أيها المحللون.. إلى أين.!؟
عدنان كنفاني


منذ أحداث 11 أيلول الشهيرة في أمريكا، والتي أصبحت بدايةً لتأريخ جديد، لم تزدهر أعمال الفضائيات العالمية والعربية، ومروّجي الأخبار بالصورة والصوت والأكشن فقط، بل ازدهرت معها أيضاً أعمال المحللين والمستشرفين والاستراتيجيين والباحثين، وضاربي الرمل والودع، وقرّاء الكفّ والسحرة والمشعوذين..
هو موسم، كمواسم جني الزيتون والبطيخ والتفاح. لكنه في هذه المرّة، وفي هذه الهجمة البربرية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، موسم كلام تنظيري ثريّ.! وكلّ يدلي بدلوه، ويدلل على معرفته الخارقة الواثقة في استشراف أين ومتى وكيف ستكون الضربة التالية، والاجتياح البرّي، وكيف، ومن أين، وما هي معطياته وخططه وتداعياته، وخطط التصدي له.
كما حدث بعيد أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.
من قال هي حرب طاحنة لن تبقي ولن تذر ستقع هنا، ومن قال بل ستقع هناك، إلى أن وقعت الواقعة، ونزلت الضربة القاسية بشعب أفغانستان الفقير البريء.
ومع فورة الأحداث تلك، وضجيج الحرب، ازدهرت أكثر أعمال المحللين العسكريين، وانهالت على مسامعنا تصوّراتهم عن الخطط الهجومية والدفاعية، وحجم الضربة ونوع الأسلحة وووو..
وما أن أعلن طاقم الحرب الأمريكي النصر وانحسار الموجة عن أفغانستان، إلا وبدأت نشاطات محمومة تحلل أيضاً وتستشرف أين ستكون الضربة التالية، ما دام "الحبل على الجرار".!
وغاص المحللون وغصنا معهم في متاهات لها أول وليس لها آخر.!
وجاءت الضربة لتقصم ظهر العراق.
وبدأنا نطالع في كل يوم أثناء حمأة الحرب، وجوه رجالات قساة، محللون عسكريون من ذوي الرتب العالية "السابقة"، يطلّون علينا من شاشات الفضائيات، يتحفوننا في كل ساعة باستشرافاتهم للآتي عن حيثيات الخطط والمعارك، وراح بعضهم يرسم خططاً من وجهة نظره الافتراضية الهجومية أو الدفاعية، وراح بعضهم الآخر بأريحية ليس لها نظير يقوم بتزويد المدافعين أو المهاجمين بنصائح مستقاة من خبراتهم الطويلة بفنون الحروب، وعلمهم الموسوعي بصنوف الأسلحة ومداها وتأثيرها، والوقاية من أضرارها.
كنت مثل غيري "بطبيعة واقع الحال" أتابع بحرص وبدرجة عالية من التوتر تلك المجريات.
لكنني فجأة وقفت حائراً أمام سؤال قفز على لسان حفيدي عندما سألني ببراءة والله:
ـ كيف يستطيع هؤلاء المحللون معرفة خفايا الأمور.؟
قلت: ـ لأنهم ضباط عسكريون سابقون متقاعدون، ولهم خبراتهم العسكرية، وبعضهم كانوا قادة جيوش، وخاضوا معاركنا..
قال ببراءة أيضاً: ـ يعني أنهم كانوا قادة في تلك الحروب التي تعرّضنا فيها إلى هزائم ساحقة..!
أعترف أنه أُسقط في يدي ولم أجد لسؤاله جواباً، لكن هذا لم يثنني عن متابعة تحليلاتهم.
وقد أعلن وقتذاك جورج دبليو بوش انتهاء العمليات العسكرية بتحقيق النصر على العراقيين في العراق بعد أن دمّر ما دمر، وقتل ما قتل، وحاول أن يقتلع عبر حرب في أيام، تاريخ شعب له أكثر من بصمة على مسيرة قرون من رفد العالم بمختلف الحضارات التي أثْرَت الحياة الإنسانية.
فهل انتصر بوش "وحلفاؤه" على المقاومة في العراق.؟ وهل انتصرت أمريكا "وحلفاؤها" على أفغانستان.؟ وهل انتصرت آلة الحرب الطاحنة الهائلة الصهيونية على مقاومة الشعب العربي في فلسطين منذ قرن ونيّف.؟ وهل حقق أحدهما النصر على انتفاضة الشعب هناك أو هناك.؟
ثم برزت موجة تحليلات جديدة، واستشرافات وبحوث ونظريات استراتيجية بدأت محمومة تبحث وتحلل أين ستكون الضربة التالية بعد العراق.؟
سورية.. إيران.. لبنان.. السعودية.. السودان أم.. أم.. أم... والجميع ينتظر.!
الأمر العجاب أيها السادة هو حفيدي هذا.!
قال لي وقتذاك.. "وأنا هنا أرتب أقواله ليس أكثر ولا أضيف عليها."
قال: ـ ما دامت أمريكا غائصة في مستنقع العراق وأفغانستان، وضربات المقاومة العراقية والأفغانية اليومية تربكها، وتفقدها القدرة على التركيز، وتحرجها أمام شعبها..
وما دامت (إسرائيل) تعاني من وجع هزيمتها في جنوب لبنان، وتواجه صمود وتصدي وانتفاضة الفلسطينيين التي تربكها أيضاً وتستنزف اقتصادها وناسها.!
وما دامت تعاني من هموم ومشاكل داخلية ومالية ليس لها حصر.!
فهل يمكن أن تجد إحداهما أمريكا أو (إسرائيل) فرصة للتفكير في غزو دولة أخرى..؟
هذا رأي حفيدي.. أما أنا دام فضلكم، فقد تمنيت مخلصاً لو أن أحداً من محللينا الأشاوس يقول ويعلن بالفم الملآن: إن دعم المقاومة المسلحة في العراق، ودعم صمود الفلسطينيين في فلسطين، وفي غزّة هاشم التي تقدم الآن دماءها على مذبح الحرية والتحرر، لو يقول الآن دون الدخول في تفاصيل قد تربك خط سير المقاومة، لو يقول: إن دعم المقاومة بكل الوسائل هو فعل الحماية "لنا جمعياً، وللمنطقة وللعالم"، وهو الفعل الأجدى من كل كلام، وهو الـ قائدنا إلى النصر.. فهل لكم آذان تسمع.. يا...!!
صدقوني.. إنني أحسب ألف حساب الآن لما يمكن أن يسألني حفيدي..

ـ ـ ـ