. يُضاء المسرح.. يعلو تصفيق الجمهور، يحني الممثلون رؤوسهم تشرّفاً بالتصفيق، يستمر العرض. استعمل المخرج أسلوب الإنارة والظل، ظهرت خلفية المسرح كشاشة عرض، ظلال لبشر مكبلين بالحديد، أحمال ثقيلة على أكتافهم ولكن بتفاوت، أثقال خفيفة من السهل حملها، أثقال أوقعت أصحابها أرضاً، أثقال بصناديق خشبية كبيرة يجرها شخص واحد، أثقال تجرجرها جماعات مجنزرة قيودهم.
انشقّ المســـرح على شكل نهر بضفّتين، مـــــراكب ورقية ترسو، مراكب خشبية، في الضفة الأخرى، عينا ماء منفصلتان، يباعد بينهما نهر عميق.. واحدة تفوح منها رائحة المسك، يدور حولها صبيان وصبيّات يرشون عليها ماء الورد، من العين الثانية فاحت رائحة أبخرة ماء مغلي.. رجال ذوو عضلات مفتولة يرمون فيها أسياخاً من الحديد، الممثلون المربوطون بالسلاسل بعد أن تفتّحت عيونهم يفقدون الذاكرة، لا أحد يعرف اسمه.
صاح رجلان دخلا مع ثالث أكبر منهما سناً:
ـ كيف سنعقد المحكمة؟.
أشار لهم الرجل الوقور، وهو يتوسط الجلسة الى دفتر كبير معهم:
ـ لا داعي للحيرة، أمامكم كل شيء. فقط نادوا بالاسم وزنوا الثقل، وينتهي كل شيء.
ـ لكن يا سيدي نحن مَن أنسيناهم أسماءهم.
أما الشخص الرابع الذي دخل قبلهم، فقد وقف وقفة المتفرج. مطّ رقبته وفرد طوله، تكتّـف ووقف يستطلع.. أحد الرجلين يرتدي جلباباً واسعاً بنيّ اللون، يفتح أول صفحة من دفتره، وينظر إلى الرابع الذي كان يهزّ رأسه هزّة العارف:
ـ ونعرفهم جيدا.
دوّت مطرقة الرجل الوقور: محكمة.
أعاد المخرج فكرة التلاعب بالإضاءة، أنوار خافتة جداً، بالكاد تبدو الظلال على خلفية المسرح. موسيقى صاخبة، ثم أطبق الصمت بعدها على جو المسرح. أدرك الجمهور أنه المشهد الأخير، تهيأت الأصوات والأيدي للتصفيق والإعجاب والتعظيم.. أضيئت الإنارة على المسرح والقاعة كلها.
الصناديق والأثقال مركونة على الضفة القريبة من المحكمة، لا أحد على المسرح غير الرجل الطويل الذي تفرّج فقط، ورجل في نهاية المسرح، يهزّ رأسه بحركات تعاكس بعضها، خرج في هذه اللحظة رجال من عين الماء، وبخروجهم عبق المكان برائحة المسك وماء الورد، قدّمت لهم الصبايا مناشف بيضاء معطـّرة، التحفوا بها وجلسوا على سجادة خضراء، صبيان قدموا لهم أطباق الفاكهة، ووقفوا وقفة المطيع.
نفخ صدره بانتصار، وراح يتلمس الصناديق، ويفتل شاربيه متلذذاً بانتصاره، تضاحك بخبث، وكلم الرجل الواقف في نهاية المسرح:
ـ تعال.
ـ أنا سيدي..؟؟
ـ لم أستطع أن أكون سيدك.
ثم سأله عن كتاب بيده: ما هذا الكتاب؟
ـ إنه كتاب اشترته لي صديقة، اسمه (تنبأ أيها الأعمى ). وطلبت مني أن أحاضر به، قادتني إلى هذا المسرح. لكن كيف سيدي، كيف أحاضر عن كتاب لم أقرأه؟
ـ لماذا لم تقرأه، ألست مسئولاً عن المحاضرة؟
ـ كان بودّي.. (واقترب منه مشيراً إلى فتحتين غائرتين في وجهه) - - انظر سيدي، أنا بلا عينين أصلاً، وكلمة أعمى تـُطلق على الذي كانت له عينان وفقد متعة البصر. لذا حين عنون الشاعر ديوانه لم يجد لي اسماً في قاموسه من كلمة واحدة مثل أعمى، ومــن أربعة أحرف لآخذ نفس المساحة على كتابه.لا أدري سيدي لمَ َطلبوا مني أنا بالذات أن أحاضر بهذا الكتاب ، ربما عرفوا أني أستأجر قارئا اعتمد عليه*
صفـّق الجميع، وصفـّقت راوية معهم. سمعت صديقاً اتخذ له مقعداً قربها:
ـ هل أعجبتك المحاضرة؟
ـ أية محاضرة؟.
ـ عجباً.. شاهدتك تصفقين بحرارة، علماً بأنني لم أفهم من المحاضر كلمة واحدة مثلما لم أفهم شعر أدونيس.
ـ أنا بصراحة (والتقطت حمّـالة حقيبتها من الأرض) أنا دخلت مع أدونيس عالمه غير المرئي للجميع.