6
بسبب حبها للفن تمايلت على صوت وحيدة خليل (نزهة والبدر شاهد علينه، والعـْذيَبي تنسّم)، ومن كلمة مرحبا، عرفت راوية أنها من مدينة الموصل، أما الشابة، فالمصحف الصغير في رقبة راوية جعلها تتطفل وتسألها متقرّبة في فضول شبابي:
ـ من أين حضرتك؟.
أجابتها السيدة مبتسمة:
ـ أنا من البصرة، وأنتِ من الموصل، هذا واضح من لهجتك. كم سنة أنت في لندن؟.
ـ (أنا جئت مع أبي بوقت كان عمري سبع سنوات، أنتِ مسلمة صح؟
ـ نعم، مسلمة.
ـ (الإســلام عنيف، ونحن دينـنّا يعلمنا المحبة والسلام ،أ ليس لديك فكرة جيدة عن هذا؟)
أجابتها السيدة راوية:
ـ نعم لكن كل دين يختار لنفسه طريقة تقرّبه من الله وطريقة حسابه وعقابه، ومثلما لكل دين حسناته فلكل دين أخطاؤه.
ـ ( لا ما هكذا، حين ذهبت للكنيسة، كنت بوقتها كثير صغيرة، ما سمعتُ القس يقول يسّوع على خطأ، ماذا كان يقول لكم السيّد؟)
ـ يا بنتي هذا حوار عقيم، استمتعي بالمعرض، هذا المكان لا يتحمل حواراً بالدين، تفضلي خذي راحتك.
بين الفينة والأخرى تتابع انفعالات وحيد ومحمود، امرأة تحب رجلاً لا يحبها ورجل تثيره امرأة لا تحبه، ومن أجل إثارة الصورة النهائية لرجلين يغيبان حول جملة فارغة. ليت وليداً يعرف كيف استوطن في قلب عيناء، وليتها تشعر بوجودها في قلب محمود.
الزمن يثأر من محمود على تصرفه مع (لبنى) التي تعلـّقت به حدّ العبادة، واعتبرته ملاذها وحضنها.. لكنه تركها تلوك أيامها بعد أن نال منها ما يريد، بينما الأغاني التي يؤلفها الرجال تُبرز إضافة لجمال الإناث خياناتهن وألاعيبهن، حتى ضاعت مفاهيم الخيانة ابتداءً من الجسد وانتهاء بالوطن.. لم نعد نعــرف تنقل الرجل من امرأة إلى أخرى أهو أحقية له وحده منحتها له رجولته أم هي طبيعة البشر؟. كيف لامرأة قدرة على هوى عدة رجال في آنٍ واحد، أتُجمَع الرجال وتكدَّسهم كتكديس المجوهرات؟ آدم وقت خالف ربه هل أراد أن يصبح خير مثال لبني جنسه؟ أم كان يدافع عن حقه في الحرية؟ وتعدّدت الحريات والزنا واحد.
جلست تعاقب وتحاسب الرجال، وهي تنتظر قيامةً وانطباق الجدران على الجدران، يوم نشور الكلمة..... رنت بمسامعها أصوات الغانيات في رواية تولستوي ( الانبعاث ) ، وكشاعرة وروائية كانت تسمع أصوات الكلمات والفضاء العام للمباني والشتائم التي تتعرض لها البغي على يد الشرطة للحصول على بطاقة رخصة البغاء، عدالة عرجاء تحبك التدمير.
في غمرة الكآبة والقرف ودونية المجتمع ودونية المخابرات في تجنيدها لنساء غانيات وإعطائهن شرف الدفاع عن الأرض والدولة، علاقة الرئيس بالبغاء العام، الابن غير الشرعي للخطيئة الكونية التأريخ..
عذرت الحروب الخاوية وعلامات التذكير والتأنيث في اللغة، وعذرت لوليد براعته في تجسيد إرثه على قماش الرسم، ركضه ولهاث فحولته ساعات وساعات يملأ بياضاً لم يتعود رؤيته على لوحة الحياة، بعصارة التكوين الهش لعشق شقرائه.
***
كان يقبـّلها قبل أن تكتمل في يديه، يقبـّلها حين يبدأ وحين يكل، كيفية تسليط الضوء، كيفية تسليط العتمة، اختلاط الضوء بالعتمة على ثوبها الأصفر؛ بينما أنين امرأة من تكوينه عشقته من اللمسة الأولى من النقطة الصفر، شكوكها وتودّدها، ثورتها وانتظارها، غضبها الصامت وصمتها الغضوب، الاحتياطي من الصبر الذي استنفدته في خلق أعذار لخطيئته، قهوته الباردة، سيجارته بنصف احتراقها ، أصابعه المصفرّة من الدخان والتبغ، رائحة عرقه، انهياره، سكره، عربدته، العتاد الفاشل لمن خانهم المبغى العام، القصائد التي يتلوها، أسماء الرسامين والأدباء..
حفظتهم من خلال أنفاسه اللاهثة والمتقطعة والخافتة ساعة اندماجه باللاوعي الفني، استعادته لوعيه، نومه، صحوته، خروجه من دورته الدموية في مدحه شقراء ذات قلب عاقر لا ينجب حباً كحبها.. حفظت معه أسماء الفائزين بجائزة نوبل، وتساؤلها لخيبتها:
- أما كان الأجدر للجنة التحكيم أن تمنحها الجائزة.
اشتداد الحزن والتصاقه في قلبها، في أي وقت من أوقات تغزله بعشقه الوحيد.
كان يسمعها قرآنه، يتلو آيته الوحيدة، هو لم يؤمن بالتوحيد ولم يعرف الله، لم يعرف غير لوثته بعشق يشرب عصير دمه. وقفته مبهوراً بفضائل الجمال والطيبة من شقرائه عليه، حيثما يذهب وحيثما يعود يُسمعها آيته؛
ـ الله يا شقرائي.. أدفع عمري كله، مالي، سعادتي، رضاي، نومي ويقظتي من أجل نظرة رضا من عينيك..
كم شكرتْ السجن ورجال التعذيب على إحصائه وإلاّ لحمّـل الرجولة عذاباً كعذابها، الصرخة لا تخرج إلا من أعماق المخذول، ولكن ليس المخذول برجولته.
تمنّت أن تفوز بجائزة نوبل للقهر لتبرعت بفوزها للقلوب المخذولة، ولطرقت أبواب البيوت المغلقة على نسائها .. وأعطت نساءها حصةً من فوز ألمها.
ابتسامته لها من وراء قدح الخمر، قبولها بفراغ كأسه واحتساؤها ثمالة الحب، تجاهله رعشتها وهو يضع لمساته على رقبتها، شراعها المنعطف نحوه، مسحه حافة قدحه بعد فراغه، شعورها بالضآلة في تلاوته عليها آيته الوحيدة، طرحها أسئلة دون أن تجد جواباً من صمتها:
ـ لماذا رسمني في لوحته؟
تبهجها أية كلمة منه ، لكن تصرفاته تقتلها باليوم عشر مرات لعله يقول في سره كيف تريدين موتك؟
يطاردها خياله حتى حين يغلق نور الغرفة ويترك الألوان مبعثرة على الأرض، لتحلم به وتتمنى أن تكون حقيقة وليست صورة، هو من رسمها، هو من جعلها ممتلئة وصبغ شعرها بالسواد كما صبغ قلبها بألمه، هو خالقها وخالق مفاتنها، هو خطؤها إذن، وهو ذنبها وغفرانها.
وضعت راوية رجْلاً على رجْل هاربة من تفاصيل تعتبرها كشرارة الجذع المحترق، سمعت عجوز بقبعة حمراء وطقم أحمر فالتفتت إليها وقد رددت: ما أعمق هذه النظرة.
ـ الله يا عيناء.. حتى الآن لم يتعرّف على دمعتك التي لم يسعفك الوقت لمَسحها ساعة رجوعك المرسم، ها هو يفرح بفوزه متوهماً أنه حبا كطفل إلى عينيك وجسّد نظرة اعتراها الألم. أنت صاحبة الفوز. جائزة المعرض وإعجاب الوافدين أنت مَن يستحقهما، لا هو ولا صديقته القديمة سما، التي جاهدت للتقرّب منه كامرأة ورجل ولم يصل جهدها إلى جدواه. كل ما فعلته بعد مكالمته لها بدعوتها حضور معرضه، هو اتصالها بأصدقاء لها يعملون بالصحافة.
ها هو يقف مطمئناً هادئ النفس، يستلم من الجيوب المنتفخة ثمن فنّـه وثمن تزييف الواقع المادي.. دمى آدمية، وزبائن تشترى نظرات تطلـّعت باتجاه واحد وجمدت إرضاءً لثرائهم، بؤرة رخام تبتلع كل شيء حتى غرور وليد في هذه اللحظة.