يطفو أحياناً ملف العنف ضد المرأة ببعض أرقامه وحالاته فيوتر الكثيرين، وكأن أصابع الاتهام موجهه إليهم، فيتصدون له بشدة، منكرين ما ظهر منه وما بطن، ومدعين أن ليس هذا إلا كذبة مستوردة، وأننا في واقع الحال، لا نعيش إلا في مجتمع العدالة والتكافل والتضامن، مجتمع تملؤه المحبة والتسامح، فما المرأة إلا أماً، أو أختاً، أو ابنة، أو عمة أو خالة..الخ. وأن بعض حالات العنف والظلم والقهر وسوء معاملة المرأة ما هي إلا استثناء للقاعدة. هل هذه هي الحقيقة؟ وإن لم تكن فما هي الحقيقة؟
الحقيقة الأولى هي أن مفهوم العنف الممارس على الطرف الآخر ودلالاته وانعكاساته ليس واضحاً في ذهن الكثيرين، فمنهم من يعتقد أنه يقوم سلوك "الناشز"، ومنهم من يعتقد أنه يربي، وعلى هذا الأساس تشجع "أحياناً" مؤسسة الأسرة المؤسسة التربوية على استخدام العنف ضد الأطفال، "فلكم اللحم ولنا العظم".
الحقيقة الثانية هي أن العنف في هذا السياق مشرعن، على صعيد الأسرة، والمجتمع، والقانون. فحسن النية تبرر الجريمة، و"تبعية" الإنسان للإنسان تبرر حق "المتبوع" معاقبة "التابع"، وإن الجهل بالآثار القريبة أو البعيدة، الظاهرة منها أم المخفية على نفسية وسلوك وأداء الإنسان المعنف تعفي مرتكب العنف من العقوبة، على عكس ما يقال أن "القانون لا يحمي المغفلين".
الحقيقة الثالثة هي أن العنف نتيجة وليس سبباً، وهو سلوك متحول عن حالة غضب يختلف في الدرجة والقوة، ويعبر عنه بأساليب متعددة، المباشر منها وغير المباشر، اللفظي منها والحسي، وتستخدم فيها وسائل كثيرة ومتنوعة، منها اللسان، واليد، أو العصا لمن عصا، أو التهميش أو الإقصاء أو..الخ.
الحقيقة الخامسة هي أن سبب السلوك العنيف إما إشباع للغريزة أو إشباع للسلطة. وللغريزة والسلطة في كثير من الحالات أهداف متشابهه، إذ يسعى كل منهما إلى إخضاع الآخر إما واعياً أو غير واع. ومصطلح السلطة يتضمن سلطة الأهل على الأبناء وسلطة الرجل على المرأة، ..الخ، والعكس صحيح. فالسلطة هي القوة التي تمكن الإنسان من إشباع مصالحه، وهي التي تمنحه صلاحية الموافقة من عدمها على أمور تتعلق بحياة الآخرين، وهي التي تمكنه من إصدار الأوامر، وتزوده بصلاحية أن يعاقب ويكافئ، وهي صلاحية اليد العليا، وهي قوة المركز. باختصار، هي الميزة التي تمكن الإنسان من أن يجعل حياة الآخرين سهلة أو صعبة. قد يكون الإحساس بقوة السلطة وأهمية الدفاع عنها واضح في وعي الإنسان، وقد يعبر ويدافع عنها بإدراك عفوي، كان للتنشئة والعادات والتقاليد نصيب كبير في غرسها، إلا أن أي تحد لهذه السلطة يثير الغضب، وهذا الغضب من شأنه أن يتحول إلى سلوك مؤذ يختلف في شدته وأساليبه وفق شدة ومستوى التحدي، وفي هذا السياق، قد تمارس المرأة السلطة على الرجل، أو الأبناء على الأهل، ..الخ. ولم لا، فجميعهم خريجي المدرسة الذكورية.

إن محاولة التابع رفع مستوى علاقتة بالمتبوع إلى مستوى الشراكة يعني بكل وضوح تخل المتبوع عن جزء من سلطته للتابع، وهذا يعني التنازل عن جزء من الإحساس بالقوة والعظمة والنفوذ وتضخم الأنا. وهذا ما لن يفعله راضياً إلا في حالات نادرة، إن متعة السلطة دونها الكثير؟ وهنا المشكلة، وهنا بيت القصيد، وقد قيل "الأول في القرية أفضل من الثاني في المدينة".
إن العلاقة بين الناس تقوم إما على المشاركة أو التبعية وهي علاقة جدلية، فتحسين مستوى الشراكة يخفف من مستوى التبعية. وهذا يؤثر بشكل طردي أو عكسي على طبيعة الإدارة وصناعة القرار في المؤسسة، إن كانت أسرة أو غير ذلك. فمثلاً، إن أنشاً اثنان مشروعاً ما برأسمال مشترك (خمسين بالمائة لكل منهما)، لا يستطيع أي منهما اتخاذ قرار أحادي يؤثر على مصير المشروع، لأن المشروع قائم على الشراكة. ولكن إن كان المشروع ملكية فردية ووظف صاحب المشروع إحدى المديرات التنفيذيات فيمكن للمالك أن يستمزج رأيها أو لا، وإن حدث ذلك فهو بناء على رغبته وإن كان غير ملزم بذلك، على عكس حالة الشراكة التي تفرض على الشريك مناقشة شريكه في كافة القضايا.
ما يجب أن يفهمه خريجي المدرسة الذكورية (ذكور كانوا أم إناثاً) أن مشروع مؤسسة الأسرة هو مشروع تشاركي وليس فردي. لماذا؟ لأن مدخلات المرأة في بناء هذه المؤسسة تعادل وفي كثير من الأحيان قد تفوق مدخلات الرجل. المشكلة تكمن فقط في عدم تقدير القيمة المالية لعمل المرأة المنزلي. وباعتباره غير مأجور يسهل إنكاره، وتتهم المرأة بأنها لا تعمل شيئاً، ويظهر الرجل مقابل ضعف حيلة المرأة المادية في حضور قوي ببعض الأوراق المالية، التي وإن كانت شحيحة، ليتفوق عليها بما أنفق. فهو إلى جانب ما متعه المجتمع من حقوق، يتمتع الآن بسلطة المعيل، وبقوة اليد العليا، فكيف لا وهو المنتج، والمرأة ماذا تعمل؟ لا شئ!
الحقيقة السادسة هي في المفهوم الخاطئ للقوامة وقد رسمت الثقافة الذكورية طبيعة العلاقة بين الجنسين، يقوم في معظمها على تبعية الأنثى للذكر. فكيف لا، وهو صاحب السلطة، وهو الآمر الناهي، وله يجب أن تقدم فروض الطاعة. وكيف لا، وقد فتح عينيه ونشأ على أنه حامي الحمى وحامي الشرف، وكيف لا وقد تمتع بخدمة شقيقاته، وحصل على حصتهن من الإرث وملكية الأرض، وكيف لا، وهو "القوي" وهي "الضعيفة"، وهو "العاقل" وهي "العاطفية" وهو "المشرف" وهي التي "أحياناً" ما تجلب "العار"..الخ. وكيف لا، وهو الذي يتمتع بميزة تعدد الزوجات. هكذا تعلمنا، وهكذا نشأنا، وهكذا أنشأنا أولادنا.
الحقيقة السابعة أن الإعلام وما يبثه من مسلسلات يثبت إلى حد كبير الصورة النمطية للمرأة، فأصبح الشاب يبحث عن صديقة أو عشيقة متعلمة ومتبرجة وعن زوجة مطيعة ومحتشمة وقادرة على لعب دور "ابن عمي" في الدراما السورية. أصبحت المتعلمة لا تصلح كزوجة في نظر الكثير من الشباب، فهي تعرف حقوقها، وتستطيع أن تدافع عنها، وسقف تطلعاتها قائم علاقة أسرية مبنية على مبادئ الشراكة والعدالة والمساواة وبالتالي فهي زوجة متعبة، وقد انعكس ذلك على نسبة العنوسة بين الفتيات عاليات التعليم وممن تمكن منهن الوصول إلى مناصب مهمة.
الحقيقة الثامنة هي أن لظاهرة العنوسة انعكاسات وآثار نفسية واجتماعية وأخلاقية خطيرة على الفرد والمجتمع، تظهر في الدعوة إلى تعدد الزوجات، أو زواج المتعة أو المسيار أو الزواج غير المتكافئ، ...الخ على قول المثل "ظل راجل ولا ظل حيطة"، أو الدعوة إلى اهتمام المرأة فقط بما "خلقت من أجله".
في إطار هذا السياق، ما هو المطلوب؟
اعتقد أن المطلوب هو مباشرة حوار وطني مفتوح للاتفاق على إستراتيجية وطنية تمكن المرأة وأطفالها من العيش حياة خالية من العنف، في مجتمعات آمنة، يتمتعون فيها بعلاقات متسمة بالاحترام والتقدير.
يجب أن لا يسبب فتح هذا الملف إحراجاً لأحد، لأن العنف قديم قدم التاريخ البشري، وهو يمارس في أكثر الدول تحضراً وأكثرها تخلفاً.