2
في رائحة الزيت الممزوج بألوانه كان يشمّ رائحة أبيه (بائع النفط) مما كان يضطرّه أحياناً إلى السير في طرقات مدينة الناصرية خلف أبيه، خارج براءة الطفولة ونعومة أظفارها، وقد امتلأت يداه بالنفط حتى يبستا وتقشّرت جلدتهما وخشنت.
طفل لم يبلغ العاشرة، تعلـّق بخضرة النخيل والأغاني الشجية، يرسم بأصابعه في استراحتة القصيرة كل الصور التي مرّت أمامه. ماء النهر يتركه ينام في مخيلته، يحفر بسبابته على تراب الأرض أعذاق النخيل، عربة أبيه، صورة الحمارة وهي تجـرّ العربة، ابنة الجيران"علية"، كانت تحب البلح كثيراً لذا يرسمها وشمروخ بيدها.
انتقل إصبعه من التراب إلى القلم، تأخر في دخوله المدرسة، الفقر يحول دائماً دون تحقيق الرغبات إلا أنه يفجر الإبداع. أول صورة رسمها على سبّورة المدرسة لـ (عبد الكريم قاسم)، كان ذلك في الصف الرابع الابتدائي، ولبراعة الطفولة وقصر التجربة صفّق معلم الصف، وصفق التلاميذ معه.
يخلو إلى لوحاته في غرفة المرسم، فيجد أنه يحدّث البياض. يترك الريشة من يده ويهيّئ نغمة بيضاء، وفي مساحة قماش أبيض يقرأ بداية لون جديد، كلما شاهد مكاناً أبيض رسم عليه، عادة اكتسبها في السادسة عشر من عمره، في أول يوم لتنظيمه في الحزب الشيوعي، تعلّم ملء جدران البيوت والدوائر بالشعارات، يخطّها بقلم الطباشير الملوّن.
حين اشتدّ عوده وقوي، أصبحت مناوبته في المساء، (سطل بويَـه)، وفرشاة، بأحــــلام بيضاء، كما تعـــــود حين يتجول ليلاً ليعدّ أعمدة النور في الشارع الرئيسي وفي الشوارع الفرعية لقياس المسافات والالتحام بهمس الذكورة. مراهقته ونضج شاربه هيّـأه لترقيع نعله بيديه.
قفز إلى خاطره هاجس مفاجئ،" الفنان يخلـّد التأريخ، أم التاريخ هو الذي يخلـّد الفنان؟" فوجدهما يعملان على استنزاف بعضهما!
على مرأى من الجميع قبّلت عشيقها متحدية تقاليدَ وقيماً تظنها مهترئة بالية. لا شك أنها تنتقم من أبيها الذي هجرها وأختها في حضن أم عزلاء، إحساسها بالجنس وممارسته في إحدى حدائق لندن. شاهد وليد من خلال ساقها جمال المرأة العربية وامتلاء فخذيها. كان هارباً ذات يوم من غول الوحدة ملتجئاً إلى الـ (هايد بارك)، بين الأعشاب رآها مبلـّلة بشبقها، جف العِـِرق العربي في وريده، وشعر به كعملة خاسرة، تذكر القضبان وكم كفن مرّ على حديده وكم لحد غرق فيه.
وقتها أغمض عينيه واستلّ ورقة من جيبه وقلماً، وراح يرسم على مساحة الورقة الصغيرة رجلاً مبتور الأطراف راقداً قرب شجرة في الـ(هايد بارك)، لسعه لسان الإنجليزي وهو يتلمّظ حول شفتين غليظتين.
استرجع الشهية الأنثوية، شوك عذب، وخز لذيذ صعد إلى مسامه.. صعد السطح، ببطء رفع رأسه من جدار السطح، شاهد (علية) نائمة، ملتحفة شرشفاً أبيض من رأسها حتى أخمص قدميها.
أعاده ضوء الكاميرات إلى واقعه، شمّ رائحة فحيح يملأ المكان، عاد لرفقة الصمت. اهتزّت الرؤوس طرباً لسماع صوت أغنية عراقية رغب أن ترافق زمن العرض.. (أنا وخلـّي تسامرنه وحكينه ).. اهتزّ هو أيضاً، اقترب من ذاته وتجمّع ماء النهر على شكل أقواس يلامس أرضه، لام غفلته على تواطئها مع الزمن، ارتجفت يده اليمنى ورعش شيء تحت قميصه وصوّبه نحو القلب، شمّ رائحة تعفـّن يده اليسرى.