سنوات في الحي الخليجي
------------------
كان من سوء حظ { مثالي ] انه عمل بالشركة الوطنية للصناعة والتسويق فى الوقت الذي كانت فيه سيطرة الموظفين الاجانب أقوى ما تكون , ولم يكن باستطاعته ان يرفض العمل , بالرغم من ضعف المعروض عليه من مزايا مادية ومعنوية تناسبه كطالب جامعي عربي , ينذر وجود مثله بين الموظفين العرب بالشركة فهو منذ ان نجح فى الجامعة قبل ثمانية اشهر تنقل بين اربع أو خمس وظائف وخرج منها لسبب او لاخر… اول وظائفه كانت سكرتير لمدير احدى البلديات, يقضي ساعات جالسا امام مكتبه , وبجواره ألة كاتبه واوراق بيضاء مكدسة , لا يكتب فيها شيئا , فكل عمله أن يرد على الهاتف , والهاتف بجواره يرن فى الساعة اكثر من عشرين مرة , وفى كل مرة عليه ان يدون ملاحظات سريعة عن هذه المكالمات , أو يحول المكالمات الى المدير ليرد عليها .. درس لمدة اربع سنوات وتعب وشقي حتى حصل على الشهادة الجامعية لينته به الأمر وراء هاتف دون ان يحقق طموحه , فى المشاركة العملية والميدانية التى يطبق عليها دراساته التجارية فى الجامعة .. فهو لم يدرس شيئا عن التليفون فى الجامعة , لقد درس المحاسبة المالية , والتكاليف والمراجعة , والمحاسبة الادارية , والاقتصاد وإدارة الأعمال , ولم يقرأ كلمة واحده فى كل المنهج عن التليفون , فكيف يستمر فى عمله مع تليفون , اما ثاني وظائفه فكانت مشكلتها فى صاحب العمل نفسه فهو جاهل وأمي , لا يقرأ ولا يكتب , ويمتلك ورشة فنية سلمها ( لمثالي ) لكي يدبرها حسابيا وإداريا , ولم يكن ذلك سهلا أو بسيطا , فكيف يقبل المالك الجاهل , ان يسمح للموظف المتعلم بادارة املاكه دون ان يتدخل , فكان الخلاف لسبب بسيط وهو ان المالك قال : لقد جمعت ثروتي بعقلي وخبرتي , ولن يكون العلم أفضل من الخبرة , وكان رأي ( مثالي ) بأن العلم ضروري بجانب الخبرة فى ادارة رأس مال يعمل فيه مجموعة من البشر يحتاجون لادارة مالية ورفض المالك هذا المنطق , ورفض الادارة والحساب , واكتفى بطرقه البدائية فى الادارة والحساب .. واتفقت ارادة المالك مع ارادة( مثالي) الذي وجد عملا فى احد البنوك الوطنية , وكان الخلاف بين مدير البنك وبين مثالي ناشئا عن جغرافية الوظائف , فالمدير لم يتقبل مثالي منذ اللحظة الاولى لانه لا يتقبل جنسيته , فأرهقه فى العمل , ولم يكافئه , وتهكم على افكاره العملية , ورفض ان يعطيه نفس المزايا التى حصل عليها زملاؤه فى نفس العمل ونفس الدرجة الوظيفية , فتقدم ( مثالي ) بشكوى الى المدير الأعلى , الذي وجدها منطقية , ولكنه لم يجد من المنطق ان ينصف موظفا صغيرا جديد على موظف كبير وقديم , ورأى ان افضل حل هو ان يعتذر {مثالي} لمديره ويعود الى العمل منصاعا لاوامر مديره , ولم يكن من طبع {مثالي} التنازل عن كرامته وخاصة فى حالة سببها جغرافية الوظائف فكانت وظيفته الرابعة بشركة مقاولات بدأت عملها بجهد ثلاثي من صاحب الشركة وزوجته وشريكه .. وكان مثالي بين هؤلاء الثلاثة , يساعده سكرتيرة حسناء وموظف علاقات عامة , بجانب الفنيين العاملين خارج المكتب بما فيهم المهندس … والعمل فى تلك الشركة له طابع مثير , فما يتم خارج الكتب من اعمال هندسية هو وحده العمل المتصل بشؤون المقاولات … فصاحب الشركة يأتي الى مثالي لينظم له حساباته الخاصة بسيارات النقل التى يمتلكها , وزوجته مشغولة بالسؤال عن تصرفات زوجها مع السكرتيرة الحسناء وتثير المضايقات تلو المضايقات حول هذه السكرتيرة , اما شريكهما فمشغول بسرقة اموال الشركة عن طريق مصروفات وهمية وهل يمكن ان يسمي (مثالي) عمله وسط هذه الحلقة الثلاثية عملا اداريا ومحاسبيا … لا يمكن.. وهذا يعني انه لا يمكن ان يستمر فى عمله مهما كلفه الامر , بل ان الامر وصل معه على ان لا يعمل فى شركات القطاع الخاص بعد تجربته مع تلك الشركة , وهكذا ترك عمله دون ان يؤمن لنفسه عملا آخر , بل وجد نفسه وحيدا دون أن يمد له قريب او صديق يد المساعدة فى فرصة عمل اخرى , فالكل اصابهم الملل من رفضه المتكرر للوظائف , واقتنعوا بأنه لا يمكن ان يقبل بعد الان أى وظيفة مماثلة , وستذهب مساعيهم من اجله أدراج الرياح , ولذا طالت فترة انتظاره للوظيفة المناسبة التى يرغب فيها , حتى كان نصيبه مع الشركة الوطنية للصناعة والتسويق , وقد جاءته فى وقت فقد فيه كل الاحاسيس العظيمة , وطموحاته فى وظيفة براتب صغير وسط موظفين كلهم من الاجانب لا يستطيع التفاهم معهم او العمل بينهم الا بارادة قوية , ولمثاليته فقد وجدت كلمات المدير الاداري اليه عن تعريب الوظائف فى الشركة أذنا صاغية , واهتماما كاملا , فهو يحب كل ما هو عربي , ويضحي بكل شىء مقابل تحقيق هدف عربي , ولو كان هدفا صغيرا على مستوى شركة من الشركات لا اكثر , المهم ان الوظيفة اتفقت مع ذاتيته العربية فأحبها رغم ما فيها من اضطهاد صادفه مع أول شهر من استلام عمله بالشركة فقد كان زملاؤه يشعرون بخطورة ان ينضم اليهم موظف عربي لاول مرة بينهم , فهذا يعنى بالنسبة اليهم فأل غير طيب فكانوا يتحرشون به , ويحاولون تثبيط همته فى العمل دائما فكانت احاديثهم له حول الشركة وعملها المرهق ومزاياها المادية الضعيفة وهو يحب النقاش , ويحلو له الحديث فى المواضيع العامة , خاصة ما يتصل بإثبات القدرة الانسانية العربية على المواجهة والتحدي حتى فى احلك وقت وكان قادرا على اثارتهم رغم تجمعهم عليه , حتى كان يوما ابتدروه بالنقاش وكأنهم يدبرون امراً .. حيث سأله أحدهم : لماذا أتيت للعمل هنا ..
-لأننى أريد ان اعمل فى هذه الشركة , التى ستحقق لى مستقبلا جيدا , خاصة انى من اوائل العرب فيها وكان يقصد استفزازهم بهذه الكلمات , وقد شعر بذلك عندما احمرت وجوههم فحول احدهم الحديث قائلا :
- ان العمل مرهق جدا هنا .. فلماذا لا تحاول الحصول على وظيفة افضل وانت عربي تستطيع ذلك ايضا .
أنا احب العمل المرهق فالجلوس وراء المكتب بدون عمل شىء ممل لا احبه ورفضته وابتعدت عنه والوظائف فى الحكومة لن اجد فيها عملا نافعا ومفيدا , لأننى سأجلس أغلب الوقت بدون عمل .
- ولكن الرواتب هنا سيئة جدا .. ولا بد انك تحب الحصول على راتب افضل..
- اذا كنت تحدثنى عن الوقت الحاضر فالرواتب سيئة ولكن ماذا عن المستقبل فهنا افضل من الحكومة .
- ولكنك لا تعرف شيئا عن نظام العلاوات والترقيات فى الشركة فكل ثلاثة اعوام ترقية واحدة .
- حسنا , اذا لم يختلف الامر معي ففى الحكومة قد لا احصل على ترقية الا مرة واحدة كل اربع سنوات .
- هل تعلم اننا حاصلين على شهادات عليا واغلبنا معه الماجستير واقل واحد منا له على الاقل خمس سنوات من الخبرة فى العمل بالشركة , فكيف ستكون فرصتك فى الترقي بيننا .
كان سؤالا محرجا ومرا كالعلقم فهو يمثل حقيقة الامر بالشركة , كلهم من ذوي الشهادات العليا ومن اصحاب الخبرات الكبيرة فى بلادهم وهنا .. وارتبك {مثالي} ولم يعرف بماذا يرد ثم قال :
- يجب ان تعلموا اننى الوحيد الذي اجيد اللغة العربية بعد المدير فى الدائرة وسوف يلزم الأمر بعد عام او عامين موظفا مثلي بعد ان يتزايد عدد العاملين العرب بالشركة اليس كذلك …
كانت هذه الاجابة بمثابة شرارة فى وجوههم , ولكن مثالي صريح ومثالي , وهذا ما سيتعبه معهم .
منذ نهاية الشهر الاول اتفقوا عليه عند مدير الدائرة وابلغوه انهم لا يستطيعون التفاهم معه لأنه لا يجيد الانجليزية , كما أنه يثير الضجة من حولهم , فإضطر المدير العربي ان يوجه اليه اللوم امامهم , وحاول ان يعترض ولكن المدير افهمه بضرورة الانتظار والتريث وأن يأتى اليه مباشرة كلما شعر بأنهم يثيرون المشاكل ضده .. لقد فهم من بعض الموظفين العرب الاقدم منه ان مديره يعاني من تكتلهم امامه .. ولمثاليته وتفانيه فى حب كل ما هو عربي ضد هؤلاء الاجانب الجبناء فقد صمم ان ينتقم لنفسه ولمديره المسكين منهم , ولم يعلم انه المسكين بين الجميع … ومضى عليه فى العمل اكثر من شهرين دون ان يشعر بأنه استلم عملا مجديا ونافعا , وهو يكره ان يكون فى عمل دون ان يلم بكل جوانبه , ويعرف كل تفاصيله لا ان يجلس لكى ينتظر رحمة الاخرين عليه , فهو منذ شهرين يقوم بعمل واحد عبارة عن تجميع ارقام واعادة جمعها وهكذا ..حتى ملأ الشعور نفسه بأنه عداد كهرباء , ولم يكن هناك شيئا فى كتب الجامعة عن عداد الكهرباء.. فثار عليهم يوما وقال لهم : أريد عملا .. عملا حقيقيا فى الادارة والحسابات.. فرد عليه احدهم بما يشبه الازدراء : لقد أعطيتك عملا فحاول ان تنهيه اولا .. وبدأ الدم يصعد الى رأسه وقال بعصبية : أه, عملية جمع الارقام هذه لقد انتهيت منها .. فابتسم مسؤوله ابتسامة ماكرة وخفيفة ثم اخرج بعض الكشوفات وقدمها الى {مثالي} وهو يقول :
- كرر على مسامعى الارقام الموجودة بالكشف لاطابقها على الارقام الموجودة بكشوف المخازن عندي .. ونظر الى الكشوف , وتحسر على نفسه التى رفضت عمل التليفون فقد كان ارحم من عمله كالعداد .. والقى بالكشوف على المكتب باهمال وعصبية بالغة وهو يقول : الا يوجد عمل اخر فى هذا المكتب غير الجمع واعادة الجمع , ومطابقته طوال الشهر انه شيىء مقرف ومهين .. اريد عملا اخر .. وهنا وقف الموظف مهددا بتبليغ المدير عن الضوضاء التى يثيرها فى المكتب وعن رفض {مثالي} للعمل بجدية وانضباط … واحتد مثالي وقال : اذهب الى الجحيم ..
وإرتاحت نفسه بأنه بهذه العصبية قد انتقم لنفسه ولمديره من تكتلهم ضد تعريب العمل بالشركة ولكنه لم يعلم انه ارسل نفسه بهذه العصبية الى الجحيم منذ ذلك اليوم .. فقد اضطر مديره ان يوجه اليه انذارا لسوء التصرف مع رؤسائه فى العمل فالواقعة تدينه , وهو الذي اعتقد بأنه سينال اعجاب مديره العربي على هذا التصرف وخاصة انه يعاني من تكتلهم عليه هو نفسه … ولم يحاول ان يفهم تصرف المدير بأنه ضروري وخاصة أن المدير العام اجنبي هو الاخر ويتعاطف مع أولئك الموظفين .. وبدأت علاقته تسوء مع مديره العربي فقد شعر بجرح لموقفه النبيل واصبح الامر بالنسبة اليه اثبات وجود فى العمل , بل اصبح الاستمرار فى هذا العمل عنده هو الحياة , فالمعنى الوحيد لتركه العمل فى الشركة بينه وبين نفسه استمرار لهزيمة نفسية اصابته منذ تخرجه كما انه سيعطي الفرصة لكل من حوله ان ينعتونه بالفشل بعد خمس وظائف لم يستقر فيها ,بالاضافة لكونه عربيا , ولا يحب ابدا ان ينهزم وظيفيا امام غير العرب , وخاصة انهم احقر من ذلك .. وتحدى كل الاتجاهات الموجودة داخله ليترك الشركة ويعمل فى مكان اخر .. لأنه يشعر بأنه امام امتحان قاس يواجهه لأول مرة فى حياته الا وهو المسئولية , انه الان مسؤل عن حياته , والحياة عند أي مسئول فى أي مكان ليست سهلة الهضم , ولا بد ان يواجه عسر الهضم فى بداية الطريق حتى يشعر بلذة الطعام بعد رحلة كفاح فى الحياة لا بد له ان يعيشها فالمثالية والخيال قد تكون مجدية ايام الدراسة , ولكننا يجب ان نكون واقعيين مع انفسنا وغيرنا ونحن نمسك بزمام المسئولية …
ومضى عليه عام, وهو يعيش الواقعية فى حياته العملية , ويحاول ان يكون اكثر دبلوماسية مع الاخرين , بل اعتقد بينه وبين نفسه ان المشكلة كلها فى شهادته الجامعية , فلينس شهادته قليلا ولم يكن صعبا عليه وكل من يعمل معه لا يحمل شهادته الجامعية , وخاصة العرب منهم لأن الجنسيات الاخرى من الوظفين لديهم شهادات يمكن ان تزن اطنانا فى قيمتها , وكأنهم يحصلون على تلك الشهادات فى بلادهم بدون رقيب او حسيب .. المهم ان هذه البلاد ليست بلادهم .
ولم يستيقظ من إغفاءته الطويلة تلك , الا عندما شعر بأنه يجب ان يكون مسؤولا ايضا عن حماية الشهادة التى يحملها , الشهادة التى قضى اربع سنوات من حياته فى الدراسة لكى يحصل عليها , وهو كفء ان يحمي هذه الشهادة , لولا مثاليته التى تجعله ينظر الى كل الناس على انهم إما منافقون وإما انتهازيون وإما أرزقيون .. وهو اين مكانه من هؤلاء.. لا يجد لنفسه مكانا .. قد يكون مكانه بين الارزقيين , وإلا لماذا يقبل على نفسه العمل بمستوى اقل من مستوى شهادته .. المشكلة ليست فى شهادته .. المشكلة فى ان كل العاملين فى نفس دائرته من ذوى المؤهلات العليا والخبرات الكبرى , ولو اتيح له العمل فى دائرة أخرى أو مكان اخر سيجد نفسه فى المكان المناسب بالطبع .. ولكن كيف يكون ذلك .. الوظائف كلها فى البلد ذات اتجاهين , أما وظائف جيده وتلك تحتاج الى واسطه , والواسطة مشكلة .. الطريق اليها هو المشكلة .. ايجادها والسعي اليها ليس من شيمته رغم حاجته اليها .. يقولون ان الحاجة ام الاختراع .. فهل يمكن ان يخترع واسطة فليذهب الجميع الى الجحيم لماذا لا يكون قانعا , وسوف يحصل على فرصته يوما من الايام .. ولكن من ينتظر .. {سلافه} تسأله دائما عن راتبه .. سلافه هذه فتاة احبها قبل ان يعمل فى الشركة , منذ ان ولد وهو يحبها , فيها ايضا كل معاني الحياة .. المسؤولية والبيت والزوجة والسيارة . وكل هذه الحاجيات تحتاج الوظيفة الجيدة والممتازة , التى تعطي راتبا جيدا , ولو اقتنعت بوظيفته , وان هذا هو نصيبه , فكيف يقنعها بشهادته الجامعية .. أليست للشهادة معنى .. وهذا المعنى , ألا يجب احترامه .. انها تعرف اشخاصا يعملون بأقل من شهادته فى وظائف افضل ولم تسأل نفسها كيف حصلوا على تلك الوظائف , لقد قال لها : انه لا يملك الواسطه التى يملكونها ولكنه كاذب , لقد ترك اربع او خمس وظائف فى ثمانية شهور , لو استمر فى احداها لكان له شأن اخر الان .. ماذا يقول لها , وجدها فرصة ليعبر لها عن اعجابه بها , وحبه لها قال لها : اتعرفين انى احب هذه الوظيفة , لأننى تعلمت منها كيف احبك بإصرار وعناد , وتحدي .. لقد تعلمت فى هذه الشركة كيف اكون عنيدا ومحافظا على الشىء الذي املكه , ولو كان هذا الشىء فيه عذابي .. ضحكت لفترة , ولكنها استدركت قائلة : لكنك لو كنت فى وظيفة أفضل لكنا الان فى بيت واحد .. وأجابها بذكاء المحب : لكنك لن تشعري بعظمة حبي اليك , فحلاوة الحب فى عذابه .. تعذبينني , وأنا تحلو لى الاشياءدائما عندما يعذبني الطريق اليها .. العذاب خارج البيت أفضل من العذاب داخله .. ولم تقتنع , وهو أيضا لم يكن مقتنعا , ولكي يكون مقنعا ومقتنعا اهتدى اخيرا الى جواب على سؤالها فى عدم حصوله على الوظيفة المناسبة , وقال لها :
اتعرفين ان المشكلة فى عدم ايجادي للوظيفة المناسبة .. المشكلة فى اسمي .. ولم تفهم .. فردد عليها اسمه المشكلة فى هذا العصر : نعم اسمي .. مثالي .. مثالي هو مشكلتي .