أدب الشكوى عند يهود أوربا.. قراءة تاريخية لقضية الهولوكوست

لم تكن الضجة التي أثارها المؤرخ البريطاني إيرفنج حول «الهولوكوست»، أكذوبة القرن العشرين الأولى في هذا المجال، ولن تكون الأخيرة. ويبدو أن تراث يهود أوربا قد أنتج نمطاً من الأدب الديني اليهودي يسجل النوازل والكوارث التي حلّت باليهود الأوربيين ترجع بداياته الأولى إلى عصر الحروب الصليبية.
ولا نجد هذا النوع الأدبي في تراث يهود العالم العربي والإسلامي. هذا النوع الأدبي يعرف باسم «أدب الشكوى»، ويحتفي به اليهود الأوربيون كثيراً ويمثل شطراً كبيراً من تراثهم الأدبي. ويبدو أيضا أن هذا النوع الأدبي كان يمثل الخلفية الثقافية التاريخية التي خرجت منها حكايات الهولوكوست.
وليست من مصادفات التاريخ أن ينشأ هذا النوع الأدبي اليهودي عند الطائفة الألمانية زمن الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر ويستمر في التراكم حتى منتصف القرن التاسع عشر. فعندما بدأت الحركة الصليبية في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الحادي عشر، هاجم الصليبيون الجماعات اليهودية في وادي نهر الراين وشمال غرب أوربا بزعم أنهم يجب أن يطهروا بلادهم من اليهود الذين اضطهدوا المسيح نفسه، قبل أن يذهبوا لمحاربة المسلمين الذين يضطهدون أتباع المسيح في فلسطين. والمثير للدهشة في هذا الأمر أن الحركة الصليبية في القرن الحادي عشر، والحركة الصهيونية في القرن العاشر، قامتا على أساس إيديولوجي مشترك من ناحية وكان هدفهما العدواني الاستيطاني موجهاً ضد المنطقة العربية من ناحية أخرى.
فقد قامت الجماعات اليهودية الأوربية بكتابة نوع من المذكرات memorbuch لكي يقرأ اليهود منها في صلواتهم أسماء اليهود الذين قتلهم الصليبيون قبل رحيلهم إلى فلسطين. وعلى الرغم من أن هذه المذكرات بدأت أصلا لتسجيل أسماء ضحايا الصليبيين، فإنها سجلت ضحايا الاضطهادات اللاحقة، وظلت تشكل جزءاً أساسياً في كتب الصلوات عند الطائفة اليهودية الألمانية حتى منتصف القرن التاسع عشر. وتم جمع الكثير من هذه المذكرات في المجموعة المعروفة باسم elegies التي تضم تراث الطائفة اليهودية الفرنكو ألمانية على حين بقيت بعض المذكرات على حالتها المخطوطة.
وتعتبر مذكرات ماينس نموذجا لهذا النمط من «أدب الشكوى» اليهودي. وهي تتضمن بين صفحاتها سجلاً تتابعياً لأحوال أبناء الطائفة اليهودية في مدينة ماينس الألمانية، سواء تبرعاتهم للمعبد وصندوق الفقراء أو تبرعاتهم لمدارس الطائفة ومقابرها، كما تضمنت أسماء الربيين اليهود البارزين في زمانهم وبعض الدراسات التلمودية، ثم أسماء الذين قتلوا من أبناء الطائفة على مر العصور.
ومذكرات ماينس التي سجلت الاضطهادات التي مارسها الصليبيون ضد يهود إقليم الراين سنة 1096م، تكشف عن أن كاتبها الأصلى كان يروج لفكرة أن جماعة يهود ماينس.. «تفخر بماضيها المجيد وتضحياتها الحاضرة في سبيل الرب وشعبه المختار..». وهي نغمة لم تخل منها الكتابات اليهودية المعاصرة عن «المحرقة» التي أقامها هتلر ضد اليهود على ما تزعم الدعاية الصهيونية والغربية.
وتتناول مذكرات ماينس، في إيجاز شديد، سير حركة الاضطهادات الصليبية ضد اليهود الألمان في إقليم الراين ربيع وصيف سنة 4856 حسب التقويم اليهودي، أي سنة 1096م. وقد شهدت هذه الفترة بداية خروج جيوش الحملة الشعبية الصليبية بقيادة كل من جوتشولك وفولكمار وأميخو، والذين قادوا عمليات الهجوم على اليهود. والكاتب الأصلي لهذه المذكرات لم يكتبها إلا في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، أي بعد حدوثها بحوالي قرنين من الزمان حملت أثناءهما كل المبالغات المتوقعة في مثل هذا النوع الأدبي الديني الذي يتحدث عن معاناة اليهودي من «الأغيار». وكاتبها هو اسحق مايننجن الذي دونها حتى سنة 1289م، ثم أكملها من جاءوا بعده. وهذا الجزء من مذكرات ماينس هو الجزء الأصلي الذي لم يكن يضم سوى أسماء اليهود الذين قتلهم الصليبيون أصلا. ولكن الزيادات التي أضيفت إلى المذكرات في القرون التالية كانت تهدف إلى توضيح النغمة المأساوية في تاريخ الطائفة اليهودية الألمانية.
وعلى أية حال، فإن مذكرات ماينس لم تكن المصدر اليهودي الوحيد الذي تحدث عن الهجمات الصليبية على يهود أوربا، فقد كتب اليعازر بن ناثان رسالة تاريخية بعنوان «اضطهادات سنة 4856 من الخليقة» «سنة 1096م»، كما كتب مؤلف يهودي مجهول رسالة بعنوان «الاضطهادات القديمة»، وكذلك كتب إفرايم البوني كتاباً حول الاضطهادات الصليبية ليهود أوربا أثناء الاستعداد للحملة الصليبية الثانية في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي.
هكذا، حرص اليهود الأوربيون على تسجيل معاناتهم وعذابهم على أيدي الأوربيين الكاثوليك أثناء فترة الحروب الصليبية، وقد شكل هذا الحرص نوعاً من التراث الثقافي والنفسي جعلهم يواصلون تغذية أدب الشكوى بحرص ودأب على مر العصور. وقد تصاعد هذا الحرص في العصر الحديث داخل الإطار الدعائي للحركة الصليبية. وتحرص الدوائر الصهيونية دائما على وضع حوادث اضطهاد اليهود، التي حدثت في أماكن متفرقة وفي فترات زمنية متباعدة، في سياق تاريخي مصطنع ضمن قضية «معاداة السامية» وهي مسألة ابتزوا بها الضمير الأوربي طويلاً. ومن اللافت للنظر أن الباحثين اليهود الذين تحدثوا عن الاضطهادات الصليبية ضد يهود أوربا أطلقوا عليها عنواناً مثيراً هو «الهولوكوست الأول».
وقد تعرض يهود الراين وشمال غرب أوربا لعدوان الصليبيين الذين أعماهم الهوس الديني والتعصب الأحمق والتهور العدواني. وتبدو الصورة التاريخية كئيبة تماماً بالنسبة لليهود، بيد أنه ينبغي علينا أن نتذكر أن أعمال العنف الدموية الخرقاء التي ارتكبها الصليبيون في الحملة الشعبية لم تكن وقفاً على اليهود وإنما عانى منها المسيحيون في البلقان وداخل الإمبراطورية البيزنطية، ولكن آلة الدعاية الصهيونية دأبت على اجتزاء ما يخص اليهود وتكبيره وتضخيمه.
ولسنا هنا بصدد الدفاع أو التبرير للعدوان الصليبي، لأن حقائق التاريخ وأقلام المؤرخين الأوربيين المعاصرين قد أدانت السلوك الوحشي للصليبيين، ولكنه كان سلوكاً عاماً في عدوانيته ودمويته الوحشية بحيث إن الطريق البري الذي مرت به عصابات الحملة الصليبية الشعبية كان مرصعاً بالقرى المحترقة، والقتلى والجرحى دليلاً على أن «جيش الرب» قد مر من هناك. ولما كان الطريق البري للحملات الصليبية يمر عبر البلقان فقد تعين على سكانه المسيحيين أن يعانوا من وحشية الصليبيين.
ولأننا لا نوافق على توظيف تلك الأحداث التاريخية المخيفة ضمن الدعاية الصهيونية التي ارتكبت، في حق العرب والمسلمين ما هو أكثر شناعة وفظاعة من ناحية، ولأننا أيضا لا يمكن أن نوافق على قتل البشر باسم الدين، كما فعل الصليبيون مع اليهود، أو باسم أي شيء آخر من ناحية اخرى، فإننا سنحاول تفسير ظاهرة الاضطهادات الصليبية ضد يهود أوربا في ضوء الظروف التاريخية الموضوعية السائدة، كما سنحاول رصد التأثيرات التاريخية على أدب الشكوى اليهودي.
إن الاستخدام الدعائي الصهيوني للتاريخ هو الذي يحفزنا إلى قراءة الظروف التاريخية الموضوعية لظاهرة العدوان الصليبي على اليهود. وربما يكون مناسباً أن نتذكر أن اليهود العرب ويهود البلاد الإسلامية عموماً كانوا يعيشون عصرهم الذهبي في ظل الحضارة العربية الإسلامية التي أسهم النابغون منهم فيها بشكل أو بآخر.
تشير المصادر التاريخية إلى أن الوجود اليهودي في أوربا الغربية وشمال جبال البرانس يرجع إلى أوائل القرن الرابع الميلادي. وفي بداية العصور الوسطى تحول المجتمع الأوربي إلى مجتمع زراعي ذي اقتصاد بدائي يقوم على سد الحاجات الاستهلاكية الدنيا وعلى المقايضة، وهو ما يعني أن تكون للنقود قيمة هائلة. وهنا وجدت الجماعات اليهودية المنبوذة دورا في عالم المال وجلب السلع الشرقية الفاخرة إلى أوربا الغربية. ولم تكن مناطق غرب أوربا آنذاك منطقة جذب للتجارة العالمية التي شارك فيها المسلمون والبيزنطيون. وهكذا بقي للتجار اليهود وحدهم دور حلقة الوصل بين أوربا الكاثوليكية من ناحية والعالم المتقدم «دار الإسلام، الدولة البيزنطية، الهند والصين» من ناحية أخرى. وخلال القرنين التاسع والعاشر كان اليهود يتاجرون في الملح والخمور والغلال والثياب والعبيد.
وقد وجدت الممالك الجرمانية البدائية في خدمات التجار اليهود، الذين كانوا نافذتهم الوحيدة على العالم الخارجي، شيئا مفيدا بحيث منعت الأساقفة من مضايقتهم. وقبل القرن الحادي عشر كانت الجماعات اليهودية في أوربا تتمتع بوضع اجتماعي مريح بالمقارنة مع المجتمع الذي عاشوا في كنفه. وفي غرب أوربا بصفة عامة كانت أحوال اليهود أفضل كثيرا من أحوال البورجوازيين، أي سكان المدن الذين عاش اليهود بينهم. ولم تكن هناك تفرقة بين اليهود والكاثوليك، سواء في الملابس أو اللغة أو الأسماء. كذلك لم يكن هناك «جيتو» رسمي يتم عزل اليهود فيه، ولكن اليهود كانوا يتجمعون في أحياء خاصة بهم.
هكذا، كان الوضع الاقتصادي ليهود أوربا نتيجة لهويتهم الدينية وأصولهم الاجتماعية. إذ إنهم كانوا خارج النطاق الاجتماعي الطبقي الذي أفرزه النظام الإقطاعي في أوربا، ومن ثم فإنهم كانوا فئة من الغرباء الذين لا تضمهم ثلاثية المجتمع الأوربي آنذاك: الذين يصلون «رجال الكنيسة»، والذين يحاربون «الارستقراطية الإقطاعية» والذين يعملون «الفلاحون والأقنان». ولذلك ركز اليهود نشاطهم في التجارة وفي مجال إقراض الأموال بالربا.
ويأتي الخط الفاصل في تاريخ اليهود الأوربيين في منتصف القرن الحادي عشر، نتيجة النزعة العسكرية الجديدة التي استولت على المسيحية الكاثوليكية من جهة، وتصاعد حركة التدين الشعبي العاطفي من جهة ثانية. وكانت أهم مظاهر النزعة العسكرية والتدين الشعبي هي التي تجسدت في تبرير العدوان على الآخر في ضوء مصطلحات «الحرب المقدسة» و«حرب الرب». وكان على اليهود في أوربا، والمسيحيين الأرثوذكس في البلقان وآسيا الصغرى، والمسلمين في المنطقة العربية أن يعانوا من موجة التعصب العاتية التي اجتاحت أوربا الكاثوليكية آنذاك.
كذلك كانت التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في غرب أوربا قد أفرزت حقائق موضوعية جعلت وضع اليهود الأوربيين أكثر حرجاً وصاعدت من نغمة العداء الاجتماعي الأوربي لليهود. فقد صار اليهود خارج الكتلة الاجتماعية في شكلها الإقطاعي كما أسلفنا، كما أن التجار الأوربيين تمكنوا من الاستغناء عن خدمات الوسطاء التجاريين اليهود، وبذلك لم يبق لليهود غير الربا.
وكان النبلاء الإقطاعيون المبذرون، ورجال الكنيسة المفلسون، والحكومات الملكية الناهضة، يحتاجون جميعاً إلى خدمات المرابين اليهود. وهذا ما يفسر لنا سبب الحماية التي أسبغها الأمراء والأساقفة والملوك على اليهود في مواجهة العداء الشعبي الغاضب تجاههم أثناء أحداث الحركة الصليبية. ومع ذلك فإن جميع الطبقات الاجتماعية التي تزايدت حاجتها إلى المال أخذت تتورط في الديون التي اقترضوها من المرابين اليهود بأرباح كانت تصل أحيانا إلى خمسين بالمائة.
لقد كان يهود أوربا آنذاك أشبه بقبيلة كل أفرادها «شايلوك» الذي جسده شكسبير في مسرحية «تاجر البندقية»، إذ كان كل من أولئك المرابين يصر على اقتطاع رطل اللحم الحي من فريسته الذي يقترض منه في السر حفاظاً على مكانته الاجتماعية.
ومن ناحية أخرى، كان اليهود في أوربا يمارسون الأعمال المكروهة اجتماعياً ولكنها تدر أرباحاً عالية، مثل دباغة الجلود وجباية الضرائب وتجارة العبيد الذين كان بعضهم مسيحيين، فضلاً عن اشتغالهم بالربا. صحيح أنهم كسبوا أموالاً طائلة من هذه الأعمال، ولكنهم كسبوا معها السخط وحقد المسيحيين في المجتمعات الأوربية.فإذا أضفنا إلى هذه العوامل عاملاً نفسياً دينياً كان يرى أن اليهود هم الذين تسببوا في صلب المسيح، فإن النظرة الدينية الكاثوليكية في أوربا كانت ترى أنه يجب على اليهود أن يهيموا في الأرض مثل قابيل، يحملون وصمة الذنب الذي جنوه.
ولكن الواقع التاريخي كان عكس ذلك تماماً، فاليهود الذين يجب أن يكون وضعهم منحطاً بسبب جريمتهم في حق المسيح كانوا في حال من الرقي الاجتماعي والتفوق الاقتصادي جعلت الكاثوليك المعاصرين يربطون بين النظرة المسيحية تجاه اليهود وذنبهم التاريخي من جهة، وممارساتهم الاقتصادية والمالية الكريهة من جهة ثانية. وتمثلت النتيجة في ذلك العداء الشعبي الذي تجلى ضدهم أثناء الحروب الصليبية.
وصبت الحركة الصليبية مزيداً من زيت السخط على نيران كراهية اليهود، فقد ثار سؤال يقول: هل من الصواب أن يسقط المرء في حبال الجنس الذي صلب المسيح وهو يستعد لشن الحرب من أجل المسيحية؟ وهل يصح أن يمضي المرء نحو هدفه وهو مكبل بالديون التي يدين بها لواحد من الذين غدروا بالمسيح؟
كانت الإجابة عن مثل هذه الأسئلة موجة عارمة من الغضب الدموي الذي انصب على يهود مدن الراين وراح ضحيته الكثيرون من أفراد الجماعات اليهودية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتجلى فيها التدين الشعبي النزق في صورته المتعصبة التي عبرت عن نفسها تعبيراً مأساوياً في أحداث العنف ضد اليهود. وعلى الرغم من أن العنف الصليبي تجاه اليهود في أوربا كان محكوماً بالظروف التاريخية للحركة الصليبية نفسها، فإن اليهود جعلوه موضوعاً من موضوعات أدب الشكوى، كما أن حركة الدعاية الصهيونية تفضل مناقشة هذا الموضوع في إطار الموضوعات التي تتعلق بمعاداة السامية.وفي رأينا أن هذا الموقف الإيديولوجي الصهيوني تحايل على الواقع التاريخي ومحاولة لتطويع الحقائق التاريخية لصالح الموقف الدعائي للحركة الصهيونية. بل إن بعض الباحثين الصهاينة يتحدثون عن العنف الصليبي ضد اليهود باعتباره «الهولوكوست الأول»، وإذا كانت الدعاية الصهيونية قد تحالفت مع الدعاية الرأسمالية ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، فإن الصهيونية كسبت من هذا أرضاً اغتصبتها من أصحابها العرب في فلسطين، وأسطورة روجتها عن المحرقة ابتزت بها ألمانيا ولاتزال، بل إنها راحت تصادر التاريخ لصالح أسطورة «الهولوكوست».
وسؤالي إلى الذين يرون أن الكلام حول الهولوكوست لا يعنينا هو: ماذا كانت خسائرنا نتيجة الترويج لأسطورة الهولوكوست ? أرضاً مغتصبة وشعباً مشرداً، وتخلفاً عربيا.

http://www.alarabimag.com/arabibook/Data/2009/10/15/Art_91666.XML