السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رثاءُ الأحياء

رثاءُ الرَّاحلين
يُصاغ الرِّثاءُ شِعْرًا أو نثرًا في بكاء الرَّاحلين، وتَعْداد مآثرهم، ووصف الحُرْقة الكاوية لبُعادهم، فالرَّاحل العزيز إذًا لا يقرأ ما قيل فيه، وإن كان يتمنَّى أن يُقال عنه كلُّ جليلٍ نبيلٍ، ولكنَّ غرائب الحياة كثيرةٌ، ومن هذه الغرائب أن وجدنا أُناسًا قرؤوا مراثِيَهُم وهم أحياءٌ، لظروفٍ شاذَّةٍ جعلتهم يعرفون ما قيل عنهم، قبل أن يتجاوزوا البحرَ إلى الشاطئ المهيب.


ومن هؤلاء من سَعِدَ سعادةً تامَّةً بما قرأ في كلمة النَّعي، وأخذته النَّشْوَةُ، فبعث إلى من كتبها شاكرًا!!
ولنبدأْ بحديث الأستاذ الكبير (أحمد حسن الزَّيَّات)، صاحب مجلة "الرِّسالة" الشَّهيرة؛ حيثُ أذاعتْ بعضُ شركات الأنباء العالمية خبرَ وفاته دون تحقيقٍ؛ فنهض أديبانِ سعوديَّانِ لرثائه؛ هما الأستاذُ الكبير (عبدالله بن خميس) والأديب الفاضل (عبدالرحمن فيصل المعمَّر)، وقرأ الأستاذُ الزيَّات ما كُتِبَ عنه؛ فردَّ عليه بهذه الكلمة البليغة ذات الصِّدق المبين.


كلمة الزيات
أرسل الكاتبُ الكبيرُ إلى جريدة "السعودية" التي نشرتْ رثاءَه هذا الخطاب المؤثِّر:
"أَخَوَيَّ الأَعَزَّيْنِ: عبدالله بن خميس وعبدالرحمن بن فيصل بن معمَّر:
لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ الإنسان يقوم ميتٌ لِيُعْذِرَ مَنْ نعاهُ، ويشكُرَ مَنْ رثاهُ، ولأوَّل مرَّةٍ في تاريخ الأدب يقوم كاتبان، يجوزُ عليهما ما يجوز على النَّاس في هذا العصر من كُفرانٍ بالجمال، ونكرانٍ للجميل، فيَنْثُرانِ معنى الوفاء نَثْرًا كأزهار الرَّوض، عَطِرَ الألفاظ، نَضِيرَ الجُمَلِ، على قبر كاتبٍ غريبٍ، لم يَرَيَاهُ في مكان، ولم يُعايِشاهُ في وطن، ولم يُلابِساهُ في صداقةٍ، وكلُّ ما بينهما وبينه صلةٌ أدبيَّةٌ عامَّةٌ، يكفي في التعبير عنها إذا قطعها الموتُ كلمةٌ مجملةٌ تُكتَبُ من وراء القلب، فتنفي الجُرْحَ وتدفع المَلام، وتَشْغَلُ حيِّزًا منَ المجلَّة.


ولكن ما كتبتُمَاه يا أَخَوَيَّ نمطٌ آخَرُ غيرُ ذلك كلِّه، عبراتٌ من الكَلِمِ لا يَسْكُبُها إلا قلبُ ابنٍ بارٍّ على أبٍ حنونٍ، وزفراتٌ من الأسى لا يَنْفُثُها إلا صدرُ مؤمنٍ أسيفٌ على أخٍ شهيد، وشهادتانِ لذوَيْ عدلٍ، كلُّ ما أتمنَّاهُ على أهْلي أن يُدْرِجوهُما في كَفَنِي؛ لألقى بهما الله!
لقد مِتُّ في (الجزيرة)، وكلُّ حيٍّ سيموت، ولقد بُعِثْتُ في (الجزيرة)، وكلُّ مَيْتٍ سيُبْعَثُ، والبَعْثُ عمرٌ جديدٌ، وأَجَلٌ مستأنفٌ.
والمُتَنَبِّي عاش طويلاً بعد أن بَعَثَ إلى سيف الدولة يقول:
يَا مَنْ نُعِيتُ عَلَى بُعْدٍ بِمَجْلِسِهِ كُلٌّ بِمَا زَعَمَ النَّاعُونَ مُرْتَهَنُ

وشتَّانَ بين مَن نعاني ونعى أبا الطيِّبِ؛ نعاهُ ناعِيهِ للشَّماتة والعِبْرة، ونعاني ناعِيَّ للأسف والحسرة، والفضلُ لكما يا أَخَوَيَّ في أنَّكُما حقَّقتُما لي أُمْنِيَّةً لم تحقَّقْ لحيٍّ من قبلي، وهي أن يقرأ الميِّتُ بعينيه ما كُتِبَ بعد موته!


فكري أباظة
يروي الصِّحافيُّ الكبير الأستاذ (فِكْرِي أباظة)، في كتابه "حواديت" هذه الطُّرْفَةَ (ص64)، تحت عنوان: (ميِّتٌ حيٌّ) ببعض التصرُّف:
"ما كِدْتُ أدخلُ في الصَّباح محلَّ (سيمونز) لتناول الفُطُور، حتى حدث ذعرٌ شديدٌ؛ فتياتُ المحلِّ الأجنبيات يَذْرِفْنَ الدُّموعَ، وقد سقط عاملٌ من العمَّال على ظهره حين رآني! فتساءلتُ؛ فعلمتُ أن خبر وفاتي كان قد ذاعَ، وتقدَّمَتْ إحدى الفتيات الأجنبيات بنسخةٍ من جريدة (الجورنال ديجبت)، فقرأتُ فيها بين خطوط الحِداد السَّوْداء نبأَ وفاتي مع صورتي، ورثاءً طويلا تفضَّل به زميلي الأستاذ (إدجار جلاَّد)، ثم تاريخَ حياتي بالتفصيل، وأخرجتْ فتاةٌ أخرى جريدة (البروجريه) وفيها نفس النَّعي ونفس الرِّثاء!


وتفسير الحكاية:
أن أخي المرحوم (شكري أباظة) تُوُفِّيَ بباريس قبل هذا النَّشر بأسبوعَيْن، وكان معروفًا بفرنسا، فرأتِ الإذاعة الفرنسية أن تقول عنه كلمةً، ولكنَّ المذيعَ المختصَّ في القسم العربي ظنَّ أن (فكري أباظة) هو المُتَوَفَّى لا (شكري أباظة)، وسَمِعَتْ شركةُ أنباء الشرق الأوسط المصريةُ نبأَ الوفاة من الإذاعة الفرنسية؛ فَوَزَّعتِ النبأَ على الجرائد، ولم تَتْنَبِهْ إلى خطأ الجرائد الفرنسية الصادرة في مصر؛ فكان ما كان من أمر الجريدتَيْن السابقتَيْن.
وسارعتُ بالاتِّصال (تليفونيًا) بالأستاذ (إدجار جلاَّد) الذي نشر خبرَ الوفاة والرِّثاء، فدَهِشَ وقال مستنكِرًا: مَنْ أنتَ؟ قلتُ: أنا - والله - (فكري أباظة)، لا أزالُ حيًّا أُرزق!
وتَهَدَّجَ صوتُ صديقي (إدجار جلاَّد)، وسمعت مزيجًا من الحزن والفرحة، وربما البكاء والضَّحك معًا.
وقد هَطَلَ مطرٌ من برقيَّات التَّعازي في الداخل والخارج على الأسرة؛ مشاطَرَةً في الحزن على الراحل العزيز"!!


صاحبُ "المقطَّم"
عاش (فارس نَمِر باشا) أحد أصحاب جريدة "المقطَّم" ثلاثةً وتسعين عامًا، شارك فيها في أعمالٍ تجاريةٍ وعلميةٍ وسياسية، وهذه الأخيرة كانت موضعَ النَّقد كثيرًا؛ لمساندته الاحتلال البريطاني؛ بحيث أصبحت جريدة "المقطَّم" لسانَ حال الاحتلال.
وقد مَرِضَ مَرَضَ الموت، وأحسَّ باقتراب أَجَلِهِ؛ فتَوَقَّعَ أن يُكْتَبَ عنه بعضُ ما لا يُرضِيهِ، ورأى أن تكون جريدة "المقطَّم" بين الجرائد لسانَ الثَّناء عليه.
وقبل وفاته بيومين، دعا كبار المحرِّرين بالجريدة، وطلب منهم أن يُعِدُّوا كلماتِ الرِّثاء، ليتأكدَ مما يقولون!!
وكان الموقف يدعو إلى تَرْضِيَةِ الراحل؛ فأُعِدَّت الصَّفحاتُ الخاصةُ بالنَّعي على نحوٍ يُرضي المريضَ المحتضِرَ؛ إذ جُلِّلتِ الصَّفحاتُ بالسَّواد، وفي أعلى الصحيفة الأولى من "المقطم" الصَّادر في 17/12/1951 بالخطِّ العريض: (فجيعةُ مصرَ والشَّرقِ في وفاة المرحوم الدكتور فارس نَمِر باشا)، وفي الصَّدْر صورته الكبيرة، مع مقالٍ تحت عنوان: (أسرة تحرير "المقطم" تبكي عميدها)، ومقالٌ آخَرُ تحت عنوان: (ترجمة حياة فقيد العلم والصَّحافة)، ومقال حارٌّ مؤثِّرٌ للأستاذ الكبير (وديع فلَسْطِين).


وانتقل الحديث إلى صفحاتٍ داخليةٍ، كلُّها تمجيدٌ للرَّاحل، وقد قرأ (فارس نَمِر) في لحظاته الأخيرة كلَّ ما أُعِدَّ، ولكنَّ هذا كلُّه شيءٌ، وما قاله التاريخ عن الرجل شيءٌ آخَرُ!
لستُ أريدُ أن أشير إلى سيرة (فارس نَمِر)، ولكني أقرأُ ما كُتِبَ عن جريدة "المقطَّم" في كُتُب مستقلة، فأراها كانت شَوْكَةً في جنْب مصرَ المستعمَرة، والذين يروْنَ أن مهادنة الاستعمار ضرورةٌ التجأ إليها أمثال (فارس نَمِر) -: ينسون أن المهادنة شيءٌ وتبرير الطغيان شيءٌ آخَر، وأنه لا يستوي في مَنْطِق الحقِّ كاتبٌ مخلصٌ كافحَ العدوَّ، وتعرَّض للنَّفي والسَّجْن والاضطهاد، وحُورِبَ في رزقه وأهله، مثل الشيخ (عبد العزيز الجاويش)، وكاتبٌ يملك الضِّياع الواسعة، والعَقاراتِ المتعدِّدةَ؛ لأنه يتمتع بنفوذ الغاصبين، ويحارب المخلِصين من رجال الوطن العزيز!
إن كل ما أعنيه في هذا المجال: أن أَعُدَّ (فارس نَمِر) ممن قرؤوا بعض ما يقال عنهم بعد الرَّحيل، وذلك بتدبيرٍ حصيف.
لقد نقل لي هذا التدبير أحدُ محرِّري جريدة "المقطَّم"؛ فالعهدة عليه فيما روى وحدَّثَ.


صالح جَوْدت
الشَّاعر الغَزَلي الرَّقيق صالح جودت، تحدَّث في مجلة (الثقافة -20/5/1939) عن صديقه شاعر الشَّباب (محمد عبدالمعطي الهَمْشري)؛ فذكر أنهما كانا صديقَيْن حميمَيْن بمدينة (المنصورة)، لا يكادان يفترقان إلا عند النَّوم، وقد جمع بينهما حُبُّ الشِّعر والجمال.
وفي ذات يومٍ قرآ معًا مقالاً حارًّا كتبه الأستاذ الكبير (محمد لطفي جمعة) في جريدة "البلاغ"، مودِّعًا الشابَّ الفقيد الشاعر (أحمد العاصي)؛ حيث مات منتَحِرًا في مَيْعَةِ شبابه، وكان على حظٍّ وافرٍ من الشَّاعرية، فتأثَّرَا كثيرًا بمقال الأستاذ (محمد لطفي جمعة)، وتساءلا؟ هل إذا مات أحدهما اليوم سيجد من يقوم برثائه كما فعل الأستاذ (جمعة)؟ وانتهيا إلى أن ذلك بعيدٌ بعيدٌ، ثم اقترحا أن يقوم كلُّ واحدٍ منهما برثاء أخيه فَوْرًا؛ لينشر الباقي ما قال الرَّاحلُ، وتفرَّقا على وجوب تنفيذ هذا الاقتراح، وبعد يومين قابل الأستاذ (الهَمْشري) صديقَه (صالحًا)، وأسمَعَه ما قاله في رثائه، وهو هذا:
أّيُّهَا السَّارِي تَمَهَّلْ فِي خُطَاكْ إِنَّ فِي الْقَبْرِ فُؤادًا مَا سَلاكْ
وَدَّعَ الأَحْلَامَ فِي رَقْدَتِهِ وَالأَمَانِيَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاكْ
وَإِذَا نَادَيْتَهُ فِي قَبْرِهِ هَبَّ فِي الْقَبْرِ مُجِيبًا لِنِدَاكْ
لَيْسَ يَبْغِي أَنْ يَرَى الْجَنَّةَ فِي نَفْخَةِ الصُّورِ، وَلَكِنْ أَنْ يَرَاكْ!!
وَضِريحِي بَيْنَ أَشْجَارِ الأَرَاكْ فَتَعَالَ، وَاسْقِهِ عَلِّي أَرَاكْ
إِنْ تَخِذْتَ الْيَوْمَ غَيْرِي فِي الْهَوَى فَأَنَا لِلآنَ لَمْ أَعْشَقْ سِوَاكْ
هَاتِفٌ فِي الْمَوْتِ يَدْعُونِي كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا إِلَى وَكْرِ هَوَاكْ

أما الأستاذ صالح فقال إنَّه تشاءم أن يقول شِعرًا في رثاء شابٍّ مكتملِ القوَّة، ريَّان الحياة، ولم يَفِ بما تعهَّد.


ثم شاء القدر أن يموت (الهَمْشري) قريبًا، وأن يستشعر (صالحٌ) اللَّوعَةَ عليه؛ فيَرْثِيهِ رثاءً حقيقيًا، يقول فيه من قصيدةٍ بارعةٍ:
كُنْتُ أَلْقَاكَ وَالْحَيَاةُ تُجَافِي نِي وَإِعْصَارُهَا يَهُدُّ بِنَائِي
فَإِذَا مَا سَمِعْتُ ضِحْكَتَكَ العَذْ بَةَ أَحْبَبْتُ بَعْدَهَا أَعْدَائِي
وَتَمَشَّى السَّلامُ فِي جَوِّ نَفْسِي وَتَطَهَّرْتُ مِنْ طَويِلِ عَنَائِي
وَقَرَأْتُ الحَيَاةَ فِيكَ كِتَابًا شَاعِرِيَّ الآمَالِ والآلاءِ
تَطَأُ اليَّأسَ بِاعْتِدَاءِ الأَمَانِي وَتُذِلُّ الزَّمَانَ بِالْكِبْرِيَاءِ
وَتُغَنِّي وَتَنْهَبُ الْعُمْرَ نَهْبًا شَأْنَ مَنْ أُلْهِمَ اقْتِرَابَ الْفَنَاءِ

ويُخَيَّلُ إليَّ أنَّ قصيدة الهَمْشري السَّالفة لم تُقَلْ في إنسانٍ معيَّنٍ، ولكنها قيلتْ على لسان عاشقٍ مهجور .. هكذا فهمتُ، وإن خالفني الأستاذ (صالح جودت) فيما حكاه!