حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان الاحد 16 ذو الحجة 1429 الموافق 14 ديسمبر 2008 نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

منصف المرزوقي

الكتاب:
حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان
المؤلف:
منصف المرزوقي
الناشر:
دار الأهالي- دمشق- 2008م
عرض:
محمد بركة

وسنوات القرن الحادي والعشرين الميلادي تتوالى، لا يزال العالم العربي والإسلامي، خصوصاً من خلال مثقفيه، يطرح على نفسه التساؤل عَيْنَهُ الذي كان مطروحًا في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي.
ما السبيل إلى اللَّحَاق بركب التقدم التقني الذي قطع فيه الغرب أشواطاً فائقة، دون فقدان هويتنا الحضارية المتميزة؟
وحول هذا يبحث الدكتور منصف المرزوقي في كتابه "حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان"- والذي صدر مؤخراً في دمشق- عن مشروع للنهضة في الوطن العربي، يستلزم مكافحة الاستبداد في الداخل، واستباحة الأمة من الخارج.
ويرى بأن مشروع الاستقلال الثاني هدفه تحقيق التحرر للمواطن والوطن، وهو يَمُرُّ إجباريًّا بالتحرر من هيمنة الاستبداد بما هو استعمار داخلي، ومن هيمنة الاستعمار بما هو استبداد خارجي.
ويرى أن الغاية هي ضرورةُ تواصل البحث عن تحقيق الحد الأقصى من الحرية في ظل العدل، والحد الأقصى من العدل في ظل الحرية.
ويتناول الكتاب مسائل عديدة في التراث والدين والمستقبل والبيئة وغيرها، في سياق البحث عن طريق الخلاص، والمستقبل الأفضل في عالم اليوم، خصوصًا وأن التطورات العالمية بيّنت مدى الانحطاط الذي وصلت إليه المجتمعات العربية، وأن هذه المجتمعات بصدد الانفجار داخلياً، وبغية التقدم لا بد من وجود قوة دفع ذاتي تاريخي، وقوى جذب قادمة من المستقبل، والإرادة الواعية، إضافةً إلى الصدف الناتجة عن تصادم عوامل مختلفة. وهذا يَتَطَلَّبُ جَمْعَ المعلومات، والتشخيص الصحيح، والخيار المناسب.
وعليه يتوجب إبقاء باب الحوار بين مختلف فئات المجتمع دون محظورات ومقدسات، والتعلم من تجارب العالم، وقبول الطبيعة التجريبية والتخبيرية للبشرية، وهنا تأتي مسؤولية المثقف في المتابعة الدقيقة لتطور المعلومات والأفكار، واكتشاف خطوط القوة فيها والنوعية بها، ما يُسَهِّل اتخاذ المواقف السياسية الأقل ضررًا.
وبعد ذلك يصف المؤلف الدواء في المرور من المعارضة إلى المقاومة، علّ الأمة العربية تُشْفَى من عِلَّتَيِ الفساد والاستبداد، ثم يَطْرَحُ السؤال القديم الجديد: لماذا تَقَدَّم الغرب فجأةً طيلة خمسة القرون الأخيرة؛ ليدخل الشرق القديم في منطق الظل؟ هل لأن جينات التفوق العِرْقِي التي كانت نائمة في (كروموزومات الأنجلو ساكسون) تحركت فجأة، أم لأن جينات التفوق العرقي التي عملت آلاف السنين عند أهل الشرق القديم ومصر والصين انطفأتْ بعد أن أصابها الإرهاق؟! طبعًا لا.
ثم يحلل المرزوقي أسباب تفوّق الغرب على العالم العربي الإسلامي، ناصحًا باستحضار صورة القمر الصناعي للأرض، وتأمُّلِ الفرق بين أوروبا ومنطقتنا؛ إذ تبدو الأولى خضراء، تنبئ بوجود الماء والكلأ والأراضي الخصبة، والثانية صحارى قاحلة ليس عليها إلاّ خطٌّ مُحْتَشِمٌ من الخضرة قرب الشواطئ، أو على ضفاف النيل ودجلة والفرات.
ويكمن كل السرّ في هذه الصورة؛ فمن جهةٍ أرضٌ خصبة معطاء، مكنت البشر الذين فوقها من العيش، والتكاثر، وإفراز الثروة، والمختصين الذين أعدوا- بأبحاثهم ومشاريعهم لتحسين الآلات التي كانت الزراعة بحاجة إليها مرحلة الثورة الصناعية. وفي المواجهة أرضٌ فقيرة لا تغذي إلاّ شعوبًا أقلّ عددًا، وأكثر فقرًا، وأعجز عن تجهيز الأساطيل الضخمة، وتحمّل تكلفة البعثات العلمية والعسكرية خارجَ حدودها.
ويشبّه المؤلف الخصومات السياسية في البلاد العربية حول كيفية الخروج من التخلف بخصومة العميان في الأسطورة الهندية، الذين طُلِبَ منهم تحديد طبيعة الفيل، فالذي لمس خرطومه قال: الفيل خرطوم، والذي لمس نابه قال: الفيل ناب، والذي لمس ذيله اختزل الفيل في الذيل!
كذلك نفعل اليوم؛ فالإسلامي لا يرى إلاّ غياب القيم، والديموقراطي لا يرى إلاّ غيابَ الحرية، والليبرالي لا يرى إلاّ غياب المبادرة الاقتصادية..
وفي كل الأحوال لا أحد يرى البيئة!
ويرى المؤلف أنّ الحل –نظريًّا- يكمن في تأهيل البيئة، والنظام الديموقراطي، والحفاظ على قيم العروبة والإسلام، وإطلاق كل أشكال المبادرة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والتغيير الجذري في العائلة عبر دمقرطتها بتغيير وضع المرأة، والتهام كل ما يصدر في الغرب والشرق من إنجازاتٍ في كل الميادين، وتكوين أكبر عدد ممكن من المختصين وتشجيعهم.
والمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق البلاد العربية تكمن في الانتقال من مرحلةِ "شعب تحت التأسيس" إلى مرحلة "شعب من المواطنين"، وهي مسؤولية مُلْقَاةٌ اليومَ على عاتق النواة الصُّلْبِ التي تحمل المشروع، وذلك إذا أَرَدْنَا رفع التحديات التي يفرضها علينا المحيط، وفَرْضَ السلام العادل خارج حدودنا، والعدل والسلم المدنيين داخلها. وتتحدد مهمة هذه النواة، ليس فقط في تنظيم المقاومة ضد الاستبداد، وإنما ببناء المواطنين، وهو ما يتطلب معرفةً دقيقةً بالتدابير السياسية، وعلى رأسها مبدأ التداول على السلطة؛ إذ لا مواطنة خارج هذا المبدأ، وإقامة الانتخابات الدورية النزيهة، والاستفتاءات الشعبية بخصوص كل القضايا المجتمعية، وليس فقط السياسية الهامة، وسن تشريعات وقوانين تضمن الحريات الفردية والعامة، وتشجع وتموّل وتقيم الجمعيات المدنية، وسياسات اقتصادية واجتماعية، تضمن حَقَّ العمل والصحة والتعليم للأغلبية، وتضع هذه الحقوق خارج وفوق قانون السوق؛ إذ لا مواطنة من فقر وجهل ومرض!
ولابد من انتهاج سياسات تعليمية وإعلامية، والتعريف المتواصل بالوجه العفن للاستبداد، والتركيز على التعذيب والفساد والمخابرات، وكل آليات النظام الاستبدادي في المدارس الثانوية، وربما التفكير في "دبلوم مواطنة" يُتَوِّج مع البكالوريا برنامج تربية مدنية متكامل، مع اعتبار العمل الجمعياتي من الشروط المطلوبة لكل ارتقاء في سُلَّم أي وظيفة، وتكريم الفاعلين في حقله بكل الوسائل، إضافةً إلى تطبيق سياسات ثقافية ودينية، من خلال تشجيع قيم الاستقلال، والأَنَفة، والاعتداد بالنفس عند كل الناس، وكل الأطراف.
وكذلك انتهاج سياسات أمنية، لكن لا على طريقة الاستبداد، وإنما بِفَتْحِ مراكز مستقلة لمراقبة عودة الفساد، والتعذيب، وحكم المخابرات، وتكوين لجان برلمانية مختصة في استجواب كل المسؤولين، على طريقة لجان التحقيق في مجلس الشيوخ الأمريكي.
لا شك في أننا، اليوم، في أغلب البلدان العربية نَقِفُ بين مطرقة الاستبداد الجاثم، وسِنْدان الاستبداد الذي يترصّد، ومطالبون بالبتّ في نوع النبتةِ التي نريد زرعها، في نفس الوقت الذي نحن مطالبون بتهيئة أرض قاحلة، حتى ولو لم تكن بُورًا. وإن لم ننجح في معركة القيم والمؤسسات فإن أي نظام ديموقراطي، أو شبيه به، لن يكون إلاّ بمثابةِ محطة استراحَةٍ عابرة بين استبدادَيْن!
وإن كان الاستبداد ظاهرةً مَرَضية في المجتمعات، مثلما هو ظاهرة مرضية في نفسية المستبدّ، فإن المرزوقي يتناوله بوصفه مرضًا عصيًّا على الشفاء؛ إذ إن الثابت اليوم هو أن العقل الجماعي فَهِمَ بعمق لماذا تاهت الأمّة في الطرق الفرعية، ولا يُسْلِمُها تقاطُعُ طريقٍ مسدودٍ إلَّا إلى تقاطُعِ طريقٍ مسدود آخر، بحيث أصبح واعياً أنّ السبب الأخطر - حتى وإن لم يكن الأوحد- في المأزق الذي تتخبّط فيه هذه الأمّة هو الاستبداد.
والنظام الاستبدادي، الذي وَضَعْنَا على وجهه البشع كلّ أنواع المساحيق الأيديولوجية، هو نفس النظام الذي قادنا إلى ما نحن عليه من أوضاع مُزْرِية، بِظُلْمِهِ وقُبْحِه وفسادِه وعَجْزِه عن إدارة شؤوننا، سواء أسميناه وطنياً، أو قومياً، أو اشتراكياً، أو إسلامياً. إنه مَرَضُ الأمّة العضال.
والجدير بالذكر أن الدكتور منصف المرزوقي، كاتبٌ تونسيٌّ مُقِيم في فرنسا. صدر له العديد من المؤلفات السياسية والفكرية باللغة العربية والفرنسية.
http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-99-105384.htm