--------------------------------------------------------------------------------


3
في وقت تعفـّنت فيه أعمدة الضوء التي مازال يتذكر سيرها خلفه ترسل شعاع نورها على كتفيه، تراقص أنغاماً خاطئة على فوانيس الطرقات، وتسكّعِ النغمِ الخاطئ في كل أحياء بغداد، وأصبح كومة مزبلة تجول في شوارع العراق. المزبلة ذاتها أرسلت طبيبها لبتر يده اليسرى بعد أن اهترأت وتمزّقت حدّ التعفـّن، في زنزانته الضيقة التي بالكاد كان يرفع رأسه فيها.
ارتفاع الزنزانة لم يكد يصل حدّ رأس رجل قزم، وفي التعذيب الجماعي كان يستردّ قوته من الآخرين، من إنهاكهم وتهشّم أضلاعهم. لكن في التعذيب الانفرادي، وهو معصوب العينين وموثق اليدين والقدمين، كانت تمتدّ عصا غليظة بين الوثاق، فتبرز عقيرته على شكل كرة لحمية عارية، تسيل الدماء من دبره، يسحّ الشحم فوق دمه بعد تمزّق الأحشاء. بقي ثلاثة أيام غائباً عن الوعي، وحين استرد وعيه زعق زعقة هزّت أركان السجن. تحركت الأصفاد وتقلـّبت بتقلـّبه، فرح شرطي جاء إثر زعقته، لمظ لسانه وهو يتابع وليداً الفزِع في السواد والزرقة والتورّم وتفحّم أصابع يسراه بعد اقتلاع الأظافر منها.
قرار الطبيب بالبتر، عطيّةٌ من عطايا القائد في الإبقاء على جسده حياً واستئصال ما تعفـّن منه*
على حذر، دخل وفد صغير من ثلاث نسوة وأربعة رجال. رصانة إنجليزية، ابتسامات هادئة، هزّ رؤوس هادئ، يستطيع أن يكوّن فكرة عن منبعهم الثقافي من خلال ارتفاع الياقات البيضاء وانخفاضها، كم حلُم أن يرى الوفد الصغير هذا يهزّ ياقاته إعجاباً أمام إحدى لوحاته في (المعرض الوطني) في العاصمة لندن.
رجلٌ صامت غارق في حفرة دون ماء، عاد له الماء ثانية وتلمّس أرضه، عرِقَ، غاب، سكنَ، بينما الرجل الذي دخل معه ساعة تغليف اللوحة ظلّ طوال الوقت بسؤاله الحائر على شفتيه، يقف صامتاً مستغرقاً في صمته كلما شاهد زائراً جديداً شدّته ذات الرداء الأحمر.
ابتهج لاقتراب السيدة إليه واختراقها توحّده بدمعة حيّرت الحاضرين، وهو يرتشف نظرتها حادثته السيدة:
ـ بلغ الفنان أوج اللذة حين تسرّب إليه دفء الجسد البضّ، حالة زنبقية بين أنثى وريشة وإيقاع لون وخبز احتواء، ثم استطردت:
- هل سبق لكَ أن مشيت حافياً كي لا توقظ امرأة نائمة؟
تفاجأ لسؤالها، عدّل ربطة عنقه، بلع ريقه، تبيّن له أنها من النمط الذي يحب أن يتثاقف أمام المثقفين، كوّن فكرته هذه بسبب صديقة له تزوره، تسمع أقواله وأحاديثه عن الثقافة وتضيف عليها فرادتها بمعلومة تتباهى بها أمام نساء عقيمات مثلها، ومما يضحك في الأمر، أنها تُعيد على مسامعه الحديث ذاته، لكن بشكل آخر، تخلط بين الجهل وما تدلي به على أنه فكرتها أو رأيها. لكن بعد لحظات من تبادل الحديث تيقّن أنها من الشكل الآخر، ذات خلفية ثقافية وجرأة في طرح الرأي والموقف.
سؤال جديد صدر منها أزاح عنه غمّ صديقته الرعناء:
- أليست المرأة أسطورة حين تتزعم الفنون؟.
واصلت حديثها دون أن تنتظر الجواب:
- يجب أن يسجّل الجمال قبل أن يذبل تحت وطأة السنين، فليس أقدر من ريشة الفنان على تحدّي الزمن.. انظر، انظر لذات الرداء الأحمر، خرساء ناطقة تتحدى الفناء... لم تدرِ (فيكتورين مورنييه) عن دورها الإنساني حين وقفت عارية أمام الفنان، إنه التعرّي الذي يصنع الجمال ويسمونه بالغرائز. لو رأت (الموناليزا) الطوابير المتوافدة على متحف (اللوفر) لما اتسعت الدنيا لفرحتها.
أجابها مشدوداً لحديثها : جذوة الريشة التي يشعّ منها النور لا تنطفئ.
انسجاما مع حديثهما الشائق، بدّد وليد صمته وشارك في الاستماع والحديث، أجاب دون أن يسأله أحدهم:
- وبقينا نرسم بيد واحدة.
ليس من المصادفة أن ينقاد المبدعون إلى بعضهم، انتعشت الأحاديث بفيض ثقافي، وفيض المطّلع تقلقه حيرة عن قيم موروثة وقيم يحاول أن يتعايش معها.
قالت: لقد أثبتت الروائع الفنّية أن وراءها مجهولين احترقوا من أجل أن يتوحّد الجمال.
كانت واثقة من نفسها، تطرح آراء ذات قيمة حين واجهته:
- سيد وليد، هل بمقدور الفنان العربى أن يتخذ من زوجته موديلاً؟ أم سيبقي حصراً لانفعالاته المؤقتة؟ محاطاً بهالة من التبجيل الذكوري؟.
أجابها وعيناه على أول زائر: المعادلة صعبة يا..
ـ اسمي راوية.
ـ تشرفنا سيدة راوية. مازلنا بين الشدّ والجذب، ومازلنا في مرحلة بتر الأطراف. نحن بحاجة ماسّة للتخلـّص من تراكمات كثيرة، ومازال حاضرنا يضيف تراكماته حتى صرنا رتل تراكمات أقرب إلى الرنين.. أنا مثلاً خير مثال.. (صمت).. معذرة هناك زائر جديد.
شعرتْ بإحراج الوقت و ورطته مع رجل معتدّ بذاته، رغم أنَفَته كان يدور حول نفسه متوسلاً أنثاه أن تخرج من إطارها. ابتلعت راوية وقارها، وتحرّشت به:
ـ كلانا له شيء يفتقده، غنوة، صديق، حبيبة، امرأة نطاردها مثلاً. بكلمة امرأة اختصرت عليه الطريق، أجابها:
ـ أنا أنشد امرأة تملك جمال الكون نسيت فردة حذائها.
مدّ يده في كيس يحمله طوال الوقت، واستخرج حذاء:
- حذاء أدفع عمري من أجله.
ضحكت راوية، وراحت تخاطبه بلغة مأزومة، لتُكمل حول ما يدفع عمره كله من أجله:
ـــ ندفع عمرنا من أجل حذاء، ومن أجل حذاء دفع أجمل شباب بلدنا أعمارهم، كما دفعتها أنا من قضيتي.. إرمِ الحذاء عنك، صاحبته لن تعود.
كاد أن يقفز عليها ويحتضنها.. نسى أنه في مكان عام، صاح بأعلى صوته:
ـ هل تعرفينها؟ وضغط على ذراعيها.
ـ عيناء.. وكلّ الحياة التي تدور حولنا، زخارف على السطور.
أربعة كراسٍ متفرقة تأخذ أركاناً متباعدة، جرّته من يده، جلســـت على أحد الكراسي وطلبت منه إحضار كرسي له:
- أنت يا محمود مشحون بالذكريات .
قاطعها:
- وتعرفين اسمي أيضاً؟
- أجل.. وأراك الآن تريد مزيداً من الإيضاح.
لم تدعه يجيب بنعم، تابعت حديثها:
- أنا أيضاً مشحونة بالذكريات.. أكشط عن أوراقي كلمات قديمة، وأكتب ذكريات أحبّ إلي من كل أحبار الحروف وأقرب إلى نفسي، تفضل لنجلس، سأبدأ من كلمة كنتُ.