في زمان الحصار الثراء حرام

ا.د. محمد اسحق الريفي

إذا كانت البطالة مستشرية في غزة، وعشرات آلاف العمال والصناع لا يجدون عملاً يكسبون منه قوت عيالهم، والمعابر تخنق حركة الاستيراد والتصدير والتجارة، والحصار يمنع عملية التعمير والبناء، والزراعة تتدهور بسبب الحصار وتجريف العدو الصهيوني لمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، ومعظم المواطنين يعيشون تحت خط الفقر، فكيف يثرى بعض الناس في غزة ثراء فاحشاً في يوم وليلة؟!

أليست غزة محاصرة منذ سنوات عديدة، وقد خرجت لتوها من حرب صهيونية قذرة، حرقت الأخضر واليابس، ودمرت عشرين ألف منزل تدميراً كاملاً، ودمرت مثلها من المنازل تدميراً جزئياً، ودمرت عدداً كبيراً من المصانع والمزارع والمدارس والجامعات والممتلكات والشوارع والطرقات والمرافق العامة والمباني الحكومية، وشردت عشرات آلاف المواطنين وحرمتهم من الحياة الكريمة، واضطرت جزءاً كبيراً منهم إلى التسول المقنع وغير المقنع؟ ألا تعاني غزة من قلة الدواء والغذاء والفواكه والخضار والسيولة النقدية، وتعاني من افتقار المستشفيات للأدوية والمعدات والأجهزة الطبية؟ ألا تعاني جامعات غزة من تزايد الأعداد الكبيرة للطلاب العاجزين عن سداد الرسوم وشراء الكتب ومستلزمات الدراسة؟ ألم تطهر الحكومة غزة من تجارة المخدرات والدعارة، وتحد من الاحتكار والاستغلال، وتقمع سماسرة الأرض والعرض؟ فمن أين يأتي الثراء الفاحش والسريع إذاً، أم أن مصائب قوم عند قوم فوائد، وأرصدة مالية في البنوك، وبيوت على الطراز الأوروبي، وسيارات فارهة، وبذخ، وشموخ؟!

غزة ليست سنغافورة كما روج دعاة الاستسلام في بداية حقبة أوسلو، ولن تكون سنغافورة ما دامت ترفض الاستسلام وتواجه العدو الصهيوني. فغزة النازفة والمحاصرة من أخطر وأسخن جبهات الصراع مع العدو الصهيوني، ولذا يجب ألا يطمح أحد إلى أن تتحول غزة إلى سنغافورة، ويجب ألا يفكر أحد في الثراء الفاحش في وقت تصل نسبة المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 80%، لأن هذا الثراء لا يكون إلا استغلالاً لمعاناة المحرومين والمعوزين والمشردين، واستغلالاً لظروف الحصار الذي طال أمده، وتنمية للأرصدة البنكية على حساب الشعب، والشهداء، وأسرى الحرية والتحرير المحبوسين في السجون الصهيونية.

وليعلم أصحاب الثراء الفاحش أن ثراءهم إنما تحقق بانتزاع الأموال من المواطنين انتزاعاً، الميسور منهم والمعسور على حد سواء، ومن جني أموال التبرعات التي يرسلها العرب والمسلمون لدعم قضية فلسطين وفقراء الشعب الفلسطيني ومرضاه، وليس لكي تصعد أرصدة بعض الناس في السماء صعود الصواريخ، وليس لكي تتحول غزة بالنسبة لهؤلاء الناس إلى باريس، بينما تملأ معاناة الفقراء والمحتاجين الكون. ولذلك فإن الثراء الفاحش والسريع في هذه الظروف التي تعيشها غزة حرام، ولا بد من إشهار سيف "من أين لك هذا" في وجه كل الذين تحولوا في سني الحصار إلى أثرياء بطريقة غير طبيعية.

ولا أقصد في مقالتي الأغنياء الذين يكسبون أموالهم عبر التجارة المشروعة دون استغلال للمواطنين أو احتكار للسوق في زمان الحصار، ولكنني أقصد الذين ما كان لهم أن يغنوا لولا الحصار المفروض على غزة وتداعياته، ولولا الأنفاق التي حولها المستغلون من شريان حياة لإنقاذ المواطنين من الحصار، إلى أداة استغلال واحتكار، بل أداة لمص دماء المواطنين الذين يئنون تحت وطأة الحصار والدمار والعدوان.

ولا أريد في هذا الصدد الحديث عن مساوئ الأنفاق واستغلالها أبشع استغلال في تحقيق الثراء السريع، فقد تحدث عنها كثيرون، وحتى لا يستغل مقالتي المتصيدون في الماء العكر في تحقيق مآربهم الحزبية المريضة، أكتفي بذكر قصة واحدة فقط، وهي أن عاملاً فقيراً كان يعمل في النقل باستخدام عربة يجرها حمار، استطاع بعد عدة سنوات من العمل في الأنفاق تكوين ثروة هائلة بالمقياس المحلي، فاشترى أرضاً في مدينة غزة، تقع على شارع النفق، ومساحتها ثلاث دونمات، بثلاثة مئة دينار أردني لكل متر مربع، أي بمبلغ 900 ألف دينار أردني، فمن أين أتى هذا العامل بهذا المبلغ الكبير في ظروف الحصار والفقر والمعاناة؟!

يجب ألا يتخذ اللاهثون وراء الثراء الحصار مثراة للمال، وأداة للاحتكار والاستغلال. وإذا كان الثراء الفاحش حرام على عامة الناس، فإنه أشد حرمة على المتصدين لقضية فلسطين والحاملين لهموم الشعب الفلسطيني وطموحاته. فهؤلاء يجب أن يحرصوا على تحقيق ثروة من الرجال المقاومين والمجاهدين والمبدعين والمفكرين، وليس ثروة من مال بطريقة تشمئز منها نفوس أصحاب الضمائر الحية!

21/5/2010