الحياء..عاطفة حية متسمة بالنفس البشرية
* عمرو خالد
إنّ الحياء عاطفة حيّة مزروعة في داخل الإنسان، أرضها القلب، ونتاجها الأخلاق الحليمة والتصرّفات السليمة. هي عاطفة متسمة بالنفس البشرية، هي عاطفة تحيي القلب بعد أن وافته المنية، هي عاطفة تمحو من قاموس الحياة الدنيوية كل الكلمات اللاأخلاقية، ومنها الغش والمعصية، الخطيئة والرذيلة، السرقة والزنى، الخيانة والخديعة، وتجعلها تهفو وتهتف بأعلى صوتها لتقول: لا، بل أنا أرقى من هذا وأدهى من أن أقع في حبال الشياطين وأنقاد للشهوات.
والسر، في كون الحياء من الإيمان: لأنّ كلاً منهما داع إلى الخير، مُقرِّب منه، صارِف عن الشر، مُبعد عنه. فالإيمان يبعث المؤمن على فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات. والحياء يمنع صاحبه من التفريط في حق الرب والتقصير في شكره، ويمنع صاحبه كذلك من فعل القبيح أو قوله، اتقاء الذم والملامة.
ورب قبيحة ما حال بيني **** وبين ركوبها إلّا الحياء
وقد قيل: "الحياء نظام الإيمان، فإذا انحل نظام الشيء تبدد ما فيه وتفرق".
قال رسول الله (ص): "استحيوا من الله حق الحياء". قلنا: يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله. قال: "ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنيا. فمَن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء".
ومعنى الحديث: "استحيوا من الله حقّ الحياء"، أي استحيوا من الله قدر استطاعتكم، لأنّه من المعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل ما عليه تاماً كاملاً، ولكن كل على حسب طاقته ووسعه. قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن/ 16).
(قلنا: إنا نستحي والحمد لله). أجابوا بذلك لأنّهم قصدوا أنّهم يفعلون كل مليح ويتركون كل قبيح على حسب استطاعتهم، فردّ عليهم رسول الله (ص) أن ليس المقصود هذا العموم، لأن هناك شروطاً للحياء حق الحياة، فليس كما يظنون:
1- "أن يحفظ الرأس وما وعى"، أي ما جمع من الأعضاء: العقل والبصر والسمع واللسان. قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).
2- "وليحفظ البطن وما حوى"، أي يحفظ بطنه وما في ذلك من حفظ الفرج عن الحرام، فيحفظ بطنه من أن يدخله طعام حرام أو من مال حرام، فالبدن نبت، ويقوى من الطعام. والرب عزّوجلّ لا يقبل من عبده أن يتقوى على طاعته بمطعم حرام ولا مشرب حرام، لأنّ الله طيب لا يقبل إلّا طيباً.
3- "وليذكر الموت والبلى"، أن يذكر الموت دائماً، لأنّنا في هذه الدُّنيا لسنا مخلدين، وإنّما سنموت وسنرجع وسنقف بين يدي الله تبارك وتعالى. قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات".
4- "ومَن أراد الآخرة تلك زينة الدُّنيا". قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83).
فالمقصود أنّ الحياء من الله يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، ومراقبة الله في السر والعلن. قال رسول الله (ص): "استحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قولك" (صحيح الجامع).
وهذا الحياء الذي يصل بصاحبه إلى أعلى مراتب الدِّين، وهي مرتبة الإحسان الذي يحس فيها العبد دائماً بنظر الله إليه، وأنه يراه في كل حركاته وسكناته، فيتزين لربه بالطاعات. وهذا الحياء يجعله دائماً يشعر بأنّ عبوديته قاصرة حقيرة أمام ربّه، لأنّه يعلم أن قدر ربّه أعلى وأجل.
قال ذو النون: "الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة مما سبق منك إلى ربك".
يقول العلماء: إنّ الحياء من الله له 6 أشكال (6 أنواع):
* النوع الأوّل من أنواع الحياء هو حياء الجناية. ومعنى حياء الجناية: حياء مَن ارتكب مصيبة. كحياء سيدنا آدم، حينما أكل من الشجرة، فظل يجري هو وزوجته في الجنة، فقال الله تبارك وتعالى: إلى أين يا آدم أفراراً مني؟ قال: لا يا ربي حياء منك.
هل حدث لك في يوم من الأيّام أنّك لم تستطع النوم حياء من الله لإرتكابك معصية في حقه؟ أو أنّك خرجت من بيتك مسرعاً لتتصدق بصدقة، حياء من الله أن عصيته؟
* والنوع الثاني من أنواع الحياء هو حياء التقصير، ومعنى حياء التقصير: حياء مَن لم يعبد الله حق عبادته.
* ومَن يستطيع أن يعبد الله حق عبادته؟ لن تجد. ولذلك، فكلّنا مقصرون. وهو كحياء الملائكة. يقول النبي (ص): "أطت السماء (أي ازدحمت وثقلت) وحق لها أن تئط، ما فيها موضع ثلاث أصابع إلّا وملك ساجد، أو ملك راكع، أو ملك قائم لله عزّوجلّ، حتى إذا قامت القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (رواه أحمد).
هل شعرت بهذا التقصير من قبل؟ نعم. فهل استحييت من الله: سبحان الله.. لن يتذوق هذا الكلام إلّا مَن مرّ به. فكلّما زادت طاعتك لله زاد حياؤك منه. حقاً إن حياء التقصير ليس له نهاية.
* والنوع الثالث من أنواع الحياء هو حياء استشعار نعم الله عليك. ويأتي هذا النوع من استشعارك من أن نعم الله عليك تغمرك غمراً، فلا تعرف كيف تشكره، فتستحي منه. كحياء النّبي (ص) وهو يدعوه ويقول: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أحصيت على نفسك" (رواه أحمد).
أما شعرت بهذا من قبل؟ فمن النعم التي أنعم الله عليك تستحي منه، فإن شكرك بالنسبة إلى النعم قليل.
* والنوع الرابع من أنواع الحياء هو حياء العبودية، وهو حياء العبد الذي يسمع ويطيع لمولاه، ولا يرفض له أمراً، كحياء النّبي (ص) حينما كانت القبلة لبيت المقدس، ولكن النّبي يريد أن تكون القبلة إلى الكعبة. فهل قال النّبي (ص): حوّل القبلة يارب؟ لا والله. إنّه حياء العبد.
يقول تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) (البقرة/ 144).
فكان النّبي (ص) ينظر إلى السماء بعينيه، ولا يتكلم حياء من الله، حقاً كان النّبي أشد حياء من العذراء في خدرها.
ومَن أعبد من رسول الله (ص) في الأرض يستحق حياء العبودية؟
* والنوع الخامس من أنواع الحياء هو حياء المحبة. إنّ هذا النوع لا يحتاج أن تقرأه، بل يحتاج إلى أن تعيشه وتتذوقه. فافتح لي قلبك. فلحبك الشديد لله تستحي منه. فلربما بكت عيناك، ولربما اضطرب قلبك، ولربما خشعت جوارحك.
فمن حياء النّبي (ص)، ولحبه الشديد لله يقول: "اللّهمّ ارزقني حبّك وحبّ مَن أحبّك، وحبّ عمل يقربني إلى حبّك" (رواه الترمذي).
إقرأ هذا النوع مرّة أخرى: إن لم تتذوق حلاوة الشعور، فاعلم أنك لن تشعر به إلّا إذا أحسسته. وحاول وجرب وأكثر من الطاعات، ستجد حبّ الله في قلبك، وحينها تستحي منه. إنّه شعور لا يمكن وصفه.
* والنوع السادس من أنواع الحياء هو حياء إجلال الله عزّوجلّ. وهو حياء ناتج عن إجلال الله الملك العظيم مالك الملك. كحياء سيدنا جبريل (ع)، في رحلة الإسراء والمعراج وهم في السماء السابعة، وسيدخل النّبي (ص) إلى سدرة المنتهى ومعه جبريل، وفجأة توقف جبريل، يقول النّبي (ص): "فالتفت إلى جبريل، فإذا هو كالحلس البالي" من خشية الله، وحياء منه. فهو مستشعر إجلال الله.
سبحان الله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام/ 91).
إنّه حياء يجعلك تفكر ألف مرة عند المعصية. فإنّك ستعصي الجليل.
وختاماً: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس/ 52).
عرفنا من خلال ما سبق أنّ الحياء له أنواع ستة هي: حياء الجناية، حياء التقصير، حياء العبودية، حياء المحبة، حياء استشعار نعم الله عليك، حياء إجلال الله عزّوجلّ.
فهل أحسست حينما عصيت الله بالحياء منه؟
وهل أحسست حينما قصرت في عبادة الله بالحياء منه؟
وهل أحسست بأنّك العبد الفقير الضعيف فاستحييت من الله؟
وهل أحسست بحبك لله فاستحييت منه؟
وهل أحسست بجلال الله فاستحييت منه؟
وهل أحسست بأن نعم الله تغمرك فاستحييت منه؟
والآن.. يا بشراك..
يقول العلماء: "مَن استحى من الله بلغ مقام الأولياء".
رزقنا الله وإيّاكم كمال الحياء والخشية، وختم لنا ولكم بخير.
اhttp://www.balagh.com/deen/xd08v5ft.htm