المثقف والسلطة


I-حول مفهوم الثقافة والسلطة:
1.الثقافة.
-كلمة ثقافة تحيل في الغالب إلى ما يتعلق بشؤون الفكر، أما ما تقدمه المعاجم العربية فلا يعدو دلالتين إثنتين:
أ.يقال ثقف الولد أي صار حاذقا وثقف الكلام حذقه،
ب.ثقف الرمح إذا قومه وسواه.
وهكذا فالثقافة تعني عند أجدادنا العرب: -الحذق والذكاء وسرعة الفهم (خصلة عقلية) ثم التقويم والتسوية.
-أما ما تثيره كلمة ثقافة في الفكر العربي المعاصر، فهو راجع إلى كون كلمة ثقافة مشتقة للدلالة على كلمة culture.
ف culture تعني الزراعة والفلاحة، وتطورت لتدل على "مجموع المعارف المكتسبة التي تمكن من تنمية روح النقد والقدرة على الحكم".
-وإذا كانت في ميدان الفكر تعني تنمية القدرات العقلية بما يسمح باكتساب المعارف وروح النقد، فإنها أيضا اكتسبت معاني أخرى تقوم على التدريب والمران، وبذل المجهود كما هو الشأن بالنسبة لمعنى culture physique .
وفي ميدان الانتروبولوجيا بصفة عامة، تطابق كلمة ثقافة معنى الحضارة، وواضح أنها هناك تعني البناء الفكري فحسب بل تعني أيضا السلوك الفردي والاجتماعي (تقاليد – أعراف – أدوات العمل والإنتاج ...).
2.السلطة: القانون – السيادة – السيطرة – القمع – الهيمنة – الإلزام – الاستبداد – العنف - ...
لعل هذه الدلالات التي تثيرها في أذهاننا كلمة سلطة ليست غريبة عن الدلالة المعجمية إذ نجد في لسان العرب لابن منظور أن السلطة بالضم من السلاطة ومعناها: القهر، فنقول سلطة الله فتسلط عليهم: أي قهرهم.
ونقول: سليط: أي فصيح، وسليط اللسان أو امرأة سليطة أي حديدة اللسان كثيرة الصخب (صاحبة اللسان الطويل).
*والسلطان: الحجة والبرهان. وفي الآية فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان أي حيثما كنتم شاهدتم حجة الله تعالى وسلطانا يدل على انه واحد.
*والسلطان: الوالي، وتعني أيضا قدرة الملك.
*وسلطان كل شيء: شدته وحدته وسطوته، والسلطان كما قال ابن جني هو القاهر.
استنتاجات:
-دعونا نخرج بملاحظة هامة انطلاقا من هذه الرحلة المعجمية وهي أن السلطة تلازمها المعاني المذكورة آنفا وهي الهيمنة والقمع، والإلزام، والاستبداد، والسيطرة، والقدرة، والسطوة،
-كما أن السلطة مرتبطة بمعنى الحجة والبرهان.
-ثم أن السلطة والسلاطة تحيل إلى الفصاحة وكثرة الكلام.
-ومن جانب آخر نجد مفهوم الثقافة مقترنا بالمعرفة وهي شكل من أشكال السلطة والمقصود هنا هي السلطة المعرفية.
والثقافة (بوصفها إنتاجا إنسانيا يدخل في إطاره كل ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة، وتستلزم بذل الجهد سواء كان عضليا (تنمية العضلات culture physique) أو فكريا (تنمية المعارف والقدرات العقلية).
-وإذا كانت السلطة تعني الفصاحة واللسن، فإنها منفتحة على اللغة.
-نفس الملاحظة تطرح أيضا بالنسبة للثقافة، وذلك أن كل معرفة لا تكون كذلك إلا من خلال المقولات والقوالب اللغوية، بل إن اللغة في نظر الكثير من المفكرين شرط من شروط الدخول إلى عالم الثقافة. (اللغة كأداة لممارسة سلطة المعرفة) (اللغة كمظهر رمزي للسلطة) فهل تشكل العلاقة بين الثقافة والسلطة علاقة إشكالية؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب انطلاقا من المعطيات التالية:
1. هي علاقة إشكالية من حيث أنها تقوم على مفارقة حيث أن كل مفهوم يستحضر الآخر ويستبعده في آن واحد. فضلا عن كون الحسم في هذه العلاقة من حيث أسبقية احدهما على الآخر أو تأسيسه له، مدعاة للخلاف والاختلاف في المواقف.
2. وهي علاقة إشكالية انطلاقا من طابعها الشمولي والعام، حيث تتداخل أبعادها ومستوياتها: التاريخية، واللسانية، والأخلاقية، والفلسفية، والسوسيو ثقافية ... الخ.
3. وهي علاقة إشكالية من حيث أنها تقوم على علاقة توتر بين مفهومين يستدعي كل منهما الآخر، وينفيه في آن واحد، فضلا عن كون التفكير في كل منهما على حدة يقود إلى التفكير فيه انطلاقا من علاقات فرعية أخرى:
مثلا: المثقف والمجتمع، المثقف والسياسة، المثقف بين الخير والشر، الثقافة والتاريخ، السلطة والحرية، السلطة والدولة، السلطة بين الخير والشر، السلطة والتاريخ.
وكل هذه الثنائيات تشكل كل واحدة منها مسألة فرعية للإشكالية العامة (إشكالية الثقافة السلطة) وبالتالي تستدعي موقفا يستهدف حلا أعم ضمن المستوى الإشكالي لعلاقة المثقف بالسلطة.
II- حول نشأة مفهوم المثقف:
يجمع الكثيرون على أن مفهوم المثقف l'intellectuel نشأ وتبلور داخل الفكر الفرنسي في ارتباط مع بعض القضايا الشهيرة مثل قضية Dreyfus، وقد ظهر في البداية أن القضية قضية تجسس وخيانة استحق مقترفها الإهانة أمام الملأ والنفي إلى إحدى الجزر البعيدة، غير أن غياب الأدلة الكافية جعل المحاكمة تتحول إلى قضية سياسية كبرى عصفت بالحياة الاجتماعية والسياسية الفرنسية ما يزيد عن عشر سنوات، وحركت موجة معاداة السامية بسبب الأصل اليهودي لألفرد دريفوس، وقضيته كانت تتويجا لهذه المرحلة وستفرز الحياة الثقافية الفرنسية ظاهرة جديدة، ويتعلق الأمر بنزول المثقفين والمفكرين إلى حلبة الصراع بين مؤيدي Dreyfus ومعارضيه وسيظهر أول بيان للمثقفين.
Le manifeste des intellectuels سنة 1898 مفاده المطالبة بمراجعة الحكم الصادر في حق Dreyfus (Zola, Anatole France, M… Proust).
وإذا كان هذا البيان بمثابة شهادة ميلاد مفهوم المثقف (وذلك ما نفهمه من خلال قول اندريه لالاند Andre lalande "هناك دائما تقريبا معنى قدحي مرتبط بالاستعمال السلبي الذي استعملت به كلمة مثقف intellectuel أيضا في المناقشات السياسية" .
إن استعمال هذه الكلمة لا يمكن أن ينفصل إذن عن السياسة. خصوصا وان لفظ المثقف ينصرف إلى المعنى المشار إليه حينما يستعمل من منظور سياسي يهتم بدور المثقف في المجتمع. لكن التاريخ يقدم لنا أيضا معطيات تفيد حضور هذا المفهوم قبل قضية دريفوس فقضية سقراط مثلا أو قضية فولثير تحملان دلالة هامة في هذا الصدد حيث تقدم القضيتان نموذجا عن مفهوم المفكر أو الفيلسوف الذي لا ينشغل بهمومه المعرفية منصرفا عن الاهتمام بشؤون المجتمع والمدينة والنزول إلى ساحة الاكوار l'Agora مدافعا عن قيم العدل والخير، والقيم الإنسانية عامة.
أما قضية فولثير فهي قضية شخص يدعى callas تتلخص في انه في السابع عشر من شهر أكتوبر 1762 عند عودة التاجر البروتستيني كالاس من عمله والذي كان يعيش مع وأسرته في مدينة ذات أغلبية كاتوليكية مطلقة، اكتشف ابنه مشنوقا ببيته، فاتهم بقتل ابنه منعا له من التحول إلى الكاتوليكية، فحوكم محاكمة صورية وأعدم وصودرت أملاكه، لكن زوجته وأبناءه اهتموا بالقضية واقنعوا فولتير بالدفاع عنها، فكان كتابه محاولة في التسامح سنة 1873 وأعيد فتح ملف القضية وأعلنت براءة كالاس بوصفه ضحية اضطهاد ديني.
هاتان القضيتان اعتبرتا نموذجا لسلوك المثقف في مواجهة طغيان السلطة أو سلطة الطغيان. بل هما معبرتان عن علاقة المثقف والسلطة حيث ينزل إلى الساحة العمومية مقرا للحق أو مدافعا ضد الشبهات.
من خلال القضايا المشار إليها بدءا من سقراط وانتهاء بقضية Dreyfus نلمس صورة المثقف الغربي، انه المفكر الذي يمارس السياسة، ويحذر أن تحرقه نار السياسة، يريد المثقف إذن أن يكتب عن السياسة دون أن يكون سياسيا ولكن!! ألم يدع أفلاطون في الجمهورية إلى أن يحكم الفلاسفة، وكذلك فعل الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة؟
باختصار نقول إذن، أنه في مواجهة السياسة، وضد السلطة والدولة، نجد سياسة المثقف. ولعل ما كتب في هذا الموضوع خير دليل على ما نقول: ألم يكتب أرسطو عن السياسة، وكذلك فعل أفلاطون، والفارابي، وابن رشد، وروسو وآلان Alain وسارتر وكامو..
III- حول مفهوم المثقف في العالم العربي الإسلامي.
هل ينطبق الفهم السالف لمفهوم المثقف على العالم العربي الإسلامي؟
وهل يملك هذا المثقف في العالم العربي الإسلامي شهادة ميلاد رسمية؟ وما علاقته بالسلطة، وبالتالي بالسياسة؟ وما هو وضع المثقف العربي في العصر الحديث؟ وأي دور توكل إليه مهمة تنفيذه، سواء من طرف السلطة أو من طرف الشعب؟
إن الاستمرار في طرح هذه التساؤلات لاشك سيقودنا إلى بحر لجاج من القضايا الشائكة، والمتداخلة يتكامل داخلها ما هو تاريخي وما هو سياسي، وما هو ديني، وما هو إيديولوجي... وحصر الإجابة والحسم فيها داخل مستوى معين لاشك انه سيسقطنا في متاهات نظرية لا مجال للالتفاف حولها في حيز زمني ضيق.
من هنا يبدو أسلوب الاكتفاء بالإشارة إلى هذه القضايا اقرب إلى الحكمة و التريث في مقاربتها، وهذا على الأقل هو أقصى ما نطمح إليه.
ما نود أن نشير إليه هو انه إذا كان الحديث عن الثقافة بوصفها معرفة سواء كانت عامية أو متخصصة، يجعل المثقف شخصا امتلك حظا أو قدرا من هذه المعرفة، وكان مهتما بشؤونها أي بواحد أو أكثر من المجالات المكونة لها.
هنا تنبثق أمامنا مسألتان: تتعلق الأولى بتحديد ما نعنيه بالمثقف في الفكر العربي خاصة وأننا نصادف مفاهيم وتسميات مختلفة تميل إلى هذا المعنى كالعلماء والفقهاء والخاصة والعامة ... إلخ.
فالخاصة والعامة مفهومان غالبا ما يتم استعمالهما للإشارة إلى فئتين من الناس: العلماء والجمهور، فهل فئة العلماء هي التي تمثل المثقفين وبالمقابل يمثل الجمهور فئة من عدموا أسباب التعلم كما يقول ابن رشد. الحقيقة أن المشكلة تتعلق بوضع حد فاصل بين من يملك المعرفة ومن يفتقر إليها، وهي منذ البداية مسألة تحتاج إلى ضبط، ذلك أن الثقافة العربية شهدت ظاهرتين متكاملتين الأولى في اتجاه العلماء نحو احتواء معارف العامة، (الأعرابي أستاذ العلماء وبطل عصر التدوين كما يسميه الدكتور الجابري) والثانية في اتجاه العلماء نحو تقنين أو تحويل معرفتهم إلى علوم تنتحلها العامة (تبسيط العلوم للعامة)
المسألة الثانية تتعلق بعلاقة العلماء بالسلطة:
-عادة ما نميل إلى اعتبار علماء الدين جزءا من السلطة (وعاظ السلاطين) ولكن هناك من علماء الدين من كان له رأي مخالف للسلطة ووصل معها إلى حد المصادمة (الحسن البصري، ابن حنبل، ابن رشد، ..) كما أنه إذا كان بعض العلماء قد ارتبطوا بالسلطة فذلك بغاية كسب الحياة أو تكريم السلاطين لهم، أو بوصف العلم حرفة يرتزقون منها، (تعليم الأطفال) فضلا عما يكسبون من إعانة الناس لهم .
هذا الكلام يفتح الباب على مصراعيه أمام قضايا كثيرة: بعضها يتعلق بتحديد الانتماءات الاجتماعية للعلماء لطبقة ما في المجتمع العربي؟ وعلاقة العلم بالثروة؟ فضلا عن تصنيف العلماء إلى طبقات تتوخى المفاضلة على مستوى القدرات المعرفية والعقلية؟ أو التوجهات السياسية والإيديولوجية؟
هذه قضايا كثيرة ويحتاج الباحث فيها إلى وقت طويل وبحث مضن لا يسع المجال لتحديد تفرعاته.
ما يهمنا من كل ما سبق هو التأكيد على أن العلاقة بين العلم والسياسة علاقة قائمة فعلا(منذ فترة مشكلة الخلافة) لكن التدقيق يقتضي بحثا أطول غايته تحديد طبيعة الدور أو الأدوار التي لعبها العلماء سواء في بناء السلطة أو تغييرها، ومن ثمة محاولة تحديد مفهوم دقيق للمثقف في نهاية المطاف.
وبعد أن تبلور مفهوم المثقف خلال فترة مواجهة صدمة الغرب بدأت تظهر نخب جديدة تستعمل السلاح الفكري والذي حدد وضع المثقف العربي الحديث.
ومنذ أن أخذ مفهوم المثقف يغزو سوق الفكر العربي كثرت التعريفات وتعددت مثلما اختلفت معايير وأسس هذه التعريفات: (معيار التعليم – الثقافة – التغيير – المشاركة – الدور أو الوظيفة (نقد السلطة) ثم هناك التمييز بين المثقف الثوري والمثقف فقط، والربط بين المثقف والوعي، ثم بين المثقف والنضال، والمثقف والقومية، المثقف والحرية ...
كثيرة إذن هي التعريفات التي يمكن أن نصادفها . وهي من خلال هذا الاختلاف والتنوع إنما تترجم الوضع الإشكالي للمثقف في العالم العربي وتفسر تنوع وجهات النظر واختلافها لدرجة الحديث عن أزمة الثقافة وأزمة المجتمع.
وهي مسألة تجد تفسيرها من خلال جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا مجال للخوض فيها الآن.
IV-إشكالية علاقة المثقف بالسلطة:
إذا كان المثقفون ينتمون بوجه عام، إلى الشريحة الاجتماعية المسماة بالبورجوازية الصغيرة فهم في الغالب ملاك رأسمال ثقافي يعملون في ميدان البنية الفوقية في شبه انفصال عن عملية الإنتاج المادي.
فإن هذا الوضع يجعلهم يشعرون بعدم الفاعلية نظرا لعدم امتلاكهم لأية سلطة فعلية (اقتصادية، اجتماعية، سياسية) ومن ثمة يعتبرون أنفسهم بمثابة نخبة مدعوة لتقييم كل شيء والحكم عليه والحال أنهم ليسوا كذلك كما يقول سارتر .
من هنا يتسم وضع المثقف بنوع من التمزق مهما كان ثوريا فهو ليس بروليتاريا، معنى ذلك أن المثقف ليس بإمكانه أن يكون نائبا عن الجماهير، أو ناطقا باسهما، بوصف ذلك تغييبا لها، وبالتالي فدوره لا يعدو أن يكون كما يقول فوكو مجرد إفساح المجال أمام الجماهير المتسلط عليها لتقول كلمتها لينبثق خطاب الآخر، بكل تلقائية (خطاب المجانين والسجناء والمجرمين والمنحرفين) وهي الجماهير الخاضعة للتسلط والاضطهاد لا الجماهير الخاضعة للاستغلال.
وإذا كان المثقفون بفضل امتلاكهم لرأسمال فكري يمتلكون جزءا من السلطة بوصفهم عناصر فاعلة في مؤسسات الدولة، فإن ذلك هو ما يعطي لوضعهم طابعا إشكاليا ذلك أنهم يشعرون بأنهم مسودين ضمن السائدين كما يقول بورديو في كتابه "المعنى التطبيقي" ومن ثمة نجدهم موزعين بين مواجهة السلطة، وقيادة الجماهير، بل قد يصل الأمر بهم إلى إضفاء صفات القدسية على دورهم الاجتماعي. إن المثقف إذن لا يستطيع أن يضطلع بالوظيفة التحريرية التي يوليها لنفسه (بطريقة ا غتصابية في كثير من الأحيان) إلا إذا عرف الشروط التي تحدد وجوده، وتمكن من السيطرة عليها.
إن المثقفين يدعون الاختصاص المعترف لهم به اجتماعيا ليتحدثوا بسلطة في موضوعات خارجة عن حدود اختصاصاتهم وبصورة خاصة في مجال السياسة، رغبة في الحضور على جميع الجبهات الفكرية، اعتقادا منهم بامتلاك كل الأجوبة.
إن هذا النقد لأوضاع المثقفين انتشر غداة تراجع فلسفة الذات وفلسفة الوعي، فإذا كانت النظرة للمثقف في هذه الفترة قد جعلته يحمل وهما، فانه صار كذلك ضحية لهذا الوهم.
فقد أدت أحداث 1968 في فرنسا إلى توجيه المثقفين نحو تحليل مسألة السلطة، فإذا كانت الماركسية قد اعتبرت أن السلطة تملكها طبقة سائدة بمصالحها الاقتصادية، فان السؤال المطروح هو كيف يميل بعض الأفراد إلى السلطة ويعانقونها للحصول ولو على نزر يسير منها؟
وهكذا فمهمة المثقف هي كشف ميكانيزمات السلطة، وإفساح المجال للمتسلط عليهم لكي ينبثق خطابهم بكل تلقائية (فوكو).
أما في مجتمعاتنا العربية فبحكم تخلفها نجد السلطة داخلها تستند إلى عنصرين اثنين في سبيل تحقيق مشروعيتها: وهي المشروعية التقليدية والمشروعية الجديدة أو الحداثية، ويعني ذلك أنها مهما كانت ديمقراطية أو دستورية أو اشتراكية فهذا مجرد شعار للاستهلاك لان القوى أو القيم التي توجهها تقليدية. ومن هنا فهي مفتقرة للحدود العقلانية بالقدر الذي يفسر مظاهر الاستبداد و القمع وإحصاء الأنفاس التي بواسطتها تمارس السلطة في مجتمعاتنا.
ولعل هذا هو ما يفسر أننا لحد الآن نعتبر أن دور المثقف في مجتمعاتنا لازال مقرونا بالتغيير، ومهمته لازالت مقرونة بتوعية الجماهير وتوجيهها وقيادتها وإنارة الطريق أمامها.
وإذا كان من الجائز استساغة ذلك على الأقل في الفترة الراهنة من تطور مجتمعاتنا، أليس من الجائز القول كذلك أن مهمة المثقف التقدمي هي المساهمة في تطوير الثقافة وإشاعة الفكر العقلاني والفكر التحليلي النقدي. وهل هي مهمة فردية أم جماعية؟ هل هي مهمة مثقفين أم مهمة هيئات سياسية حاملة لمشروع مجتمعي جديد؟
ولكن أليست الدعوة إلى العقل هي دعوة إلى الاستعباد بالمعنى الذي يشير إليه برنارهنري ليفي حينما يقول "لقد اثبت ميشيل فوكو أن العقل أداة استعباد...؟ "
"وهل العقل قاتل للأقليات كما يقول ميشيل سير" وإلى أي حد تكون "الدعوة إلى العقل دائما دعوة للخضوع إلى الدولة" كما يقول فرانسة شاتليه؟
إن الفلسفة لا يمكنها أن تكتفي حاليا بملاحظة الارتباط بين السلطة والمعرفة، إذا كانت تريد أن تبقى وفية لوظيفتها النقدية والجدالية، عليها أن تسائل المعرفة من الداخل، وأن تضعها أمام مسؤولياتها وعواقبها.

حسن لشهب.