الصورة الشعرية
بين التجربة الحقيقية والخيال المبدع




مدخل :إن الشعر فن كسائر الفنون لا يقدم الأحداث و القيم تقديماً حرفياً بل يقدمها عن طريق الخيال لأن الشعر أداته الخيال حيث يشكل الشاعر بواسطته الواقع كما ارتآه وتصوره ومن هنا نستطيع أن نقول إن الشعر يقدم لنا صوراً ترتبط بعالم الأشياء والأفعال والقيم ولكن هذه الصور ليست هي الواقع وإنما هي واقع من نوع جديد يبتدعه الشاعر وهي مع ذلك لا تقطع صلتنا بالواقع بل تردنا إلى عالم الواقع وتجعلنا نطل عليه من خلالها فتكون الصورة بذلك تركيباً ابتكارياً يشكله الخيال .(د.فاطمة سعيد: ص278) .


والخيال :مصطلح حديث يتخذ في مقابل كلمة imagination ليشار به إلى الملكة الذهنية القادرة على تصور الأشياء مع غيابها عن متناول الحس وذلك بإعادة تشكيلها في كيان جديد متميز منسجم يجمع المتنافر والمتباعد ويذيب الحواجز العرفية.(الفيفي ص10).


الخيال والمعاني :
من خلال ما سبق إيضاحه أصبح من الممكن القول أن الخيال ملكة تتصرف في المعاني لتنتج منها الصور البديعة واللوحات الفنية الرائعة وهذه القوة تصوغ الصور من عناصر فكرية تلقاها الإنسان عن طريق الحس أو الشعور أو السماع، (مغنيةص10).

إذن فيمكن للشاعر أن يصور المعاني بناء على معطيات فكرية وصلت إليه بوسيلة من الوسائل التالية:

أولاً : الحس ويتمثل في إدراكه لصفات المصور وإحساسه بجماله عن طريق الحواس الخمس، وبعيداً عن المفاضلة بين الحواس في أهميتها في التذوق الجمالي فإنه ما من شيء في الطبيعة البشرية لا يضيف شيئاً إلى الإحساس بجاذبية الجمال سواء أكان من الحواس أم حتى الأحوال الصحية والأوضاع الفسيولوجية والسيكولوجية المختلفة إلا أن وظائفها تتفاوت كثيراً في مدى خدمتها المباشرة في هذا الصدد،(الفيفي ص9).

ثانياً: الشعور : وهذا يعني أن يشعر الإنسان بجمال المصور بخياله المحض ، لأن الإحساس بالجمال أفضل من معرفة الطريقة التي نحسه بها كما ذكر الفيفي،(الفيفي ص8).

ثالثاً : السماع : أن يسمع الشاعر وصفاً للمصوّر الذي لم يكن قد رآه أو أدركه بحواسه بصورة مباشرة وهذه الوسيلة يعتمد عليها عديد من الشعراء في تخييلاتهم المختلفة ومن الأمثلة على ذلك:

هذا الوصف الخيالي الجيد الذي رواه الراوية الكبير محمد الشرهان عن الشاعر الكبير سويلم العلي السهلي رغم أنه لم ير البحر في حياته ولكنه قال قصيدته التاليه معتمداً في وصفه على الخيال المنبثق عن السماع :
ألا ياتل قلبي تل من تل اليدا كله**تمادى يلقط المحار في غبات الاهوالي

يتل السيب وامهله ياليت السيب ما امهله**على ما قيل يبي المال وارخص عمره الغالي

تهياله بوسط القوع جرجور ضفا ظله**نوى عنه المراغ ولا حصله حيل يحتالي

تشقلب وانقلب له والهبه لاشك فطن له**ولي ينظر المخلوق من سابع سما عالي

عجب له يوم صاح وثالث الجرجور عن حله**ونتل حبل السبب والسيب جاب الغيص فالحالي

وشهق عند الطلوع وطاح من جرجور من ذله**اخذ مقدار لا يسمع ولا يشعر ولا يسالي

انا قد صابني ما صاب هذا بالهوى كله**تماديت بهواها واثر سم الولف غربالي



والحقيقة أن الاعتماد على السماع أو وصف الآخرين للشيء وإن أبدع فيه بعض الشعراء كسويلم العلي مثلاً إلا أنه لا يرتقي إلى درجة من شاهد الموصوف كما تدل هذه القصة التي حدثت بين شاعرين من شعراء الفصحى هما ذوالرمة والكميت حيث ؛ روي عن محمد بن سهل راوية الكميت قال قدم ذو الرمة الكوفة فلقيه الكميت فقال له إني قد عارضتك بقصيدتك قال :أي القصائد قال قولك :
مابال عينك فيها الماء ينسكب ** كأنه من كلى مفريةٍ سرب
قال فأي شيء قلت ؟ فقال :
هل انت عن طلب الايفاع منقلب ** أم هل يحسّن من ذي الشيبة اللعب
حتى أتى عليها قال :فقال له : ما أحسن ما قلت إلا أنك إذا شبهت الشيء ليس تجيء به جيداً كما ينبغي ولكنك تقع قريباً فلا يقدر إنسان أن يقول أخطأت ولا أصبت تقع بين ذلك ولم تصف كما وصفت أنا ولا كما شبهت قال : أوا تدري لم ذلك ؟ قال ولم ذلك : قال لأنك تشبه شيئاً قد رأيته بعينك وأنا أشبه ما وصف لي ولم أره بعيني قال صدقت هو ذاك، (المرزباني ص231).


من هنا لا بد لنا أن نتساءل بسؤال ربما تختلف إجابته من شاعر إلى آخر؛وربما كانت الإجابة عليه فيها شيء من النسبية :
هل التجربة ضرورة للإبداع ؟
يقول الشاعر الكبير محمد الخس :"أنا لي رأي خاص وهو أن الشاعر مهما كانت قدراته وإمكاناته لا يستطيع أن يكتب حول شيء ما بالخيال وحده وهذا الرأي لا يختص بالقنص فقط إنما في كل أغراض الشعر وحتى لو استطاع بعض الشيء فمن الصعب أن يكون مقنعاً فيجب أن تكون للشاعر تجاربه فالتجربة شيء مهم للشاعر"، (جريدة الجزيرة 23/4/1423هـ ).
ونحن هنا نحترم رأي الشاعر الكبير ولكننا نقول ؛إن الخيال يستطيع أن يؤلف صوراً أعمق في تعبيرها عن واقع الحياة وأصدق دونما تجارب شخصية،(الفيفي ص12)؛ ونعرض هنا لنموذج في موضوع القنص بالذات يتفوق فيها الخيال على التجربة في وصف مشهد واحد فلنر الفرق:


التصوير بين عدستي بندر بن سرور ونمر بن صنت:

فأما الشاعر بندر بن سرور القسامي فيقول :
والبنات البيض ضيحه ضدهنه** عود ريحـانٍ بـساتينه مريفه
ياعيون اللي سـبوقه خالفـنه ** يفرد الخرب الموالف عن وليفه
خايفين يواسقن ويـقـلـعنه ** ثـقـلوه وحط بجناحه كتيفه

حينما سمع الأمير محمد الأحمد السديري هذه الأبيات أقسم بأن بندر بن سرور صقار ابن صقار،(العتيبي ص14)؛ مع العلم أنه لم يعرف عن بندر أنه كان صقاراً حيث أنه لم يرد في سيرة حياته في ديوانه المطبوع أنه كان كذلك .
ولكن رغم هذه الصورة الجميلة التي أبدعها بندر بن سرور رحمه الله اعتماداً على خياله المبتكر فإننا سنجد شاعر مبدع آخر هو نمر بن صنت العتيبي ـ رحمه الله ـ يخطيء في تركيب نفس الصورة وهو الصقار المتميز المجرب حيث ورد في سيرته الذاتية في ديوانه أنه كان مدرباً لطيور القنص ومن ممارسي هواية الصيد يقول نمر بن صنت،(نمر ص126) :
يا عيون اللي على المرقاب شرف ** صيده الجزلات ما صـاد الضعيفة
ليا درع با لجول ما قام يـتطرف ** يقـضب الأدنى و يـضربه وليفه
ليا قضـبها ما يـخليها تصـرف ** كنه القـطان يـضرب في نديفه

والفرق بين الصورة في بيت بندر بن سرور:
ياعيون اللي سبوقه خالفنه ** يفرد الخرب الموالف عن وليفه
وبين الصورة في بيت نمر بن صنت :
ليادرع بالجول ما قام يتطرف ** يقضب الأدنى ويضربه وليفه
واضح جلي يدركه أهل الخبرة من هواة القنص كما يدركه أهل الشعر والأدب ؛ فلا شك هنا أن خيال بندر تفوق على تجربة نمر وإن كانا جميعاً من الشعراء الأفذاذ .

إذن الأمر ليس مجرد تجربة فقط وإنما يعتمد على عدة أمور منها :

1ـ الموهبة :
فالشعراء يتفاوتون في مقدرتهم الشعرية ففيهم الفحل والشاعر والشويعر وفيهم من يغرف من بحر ليس له قعر وفيهم من ينحت من صخر كله وعر؛ وبالتالي يتفاوتون في قدرتهم على التخييل (التصوير) ؛ وبما أن الشعر كلام مخيّل فإن سبيله إلى التخييل هو التمثيل والتشبيه والاستعارة وغيرها من الأساليب الفنية ومن هنا يكون مجال الشاعر هو النفس وليس العقل،(فاطمة سعيد ص181).
فربما يكون لدى الشاعر من القدرة العقلية والتفكير الجيد حظاً وافراً ولكن إذا كانت موهبته قاصرة فسيكون تخييله ضعيفاً .

2ـ ثقافة الشاعر :
ويدخل في ذلك قراءات الشاعر وسماعه وإذا لم يمتلك خلفية ثقافية تساعده في الإبداع فإن مخيلته لا تمده إلا بطلاسم تعمي عليه كل منافذ بصيرته حتى وإن مر الشاعر بتجربة ما فلن يستطيع تصويرها بدقة إذا افتقد الثقافة ؛ ويذكر موزل في كتابه عن الروله قصة تبين كيفية وصف شيء لم ير عند هؤلاء البدو قائلاً: (سأل [رجل] لم ير في حياته أوزة قط [رجل آخر]عن شكلها فقال : ما وجه الشبه بينها وبين الغزال؟ فكانت الإجابة : تقلب مزاجها وجبنها، قال : وما وجه الشبه بينها وبين الظبي الأبيض؟ فأجابه: نعومة شعرها وعيناها، قال :وما وجه الشبه بينها وبين النعامة؟ فأجابه :الساقان الدقيقان والمشية فقال الآخر سعيداً : الحمد لله الآن أعرف ما شكل الأوزة )،(موزل ص403).

3ـ البيئة :إن نوعية البيئة لها أثر بالغ في تكوين صور الشاعر وأخيلته ولعل في تجربة علي بن الجهم ـ على سبيل المثال ـ الذي تغيرت صوره بتغير بيئته التي يعيش فيها أكبر دليل في تأثير البيئة على مخيلة الشاعر ؛ نقلت الدكتورة فاطمة سعيد عن القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة ما نصه :
" كما هو معروف فإن العرب قد شبهت الفتاة الحسناء بتريكة النعامة ولعل في الأمم من لم يرها وحمرة الخد بالورد والتفاح وكثير من الأعراب من لم يعرفها وكأوصاف الفلاة وفي الناس من لم يصحر وسير الإبل وكثير منهم لم يركب"،(فاطمة سعيد ص123).


الشعراء العميان والخيال :فالشعراء العميان في تخييلاتهم عموماً يفتقدون إدراك مصورهم بالرؤية المباشرة كما يفتقدون التجربة الشخصية في كثير من الأحداث التي تدور حولهم ومع ذلك استطاعوا تصوير كثيراً من المواقف التي أدركوها بشعورهم وإحساسهم المرهف أو بالسماع الذي يدخل في إطاره ثقافة المبدع التي سبق الحديث عنها .
ومن هؤلاء الشعراء في العربية الفصحى من القدماء بشار بن برد وأبو العلاء المعري والأعمى التطيلي ومن المعاصرين طه حسين ، عبدالله البردوني ،محمد بن سعد بن حسين وغيرهم .
ومن شعراء العامية هناك بسام من أهل سدير وعجران بن شرفي السبيعي وفندي بن عزارم ومن المعاصرين سعود بن عون وعشوي الأديب.

نجد في تجاربهم إبداعاً ووصفاً دقيقاً وتشبيهاً مصيباً كل ذلك اعتماداً على الخيال فقط فهذا شاعر الأعمى اسمه عشوي الأديب الحسني العنزي يقول في وصف غزو ممدوحه على اعدائه (العنزي ص223ـ224) :
على المعادي صلهـن فجـة النور ** عـلى عدوه صلها طير غيمار
خلا عمدهم مرذي الاجناب منثور ** بس العجايز قاعدات على الدار

فتصوير الموقف بعد نهاية المعركة تصوير عجيب (عمد البيوت متناثر وعجائز القوم جالسات يندبن ) فكأن هذا الشاعر الأعمى يرى الأحداث بأم عينه .

وبسام أو ابن بسام شاعر أعمى من أهل سدير يقول (الفهيد 3/109) :
ترى من بنى السمت على غير ساس ** كراجي بنينٍ بليا مساس
وفيها :
بهم من يروم البها بالجـمال ** دلال بتعمـير وزين لبــاس
يراعي ظلاله كغنجا طموح ** وفيه من وصف الفتى أبو نواس


وهذا عجران بن شرفي السبيعي وكان شاعر أعمى موهوب يدل جماعته الطريق ويرمي بالبندق ومن رجال المكارم المعروفين يقول وهو يصف إحدى غارات جماعته (الفهيد8/196) :
تجاولن من حر مايونسني ** من عقب ماحطن بالجو ملعاب
وأرماحنا بمتونهم علقـني ** في مقطع الدفة من الكف نشاب


وهذا الشاعر سعود بن عون وقد كان بصيراً وكان يعتبر من خبراء الطيور المشهورين يقول وهو يصف إحدى رحلات المقناص فيصورها لنا وكأنها فيلم سينمائي ،(مجلة اليمامة العدد1047):
يوم جا حد الوعور من الرقاقي ** في مكانٍ مخليٍ محدٍ يذوقه
طلّع اللي يوم شاف الجول تاقي** يوم تلّه تبّعه خالد سـبوقه
يوم هد الطير والسـواق ساقي** المصفّح ناز والقرني يسوقـه
يتبع اللي لبرق الجنـحان عاقي ** مغترٍ لونه وزاهيـته دقوقـه
يوم ضايقها عليها الجو ضـاقي ** عاقها جرّاح مرهي في لحوقه




ونصل في نهاية هذا البحث إلى أن التصوير أو التخييل يدل على مهارة وذكاء ويدل على شاعرية ومن ثم كانت العلاقة وثيقة بين الصورة والمعنى لذا كان تشكيل الصورة لا يتأتى لكل شاعر بمجرد أن يستحضر ما يمكن استحضاره في الذهن من مرئيات لأن الصورة لا يمكن أن تأتي عن تعمل وتكلف ، وتكون خصبة تثري التجربة أو تحدث في السياق أصداء متجاوبة،(فاطمة سعيد ص394) .
إلا أن الشاعر المتمكن لا تلزمه التجربة الشخصية أو الإدراك الحسي المباشر لكي يحلق بخياله في إبداع الصورة المتميزة بل أن هناك من الشعراء الذين يمتلكون الموهبة والثقافة والشعور الأمر الذي يجعل خيالهم قادر على ابتكار الصورة الإبداعية الرائعة بحيث يتفوقون على كثيرٍ من الشعراء الذين يعتمدون على تجاربهم الشخصية ومباشرتهم للحدث بحواسهم المختلفة وهنا الإبداع حقاً.
وأما إذا اجتمعت الموهبة الفذة والثقافة الجيدة والتجربة الشخصية فلاشك أن خيال الشاعر هناك سيكون أوسع وأقدر على إبداع لا يضاهيه إبداع وتصوير لا يعادله تصوير .





وكتبه /
قاسم بن خلف الرويس
عفا الله عنه
المصدر
http://jehaat.com/vb/showthread.php?t=4291