شوارب ودلافين

ما أصعب لحظات الإنتظار ، خاصة إذا كان الشيء الذي ننتظره بلا قيمة ؛ أو مجهولا .
لست أدري إلى أين سنذهب وها هو "حمادة" قد تأخر عن الموعد ، كلما حاولت الإتصال به يرفض المكالمة ، سأغير رأيي ، سأعود ، إذ لم يأت في خلال خمس دقائق ، وبهذا لا أكون مقصراً معه ، ولا نادماً إذما فاتتني المتعة التي وعدني بها.
"لم تأخرت ؟!" كان هذا هو ردي على تحيته الباردة ، مضى وكأنّي لم أسأله ، وبعد أن اطمئن أن بركان غضبي قد هدأ ، بدأ يملي علّي شروطاً ما كنت لأقبلها لولا أنني قبلت أن أرافقه في رحلته من البداية " لا تناديني بإسمي منفرداً ولا ترفع التكليف ، أنا القائد في هذه الرحلة " ، بقيت صامتاً بالرغم من أنه أثار بكلماته تلك : ثورة غضبي ثانية .
ها قد وصلنا إلى بغيتنا ، قلت: " أنا أحب أن أجلس في الصفوف الأولى حتى ولو كانت لأسفل " فلم يعترض ، جلست في الصف الأول وعاد هو إلى الصفوف العليا المتأخرة بالمدرج ، وساعة بدأ عرض الدلافين ، سمعت رنات هاتفي ، أخرجت الهاتف ونظرت خلفي ، فوجدت "حمادة" يناديني ، كانت إلى جواره فتاة على درجة من الجمال تؤهلها لمعاكسات الشباب ، تجاهلت طلبه ، فأعاد الإتصال بي ، رددت عليه : نعم ، فأجاب : تعال .
تحججت بأني أحب أن أشاهد الدلافين عن كثب ، تحول أمره إلى رجاء ؛ فوافقت .
كان قد حجز مقعداً لي إلى جوارها ، جلست .
تجاهلتها أول الأمر ، ملامحها عادية ، لا تزيد في شيء عن أي فتاة قروية ممن ينتظرن منّي كلمة تثلج قلوبهن ، تعاملت معها بذهد ؛ ولكن سرعان ما أسرتني ضحكتها و ارتسام الإنطباعات على قسمات وجهها ، تجاذبنا الحديث ، فزاد تعلقي بها ، وأقسمت أن أواظب على حضور عروض الدلافين (التي لا أعرف الفائدة من حضورها) ، انصرفنا على وعد باللقاء في اليوم التالي في نفس التوقيت .
لم يكن لليوم الأول - الجرعة الأولى - أثراً بالغاً ، فكرت قليلاً وقررت أن ألقاها في الغد بمفردي ، ونمت في موعد نومي المعتاد .
في اليوم التالي لم أر غيرها ، ولا حتى الدلافين التي هي حجتي للقائها .
كانت الجرعة في هذا اليوم قليلة ولكن ذات أثر ، فقد أفقدتني عقلي ووقاري مع أخر دقيقة في اللقاء ساعة حددت هي توقيت الرحيل ، على وعد باللقاء في اليوم التالي .
كان لهذا اللقاء وقعاً ملموساً حيث استمر هذياني إلى الأيام التالية .
كنت قد حضّرت لها الكلمات وطلبات الإحاطة ، والخطة الزمنية ، بل ونويت أن أستشيرها في لون الستائر والمفروشات ؛ لكن جلس إلى جوارنا فضولي ، في البداية إقتصر على السماع ، ثم أخبرني بشأن صورة لي إلى جوار أحد الدلافين كان قد التقطها ساعة دخولنا للقاعة ، ثم تطور الأمر إلى إبدائه لرأيه عن الدلافين و البشر والتاريخ ، ثم بدأ في سرد قصة حياته ، ونحن لا يسعنا سوى الإستماع ، إصطنعت حيلة كي أبعده ولو قليلاً لحين حصولي على رقم هاتفها ، لنتمكن من التواصل .
بالفعل نجحت حيلتي و ذهب ليصافح شخصاً يرتدي بدلة فخمة ؛ أوهمته أنه وزير التنمية البشرية ! وأنه جاء اليوم بنفسه ليحضر عروض الدولفين .
خشيت أن ترفض طلبي ولكن لم تمانع من أن نتواصل هاتفياً فأدركت أنها أحبتني ولن تمنعني حقي في التواصل معها .
كنت أظن أنني قد افتقدت كبريائي يوم افتقدت وقاري ، ولكن ها هو لا يزال إلى جواري ، يمنعني من أن أتصل بها عبر الهاتف لأحكي لها ما كنت قد عزمت عليه .
كان لقائنا الأخير على أجمل ما يكون ، كنت أضحك من كل شىء ، وألعن الوقار وأهله ، أفرح بنظراتها وكلماتها ، كمن يسترق من الزمان لحظات سعادة يعرف أنه ربما يصعب أن يعيشها ثانية ، اليوم ستنتهي عروض الدولفين التي جمعتنا ،وأنا لم أقل شيئاً مما أعددته ، أكتفيت بمحاولة الشبع منها وأرجئت الحديث إلى الهاتف .
لم أكف عن الضحك للحظة ، استغرَبَت من ضحكي وهذياني ، ولم تكن تدري أنها منحتني سعادة ودفئاً لم أحس بهما من قبل .
خرجْتُ كي أجلب لها هدية تذكرها بي ، فقابلني صديقي " حمادة " عند الباب ؛ سألني عن سبب تواجدي هنا ، فرحت أحكي له عما جرى بيننا وعن عزمي على الإرتباط بها ، وأنني أصبحت أحب الدلافين كثيراً ، وأنني ذاهب لأحضر لها ما يذكرها بي ، وصفت له مكان المقاعد التي نجلس عليها ليحرسها لي حتى أعود .
لم تمر سوى دقيقة واحدة ، وإذ بصديقي يهاتفني قائلاً : " عد ولا تشتري شيئاً ، لقد خانتك ، وهي الآن بين يدي عاشق غيرك ".
رجعت لأسأله عمّا جرى ، لم أكن مطمئناً لما قال ، ربما دفعته الغيرة لقول ما قال ؛ فهو من عرّفني بها ، دخلت من الباب فوجدته في انتظاري ، أقبل شامتاً ، أشار إلى الفضولي وقال : " لقد ضبطُّها متلبسة وهي تملي رقم هاتفها لهذا الشخص والبسمة مرتسمة فوق شفتاها " .
لم يكن الأمر سهلاً ، جُن جنوني ، هل هي قطاع عام ؟ أم أنها لا تحسب للحب حساباً ؟ هل هي من هواة اللعب بالشوارب ؟
يجب علي أن أتيقن من الأمر أولاً قبل أي قرار ، لن ينفعني سوى الحيلة .
حاولت أن أبدو طبيعياً ولكن غلب غضبي تطبعي ، فصبغ الحزم كلماتي ، طلبت من شيخ كبير كان يجلس خلفي أن يعرفني بإسمه ، وحين سألني عن السبب ، تحججت بأني قد التقطت له صورة وهو إلى جوار الدولفين بكاميرا جوالي وأريد أن أسميها بإسمه للذكرى ، كان هذا على مرأى ومسمع منها هي والفضولي ، وبعد قليل سألت الفضولي إذا كان لا يزال محتفظاً بصورتي التي كان قد التقطها والتي كان قد حدثني عنها ؛ فأجاب : بنعم ، بعد طول تردد ، طلبت منه أن يريني إياها .
كنت في الصورة بالفعل ولكن بحافتها وكأني ولجت خطأً ، لم تكن صورة أكثر من كونها إفصاحاً عن نيته الأولى ، هل هذه هي الصورة التي أوهمني أنها لي؟! أنا في الحافة وتملأ هي والدلفين باقي الصورة ؟!
إستأذنته في أن أرسلها لجوالي عن طريق البلتوث ، فترك لي الجوال ، كتبت رقمها على هاتفه وطلبته .
كان كلام صديقي عنها صدقاً !
ناولت الهاتف للفضولي ، وجلست أتابع الدولفين وهو يسقط ، بعد أن ارتقى إلى الأعالي .