وهكذا يكتب الشعر


نقلا عن جريدة الرياض

http://www.alriyadh.com/2005/12/22/article117280.html

الخميس 20 من ذي القعدة 1426هـ - 22 ديسمبر 2005م - العدد 13695
عودة الى ثقافة اليوم


وهكذا يكتب الشعر

للأستاذ علي بن حسن العبادي
قرأت قصيدة أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، المنشورة في جريدة الجزيرة، في يوم الخميس السادس من شهر رجب، سنة 1426ه، وهي قصيدة موفقة الروي، وعباراتها جيدة السبك، يتلألأ نسجها مع ما يريده الشاعر، والفاظها سلسلة، يرتفع إيقاعها فيطرب السامع، ويهز مشاعره.
والقصيدة بأبياتها، تشرق أحياناً، وتومض حتى لايخبو لها وميض، ولعل وقع الألم في نفس الشاعر من جراء فقد مليك البلاد، خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، (طيب الله ثراه) مازال يهلب أعصابه وأعصابنا، ويبعث الشجن في نفوسنا حين نقرأ أبيات قصيدته، بمواقفها المفجعة..وقصيدة الأستاذ أبي عبدالرحمن ابن عقيل، لاتخلو من الجمال الشعري، غير أنه لم يطو قصيدته على الأسرار، والوصف الذي لاتحديد له ولاوضوح، حيث أبقى على المعنى الذي يدور في خلده، وعمل مخيلته ممزوجة بأجمل مافي نفسه إلى ماضي مليكنا الملك فهد (رحمه الله) وأسكنه فسيح جناته، وإلى أمل كبير في المستقبل على يدي مليكنا الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله ورعاه وأطال في عمره) فجاءت القصيدة متعددة العواطف، بديعة المعاني، خصبة الجمال، وكان جمال معانيها أكبر مما أراد أن يقوله شاعرنا.

هذه مقدمة، يحتم علي الموقف أن أبدأ حديثي بها، قبل أن أتطرق إلى قصيدة أبي عبدالرحمن ابن عقيل، الأديب الأريب، العالم النحرير، الذي خلد بقصيدته هذه الشعر العمودي الأصيل، شعرنا العربي الخالد، الذي نقلته الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة، حفاظاً على لغتنا الثرية (لغة الضاد)، لغة القرآن الكريم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

هذه اللغة العربية الشاعرة التي حافظ عليها شعراء الشعر العمودي الأصيل، منذ عصر امرىء القيس، حتى البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وحسين بن علي سرحان، وحمزة شحاتة، وغيرهم من الشعراء الكبار.

وتبّتْ يدا كل من جنى ويريد أن يجني على شعرنا العربي الأصيل، وقاتل الله من أخذ يعبث بتراثنا الخالد، ويعيث فيه فساداً، ويصف شعرنا العربي بالجمود والتخلف، حتى أخذ الكثير من أبنائنا، من أبناء الأرض الطاهرة التي نزل القرآن في ربوعها، يأتمرون بدعوتهم وينهجون نهجهم، ويغتربون عن تراث أمتهم ولغتها، ويسيئون إلى هذه اللغة العربية الخالدة، من نحو وصرف ولغة وعروض وبلاغة، لأنها علوم محنَّطة في رأيهم المأفون..وأجل شاعر في رأيهم العفن، هو الذي يقول : (أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة، أو صليباً من الذهب على صدر عذراء، تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى)...

وقد رأيت ناقداً يعيش بين ظهرانينا، يحمل الشهادة العالمية وإجازة التدريس في العلوم العربية، التي تسمى في عصرنا الحاضر، شهادة (الدكتوراه)، وهو ممن يعلّم أبناءنا في جامعتهم، وهذا الناقد مع حبي وتقديري واحترامي له، لأخلاقه التي يتمتع بها بين زملائه وتلامذته، واستقامته في خلقه ودينه.

إلا أنه أمر أحد الشبان الواعدين، ممن أراد أن يتمرد على تراثنا العربي، ويقلد التراث الأوروبي، وهذا الشاب وغيره من الشبان، يريدون أن يقتحموا منابر الأندية الأدبية الثقافية، وغيرها من الصروح العلمية، بأدبهم الغث، وشعرهم المريض الذي أدى إلى كوارث في النحو والصرف واللغة والعروض.

وقد أخذ هذا الناقد الأكاديمي الذي أُحبه ويحبه من عرف أخلاقه وأمانته، بيد أحدهم، وأمره أن يرقى منبراً من منابر إحدى الجمعيات الثقافية، لينشد بملء فمه أمام الجمهور ويقولنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيأذكر حين كان يباغتني الفجر، أصحو، كئيباً، مثقلاً بالطريق الذي سوف أحمله على ظهري..أذكر أن العصافير كانت تغرد من الشنطة المدرسية، في صباح الإجازة يوم الخميس، أذكر أن الطريق إلى المدرسة كان يرفل بالأغنيات، ولكن لم أكن لأراها، لأن عيوني مثقلة بالنعاس..الان أذكر جيداً وهي تغسلني بغبار الطباشير، وأنا غارق في البياض).

ويستمر في هذا الكلام الذي يحتاج إلى صياغة جديدة، تُصلح ما جاء فيه من أخطاء في اللغة، لغتنا العربية، إلى أن يختتم كلامه بقوله: (كالسماء تدق نواقيسها، ليعود الرعاة إلى مخبأ في الجبال، فلا ينظرون إلى ما تدس من الماء في باطن الأرض).

أرأيتم مثل هذا الكلام المبتذل، يتلى على جمهور من الناس، وينال منهم التصفيق، حتى تحمر أكفهم، فيعتقد أبو الكلام المبتذل الذي اقتحم المنبر، أن الشهرة تؤخذ بالطبل البلدي..وانظر الصفحتين : 377 و 378من كتابي (ماهكذا يكتب الشعر).

وكلام هذا الشاب الذي سماه شعراً، يبدو لي من كلامه أنه قد تأثر بقصيدة للشاعر الهندي الكبير(طاغور)، فسلخها بعد أن أزال بعض كلماتها، وأحل مكانها أخرى مرادفة لها في المعنى.

يقول طاغور نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيكنت أسير بجانب الطريق لا أدري لماذا أسير هناك، عندما مر الظهر، هفهفت فروع الخيزران وسط الريح)..إلى أن يقول نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيإن الظلال تزداد سواداً، والماشية تعدو لمرابضها، والضوء شاحب فوق المروج المنفردة، والقرويون ينظرون إلى القارب على الشاطئ)..وانظر ديوان الشاعر الهندي (طاغور)، ترجمة الأستاذ لطفي شلش..

وقصيدة الشاعر الهندي الكبير(طاغور)، قرأناها مترجمة عن اللغة الهندية، ولو قرأناها بلغتها الهندية أو الفارسية، لأخذنا نرددها لجمالها وروعتها، لأن الهنود والفرس يكتبون أشعارهم بلغتهم في أوزان لها إيقاعها وجرسها، وهم يحترمون أوزان شعرهم، وينادون بها..

وقد سمعت بعضها من أستاذنا محمد سليم (رحمه الله) مدير المدرسة الصولتية بمكة المكرمة، بحضور شيخي وأستاذي أبي زهير أحمد علي أسد الكاظمي الحسيني..وكنت أسمع منه عرائس القصائد الهندية والفارسية، التي ترتاح إليها النفوس، فتقبل إليها الآذان مصغية، لأسرار جمالها، وتألق معانيها، وسمو ألفاظها..

وأريد أن أهمس في آذان أبنائي الأكاديميين، من حملة (الدكتوراه) :أن المنبتّ لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى، وليس من الإنصاف في شيء أن ننادي بتقليد الشعر الغربي، وأن نهجر شعرنا العربي الأصيل، ونهون من شأنه، فبعض شعرائنا المعاصرين بله شعراء العرب الأقدمين، كان نصيبهم من الخلود أوفى من نصيب كثير من أدباء الغرب، لو كنتم تعلمون.

والكلام عن هذه الظاهرة الذي أخذ يروج لها أساتذة يعلمون أبناءنا، ويريدون أن يقتحموا بتلامذتهم منابر الأندية الأدبية، ويزحزحون عنها شيوخ الأدب الذين يسعون إلى إحياء القديم من أدبنا الخالد، وبعث نفائسه، ويتخذونه صُوى يهتدى بها، ودليلاً في معارجها إلى النمو والرقي، ويبنون الشعر الحديث على أركان الشعر القديم، ويأخذون من الشعر الغربي المعاصر ما يتلاءم مع تراثنا، في قوالب من بلاغتنا وقوافينا وأوزاننا ونحونا وصرفنا التي مرت عليها العصور، وهي حيث هي ومازالت قوة وجدة وكمالاً وسمواً وارتفاعاً..

وكيف يستشعر أبناؤنا ما أقوله لهم، ويجدون من معلميهم من يحثهم على نبذ تراثنا الخالد، ولغتهم الجميلة بصورها وبديع بيانها وحسن أسلوبها، ويطلبون منهم أن ينجلبوا وراء الشاعر الأفين، الذي يقول:

كم نبشنا عن القوافي كتاباً

فشكت جهلنا المبين السطورُ

وخرجنا نسيل شعراً مقفى

رقصت روعةً عليه الحميرُ

وهذا الشاعر، عربي بدمائه ولسانه، ولكن طغت عليه عجمة الحضارة الأوروبية فأخذ يقلد شعراءها، ويسب ويشتم شعراء العروبة، وأصحاب الشعر المقفى الموزون من أمثال حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، ومن جاء بعدهما من الشعراء الكبار، منذ العصر الإسلامي حتى عصرنا الحاضر..

ولقد أصبحنا في حاجة إلى تغذية عقول أبنائنا، بما يذكرهم بتراث آبائهم وأجدادهم، نزولاً عند قوله تعالى نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيفأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)..

والحديث ذو شجون، ولو أخذتني شجونه، لأسهبت في الحديث حتى يدفعني إلى الخروج عما أنا بصدده.

فأعود إلى قصيدة الأخ الكريم الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)، وقبل أن اعود إلى قصيدته، أرغب أن أذكر شيئاً عن بدء حياته العلمية، فلقد كان طالباً نجيباً في المعهد العلمي بشقراء، الذي التحق به كما التحق به تلامذتي النجباء : محمد بن عبدالله المؤذن الدوسري، وعبدالرحمن بن عبدالله الصويفي، وصالح بن صالح الزير، وعبدالله بن محمد القصيمي، والشيخ محمد بن سعد العييدي (رحمه الله)، الذين تخرجوا من المدرسة الأولى بالخرمة التي قمت بتأسيسها في سنة 1371ه، وقد التحق من أشرت إلى أسمائهم آنفاً بالمعهد العلمي في شقراء سنة 1375ه، بعدما حملوا الشهادة الابتدائية بتفوق، ثم عاد بعضهم إلى الخرمة عندما فتح معهد المعلمين بها سنة 1376ه، وكنت أدير المعهد مع إدارة المدرسة الابتدائية، وكان زملاؤه الذين أشرت إلى أسمائهم، يحدثونني عن ذكاء ونجابة زميلهم أبي عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)..

وأعود إلى قصيدة أبي عبدالرحمن، وهي قصيدة من البحر البسيط، عروضها الأولى مخبونة (فعِلن) بتحريك العين، وضربها الأول مخبون مثلها (فعِلن) بتحريك العين أيضاً. ويجوز في حشو القصيدة الخبن في كل (فاعلن) فتصير به (فَعِلُن) بتحريك العين، وهو زحاف مستحسن، يقول عنه الصاحب بن عباد في كتابه (الإقناع في العروض وتخريج القوافي) صفحة (4) طبعة المعارف ببغداد سنة 1379ه نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوربما كان الزحاف في الذوق أطيب من الأصل).

ويدخل الخبن أيضاً نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيمُسْتَفْعِلن)، فتصير بالخبن إلى (مَفاعِلن) وقد افتتح أبو عبدالرحمن ابن عقيل قصيدته بقوله :

جل المصاب وحار الحاذق الفَهِمُ

واستوحش اليافع الشديد والهَرِمُ

فيدخل الخبن الشطر الثاني من البيت، في وسطه، وهذا ما جعل أحد أصدقائي ممن يقرض الشعر ويجيده، يستغرب هذا البيت الصادر عن شاعر عالم بفن الشعر وعروضه، فهاتفني وأخذ يحدثني حتى بهتني بحديثه، فأخذت أقرأ القصيدة كلها، فعلمت أن السبب في اضطراب القصيدة عند سماعها، يعود إلى (الخبن) الذي دخل وسط الشطر الثاني من البيت، فالخبن إذا وقع في أثناء الشطر من بيت البحر البسيط، شعر القارئ الحاذق باضطراب النغم، واقرأ معي قول ذي الإصبع العدواني، واسمه : حرثان:

أزرى بنا أننا شالت نعامتُنا

فخالني دونه وخِلْتُه دوني

فكلمة (فخالني)ووزنها نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي511511)(مفاعِلُن)، وهي مخبونة بزحاف الخبن، ولكن القارئ لايشعر به، لوقوعه في أول الشطر، وأما كلمةنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوخلتُه)ووزنها: (511511)(مفاعِلُن)، فيشعر القارئ باضطراب الوزن، لوقوع الخبن في آخر الشطر..

فلو قال ذو الإصبع العدواني نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيفخالني دونه أو خلتُه دوني) لزال الاضطراب، ولكن شعراءنا القدامى، حذقوا إيقاع الشعر ومهروا فيه. وانظر القصيدة في (المفضليات) للمفضل الضبي، صفحة 160، بتحقيق الشيخين: أحمد محمد شاكر، وعبدالسلام محمد هارون. غير أن الشيخين الفاضلين لم يتطرقا إلى ما تطرقت إليه في مقالتي هذه..

وقصيدة الأستاذ الفاضل أبي عبدالرحمن ابن عقيل، دخل الخبن الكثير من شطورها، وجاء في أثناء شطورها، فأحدث هذا الاضطراب، ولو أراد أبو عبدالرحمن أن يتجنب الخبنَ في قصيدته، وهو العالم بالعروض، لقال :

جل المصاب وحار الحاذق الفهم

واستوحش اليافع الصنديد والهرم

حتى يبعد الخبن عن شطر البيت..

ونقطيع البيت هكذا:

وأبو عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)، غير مضطر إلى ماقمت به من تعديل، لأن الخبن وارد وقوعه في وسط الشطر من بيت البحر البسيط، وله شاهد من الشعر العربي القديم، ولكنه لايرد إلا نادرا حتى خلا منه شعر الشعراء المعاصرين، فلم نجد (مفاعِلُن) في وسط الشطر من البيت في البحر البسيط عند الشعراء العباسيين او المعاصرين.

ويجيء الخبن مرتين وأكثر في الشطر من البيت في البحر البسيط، ولكنه نادر أيضا، وله شاهد من الشعر القديم، لايعرف قائله:

وهو قول الشاعر:

لقد مضت حقبٌ صروفها عجبُ

فأحدثت غيراً وأعقبت دولا

وتقطيعه:

ومن الزحافات والعلل التي تدخل البحر البسيط: (الطي) حيث يتحول به (مستفعلن) إلى (مفتعلن)، فإنه يحتمل عند سماعه، ولكنه يقل جرسه في الإذن عن (الخبن)، وأقبح الزحاف في البسيط ماخبلت تفعيلته، فتحولت (مستفعلن) إلى (فعِلتن)، حيث اجتمع فيها الخبن والطي..

قال أبو العلاء المعري:

ليس حال المخبول فيما يلاقي

مثل حال المطويِّ والمخبون

وأخونا أبو عبدالرحمن ابن عقيل، عالم بكل ما أكتبه عن البحر البسيط، إلا أنه آثر هذا التغيير، تغيير التفعيلة (مستفعلن) إلى (مفاعلن) في أثناء شطور أبيات القصيدة، لقدرته على هذا التغيير، وليذكر علماء العروض بما نسوه.

وقد دخل الخبن الكثير من أبيات قصيدة الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل في أثناء شطورها. وقد أحصيت هذه الأبيات فكانت عشرين بيتاً تقريباً.

ومن هذه الشطور:

(واستوحش اليافع الشديد والهرم) و(ينعون للدار أمنها وزينتها) و (والغبر من وهجه كأنها حُمم) و(باهى بك المتباينان فاتسقا) و (حليفك الصلب عند كل نازلة) و( بالرأي تغري وبالأناة تعتصم) و (كما تدفق من يمينك الكرم). وجاء الخبن في هذا الشطر أكثر من مرة، وهو نادر جداً.

ومافعله ابن عقيل (حفظه الله) يعد توسعاً في العروض، وتذكيراً لنا بهذا العلم الجليل، الذي كاد ينقرض في مدرجات الجامعات، وحلقات العلم، فلاحول ولاقوة إلا بالله..


*************************


نقلا عن جريدة الرياض
http://www.alriyadh.com/2006/04/20/article147733.html
الخميس 22 ربيع الأول 1427هـ - 20 أبريل 2006م - العدد 13814

عودة الى ثقافة الخميس

وهكذا يُكتب الشعر (1 - 2)

للأستاذ علي بن حسن العبّادي

لقد وجِد الشعر قبل أن يوجد عِلْما العروض والقوافي، ولم يتطلع الخليل بن أحمد الفراهيدي (رحمه الله)، إلى هذا العلم إلاّ بعد ما استعجمت الألسنة، وأصبح الناس يتكلمون بكلام دخله اللحن كثيراً، وتأثروا باختلاطهم بالأعاجم الذين يرتضخون لكنة أعجمية، لأنهم ليسوا عرباً، فأخذ الخليل نفسه بالنظر في الأمر سنين طويلة، فجاء للناس بهذا العلم (علمي العروض والقوافي) لينتفع الشعراء به، وإن كان الشعراء المبدعون لهم ذائقتهم الشعرية التي تجنبهم الخطأ في كتابة الشعر.
والشعراء المبدعون يتطلّبون هذا العلم (علم العروض)، وعليهم ان يتقيدوا بما رسمه لهم علماء العروض، وإن كانوا قد تمرسوا بالشعر زمناً طويلاً وتدربوا عليه فاتسعت لديهم ملكة الشعر فينسجون شعرهم بما أوتوا من ملكة، فيكتبون شعرهم بحذق ومهارة، فيأتون بالسحر الحلال ويتجنبون بذلك حذلقة النقاد.

وعلم العروض ينفع منفعة ليست باليسيرة، لطلاب اللغة العربية وخريجيها وأساتذتها أيضاً.

يقول أبو الحسن أحمد بن محمد العروضي، المتوفى سنة 1342ه في كتابه (الجامع في العروض والقوافي)، نسختي الخطية: «إن قوماً رأيتهم كثيراً ما ينشدون البيت المكسور، فلا يحسون بموضع الانكسار منه وهم عند لقاء بعضهم علماء بالشعر ورواة له، ومعادن من معادنه وهم مع ذلك يطعنون في العروض ولو علموا ما هم عليه من الخطأ بجهله، لسارعوا إلى علمه» ويقول: «ولقد أنشدني رجل من العلماء بالشعر المتقدمين فيه، الحذّاق بمعانيه، بيتاً يُستشنع إنشاده من مثله وقفت منه على زلله وقبح خطله. وأما هو فما شعر بذلك ولعله يفعل ذلك كثيراً ولا يدري مواقع الخطأ من الصواب.


والبيت للعجّاج وهو:

يكشفُ عن جَمّاته دَلو الدالْ

عبايةً غبراءَ من أجْنٍ طالْ

وهذا البيت ينشد موقوفاً وهو من السريع فأنشده مكسوراً في الوزن ولو كان مع هذا الرجل من علم العروض ما يعرف به وزن الأبيات الصحاح، فضلاً عما سواها، ما ذهب عليه هذا المقدار».

وقرأت في جريدة «الأخبار» المصرية العدد الصادر في غرة شهر صفر سنة 1427ه ، في صفحتها الثقافية أبياتاً من البحر الهزج للشاعر البهاء زهير جاء فيها بيت مكسور وهو:

كفى ما كان من هجرٍ

فقد تركْتكم وقد ذقنا


وصحة البيت هكذا:

كفى ما كان من هجر

وقد ذُقتم وقد ذقنا

وليس الوقت كافياً لأبحث عن صحة هذا البيت في ديوان الشاعر المبدع الحجازي المصري: (البهاء زهير)، وهو صاحب الذائقة الشعرية التي لا تخطئ، وقد صححت البيت بمعرفتي. ولو كان المشرف على الصفحة الثقافية من الرجال الذين عاشوا في زمن النور الذي شع من مصر في عهد الأدباء الكبار لفطن له وأحس بانكساره وما استطاع ان يسْلم من أقلام النقاد كعادة الأدباء المصريين في الزمن الماضي الجميل.

وقرأت في جريدة (عكاظ) العدد 13815 الصادر في يوم الأربعاء 5 جمادى الأولى سنة 1425ه مقطَّعة منشورة في مقالة الأستاذ محمد أحمد الحساني المعنونة (على خفيف) منسوبة إلى الشاعر (محمد صالح باخطمة)، يقول فيها:


مر عام وأنتِ عني بعيدهْ

يا منى النفس والأماني السعيده

مر عام كأنه الدهر عندي

يومُه مثقلْ والليالي مديده

حوْليَ الأهل أينهم؟ أنتِ أهلي

أنت عمري قديمُه وجديدُه

كلما جئت موضعاً انتِ فيه

برفيف المنى وذكرياتٍ عديده

(ابتي) لم تعد ترفّ بعمري

أتمنى سماعها لكي استعيدَه


فأقرأ في المقطعة ثلاثة أبيات مكسورة، ولا أعرف مصدر المقطعة؟ أصدرتْ هذه الأخطاء العروضية عن الشاعر؟ أم عن الكاتب؟ وتستقيم هذه الأبيات لو قال الشاعر:


مر عام كأنه الدهر عندي

(مثقل اليومِ) والليالي مديده

ولو قال:

كلما جئت موضعاً أنتِ فيه

برفيف المنى (وذكرى) عديده

ولو قال:

ابتي لم تعد ترفّ بعمري

أتمنى سماعها (كيْ أعيده)

فلو قال الشاعر هكذا لاستقامت أبياته، ولسلمت من الانكسار.. وقد وضعت ما صححته من كلمات بين حاصرتين. وهناك بيت من أبيات الشاعر (باخطمة)، لحقه الإقواء، والإقواء من عيوب القوافي التي يتجنبها الشاعر المتقن لشعره يقول باخطمة: (أنت عمري قديمُه وجديده)، فتأتي قافية الدال مرفوعة ومقطّعة الشاعر منصوبة القوافي. فلو قال الشاعر: (كنتِ عمري قديمَه وجديده) لجاءت القافية منصوبة ولسلمت من الإقواء.

ومقطعة الشاعر (محمد صالح باخطمة) من البحر الخفيف، ووزنه في دائرته (فاعلاتن - مستفع لن - فاعلاتن) مرتين وهو ثلاثة أعاريض وخمسة أضرب لا داعي لذكرها ومقطعة شاعرنا من العروض الأولى (فاعلاتن) ومن الضرب الأول، صحيح مثلهانقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيفاعلاتن)، والزحافات التي تدخل البحر الخفيف هي: الخبن والكفّ والشكل. (ففاعلاتن) تصير بالخبن (فعلاتن) و(مستفع لن) تصير (متفع لن) أو (مفاعلن) بوتدين مجموعين وبالكف (فاعلاتُ) بتاء متحركة ولكن العروضيين يعدون دخول هذا الزحاف في (الخفيف) أمراً قبيحاً شاذاً. كما يدخل (التشعيث) وهو حذف العين من (فاعلاتن) أي حذف أول الوتد المجموع فيها، فتصير (فالاتن) أي بثلاثة أسباب خفيفة ويحدث في تفعيلة الضرب، ويقل في غيرها من (فاعلاتن).. وبالشكل (فعلاتُ) وتلحق هذه الزحافات، البحر الخفيف، وفق قاعدة المعاقبة التي يطول شرحها وسأفرد لها مقالة أخرى إن شاء الله.

ومقطّعة الشاعر (باخطمة) دخل الخبن بعض (تفعيلاتها) فصارت (فاعلاتن) (فعلاتن). وصارت (مستفع لن) (مفاعلن).

وأقطع أحد أبيات الشاعر (باخطمة) التي قمت بتصحيحها من الانكسار وهو:


مر عام كأنه الدهر عندي

مثقل اليوم والليالي مديده

وأقطّعه هكذا: [ لا يظهر التقطيع على الشبكة وهو في الجريدة في جدول واستعمل فيه الأستاذ الرمزين 1 ، ه وهو هكذا بعد تحويل الجدول إلى نص ]

مرْرعامن ....كأنْنهد .....دهرعندي......مثقلل يو ........م ولليا .........لي مديده
1ه11ه1ه........11ه11ه......1ه11ه1ه....1ه11ه1ه..... .11ه11ه... .1ه11ه1ه

وإن كثيراً من الشعراء يقتحمون هذا الميدان (ميدان الشعر)، والشعر بريء منهم ومن شعرهم المؤوف الذي فسد وجاوز الصواب وتواضعت أذواق الناس العارفين، على الخلل الذي لحقه .

إن موسيقى الشعر تطرب أصحاب الآذان السليمة وعلى الشاعر المبدع ان يجنب هذه الموسيقى آفات الشعر، والنشاز المزعج الذي لحق الكثير من القصائد التي امتلأت بها أعمدة الصحف والمجلات، فأصابتنا بقذى في أعيننا.

إن موسيقى الشعر ترقى وترتفع، والشعر موسيقى وإيقاع، والشاعر القرزام لا يستطيع ان ينجو من المآخذ التي حصرها العروضيون منذ زمن بعيد، والشعر جيد ورديء فمالا تطرب له أذن السامع فهو من الشعر الرديء، وإن اختلف الناس في تعريف الشعر ولكنهم لا يختلفون في سحره وجماله وأثره في النفس سواء أكان هذا الأثر جميلاً أم قبيحاً.

ولقد قالت العرب القدامى: ان للشعر شيطاناً يلهم الشعراء بفصيح الكلام وبليغ المعاني فكان الشاعر الكبير أعشى قيس يصرّح باسم شيطانه (مسحل) فينشد:


دعوت خليلي مِسْحلاً ودعوا له

جُهنّام جدْعاً للهجين المذمّم

يقول الأعشى: لقد استعنت بشيطاني (مسحل) واستعانوا بشاعرهم (جهنام)، الا تباً لابن الأمَة الذميم.

ويصرح الشاعر رؤبة بشيطانه، وهو من بني الشيصبان إحدى قبائل الجن فيقول:

إذا ما ترعرع فينا الغلامُ

فليس يقال له من هوَهْ

إذا لم يَسُد قبل شدّ الإزار

فذلك فينا الذي لا هوه

ولي صاحبٌ من بني الشيصبان

فطورًا اقول وطوراً هوه

وتنسب هذه الأبيات للشاعر (حسان بن ثابت) رضي الله عنه، وكتب الأدب القديمة تزخر بالكثير من أحاديث شياطين الشعر وأفعالهم، فقد ظلت هذه الكتب تروي زعم الشعراء وهم يتحدثون عن حكاياتهم مع الجن.

فشيطان المخبّل السعدي، اسمه (عمرو) وشيطان الأعشى اسمه (مسحل) كما ذكرت آنفاً وللفرزدق جني، ولامرئ القيس أيضاً ولطرفة، إلى جميع الشعراء القدامى. ولعل أبيات أعشى سُليم تصور لنا قصة جنّ الشعراء، يقول:

وما كان جنيّ الفرزدق أسْوة

وما كان فيهم مثل فحل المخبّل

وما في الخوافي مثل (عمروٍ) وشيخه

ولا بعد عمرو شاعرٌ مثل مسحل

وأبو النجم الراجز يفتخر بشيطانه، أو يفخر بنفسه فيقول:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه انثى وشيطاني ذكر

واسْمع لهذا الشاعر الذي يرتجز ويقول:

إني وإن كنت صغيرَ السن

وكان بالعين نُبوٌّ عني

فإن شيطاني أمير الجن


فهذا الشاعر يضيف إلى شيطانه لقب الإمارة.

وقد تأثر الشاعر الكبير (أحمد شوقي) رحمه الله، كغيره من الشعراء القدامى فعرّج على وادي عبقر وصور عقائد العرب في رواية (مجنون ليلى)، فاستطاع (رحمه الله) ان يظفر بأفانين الشعر في مساكن الجن ووديانهم.

وأحمد شوقي لا يقل عن الشاعر (ذي الرمة) الذي استهوته شياطين الشعر فهو يقول:

وكم عرّست بعد السرى من معرّس

بها من كلام الجن أصواتُ سامر

ويقول:

بلاداً يبيت البوم يدعو بناتِه

بها ومن الأصداء والجن سامرُ

وقد يزعم بعض الشعراء انه آخى الشيطان وحالفه، واتخذه معيناً فيقول:

إني امرؤ تابعني شيطانيهْ

آخيته عمري وقد آخانيه

ولم ينس الشاعر العربي مساعدة الشياطين في الوصول إلى معشوقته من النساء. ونقرأ للشاعر عُبيد بن أوس الطائي في تعرضه لأخت عدي بن أوس.

هل جاء أوساً ليلتي ونعيمها

ومقام أوس في الخِباء المشْرجِ

ما زلت اطوي الجن اسمع حسهم

حتى دُفِعتُ إلى ربيبة هودج

فوضعت كفي عند مفرق خصرها

فتنفست بهراً ولمّا تنهج

قالت وعيش أبي وحرمة والدي

لأنبّهَنّ الحي إن لم تخرج

فخرجت خيفة أهلها فتبسمت

فعرفت أن يمينها لم تحرج

وأما عبيد بن أيوب العنبري التميمي، من شعراء العصر الأموي، فكان يزعم انه يرافق الغول والسعلاة ويبايت الذئاب والأفاعي.

ووادي الجن كثير المسالك، ولك ان ترفض وتكذّب ما نسب إلى الشعراء من قصص وحكايات فهذا من حقك وحقي.

واليك ما رقشه ونمّقه ليبلغ مراده الشاعر الطُّهْوي الذي ينطلق لسانه بكذبه فيسجل بشعره اكذوبة تضاف إلى تكاذيب العرب بأساطيرها وخرافاتها يقول الشاعر الطّهْوي:

لقيتُ الغول تهوي في ظلام

بسهْب كالعباية صحصحانِ

فقلت لها كلانا نِضوُ أرضٍ

أخو سفر فصدّي عن مكاني

شددت عقالها وحططت عنها

لأنظر غُدوة ماذا دهاني

إذا عينان في وجه قبيح

كوجه الهر مشقوق اللسان

وإن (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، ورسالة (التوابع والزوابع) لابن شهيد، وهما من الأمثلة الرائعة التي نقلت إلينا ألواناً من الأحاديث الشائقة التي ترفع عنك غوائل الجد وتشدك إلى ألوان من الفكاهة والترويح عن النفس مع ما في (رسالة الغفران) من فوائد علمية (عروضية ولغوية ونحوية).. وقد تطرقتُ إلى ما تطرقتُ إليه من أوهام العرب بقدرة الجن واختلاطهم بالناس، لأشير إلى ما دار بيني وبين الشاعر المبدع (عبدالله بن محمد بن صالح باشراحيل)، الذي يستطيع ان يكتب قصيدة في اليوم الواحد، يكتبها ويخرجها في إطار جميل ونسق بديع متلائم. وكنت أعرفه شاعراً مقلاً قبل ذلك.

وقد داعبته يوماً بقولي: ماذا جرى لك لعل بيتك الذي بنيته بعيداً عن أحياء مكة يجعلك تعرّج على وادي عبقر في كل ليلة والصحراء بجانبك فينطلق لسانك بما يجيش به صدرك، فتأتي لنا بالسحر الحلال في صور بيانية وأوزان هجرها الشعراء ولم نقرأ منها إلاّ نُتفاً في بعض كتب العروض فابتسم كعادته ثم أتبع الابتسامة بقهقهة ولم يرد عليّ.

ويعيب الشعراء الحداثيون المتأخرون الذين لا يعرفون معنى الحداثة في الشعر يعيبون اخوانهم الشعراء اتباع الخليل بن أحمد، إذا ما جاء شعرهم يعالج مناسبة من المناسبات التي تهم المجتمع، ونسوا ان الشعر لا يشرف ولا يرتفع ولا يسمو إلاّ بمعالجة الموضوعات الكبيرة والصغيرة ويستخلص الشاعر المبدع منها المعنى الإنساني الجميل. قال ذلك الجرجاني والجاحظ وغيرهما، فقالوا: «إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي». وقال ابن الأثير (صاحب المثل السائر): (كيف تتقيد المعاني المخترعة بقيد، أو يُفتح إليها طريق تسلكه، وهي تأتي من فيض إلهي بغير تعلّم).

ولو أردنا ان نحصر منذ ان بدأ الشعراء بشعرهم العمودي يتنفسون بالشعر، عما يدور في أذهانهم، وما يقع تحت حسهم لما استطعنا حصره.

وإني لأسأل - وحُق لي ان أسأل - بعض الشعراء المؤوف شعرهم، هل يستطيع أحد منهم ان يأتي لنا بقصيدة مثل قصيدة البحتري في الذئب، التي فاقت قصيدة الشاعر الفرنسي (دي فيني) وقد اعترضه ذئب، كما اعترض شاعرنا البحتري الذي صرع الذئب، وقال فيه البيت المشهور:


فخرَّ وقد أوردتُه منهلَ الردى

على ظمأ لو أنه عَذُب الوِردُ

ولا ننسى قصيدة الشاعر (ابن العلاف) في رثاء الهر، وقد قيل:

إنه كنى فيها بالهر عن عبدالله بن المعتز، حين قتله الخليفة المقتدر، وقيل: إنما كنى بالهر عن المحسن ابن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات، أيام محنته لأنه لم يجسر ان يذكره ويرثيه.. ويقول ابن خلكان في هذه القصيدة: «هي من أحسن الشعر وأبدعه» ومطلعها:


يا هرُّ فارقتنا ولم تَعُدِ

وكنتَ عندي بمنزلِ الولد

وهناك حوادث فياضة، استهوت الشعراء المبدعين، فأبدعوا في تصويرها. واقرءوا معي قصيدة الشاعر (لبيد) لابنتيه، ساعة احتضاره:

تمنى ابنتاي ان يعيش أبوهما

وهل انا إلاّ من ربيعة أو مضرْ

فقوما وقولا بالذي تعلمانه

ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعرْ

وقولا هو المرءُ الذي لا صديقه

أضاع ولا خان الصديقَ ولا غدرْ

إلى الحوْل ثم اسم السلام عليكما

ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ

واقرءوا معي ما بدا في نفس الشاعر دعبل بن علي الخزاعي من ألم، وقد لاح الشيب في رأسه:

لا تعجبي يا سَلْمُ من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى


وهذا النعمان بن المنذر، الملك العربي، وقد أتاه وفد من العرب، فيموت منهم رجل قبل ان ينال رفده، فلما أعطى كل وافد عطاءه، جعل عطاء ذلك الميت على قبره، حتى جاء أهله وأخذوه، فيقول النابغة الذبياني:


حَباءُ شقيقٍ فوق أحجار قبره

وما كان يُحبى قبله قبرُ وافد

وقد صدق النابغة في قوله: «وما كان يُحبى قبله قبر وافد»، ولم يقل: «وما كان يُحبى بعده». وقد مرت عصور على قول النابغة، فرأينا الأموات من العلماء والأدباء والشعراء في عصرنا الحاضر، يكرَّمون بعد موتهم.

وأقتضب كلامي، لئلا يذهب بي الاستطراد إلى الحديث، عما تأثر الشعراء به في مناحي حياتهم، وسأفرد لهذا الحديث مقالة أخرى، إن شاء الله.