شمة زعوط : الممثل حين يرتقي بالنصيجتهد المخرج زهير البقاعي في رؤيته الفنية ليعالج موضوعاً مكرراً ينتمي إلى ما يسمى (أدب القضية الفلسطينية)، فالنص الذي كتبه عدنان كنفاني كمونودراما يتضمن مفردات هذا الأدب نفسها والمستخدمة منذ عشرات السنين (الذكريات، الحنين، البيت الذي هدم، الزيتون... المقاومة..) في كل أشكال الأدب، لدرجة فقدت هذه المفردات بريقها وتأثيرها، لكونها حوّلت الإنسان الفلسطيني إلى طرف في معادلة رياضية، وليس إنساناً من لحم ودم يضعف ويعشق ويتعلم ويتحمل ويقاوم وأحيانا يتخاذل...
في مسرحية شمة زعوط (عرض ضمن إطار احتفالية أيام مقدسية التي أقامتها مديرية المسارح ) ثمة محاولة من المخرج والفنان تاج الدين ضيف الله لتقديم الموضوع الفلسطيني بشكل فني مغاير للسائد، على الرغم من أحادية النص الفكرية، فكان على الممثل حمل عبء كبير في إيصال العرض وأفكاره عبر المنولوج والحركة والصوت لتجسيد معاناة (أبي هيكل) خلال سنين طويلة عبر تكثيفها في لحظة مفصلية من حياته، يمر خلالها شريط طويل من الذكريات المضمخة بالمعاناة..فمنذ بداية العرض يخرج أبو هيكل من مكان جلوسه تحت قطع من هيكل باص قديم هو بيته وكأنه محشور حشراً، ويبدأ بسرد حياته التي هي ككل حياة الفلسطينيين مسيرة تشرد ومقاومة وخذلان وهزائم وبعض انتصارات، وبعكازه يستعرض (أبو هيكل) بجسد محني وصوت حزين حكايته مع هدم منزله ورفضه المساومة عليه وبيعه بسعر عال لشخص صهيوني، مع لحظات وجدانية تتخلل المونولوج الطويل يتذكر فيها زوجته وعلاقته بالقدس، الحكاية يرويها لنا (تاج أبي هيكل) خلال انتظار الأب لعودة ابنه يوسف الذي خرج باكرا وأوصاه والده ليأتي له بالجوافة التي كانت امرأته تحب ريحتها فقط وبالوقت نفسه تكره وجودها، هنا تتناسل ذكريات (أبي هيكل) من روائح النباتات وارتباطها بالمكان وكأنه يقتفي الأثر ليعيد تشكيل المكان المفتقد الذي يتعرض يومياً لإمحاء كامل.. ومع شمة الزعوط والجوافة يطوف تاج على الخشبة بالتناسب مع توهج جمر الذكريات فهو يجلس ويتهدج صوته حينا ويقف ليصرخ أحيانا أخرى، ومرة تحمله عكازه في تجواله وأخرى تنتصب قامته وتصبح العكاز بارودة معادية أو بارودة صديقة، وبحركة مدروسة من قبل المخرج يحاول تاج تعبئة فراغ الخشبة مع تمركز الحركة والفعل على يمينها (يسار الجمهور)، حيث كومة تراب وبعض إطارات سيارة وقطع إكسسوار متناثرة تساعد الممثل في تنويع حركته، لذلك لم يكن هناك فراغ أو انقطاع في أداء الممثل خلال ساعة العرض، وهو عرض مونودراما، للممثل فيه دور أساسي في حمل العرض، فبقي الإيقاع ممسوكا بشكل جيد لقدرة ضيف الله على الزج بجميع أدواته كالذاكرة الانفعالية والحسية والتلاعب بصوته والفعل الحركي وتعامله مع الديكور أو الإكسسوارات، مضفيا بذلك حرارة على العرض جعلتنا منشدين له، على الرغم من معرفتنا بتفاصيل المعاناة التي يسردها، حيث سمعناها آلاف المرات...
فأبو هيكل مازال يحتفظ بمفتاح بيته كدلالة على حلم العودة، هذا المفتاح الذي يتكرر دائما فهو مازال يتحدى الصدأ والزمن، يقول أبو هيكل: ( صار لي عشرين سنة وأنا محافظ على مفاتيح البيت، بس يا خسارة ما كملتش فرحتنا.. ). وفي مشهد آخر يستطرد (أبو هيكل) في وصف المعاناة، (تحملنا الكثير فقد كثرت المخيمات وكثرت البنايات العالية وكثر الفقر والجوع وصار الحاجز حاجزين، ومن الضروري أن نعرف يوم اللي بعيشوا ولادنا عالتراب وجنب المجاري، وما بلاقوش سقف بيت يحميهم من برد الليل وشمس النهار.. ما هو الوطن؟ الوطن هناك ..فهناك بيوتهم على الطرف الآخر مكان البنايات العالية وهناك فراشهم وألعابهم ورائحة المخيم وشمة زعوط.. والآن الخيمة صارت هويتنا..!؟)
ينتهي العرض بعودة يوسف دون الجوافة، لقد عاد الابن من القدس محمولا في النعش وبدت الجنازة تتلامح لأبي هيكل من بعيد، فيما شمة زعوط فلسطينية تساوي أموال العالم كله...! ويمر أبو هيكل على الحجارة كرمز نضالي لدى الشعب الفلسطيني حيث تتألق ذكريات أحاديثه مع أم هيكل (فاطمة)..التي تقول له حين تجد الحجارة في جيبه : (كبرنا يا أبا هيكل) فيجيب: (.. الحجر هو أول الخلق، منه تعلمنا كيف نرسم وكيف نبني البيوت وكيف نصنع السلاح في وجه الوحوش..ومن هذا السلاح حاربت الأعداء والمجرمين..)
مسرحية شمة زعوط ‏ تؤكد من جديد على موهبة الفنان تاج الدين ضيف الله الأكيدة، وقدرة المخرج الموهوب زهير البقاعي على ابتكار حلول إخراجية موفقة وسينوفرافيا متناغمة مع الموضوع من خلال توليفة الإضاءة والديكور وحركة الممثل واللجوء للإضاءة الخافتة الدالة على حالة (أبي هيكل) المشرد من أرضه، ورغم افتقار النص لأي جديد استطاع مخرج العرض وممثله الارتقاء به وتجسيد المعاناة الفلسطينية بعمق وبصدق أدى لتواصل الجمهور واستمتاعه.

أحمد الخليل

http://www.albaath.news.sy/user/?id=734&a=67527