4
- كنتُ في ميوع الزهرة، أحب الجميل في أحلى الأشياء، في الناي، في الربابة، أعشق الناي حدّ الجنون، فالناي صوت نفَس العازف، ألمه المباشر، لا يمرّ على وتر ويقرع طبلاً.. أحب المطر، منذ الطفولة وأنا عاشقة للمطر، وكانت عيني أوسع من واقعها، ومن أجل الجمال قيّدتُ العماء بربطة عنقه، أطلقت عصفوراً كتبت على جناحيه وصاياي، وقرأت في لوحي عن حسناء لم يتعرّف عليها حلمها ، ولم تمتطِ نجمة في سماء الخيال ،سمعتُ من جدّتي عن مصباح علاء الدين، فصرتُ مصباح نفسي، أسند جداري على جداري، وأتخذ لي موقعاً في الحياة. تمرّدت على سماء الشرق الرصاصية وعلى حواجز تمنع توهّجي، أصغيت لصوت الإنسان بداخلي، وقطّعت خرقة أسمال بالية التصقت بي.
تبنّيت فكرة النهوض من العتمة حين ناشدت نوافذ جديدة، حساباتي كانت في الموقع الخاطئ أو بالأحرى لم يتركونا نحسبها بشكل صحيح، مثلما لم يتركوا لنا أصواتنا. تصوّر.. أنا الآن أزعج صوتي وأقول له؛ تحمّلني أيها الأبله، بلا منطق أتمنطق*
فوجئتْ به يروي آلاف السنين في نظراته، استمرّ يتطلـّع في وجهها لخمس دقائق كزمن، فيلسوف يستطلع ما وراء نظرة سيدة قلـّما يجد مثلها بين نساء مررن بحياته، في نظرته لها شهوانية غريبة، اضطربت لرجولة لمعت في عينيه.
شمّت رائحة أنوثة فيها أرجعتها إلى فخ القـُبلة الأولى ساعة هروبها من المدرسة بأمنياتها البسيطة و تنورتها الزرقاء. جرّت قميصها الأبيض إلى الداخل ليبدو أكثر التصاقاً بجسدها ... كانت الشمس شيطانة والأرض يؤلمها حفيف الأشجار، بذات الحفيف اهتزّت وتعرّفت على إله غريق بين الشفة والشفة، بقبلة كانت لها.
دارت نصف استدارة تقيس مساحة الفراغ الذي يباعد بين الفتاة وحبيبها، لم تجدهما، غادرا القاعة وتركا رغبتهما محبوسة في شفاه الرجال.
بحلول وقت الغذاء، تناقص عدد الحضور، اعتبر وليد أنّ الزمام بيده وأن أمامه فرصة للتعرف أكثر على السيدة راوية، سحب بدوره كرسياً ثالثاً وقابلهما في جلسته، ثم وجّه سؤالاً للسيدة:
ـ أي لوحة أعجبتك؟ يهمنى رأيك.
أجابت: لوحة البحر، ولوحة المرأتين.
استذكرت شيئاً طارئاً:
ـ إنها اللوحة الوحيدة دون اسم:
- ألم يطلق عليها الجميع اسمَ لوحة الرداء الأحمر؟
- لم يجبها منتظـراً جواباً لسؤالها، حين تابعت:
- المهم أنتَ أولاً، أنتَ خالقها وخالق اسمها.
- قالت ذلك، وحرّكت يديها ارتباكاً.
شاركها ارتباكها:
ـ بصراحة، لم يسعفني الوقت. لقد جئتُ بها صباحاً، وسأنقش عليها اسم تناغم.
تدخّل محمود: أي تناغم تقصد؟،. إنهما امرأتان مختلفتان كليّـاً.
ـ عفوك سيدي، قلتَ لي أن اسمك محمود، أم أنا مخطئ؟.
ـ لا.. لستَ مخطئاً.
ـ أقصد تناغم الثوب الأزرق مع الشعر الأشقر، كيف ينسجم اللونان ويتناغمان مع جسد رشيق.
ـ اعذر لي جرأتي أخ وليد، أنت فنان، والفنان مرهف الحس، لكني أجدك لا تدرك بهجة دمعة مشبّعة بالملح وحارقة ومتورمة بالحزن، إنها عصارة ألم وفرح وحزن ولقاء ووداع.. أم لم تلحظ دمعة السمراء؟ والانسجام الذي تحدثت عنه أراه في انسياب الشعر الأسود المتماوج على المنكبين .. أنتَ رسمتَ دواخل نفسك.
ـ ما هو الاسم الذي يليق بها في رأيكٍ..؟ سيدتي راوية..؟؟.
ـ أفضل أن تظل اللوحة بلا اسم.. أو لربما سأجد ابناً من أبنائي على ورق لستَ فيه، يكون أكثر التحاماً بدمعة محيّرة، يطلق عليها اسمها القادم.
عقد حاجبيه تساؤلاً واستغراباً:
ـ أتقصدين أننا حبرٌ على ورق؟.
ـ بل مجرد صور تعبر في مرآة الحياة.
أشارت إلى ذاتها والى الجميع: - نعم إننا حبر على ورق، ولا حبر ولا ورق.
ـ أهذا لغز؟
ـ سمّهِ ما تشاء.
قال وليد: لغزي الأول رسمتـــه في الصف الــــرابع الابتدائي، صورة لعبد الكريم قاسم، وصفّق الصف كله لوليد فنان المستقبل. تحدثت معه كثيراً، لم يسمعنى رغم كبر أذنيه. وآخر الصور كانت لمومس نصف عارية، نصف يعرض بضاعته ونصف تغطى بأخطائه، لا تكتمل الرجولة إلا بالجنس.
قالت السيدة: لستَ وحدك من يكمله الجنس.
واستدارت تقول لمحمود:
- لي صديق شاعر، يقولب طاقاته الجنسية إلى نتاج فني، يكتب بالتماع الرغبة، إنه لا يختلف عن أي شاعر جاهلي. انظر يا سيد محمود، لقد رسم وليد امرأة أخرى عارية تماماً، لولا الشال الذي اختنق بين نهديها، وارتخت أطرافه على أسفل البطن :
- هل أنت الشال يا وليد؟
انقطع الحديث فجأة ، حين انتبهوا إلى رجل فارع الطول، عرفوا من هيئته وملابسه أنه من أصحاب الأموال. فتح زراً بجيب سترته الداخلي، استخرج دفتر صكوكه ملتزماً بأدب الارستقراطيين، انحنى باتجاه وليد مستفسراً عن ثمن لوحة أشار إليها.
تلعثم وليد بردّه:
- عذرك، هذه ليست للبيع. إن رغبتَ بصور النساء العاريات، فأرشّح لك لوحة (عبث الحرير).
لم يرق الجواب للرجل، وبكلمات معدودة ولباقة شكر وليداً، واستدار ليتفحّص عبث الحرير.
على مــــدى وقفة امتـــــدت ربع ساعة أمام جسد عارٍ لامرأة تكشف عن مفاتنها ، عاد إلى وليد ثانية، نفث نفثة طويلة من سيجاره تغلـّب بها على صمته؛ بادر بوضع الثمن وهو يردّد:
ـ ثلاثة آلاف جنيه، أهذا يكفي؟
أجرٌ ليس له نظير بالنسبة لوليد، ها هو يقبض أجر سهره وتعبه، سعر لم يحلم به، وافق على الفور. عندها وقّع الرجل الثري صكاً، وقدّمه إليه قائلاً:
ـ سآتي لأخذها بعد أسبوع.
لحق به وليد مسرعاً، حين لاحظه يهمّ بالخروج:
ـ سيدي العرض ليوم واحد، اليوم فقط، أعطني العنوان وسأوصلها بنفسي.
ـ لا داعي، سآتي لأخذها غداً، شكراً.
رجع إلى جلسائه منتشياً، ومتفاخراً بالرجل الذي لا يعرفه:
ـ إنّ شخصاً مثل صاحبنا على درجة من العلم والفن كان خليقاً بلوحة أدمت أصابعي، يا سيدة راوية.. اضطراب أعصابي تجدينه في كل جزء منها.
ـ هذا يعني أن اللون الأحمر هو لون أعصابك على ثوب عيناء.
ـ مَن عيناء؛؟،.
أجابت: أقصد ذات الرداء الأحمر.
ـ اللوحة هذه هي روحي، عليها استعرضت كل حياتي، أتظنين أنها مجرد لوحة؟. الحب في لوحات العشاق رسالة للعاشقين.
أجابته متبرّمة:
- رسمت امرأة واحدة أحببتها، وتقول دمى واضطراب أعصابي، ماذا لو أحببتَ سبع نساء مثل بيكاسو بأفكاره المتمردة والمتطرفة، هل تتطاير أعصابك بالمقلوب؟ وأكملت:
- في حياة كل فنان امرأة واحدة وعدة عشيقات، امرأة هي حياته، لتكن ما تكون وإن صورة وهمية من بنات أفكاره. المهم بَصمَتها في روحه، وروحه في إطار.
- قال لها: من خلال العشق نتمرّد، نصلـّي ،ونعصى، نُجلد، ونفقد أعضاءنا.. ولكل عصيان ثمن.
- اسمعي سيدتي، هناك شيء ضائع نبحث عنه، ربما ضوء في أصواتنا لم ندركه، أو نظرة عاشق... ثم وقف منشداً مداخلة طويلة عن الفنان والعشاق والعشق من أول نظرة. ولكن قطع حديثه عندما بدأ زوار جدد يتوافدون، بينما راوية عمدت إلى كتابة جملة خطرت ببالها. أرجعت دفترها الصغير إلى الحقيبة، ودنت من وليد هامسة:
- يدك قطعها الالتزام.
- بل من أجل الحرية سيدتي، أنت على خطأ.
- قالت: كيف لأصحاب الارتباط بحزب أن يطالبوا بالحرية للآخرين وارتباطهم عبودية، أليست شيوعيتك عبودية؟.
- سألها: مَن قال إني شيوعي؟
نزفت السنون في صدره وارتاب مما تعرفه عنه سيدة تعرّف عليها قبل قليل، سيطرت عليه فكرة جاسوسيتها، ماذا لو كانت من عيون السلطة السابقة، أبعد الشكوك عنه، رفع حاجبيه قليلا وردد في سره:
- وإن كانت من أعوانهم، لقد انقلبت الدنيا عليهم وتحرّرنا من موتنا. لن يستولي علينا الخوف بعد الآن.