كيف تُكْتَب القصيدةُ الناجحة؟
٨ آب (أغسطس) ٢٠١٠بقلم أحمد كريم بلال
يتفاوت الناس تمامًا في تذوقهم للشعر كما يتفاوتون في تذوّقهم للأطعمة والمشارب. وقد يكون من عدم الدقة أن نقارن بين قصيدتين من اتجاهين شعريين مختلفين، أو من جنسين شعريين متباينين، فكل اتجاه شعري مناحٍ جمالية خاصة، وكل جنس شعري له مذاقه المتفرِّد. ولا يمكن أن نقول إن شوقيًا وزملائه أحسن من أدونيس مثلاً، أو أن الموشحة أفضل من شعر التفعيلة، أو القصيدة أجلّ من الرباعية .. وهكذا. والناس فيما يعشقون مذاهبٌ، وكل متيمٍ مولّه بما يحب دون سواه.
وإذا وضعنا كل هذا في اعتبارنا ألا يجوز لنا أن نتفق على الحد الأدنى من النجاح الذي يجعلنا نحكم على قصيدةٍ ما بأنها جيدة، وأخرى بأنها رديئة؟ ألا يجوز أن يكون هناك مبادئ تتفق فيها كل أجناس الشعر وأنواعه مهما اختلفت في مبانيها ودلالاتها؟!
بلى يجوز ويجوز. هناك – بالفعل – بعض الضوابط الفنية التي تجعلنا نحكم على قصيدة ما بأنها ناجحة، وأخرى بأنها قصيدة سيئة ورديئة.
الشعر (مجاوزة)، والمجاوزة عبور، فالشاعر يتجاوز بشعره ويعبر الكلام المألوف والنمطي إلى منطقة (اللغة العليا). والمجاوزة لا تتحقق إلا من خلال طرفين أولهما طرف صوتي: يتعلق بالموسيقا الشعرية، فالكلام العادي المألوف كلام غير مُنغَّم، والكلام الشعري كلامٌ موزون. الشعر تجربة موسيقية (ليس بالضرورة أن تكون الموسيقا الشعرية من أوزان العروض الخليلي، لكنها لا بد أن تحتوي على الموسيقا المنتظمة المترابطة) وليست هذه الموسيقا محض إطار يميز الشعر عن الكلام العادي، إن الموسيقا تُضفي على المعنى لونًا من الجمال والتأثير الوجداني.
ولأثبت لك ذلك انظر إلى عبارة سطحية تافهة مثل: (قلوبٌ تذوبُ وليستْ تتوبُ)، وقارنها بعبارة (تذوبُ قلوبٌ ولا تتوبُ) ولا أظنك أبدًا تفضل العبارة الثانية على الأولى، أو تنفعل بالثانية دون الأولى.
لنتفق – إذن – على جوهرية الموسيقا في التجربة الشعرية، ولنختلف – كيفما شئنا– حول تقنية هذه الموسيقا (تفعيلية، توشيحية، عموديّة، رباعية.. إلخ).
ولنتجه إلى العنصر الثاني من عناصر (المجاوزة) وهو المجاوزة اللغويّة . وهي تتحقق في الصورة الشعريّة. والقصيدة الجيدة ليست تلك القصيدة التي تقول لنا كلامًا جديدًا، لا مانع أن تقول القصيدة لنا شيئًا عرفناه وسمعناه عشرات المرات، لا مانع من ذلك، والأهم مما تقوله القصيدة: (كيف تقوله؟). لا بد للقصيدة أن تعيد تشكيل مفردات اللغة وتكونها تكوينًا مُبهرًا يثير دهشتنا وإعجابنا في آن واحد.
كم من شاعر تحدث عن خيانة المرأة! ألا توافقني أن هذا الموضوع مبتذل ومُكرر؟ وما المانع، ليس هذا مهمًا، ولكن المهم كيف يقول لنا الشاعر إن امرأة ما ساقطة وخائنة؟ انظر كيف قالها الشاعر الكبير أمل دنقل في صورة رائعة في قصيدة (الوقوف على قدم واحدة):
…….. (العقرب الأسود كان يلدغ الشمسَ..
وعيناها الشهيتان تلمعان!)
…….
(عرفتُ أنها …
تنسى حزامَ خصرها ..
في العربات الفارههْ!)
حين نفهم الصورة الأولى على أنها صورة خصلة شعر سوداء تلتوي (في شكل أشبه بالعقرب) على وجه ناصع البياض كالشمس تكون هذه مرحلة أولية للفهم، وحين نقرأ الصورة الأخيرة، ونفهم من خلال الكناية أنها امرأة تمارس الرذيلة نعود أدراجنا لنصوِّب الفهم، ونعرف أن صورة العقرب الأسود الذي يلدغ قرص الشمس هي – أيضًا – صورة الشهوة السوداء القاتلة التي تقتل النقاء الأبيض.
ألست توافقني – عزيزي القارئ – فيما أراه من كونها صورة خلاّبة، وأن أمل دنقل تجاوز بكلماته أفق الدلالة المألوفة المبتذلة ليُحلِّق في سماء الشعريّة؟
القصيدة الناجحة – إذن – هي تلك القصيدة التي تهتم بكيفية القول لا موضوعه، وتسوقه لنا في تكوين موسيقيّ خلاّب. القصيدة الناجحة لا بأس عليها أن تقول ما قاله الآخرون، لكنها لا تقوله بنفس الكيفية، لا تُعيد نفس الصور المحفوظة العالقة في أذهاننا. وإذا وجدنا قصيدة من هذا القبيل قلنا إنها قصيدة جيدة، مهما اختلف جنسها الشعري، ومهما كان انتماؤها إلى أي تيار شعري
ملاحظة
تعليق بقلم عائشة التركي.
أوافقك القول د .أحمد خليل في أن الشعر لا بد له من إيقاع ولغة تتجاوز مألوف القول ليتمايز عن النثر والكلام العادي .ولكني أضيف إليه أن الشعر ينهض فيما ينهض على الصورة فهو "رسم بالكلمات" كما عرّفه نزار قباني . واسمح لي أن أختلف معك في ما ذهبت إليه من أن الشعر يتناول كل الموضوعات ،لأن الشعر كما يتمايز عن مألوف القول فهو ينتقي من المضامين ما يحق له أن يخترق الأزمان ليعانق الخلود مترفعا عن اليومي الزائل لذلك ترانا نُعجب بقصائد الأوائل لأنها تمسّ منا كل عميق كالمشغل الوجداني والأخلاقي ..الذي لا يختلف باختلاف العصور لتعالقه بقضايا الإنسان بما هو كائن يهتم الفن بعوالمه الداخلية. وقد تخيّرت مثالا دالا من شعر دنقل يصف فيه موقف عاشق من امرأة خائنة وهو ما أراه دالا على أن الخيانة في كل زمان ومكان مرذولة ومنبوذة ومؤثرة ومؤلمة.
غير أن الشعر في اعتقادي إذا ماانزاح عن الوجدان صار "ثقيلا"أقرب إلى النظم منه إلى الشعر،كاللزوميات عند المعري التي امتزجت بالفلسفة وصلابة الفكر،عندئذ أضحى الشعر مجرد إيقاع ،ولنا من ألفية ابن مالك في النحو أكبر دليل..ولكن إذاما استطاع الشاعر أن يطعّم الشعر بالفكر محافظا على ما يكون به الشعر شعرا فإنه يضمن الاعجاب والخلود من ذلك أشعار أبي تمام والمتنبي .وقد وُفقا في طرح الحكمة في الشعر ونشرها وهما في ذلك ككثير من شعراء.ومن طريف ما عُرّف به الشعر تعريف مخائيل نعيمة في "الغربال"بما معناه أن الشعر الحقيقي هو ما يجد فيه القارئ صدى لنفسه.
واختلاف تعريف القصيدة الناجحة لا يحجب عنا دور الذائقة الشخصية وأثر الحالة النفسية في الحكم على جودة القصيدة.
http://diwanalarab.com/spip.php?article24543