نظرية النظم وقراءة الشعرعند عبد القاهر الجرجاني السبت, 11 يوليو 2009 16:16

إعـــــداد : محمود توفيق محمد سعد

أستاذ البلاغة والنقد
ورئيس القسم في كلية اللغة العربية
جامعة الأزهر
الشريف شبين الكوم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد فإن هذا البحث قد نشرفي مجلة كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف – المنوفية – شبين الكوم العدد الحالدي والعشرين 1423هـ وقد أحببت أن أضعه بين يدي طلاب العلم ،وأذنت لكل مسلم أن يطبعه وينشره نشرًتا غير تجاري شريطة أن يحافظ على الأصل غير محرف ولا مصحف ودونما زيادة أو نقص أو تغيير إلا ما وقع من خطأ في كتابة آية قرآنية أو حديث نبيوي ولكل مسلم أن يعلق بحاشيته بما يراه من العلم النافع متخلقًا بادب أهل العلم ، فإن العلم رحم بين أهله ،ونحن طلاب العلم أولى الناس بالتراحم والتواد والتناصح في رفق ومحبة والله ولي التوفيق
محمود توفيق محمد سعد أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف شبين الكوم

سياق القول في النظرية
إذا ما كان الإمام عبد القاهر مستفتحاً كتابه "دلائل الإعجاز" ببيان فضل العلـم، ومنـزلة علم البيان من هذا الفضل، وأنه على الرغم من رسوخ أصله وبسوق فرعه، لم يلق علم من الضيم ما لقي ذلك العلم، فإنه قد أبان أنّ في هذا العلم دقائق وأسراراً طريق العلـم بها الروية والفكر، ولطائفَ مستقاها العقلُ، وخصائصَ معانٍ ينفرد بها قوم قد هُدوا إليها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام.
وهو من بعد ذلك يبين فضل العلم بالشعر الذي هو ميدان التصوير، وفضل العلم بالنحو الذي هو أساس البناء، ثمَّ يدلف إلى بيان جوهر البلاغة، فيقرر أنه منذ خدم العلم نظر في كلام أهل العلم في معنى البلاغة والفصاحة، فوجد كلامهم ضربين:
الأول: نَهَجَ فيه أصحابه نهج الإيماء والرمز، فهو يدلك على المعنى دلالةَ إشارةٍ وإلاحة.
والآخر: نَهَجَ فيه أهله بيان الموطن دون دلالة على الشيء نفسه؛ حثاً على السعي إليه بنفسك: ((ولم أزل منذ خدمت العلم، أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فـأجد بعضَ ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضَه كالتنبيه على مكانِ الخبيء ليطلب، وموضعِ الدفين ليبحث عنه، فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها …))( ). فهم بين مشير يبعثك على إحالة التلميح تصريحاً، ودالٍ على مكان الشيء دون أن يبينه لك تصريحاً أو تلويحاً.
ثم بيّن أنه قد انتهى من النظر في إشارات من أشَار و أومأ وألاح، ومن النظر فيما دلَّ على المكان فبحث فيه، وانتهى من ذلك إلى أمر ذي شأن؛ انتهى إلى أنَّ المعول عليه في شأن معنى بلاغة الخطاب وفصاحته (أدبيّته) أنَّ ههنا: نظماً وترتيباً وتأليفاً وتركيباً، وأن ههنا صياغة وتصويراً ونسجاً وتحبيراً. وانتهى إلى أن هذه الخصال الثمانية في شأن الكلام سبيلها في شأن الصناعات، إلا أنها في الصناعات حقيقة، وفي الكلام مجاز. فهي قائمة في الصناعات اليدوية على سبيل الحقيقة الفعلية، ولكنها في الكلام على سبيل المجاز، وبرغـم من ذلك فإنّ معيار المفاضلة بين هذه السمات الثمانية في الكلام هو هو عيارها في الصناعات( ).
وأنت إذا ما نظرت في هذه الثمانية ترى أنها بدأت بالنظم وانتهت بالتحبير، وأن الإمام قد نسقها على نحو لم يقع منه في أي موطن من كتابه "دلائـل الإعجاز" ولا غيره، وأنت إذا نظرت في نسقها رأيت في توقيعها النغمي توازناً؛ (نظم وترتيب)، (تأليف وتركيب)،(صياغة وتصوير)، (نسج وتحبير). وهذا النسق ترى فيه تصاعداً يشير إلى منازل هذه السمـات من بلاغة الخطاب، فمبدأ بلاغته: النظم، ومنتهاها: التحبير.
وهذه السمات الثمانية لبلاغة الكلام قسمان، كل قسم أربع سمات، وكل قسم ضربان:
القسم الأول: سمات البناء: النظم والترتيب، والتأليف والتركيب. فالأول والثاني يمثلان درجة الجوار بين عناصر الكلام البليـغ: (علاقة ظاهرية)، والثالث والرابع يمثلان درجة الحوار بين عناصر الكلام البليغ: (علاقة باطنية) القسم الثاني: سمات التصوير: الصياغة والتصوير، والنسج والتحبير. فالأول والثاني يمثلان درجة السبك (صناعة المعـادن) والرسم، والثالث والرابع يمثلان درجة الحبك (صناعة النسيج) والنقش.
البنـاء مبدؤه: "نظم"، ومنتهاه: "تركيب". والتصوير مبدؤه: "صياغة"، ومنتهاه: "تحبير". فالتناسق التصاعدي ظاهر للعيان في جمع وتنفيذ هذه السمات على هذا النحو في ذلك الموضع الفريد، الذي لم يتكرر مثله في أي موطن من كتبه. وهذه السمات الثمانية جامعة لما يعرف بتمام بلاغة الخطاب، ولما به عمود بلاغته، كما سيأتي.
وهو إذْ يشير إلى أنَّ هذا قائم في مقالة العلماء في بيان معنى البلاغة وجوهرها، وكان حقه أن يكون كافياً، فإنه يصرح بأنه قد وجده على خلاف ما حسب، فما يزال كثير في حاجة حوجاء عظيمة إلى تفصيل وتبيين.
وهو يؤكد أنّ الإجمال في تفسير الفصاحة غير كاف في معرفتها، وغير مغن في العلم بها الآن، فشأن الفصاحة شأن الصناعات كلها، فكما أنه لا يكفيك أن يقال لك: النسج هو ترتيب للغزل على وجه مخصوص، وضمّ لطاقات الإبرسيم بعضها إلى بعض على طرق شتى، فإنَّ ذلك لا يوقفك على حقيقة النسج وطريقته، فالأمر كمثله في شأن نظم الكلام وبلاغته( ).
ومن ثمَّ قرر الإمام عبد القاهر ضرورة المنهج التحليلي في شأن العلم بالبلاغة، فهو من أكثر العلوم اقتضاء إلى التفصيل والتحليل، فالبلاغة لا يكفي ((أن تنصب لها قياساً ما، وأن تصفها وصفاً مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون معرفتها في شيء حتى تفصِّل القول وتحصِّل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئاً شيئاً، وتكون معرفتك معرفة الصَّنَعِ الحاذق، الذي يعلم علم كل خيط من الإبرسيم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطَّع، وكل آجُرَّة من الآجُرّ الذي في البناء البديع)).
ويقول في موطن آخر: ((واعلم أنك لا تشفي العلة، ولا تنتهي إلى ثلـج اليقين، حتى تتجاوز حَدَّ العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغـل في مكانه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنـع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشجر الذي هو فيه)). وتحقيق ذلك التفصيل مقتض صبراً جميلاً على التَّأمل، وإدماناً حميداً على التدبر، فإن المطمح نبيل والمستشرف جميل.
وهو إذْ قرر فريضة المنهج التحليلي في النظر البلاغي والنقديّ، يقرر معه فريضة التأويل الموضوعي للسمات البيانية للخطاب، ولا يقنع بالتعليلات والتوجيهات الانطباعية الذاتية التي لا تتولد من رؤية موضوعية لمقومات فصاحة الخطاب. يقول: ((وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل))).
وهو في تقريره فريضة التأويل الموضوعي والإبانة عن العلل يعلم أنه ما كل واحد بالقادر على الوفاء بتمام ذلك، وهذا لا يدعـو إلى أن يترك النظر كليـة لعدم الوفاء بالتمام: ((واعلم أنه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل وجب ترك النظـر في الكل، وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه، وإن قلّ، فتجعله شاهداً فيما لم تعرف، أحرى من أن تسُدَّ باب المعرفة على نفسك وتأخذهـا عن الفهـم والتفهم وتعودها الكسل والهوينـا))
موضوعية التأويل والتذوق تصاحبها ـ عند الإمام ـ قابليتها للإبانة عن ثمارها إبانة تهدي إلى مواطن الجمال وأسبابه.
كأني بالإمام عبد القاهر ناظر بعين ناقدة إلى مقالة "الآمدي" في "الموازنة"، ومقالة القاضي الجرجاني في "الوساطة" في شأن مواقع الكلام في النفس، وأن من الحسن مالا تمكن الإبانة عن أسبابه ومعالمه. يقول الآمدي: ((ألا ترى أنَّه قد يكون فرسان سليمين من كل عيب، موجود فيهما سائر علامات العتق والجودة والنجابة، ويكون أحدهما أفضل من الآخر بفرق لا يعلمه إلاّ أهل الخبرة والدربة الطويلة، وكذلك الجاريتان البارعتان في الجمال المتقاربتان في الوصف السليمتان من كل عيب، قد يفرق بينهما العالم بأمر الرقيق، حتى يجعل بينهما في الثمن فضلاً كبيراً، فإذا قيل له وللنخاس: من أين فضلت أنت هذه الجارية على أختهـا؟ ومن أين فضلت أنت هذا الفرس على صاحبه؟ لم يقدر على عبارة توضح الفرق بينهما، وإنما يعرفه كل واحد بطبعه وكثرة دربته وطول ملابسته. فكذلك الشعر قد يتقارب البيتان الجيدان النادران، فيعلم أهل العلم لصناعة الشعر أيهما أجود إن كان معناهما واحداً وأيهما أجود في معناه إن كان معناه مختلفاً)).
وكمثله يذهب القاضي إلى أنه قد تكون صورتان حسيتان استوفت إحداهما أوصاف الكمال، والأخرى من دونها في انتظام المحاسن وهي أحظى بالحلاوة، وأعلق بالنفس، ((ثم لا تعلم وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت لهذه المزية سبباً ولما خصت به مقتضياً … كذلك الكلام ... تجد منه المحكم الوثيق ... قد هُذِّب كل التهذيب ... ثم تجد لفؤادك عنه نبوة)).
الذي هو أبين عندي أنّ معالم الحسن في البيان درجات: منها ما يبلغ شأناً لا تكاد الألسنة قادرة على الإفصاح عن سببه؛ لعلو قدره وسمو شرفه، فهو مما يتبينه القلب ولا يجد اللسان قدرة على الإيضاح عن تلك الدرجة من الحسن والجمال، أما مادون ذلك فإنها غير مستعصية على التعليل والتبيين معاً. وأنت إذا ما كشفت أسبــاب كثير من درجـات الحسـن، وبقيت منه درجة لشرفها وسموها لا يطاق الإفصاح عنها، فليس ذلك من التذوق الانطباعي في شيء.
والإمام عبد القاهر نفسـه يقع تحت سلطان هذا، فهو لا يعلل أحياناً ولا يبين عن العلة، وأحياناً يحيلنا على ما نجد في أنفسنا من غير أن يضع يده أو أيدينا على معـالم الحسـن وأسبابـه، وهذا ظاهر لمن يتلو كتابيه "الدلائل" و"الأسرار".
المهم أن الإمام عبد القاهر بنى منهجه في الوقوف على ما به تمام بلاغة الخطاب وفصاحتــه (أدبيته/ شعريته)، وما به عمود تلك البلاغة، على التحليل والتفصيل، وعلى التذوق والتأويل الموضوعي، والتحاشي من الانطباع الذاتي غير القائم على معرفة موضوعية.
وإذا ما كان الإمام قد نسق سمات بلاغة الخطاب وفصاحته، كما رآها في مقالة العلماء في معنى البلاغة والفصاحة نسقاً جامعاً بين ما هو محقق لبلاغة الخطاب تمامَها وعمودَه، ولم يرتض الوقوف عند البيان الخفي المجمل، ودعا إلى التفصيل والتبيين في الأمرين معاً؛ فإنه قد بدأ بتفصيل مقومات بلاغة الخطاب، وتبيين الطريق إلى تحقيقها.
مقومات بلاغة الخطاب وفصاحته:
يقول الإمام: ((ومن المعلوم أنه لا معنى لهذه العبارات [معنى البلاغة والفصاحة …] وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة، وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى( )، غيرُ وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها، فيما له كانت دِلالةً( )، ثم تبرجِها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب، وأحقُّ بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رَغْم الحاسد))( ).
فهذه خصال ثلاث لتمام بلاغة الخطاب، هي له مقومات كلية، وهي كما ترى متعلقة بالدلالة، أي: دلالة الكلام على معناه، وليست متعلقة في المقام الأول بالألفاظ من حيث هي، وبالمعاني من حيث هي.
ثم أتبع الإمام ذلك البيان لخصال تمام بلاغة الخطاب ببيان الطريق إلى تحقيقها بقوله: ((ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتيَ المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختارَ له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً ويظهر فيه مزية))( ).
فالطريق جامع بين عنصري الكلام (الدال، والمدلول)؛ فالمدلول/ المعنى له طريق يأتيه البليغ منه {وأتوا البيوت من أبوابها}، وكأنّ الإمام يشير إلى أن ثقافة البليغ بكثرة الرواية والتبصر لطرائق الأئمة في الإبداع إلى معانيهم، والوقوف على مذاهبهم إلى مراداتهم هو المهيع الملحب إلى الوصول إلى المعنى، الذي يراد تصويره وتوصيله، ولولا سلوك تلك المذاهب المطرفة من الأئمة المبدعين، لما تحقق بين الأديب والمتلقي تواصل ولما أمكن المتلقي أن يستدل بملفوظ الأديب على مكنونه.
والدال/ اللفظ لا بد أن يتم اختياره على أسس خمسة:
• أن يكون أخصّ بمعناه، فليس هنالك لفظ يقوم مقام لفظ آخر هو به أخص، فالبيان الأدبي لا يعرف الترادف، بل ولا يعرف التواطؤ.
• وأن يكون اللفظ أكشف عن معناه، بحيث لا يستبقي من خبيات معناه مالا يمكن للأشعة أن تبلغه.
• وأن يكون اللفظ أتم للمعنى بحيث يحيط بكل دقائقه ورقائقه وشوارده وأوابده، فلا يحتاج الأديب إلى غير اللفـظ يتمم به معنــاه من عجز في اللفظ الذي اختار، ومن ثم فليس كل لفظ بالقدير على الإيفاء بحق المعنى المراد.
• وأن يكون اللفظ أحرى بأن يكسب المعنى نبلاً لا يكون له إذا لم يكن هو المعبر عنه، والدال عليه، فكأن في بعض الألفاظ من العطاء الزائد للمعاني ما ليس لبعضها، إما بجرسها أو صيغتها أو موقعها.
• وأن يكون اللفظ أحرى بأن يُظهر في المعنى مزية خبيئة لا تظهر بغيره.
وكأن الأساس الخامس (يظهر فيه مزية) متجاوب مع الأساس الثاني (وأكشف له)، والأساس الرابع: (أن يكسبه نبلاً) متجاوب مع الأساس الثالث (وأتم له)( ).
وهنا يقذف السؤال: أيّ العنصرين مناط بلاغة الخطاب؟ لفظه أم معناه؟ وهذا ما كان مطروحاً عند بعض النقاد بقضية اللفظ والمعنى إلى أيهما تكون الف
قضية اللفظ والمعنى:
تعد قضية اللفظ والمعنى وأيهما مناط الفضيلة والعلاقة بينهما في الإبداع الأدبي من أكثر القضايا حضوراً في نقدنا العربي قديماً وحديثاً، ولم يلتق النقاد الأقدمون والمحدثون على نحو واحد فيها على الرغم من احتدام الحوار حولها.
والعثور على الكلمة الأولى التي ألقيت في تربة هذه القضية وأنبتت تلك الشجرة المعمرة عسيراً أمره، فليس بملكي أن أحدد صاحب الكلمة الأولى فيها، ولكنك تجد مقالات لنقاد في عصور سابقة.
ولعلها ظهرت وأسفرت في أوائل عصر التدوين في القرن الثاني الهجري حيث ترى العتابي: كلثوم بن عمرو (ت: 208هـ) يذهب إلى أن اللفظ جسم وروحه المعنى، وجاء مثل هذا عمن يعرف بإخوان الصفا في رسائلهم (3/109) ولا نعرف زمان ظهورهم. وقد أخذ بما جاء عن العتابي جماعة من النقاد، ورددوا عبارته، على نحو ما نراه عند العسكري في "الصناعتين"، وابن رشيق في "العمدة".
وإذا ما جئنا إلى علم من أعلام هذه القضية: أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (159- 255 هـ) وكان عصريّ العتابي، ونقل عنه بعض آرائه، فإننا نجد الجاحظ يروي مشهداً رآه يوم الجمعة في المسجد، رأى أبا عمرو الشيباني الراوية قد سمع قول الشاعر:
لا تحسبنّ الموت موت البلى فإنما الموت سؤال الرجـال
كلاهــما موت ولكنَّ ذا أشدُّ من ذاك على كل حال
فاستجادهما أبو عمرو، وبلغ من استجادتهما ـ وهو الراوية ـ أنْ كلف رجلاً حتى أحضر قرطاساً ودواة فكتبهما.
يقول الجاحظ معلِّقاً على صنيع أبي عمرو وما أثار عنايته ورغبته في الحفظ والتذكر: ((وأنا أزعم أنَّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض (الغيب/ الفتك/ العيب) لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أبداً))( ).
وفي موطن آخر يقول: ((وربما خيل إليَّ أنَّ أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً؛ لما كان أعراقهم من أولئك الأباء))( ).
ثم ذهب يقول: ((وذهب الشيخ (أي: أبو عمرو الشيباني) إلى استحسان المعاني (أي: التي في هذين البيتين). والمعاني (أي: التي من هذا القبيل) مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير)).
هذا المشهد بسياقه ـ الذي يجب ألاَّ يفهم كلام الجاحظ مقصوماً عنه ـ يهدي إلى أن أبا عثمان الجاحظ إنما أنكر على أبي عمرو استحسانه هذين البيتين لمعناهما، ومعناهما وإن كان في منطق الفضل صحيحاً غير منقوض، لكنه ليس هو بالمعنى الذي أنت غير واجده إلا في الشعر، هو معنى قائم حاضر في غير الشعر، ليس له خصوصية بفن الشعر حتى يحفظ هذا الشعر ويقيد من أجله، فإنه إذا ما ضاع منك الشعر فلن يضيع منك ذلك المعنى الذي أنت مقيد الشعر من أجله، إنه معنى مطروح في الطريق، بخلاف ما أنت واجده في مثل قول عنترة:
وخلا الذباب بها، فليس ببـارح غرداً كفعل الشـارب المترنّم
هزجاً يحك ذراعـــه بذراعه قدح المكب على الزناد الأجذم
فإنك إن لم تقيده لم تجده في غيره، فهو معنى مختص بمثل هذا لا تجده في غير فن الشعر، بل لا تجده إلا في هذا الذي قاله عنترة.
فقول الجاحظ "إنما المعاني مطروحة في الطريق" يحسن ألاَّ تحمل "اللام" في "المعاني" على الاستغراق فتشمل كافة المعاني، فهذه لا يقولها طالب علم، بله الجاحظ، ولاسيما أنه قد جاء على لسانه ما يؤذن بعنايته بالمعنى الشعري، أعني المعنى الذي أنت غير آخذه إلا من الشعر، تراه يقول: ((إنّ المتكلم لا يكون بليغاً حتى يعطي اللفظ حقه في البيان، ويحقق اللفظ من المعنى، ويضع جميعها مواضعها)).
ومن أهل العلم من يذهب إلى أن المعاني المطروحة هي المعاني الكلية أو الأغراض العامة، ومنهم من يذهب إلى أنها المعاني الخاصة غير المصورة.
ونجد عبد القاهر في معرض نقضه استدلال اللفظيين بوصف أهل العلم اللفظ بصفات البلاغة يقول: ((… ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى "اللفظ" على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلةَ إلى "اللفظ" مثل قولهم: "لفظ متمكن غير قلق، ولا نابٍ به موضعه" … فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا "اللفظ"، وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصةَ التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: "وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدويّ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير". وما يعنونه إذا قالوا: "إنه يأخذ الحديث فيشنِّفه ويقرِّطه، ويأخذ المعنى خَرَزَة فيرده جوهرة، وعَباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلاً فيرده حالياً"))( ). فهذا دال على أن المعنى المطروح هو غير مصور، فكل معنى لا يتولد من الصياغة والتصوير الشعري هو معنى مطروح في الطريق تجده في غير الشعر.
الجاحظ لا يستهين بالمعاني من حيث هي، ولكنه لا يرى أن يستحسن الشعر لمعنى ليس خاصاً به، أي: معنى يمكن أن يكون في غيره، إنَّه يجلُّ الشعر عن أن يشارك غيره في العناية بما يقوم به غيره، فإذا ما رأيت شعراً لا يُستحسن إلا لمعنى، ورأيت ذلك المعنى يكون في غير الشعر فلا قيمة لذلك الاستحسان. فالاستحسان لشعر من أجل معناه الذي لا يتولد إلا من رحِمه، فذلك هو الاستحسان الذي يعتد به وبمن صدر عنه.
القضية أن الجاحظ يأبى علينا أن نستحسن شيئاً لأمر ليس هو خاص به، فمناط استحسان كل شيء إنما ما كان به خاصاً، أما ما شاركه فيه غيره، واستُحْسِنَ من أجله فذلك قبح في الاستحسان، وإن كان الذي استحسنته في ذلك الشيء هو في نفسه حسناً.
أيمكن لأحد أن يصم الجاحظ بأنه يهمل المعنى وأنه زعيم مدرسة اللفظيين( )، وهو الذي يؤذن فينا بقوله: ((إذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع، بعيداً من الاستكراه، ومنزّهاً عن الاختلال، مصوناً عن التكليف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة))( ).
ألا تسمعه وقد جعل من روافد الاستحسان شرف المعنى، وشرف المعنى يعني به بلوغ المعنى ذروته في بابه، أي ليس مما هو في الدرك الأسفل أو الذي على طرف التمام، وكل معنى من المعاني، منه ما هو شريف عزيز لا يُنال من كل طامع، ومنه ما هو دانٍ قريب. فالشرف هنا هو علو منـزلة في جنسه، وليس لأنه من جنس ما من المعاني، وهو شرف منـزلة لا شرف جنس ونوع، فالذين يحسبون أنَّ النقاد حين يقولون بالمعاني الشريفة يريدون بها ما كان من معاني ذوي الحسب والمكانة من أهل البيان العالي، لم يكن حسبانهم مصيباً. المعاني الشريفة هي ما قابل المعاني الدانية القريبة، وهي في باب معاني الشعر: المعاني الجمهورية التي تلامسها أنامل العامة والدهماء، وتعيث بها عقولهم. المعنى الذي تجده في بيتي عنترة اللذين سبق إيرادهما هو معنى جد شريف؛ لعلو منزلته، وبعده عن أنامل العامة وعقولهم إبداعاً وفقهاً.
واستمع في هذا ـ إن شئت ـ مقالة أبي تمام:
إليكَ بَعَثْتُ أبكارَ المعــاني
يليها سائقٌ عَجِلٌ وحادي

جوائرَ عن ذُنَابَى القوم حيرى
هواديَ للجماجم والهـوادي

شدادَ الأسْر سالمـةَ النَّواحي
من الإقواءِ فيها والسِّنــاد

يذلِّلُها بذكركَ قرْنُ فِكْــرٍ
إذا حَرَنَتْ فتَسْلَسُ في القيــاد

لها في الهاجس القدْحُ المعلَّى
وفي نظم القـوافي والعِمَـاد

واسمعه يشدو بمدحة أبي الحسين محمد بن الهيثم:
سأجهد حتى أبلغ الشعر شأوه
وإن كان لي طوعاً ولست بجاهد

فإن أنا لم يحمدْك عني صاغراً
عدوك فاعلم أنني غير حامد

بسياحة تنساق من غير سائق
وتنقاد في الآفاق من غير قائد

جلاق تخطوها الليالي وإنْ بدت
لها موضحات في رؤوس الجلامد

إذا شردت سلت سخيمة شانئ
وردّت عزوباً من قلوب شوارد

أفادت صديقا من عدو وغادرت
أقارب دنيا من رجال أباعد

مجنبة ما إن تزال ترى لها
إلى كل أفق وافداً غير وافد

ومحلقة لما ترد أذْن سامع
فتصدر إلا عن يمين وشاهد

ذلك هو المعنى الشريف الذي يشرف ـ يبعد ـ عن أنْ تلامسه أيدي العامة. واسمعه إن شئت قائلاً:
سل مخبرات الشعر عني هل بلت
في قدح نـــار المجد مثل زنادي

لم أبق حلبــة منطـق إلا وقد
سبقت سوابقَها إليـه جيــادي

أبقين في أعناق جـودك جوهراً
أبقى من الأطواق في الأجيـــاد

وحديث "حبيب" عن شعره وصنعته جدير بأن يكون مناط دراسة تحليلية ناقدة، فهو في ظني من أبدع وأمتع من تكلم عن شعره وصنعته. وأظن أن الوقوف عليه أولى من الوقوف على مقالة النقاد في شعره وحدها.
و "حبيب" ليس وحده الذي عني بذلك، فتلميذه "الوليد" معني بذلك، يقول البحتري:
أيذهبُ هذا الدهر لم ير موضعي
ولم يدر ما مقدار حلي ولا عقدي

ويكد مثلي وهـو تاجـر سؤدد
يبيـع ثمينات المكـارم والحمـد

سوائر شعر جـامع برد الـعـلا
تعلقن مَن قبلي وأتعبن مَن بعدي

يقدر فيهـا صـانع متعـمـل
لأحكـامها تقدير داود في السرد

المهم أن المعنى الشريف الذي هو الرافد المقدم للشعر البديع عند الجاحظ، هو ذلك المعنى المتولد من الصياغة البعيدة عن أيدي العامة وعن عقول الدهماء.
ولما كان هذا المعنى الشريف لا يكون إلا من رحم الصياغة الشعرية نرى الجاحظ يقول: ((وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير)).
جعل ما يحقق للشعر استحسانه: "إقامة الوزن" و"تخير اللفظ"، وهل عبارة ذلك إلا المعنى وسياقه؟. وهو الذي يقول: شريف الألفاظ لشريف المعاني وسخيفها لسخيف المعاني، وليست تلك المعاني شريفة من أنها معاني ذوي النسب الشريف، وأن السخيفة معاني مَنْ لا نسب لهم ولا حسب، فهذه لا تقال من أحدٍ ذي حجا.
وفي "سهولة المخرج" إشارة إلى أن تكون الألفاظ سلسة غير متكلفة ولا منتزعة من النفس انتزاعاً.
و"كثرة الماء" تشير إلى نضارة الشعر بحيث يكون دائماً غضاً طريّاً، لا يذبل على طول العهد فيظل عبق الشعر منه فواحاً، فبشار يصف شعره بقوله:
وشعر كنور الروض لاءمت بينه بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
ونجد لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يصف قراءة عبد الله بن مسعود رضى الله عنه القرآن بأنها غضّة طرية، فالماء عنوان الحياة ونضارتها وتجددها.
و"صحة الطبع" تشير في شأن الشاعر إلى قوة الشاعريّة حتى يظل عطاؤه فتياً لا يخبو ولا يخمد، وهذا يأتيه من حسّه وذوقه وشعوره بما لا يشعر به كثير غيره، فصحة الطبع في شأن المبدع غيرها في شأن المتلقي، هي في شأن المبدع قوة الشاعريّة ونفاذ البصيرة فيما حوله دون تكلف وإسقاط. وفي شأن المتلقي صحة التذوق وقوة الحس الأدبي ونفاذه في جوهر النص وفي علاقات مكوناته الأدبية.
و"جودة السبك" تشير إلى متانة النظم وإحكام العلاقات بين مكونات أدبية النص، وهذه الجودة حاملة معنى "الجود": كثرة العطاء واتساعه وامتداده، فالجيد ما ملك مقومات الجود بما يرجى منه، وسمحت به النفس، "فالجيم و الواو والدال" أصل دال على التسمح بالشيء وكثرة العطاء، كما يقول ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة"، والسبك الذي هو التناهي في إنهاء الشيء بحيث يصير كله شيئاً واحداً لا تفاصل بين مكوناته، فجود السبك إنما يكون بالمعنى المتولد منه: المعنى الشعري. ولما كثر استخدام كلمة الجود والجواد والجيد غفلت القلوب عن نبل معناها، ولم تعد تدرك أنّ الإجادة من الجود الذي هو سماح النفس بأفضل العطايا في كثرة واستمرار، ومنه سميت الخيل جياداً.
مما سبق يتبين لك وجه تعليل الجاحظ قصر الاعتداد في الشعر بهذه الخصال الست الذي أشرت إلى شيء من معناه، قائلاً: ((إنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير)).
وهذه الصياغة والنسج والتصوير ليست عقيمة الرحم، بل هي الولود الودود، ونتاجها هو المعنى الشعري الذي غيره مطروح في الطريق، فأنت تجده في غير الشعر، أما المعنى المتولد من الصياغة والنسج والتصوير فذلك المعنى الذي لا تجده إلا في خزائن الشعر الممنعة الحصان.
فهذه الصياغة والنسج والتصوير إنما هي صناعة ـ أي فن لا علم ـ أي: في الشعر خصوصية الفن الفارقة له عن "العلم" الذي هو نتاج عمل الفكر والعقل، الذي لا يعمل إلا في المعاني المجردة، أما "الفن" الذي روحه وجوهره وقوامه هو إشراق الفكرة من خلال الصورة، فهو نتاج عمل القلب ـ الإحساس والطبع ـ. فمن الضلالة أن تُطلب المعاني العقلية والحكم من الشعر الذي هو "الفن"، فمن فعل كان كمثل طالب حقائق العلم من الفن: ضلال في المنهج المسلوك، والمثابة المرجوع إليها، اكتساباً للطَّلِبة والحاجة. ومن الضلالة أيضاً أن تستحسن شعراً لما فيه من معانٍ عقلية وحكم ومعارف أنت واجدها في مظانها الرئيسة.
تلك هي حقيقة موقف الجاحظ من المعنى، إنه غير مستهين به، ولا يحقر طالبه ولا صانعه، ولكنه يأبى عليك أن يطلب الشيء من غير معدنه، وأنْ تَجعل مناط الفضيلة لشيء أمراً هو ليس به مختص، بل قيامه من غيره أولى وأعلى.
وهو أيضاً لا يعلي شأن "الملفوظ اللساني" لذاته، بل يعنى بالصياغة والنسج والتصوير الفني في باب "الشعر"؛ لأن هذه هي معدن المعنى الشعري، وهو ـ أي الشعري ـ نعت تخصيص وتقييد، أي المعنى الذي لا معدن له إلا الصياغة والنسج والتصوير الشعري.
الجاحظ لم يكن متعرضاً لعلاقة اللفظ بالمعنى من حيث هما، ولكنه متعرض لعلاقة اللفظ "الصياغة الشعرية" بالمعنى "الشعري خاصة". أمّا القول بعلاقـة الألفاظ بالمعــاني في طور الوضـع، فلا أظن أن أحداً ذا معرفة وتعقل يقول بتفاصل ولا بتفاضل.
ولو أنك عدت فنظرت في تعقيب الجاحظ على صاحب البيتين اللذين عني بتقييدهما أبو عمرو الشيباني لرأيت أنَّه يؤكد أن صاحب هذين البيتين مسلوب صحة الطبع، وليس له من جوهر الشعر نصيب، وإن كان له من جوهر العلم والحكمة ومنطق العقل المجرد نصيب. هو صاحب معان عقلية مطروحة في الطريق، خارجَ حِمَى الشعر المنيع، فقير معدم من المعاني الشعرية الوليدة صنعة الفن، ومن ثَمَّ فإنه لن يقول شعراً أبداً، ولن يورث أبناءه شعراً، ففاقد الشيء لا يورث أحداً.
تلك هي حقيقة موقف أبي عثمان الجاحظ، وهي تبين لك أني غير ذاهب إلى ما ذهب إليه إحسان عباس في هذا، يقول أعزَّه الله تعالى: ((كل ما أراده الجاحظ من هذا القول "إنما الشأن …": تأكيد نظرية في الشكل، وأنَّ المعول في الشعر إنما يقع على إقامة الوزن … وبهذا التحيز للشكل قلّل الجاحظ من قيمة المحتوى، وقال قولته التي طال تردادها: "والمعاني مطروحة"))( ).
ويعلل إحسان عباس اتجاه الجاحظ ـ في زعمه ـ إلى الشكل بأسباب منها:
• عدم متابعة أستاذه النظام في القول بـ"الصرفة"، وأنه عامد إلى القول بالنظم، ومن آمن بأن النظم حقيق برفع البيان إلى مستوى الإعجاز، لم يعد قادراً على أن يتبنى نظرية تقديم المعنى على اللفظ.
• أنَّ عصر الجاحظ كان يشهد بوادر حملة عنيفة يقوم بها النقاد لتبيان السرقة في المعاني بين الشعراء، ولا نستبعد أن يكون الجاحظ قد حاول الردَّ على هذا التيار مرتين: مرة بألا يشغل نفسه بموضوع السرقات كما فعل معاصروه، ومرة بأن يقرر أنَّ الأفضلية للشكل؛ لأن المعاني قدر مشترك بين الناس جميعاً.
• سبب قائم في طبيعته: كان رجلاً خصب القريحة، ولا يعيبه الموضوع، ولا يثقل عليه المحتوى أيا كان لونه؛ ولذا فإنه كان يحس أنّ المعنى موجـود في كـل مكان، ومـا على الأديب إلا أن يتنـاوله ويصوغه صياغة متفردة( ).
في ضوء الذي بينته وبسطت فيه القول يتبين لك أنَّ إحسان عباس يتحدث عن المعاني غير الشعرية، ولا يتكلم عن موقف الجاحظ من المعنى الشعري الذي هو مستولد من الصياغة والنسج والتصوير الشعري.
وإذا كان الجاحظ ناقداً أدبياً لا يعتد إلا بهذا المعنى الشعري الذي لا تجده إلا في رحم الصياغة والنسج والتصوير الشعري، فكيف ينقد موقفه من المعاني المطروحة في الطريق؟ ما علاقة الناقد الأدبي بغير المعنى الشعري وما يتولد منه؟. وإذا كان الجاحظ قد جعل الشأن في الصياغة والنسج والتصوير الشعري، فذلك لأنها هي الحاملة في رحمها المعنى الشعري، هي عناية بالمعدن من عناية بالجوهر.
فقول إحسان عباس إن الجاحظ قلل من قيمة المحتوى غير دقيق، لأن محتوى الشعر الذي هو شعر هو المعنى الشعري، ولن يستطيع أحد اتهام الجاحظ بذلك، لأن عشرات المقالات في "البيان والتبيين" وغيرها صارخة في وجه المتهم بالضلالة، وفي مقدمتها مقالته في بيتي عنترة.
وتعليل إحسان عباس بأن قول الجاحظ بأن القرآن الكريم معجز بنظمه دفعاً لمقالة النظام بالصرفة، وأن من يقل بأن النظم هو المحقق الإعجاز لا يقتدر على أن يذهب إلى تقديم المعنى، إنما هو تعليل غير دقيق؛ لأن النظم الذي هو عمود الصياغة والنسج والتصوير البياني هو الذي يتولد منه المعنى القرآني، ولن يستطيع أحد أن يقول إنَّ المعنى القرآني مطروح في الطريق وإن الشأن للنظم، أيقولها عاقل ؟ القول بالإعجاز النظمي حال في جوهره أن معاني القرآن معجزة، إذ هي مستولدة من رحم النظم. وإذا قيل إن الله عزّ وجل لم يتحدَّ الثقلين بمعاني القرآن؛ لأنه قال في سورة "هود": {بعشر سور مثله مفتريات}، وأهل العلم على أنها سور ليست معانيها من معدن الحق والهدى الذي هو معدن معاني القرآن، بل من معـدن معـاني الشعر القائمة على التخيل والهيام في كل واد.
إذا قيل، فإنّ ثَمَّ ما هو غائم في هذا: القرآن الكريم في هذه المرحلة من مراحل التدرج في التحدي أخرج المماثلة في المعنى من التحدي، والمماثلة هنا في أمر معين هو أن تكون معاني حق وهدى. ولكنه لم يقل إنها سور نظمها عقيم من أيِّ معنى، وإلا فماذا يكون النظم؟ أرأيت بياناً منظوماً هو الخلاء من أيِّ جنس من أجناس المعاني ؟! دُلَّني عليه! إلاَّ أن يكون سمادير الثمالى، وهل ترى تلك السمادير نظماً؟.
فالقرآن تحدى بأن يأتوا بعشر سور ذات نظم كنظم القرآن، وإن لم يكن جنس المعاني الذي في رحم النظم المأتي به من معدن الحق والهدى، الذي هو معدن المعاني التي في رحم النظم القرآني. فالقول بأنّ القول بالإعجاز النظمي للقرآن يمنع القائل به من تقديم المعنى على اللفظ قول مردود على قائله، وكل يؤخذ منه ويرد عليه خلا النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا شيء، وآخر: أنّ القول بأن الجاحظ مقدم اللفظ على المعنى، أو المعنى أيّاً كان على اللفظ، هو في نفسه غير حقيق. الجاحظ لم يقدم شيئاً على شيء، هو يقدم الصياغة الشعرية وما تولد منها من معان شعرية في باب نقد الشعر على المعاني العقلية غير الشعرية، أي: التي لم تتولد من الصياغة، فهو إذن لم يقدم شيئاً من مكونات الشعر على شيء آخر من مكوناته. هو يقدم مكونات الشعر: صياغة فنية ومعنى شعرياً متولداً منها على شيء ليس من مكونات الشعر، وليس من رحمه ولا جنسه، بل هو من رحم العقل وجنسه.
وببيان ما في العلة الأولى من كلام إحسان عباس يتبين لك ما في العلة الثانية والثالثة عنده من مجانبة الصواب؛ لأنهما بنيا على أنّ المفاضلة بين شكل خواء من أي معنى، وبين معنى ليس من جنس الشعر . فالمعاني التي هي قدر مشترك بين الناس جميعاً، ما شأنها بالشعر؟ وما شأن الجاحظ الناقد وكل ناقد أدبي بها؟
المعنى الموجود في كل مكان ما شأن النقد الأدبي به وما بال أهله يحملون على أنفسهم البحث عنه في الشعر؟ والشعر صعب، طويل سلمه.
الأمر كما ترى غير دقيق، وما بينته من قبل هو القائم في موقف الجاحظ، المؤذِّن في الناس بالحج إلى الشعر، إذا ما أردنا معنى شعرياً لا يكون إلاّ من رحم الشعر، وإلا فمن حمل فوق نفسه، وأحرم من ميقاته إلى حرم الشعر، يبتغي حصى وحجراً من بطحاء "منى" الشعر، فإنّ الحصى والحجر في كل مكان، وليس بالمقصور على بطحاء "منى" القصيد.
-----------------------
إذا ما كان ذلك شأن الأمر في الخطاب النقدي عند الجاحظ، وهو رائد من روَّاد النقد العربي، فإني متجاوز حقباً من حياة تلك القضية، عاشتها خلال المنتصف الثاني من القرن الثالث الهجري حتى منتصف القرن الخامس الهجري، بتجاوز تلك الحقبة إلى الإمام عبد القاهر لتقف على موقفه من تلك القضية.
ولج عبد القاهر معترك تلك القضية في السياق المعرفي في عصره، وثَمَّ من يتنادى في طلاب العلم بأن بلاغة الخطاب في لفظه، وعلى الشاطئ الغربي من يتنادى في طلاب العلم عنده أن بلاغة الخطاب في معناه. فكان فريضة لازمة على مثله ألاّ يبيع ذوقه وعقله لأيٍّ منهما، وأن تكون الموعظة النبوية: ((لا يكن أحدكم إمعة …)) قائمة بين عينيه، بل مغروسة في فؤاده، ولسان حاله يقول: سمعنا وأطعنا.
من هنا ولج الإمام معترك القضية: أيهما مرجع بلاغة الخطاب وأدبيته؟. ومن قبل أن ألج في تبيان صنيع الإمام في ذلك المعترك أحب أن يتبين شيء:
أيمكن أن يحسب حاسب أنّ الطائفة التي تقول إن مناط فضيلة الخطاب بلاغةً هو لفظه ما تتلقاه( ) منه الآذان، وليس لما تتلقاه القلوب قيمة في هذا الميدان؟
وأيمكن أيضاً أن يحسب حاسب أن الطائفة التي تقول إن مناط فضيلة الخطاب بلاغةً هو معناه ما تتلقاه منه القلوب، وليس لملفوظه وقرى الآذان قيمة في هذا؟
أيمكن أن يكون في طبقة أهل العلم وطلابه من يمكن أن يقولها؟
إن يكن، فلا أظن أنه أهل لأن يعتد بقوله، ولا أن يلقى لقول مثله بالاً!
ما الأمر إذن؟
الأمر أنّ من يقول مناط بلاغة الخطاب: صياغته ونسجه وتصويره (لفظه)، إنما يريد أن هذه هي التي يؤخذ من رحمها المعنى الشعري، الذي هو طِلَبةُ كل باحث في الشعر. فلما كان اللفظ هو معدِن ذلك المعنى، قيل إن بلاغة البيان في ذلك اللفظ الذي فيه ذلك المعنى، فهم ينظرون إلى المعدن الذي فيه الجوهر، وإنْ كانت العناية بالجوهر، وما المعدن في نفسه خواء من جوهر بذي قدر.
ومن يقول مناط بلاغة الخطاب: معناه الشعري، أي أنه هو الطِّلَبة ومنتهى الغاية ومطمح البصر، فالجوهر أحق بأن يكون مناط الوصف لا المعدن، وإن كان المعنى الجوهر لن يوجد إلا في ذلك المعدِن أبداً. فلا تفاصل، وإن كان الجوهر هو القمين بالوصف.
الخلاف ليس جوهرياً، ولاسيما أنه لن يكون معنى شعري ألبتة إلا من خلال الصياغة والنسيج والتصوير الشعري. ولا يكون صياغة ونسج وتصوير خواءً من المعنى الشعري. فمن وصف اللفظ/ الصياغة لأنها المعدن ـ ويلزم لزوماً لا ينفك وصف الجوهر ـ فكأنه يرى أنّه من قبيل إثبات المعنى/ الوصف بطريق المجاز وعلاقته المحلية. ومن وصف المعنى الشعري لأنّه الجوهر ـ ويلزمه أيضاً لزوماً لا ينفك وصف المعدِن الذي لا يكون الجوهر إلا فيه ـ فكأنه يرى أنه من قبيل إثبات المعنى/ الوصف بالبلاغة للصياغة بطريق المجاز وعلاقته الحالية/ اللازم، فالمعنى حال في الصياغة ولازم لها، والصياغة محل المعنى وملزومه.
ومن أراد أن يقول اللفظ ولا سواه، أو المعنى ولا سواه، قاطعاً النظر عن العنصر الآخر، فذلك إنْ كان، فلا أخاله من أهل العلم الذين يؤخذ منهم أكثر مما يرد عليهم، بل من الذين يرد عليهم أكثر مما يؤخذ منهم، إنْ كان من أهل العلم بنقد الشعر، وإلا فهو ممن يرد عليه ولا يؤخذ منه في هذا.
من بعد الذي أبنته ألج في تبيان موقف الإمام عبد القاهر الجرجاني في تلك القضية. وما جاء من آراء الإمام يمكن أن يصنف صفوفاً ثلاثة: آراء تبين حقيقة موقفه، وآراء يدل ظاهرها على أنه ينسب الفضل للألفاظ، وآراء يدل ظاهرها على أنه ينسب الفضل للمعاني.

بلاغة الخطاب في تأليفه وما يخرج من تأليفه:
إذا ما كان "اللفظ" هو ما يقذفه اللسان من الأصوات المنظومة الموضوعة رمزاً على ما هو قائم بالصدور، وما هو قائم بين العيون من المحسوسات الشهودية، فهذا اللفظ في حال إفراده لا شأن للبليغ به إلا شأن علم بما وضع إزاءه، وجعل رمزاً عليه، ودليلاً متعيناً إليه. يقرر هذا عبد القاهر بقوله: ((اعلم أنَّ ههنا أصلاً أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر، وهو أنَّ الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما فوائد. وهذا علم شريف، وأصل عظيم))( ).
فالألفاظ في وجودها اللغوي لا قيمة لها في نفسها من حيث هي، ومن ثم لا تكون مناط فضيلة، ولا تكون قابلة لاستحسان أو استهجان، فكل لفظ دال على معنى، له مقامه الذي يحسن فيه، ومقامه الذي يقبح فيه، وشأن اللفظ في عالم البيان شأن المرء في عالم الإنسان، قيمته في سياقه وعلاقاته الاجتماعية بإخوانه، على قوانين الشريعة وأصولها ومناهجها التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخلّ بشيء منها. فالأمة الإسلامية هي النص، وعمود جمالها وبلاغتها هو الشريعة، ونحن مفرداتها. والله لا ينظر إلى صورنا وأجسامنا، ولكن إلى أعمالنا وعلاقاتنا الاجتماعية، وأخذنا بقوانين ورسوم ومناهج الشريعة (نظم النص)، التي هي معاني الوحي/ النحو، فالدين المعاملة كما تقضي الموعظة النبوية، تعادلها أو تنبثق منها النظرية الجرجانية: البلاغة العلاقة. فبلاغة كل عنصر من عناصر البيان في علاقته بجيرانه في إقامة النص، مثلما بلاغة/ جمال المسلم في علاقته بإخوانه في إقامة الأمة المسلمة/ النص.
أساس بيان لسان العربية وجماله من أساس جمال الأمة المسلمة وعزها. بلاغة الخطاب في تأليف عناصره وما يثمره ذلك التأليف، وبلاغة الأمة/ النص وعزّها في علاقات أبنائها ومعاملتهم على قانون شريعتها، ومعاني الوحي/ النظم، ومعاني النحو التشريعي.
ذلك أساس بلاغة الخطاب ولذا لا يملُّ الإمام عبد القاهر من ترديد ذلك وتصريف اللسان عنه، لأنه أصل عظيم. يقول في مفتتح "دلائل الإعجاز": ((قد علم أنَّ الألفاظ مغلقة على معانيها، حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأنَّ الأغراض كامنة فيها، حتى يكـون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانـه حتى يعرض عليه ، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقم حتى يرجع إليه، لا ينكر ذلك إلا من ينكر حسَّه، وإلا من غالط في الحقائق نفسه))( ). فالإعراب عن العلائق بين عناصر الخطاب هو مناط الفضيلة وهو المعيار والمقياس الذي يتبين به الفضل.
ويقرر أن الكلمات قبل دخولها التأليف( ) لا يتصور أن يكون بين كلمتين تفاضل في الدلالة على ما وضعت كل كلمة بإزائه وما تعينت له وضعاً: ((حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به … وحتى يُتصور في الاسمين يوضعان لشيء واحد، أن يكون هذا أحسنَ نبأ عنه، وأبين كشفاً عن صورته من الآخر ... وهل يقع في وهم أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد؟ وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟))( ).
ويقول في مفتح "أسرار البلاغة": ((ومن البيّن الجليّ أن التباين في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة ليس بمجرد اللفظ. كيف؟ والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خـاصاً من التأليـف، ويعمد بها إلى وجهٍ دون وجهٍ مـن التركيب والترتيب …))( ).
فالتأليف الذي هو إقامة علائق الألفة بين الكلم، وهي علائق ليس مناطها أصوات الكلم، فهذه تشاكل لا تآلف، بل هي علاقات جُوّانيّة روحانية بين الكلم، أي: علائق في معاني نحوها، لا المعاني الوضعية لها: ((الأرواح جنود مجندة …)) الحديث. هذا التأليف بين معاني الكلم هو مناط الفضيلة؛ لأنه من هذا التأليف يكون المعنى البياني، لا المعنى الإفرادي الوضعي للمفردات، والمعنى البياني هو الضالة المنشودة والبغية المرغوبة.
عبد القاهر يؤكد أن مرجع الفضيلة والمزية ليس إلى اللفظ في شكله وصوته، ولا في ما دلَّ عليه من معنى متعين وضعاً، ولا في دلالة ذلك الملفوظ اللساني على ذلك المعنى القلبي، فكل ذلك ليس فيه مصنعاً ولا اختياراً، وليس للمتكلم دخل فيه، وكل ما ليس فيه مصنعاً واختياراً لا تجد فيه فضيلة ولا تفاضلاً. يقول: ((لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعاً، وحتى تجد إلى التخير سبيلاً، وحتى تكون قد استدركت صواباً … فليس دَرَكُ صوابٍ دركاً فيما نحن فيه، حتى يَشْرُفَ موضعه، ويصعبَ الوصولُ إليه، وكذلك لا يكون تَرْكُ خطأ تركاً حتى يحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضل روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ …))( ). دلّ ذلك كله على أن مناط بلاغة الخطاب وأدبيته إنما هو تأليف عناصره، ليتولد من ذلك التأليف معنى بياني، هو الغاية والبغية.
وإذا ما استبان أنّ الإمام لا يرجع بلاغة الخطاب إلى الألفاظ من حيث هي، ولا إلى المعاني من حيث هي، وإنما إلى تأليف الكلام وعلاقات عناصره وما يتولد منها. فإنّ ثَمَّ مقالات متناثرة في كلامه، قد يُحسب من ظاهرها أنه يرجع بلاغة الخطاب إلى اللفظ وحده، أو المعنى وحده. وذلك الحسبان لا يقع فيه المرء إلا إذا أخذ بعض الكلام وترك بعضه، ومن أحاط بكلام الإمام عَلمَ علم اليقين أن الإمام حين يقول عن تعليق الجاحظ مثلاً على موقف أبي عمرو الشيباني من البيتين: ((فأعْلَمك أنّ فضل الشعر بلفظه لا بمعناه …))( )، فإنه ينبغي ألا يفهم هذا مقطوعاً عن قوله: ((… وجب أن نعلم قطعاً وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا الفصاحة في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ، فإنهم لم يجعلوها وصفاً له في نفسه، ومن حيث هو صدى ونطق لسان، ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم في المعنى؛ لأنه إذا كان اتفاقاً أنها عبارة عن مزية أفادها المتكلم، ولم نره أفاد في اللفظ شيئاً، لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزية أفادها في المعنى. وجملة الأمر أنا لا نوجب "الفصاحة" للفظ مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ومعلقاً معناها بمعنى ما يليها …))( ).
وعن قوله( ) في شأن القائلين بأن بلاغة الكلام في لفظه: ((وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة، وضعوا لأنفسهم أساساً، وبنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث، وإنه إذا كان كذلك وَجَبَ ـ إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرضَ من صاحبه ـ أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث إن ذلك، زعموا، يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايراً وغير متغاير معاً. ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى "اللفظ" على ظاهره، وأبَوا أنْ ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ، مثل قولهم "لفظ متمكن …"، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا "اللفظ" وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: "وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق … وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير"، وما يعنونه إذا قالوا: "إنه يأخذ الحديث فيشنِّفه ويُقرِّطه، ويأخذ المعنى خرزة فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلاً فيرده حالياً"))( ).
فهذا دال دلالة بينة على أن اللفظ الذي ترجع إليه الفضيلة إنما هو صورة المعنى، وهي صورة لا تكون من أصوات الألفاظ وأشكالها، ولكن أساسها معاني هذه الألفاظ والعلاقات الروحية القائمة بين معانيها، وهي ما يطلق عليه الصياغة والنسج والتصوير. فاللفظ الفصيح البليغ عنده هو الصياغة والنسج والتصوير.
وكذلك إذا ما جاء عنه قوله: ((قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية، وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك …))( ). وقوله: ((واعلم أن الداء الدويّ، والذي أعيى أمره في هذا الباب: غَلَطُ مَن قدم الشعر بمعناه، وأقلّ الاحتفــال باللفظ …))( ).
فهذا ظاهره التعارض، ولكن الشيخ يريد أولاً بالمعنى الذي هو مناط الفضيلة: المعنى المصور، الذي هو نتاج الصياغة والنسج والتصوير، وهو المعنى غير المطروح في الطريق. وهذا يسمع قوياً في قول الإمام: ((… إنَّ ههنا أصلاً … وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي، كالخاتم والشنف والسوار فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلاً ساذجاً لم يعمل صانعه فيه شيئاً أكثر من أنْ أتى بما يقع عليه اسم الخاتم، إنْ كان خاتماً، والشنف، إنْ كان شنفاً، وأنْ يكون مصنوعاً بديعاً قد أغرب الصانع فيه. كذلك سبيل المعاني أنْ ترى الواحد منها غفلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصنع الحاذق، حتى يغرب في الصنعة ويدق في العمل ويبدع في الصياغة))( ).
فهذا من الإمام كاف في أنّ المعنى الذي ترجع إليه الفضيلة هو المعنى المصور المستولد من الصياغة والنسج والتصوير، وأن المعنى الأولي غير المصور معنى مطروح في الطريق لا تفاضل فيه. ويؤكد ذلك الفصل الذي عقده للموازنة بين المعنى المتحد واللفظ المتعدد، تجده مقرِّراً أن التفاضل في المعاني المصورة وفي الصياغة، وليس في المعاني الأولية غير المصورة والأغراض الكلية، ولا في الألفاظ التي لم تحدث فيها صياغة ونسج فني.
يقول الإمام: ((قد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشـاعرين فيه قد قالا في معنى واحد [أي غرض] وهو ينقسم قسمين:
قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجاً، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب.
وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوَّر.
وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلا وفي الآخر مصوراً مصنوعاً، ويكون ذلك إمّا لأنّ متأخراً قصَّر عن متقدم، وإما لأن هُدِي متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم …))( ).
ومن بعد ذكر الأبيات لهذا القسم يقول: ((ذِكْرُ ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويراً وأستاذية على الجملة))( )، ويورد أبياتاً عدة لهذا القسم. ثم يأتي في الموازنة بين بيت للنابغة وآخر لأبي نواس، فيحكي خبراً عن المرزباني، قائلاً: وحكى المرزباني، قال: حدثني عمرو الوراق قال: رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها:
"أيها المُنْتَابُ عن عُفُرِه"
فحسدته، فلما بلغ إلى قوله:
تتأيّى الطيرُ غدوته ثقةً بالشِّبْع من جزره
فقلت له: ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول: "إذا ما غدا بالجيش"، البيتين، فقال: اسكت، فلئن كان سبق، فما أسأت الاتباع.
ويعلق عبد القاهر على هذا الخبر قائلاً: ((وهذا الكلام من أبي نواس دليل بين في أن المعنى يُنقل من صورة إلى صورة، ذلك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئاً، لكان قوله: "فما أسأت الاتباع" محالاً؛ لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ، ثمّ إنَّ الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أنَّ هاهنا معنيين:
أحدهما: أصل، وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدواً كان الظفر له، وكان هو الغالب.
والآخر: فرع، وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى.
وقد عمد النابغة إلى الأصل … فذكره صريحاً، وكشف عن وجهه، واعتمد في الفرع … على دلالة الفحوى، وعكس أبو نواس القصة [أي الطريق إلى المعنى] فذكر الفرع … صريحاً، فقال كما ترى: "ثقة بالشبع من جزره"، وعوَّل في الأصل … على الفحوى. ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح، هي في أن قال: "من جزره"، وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح، حتى تعلم أن الظفر يكون له. أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة؟))( ).
ومن بعد فراغه من إيراد ما تباينت فيه صور المعاني يقول: ((فانظر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه، فإنك ترى عِياناً أنّ للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر، وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا: "إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك": أنّ الذي يعقل من هذا لا يخالف الذي يعقل من ذاك، وأن المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأول، وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه، وأن حكم البيتين مثلاً حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحدٍ، كالليث والأسد، ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد، ثمّ يفترقان بخواص ومزايا وصفات كالخاتم والخاتم، والشنف والشَّنف، والسوار والسوار، وسائر أصناف الحليّ التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل …))( ).
((واعلم أنّ قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل و قياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبيّن إنسان من إنسان، وفرس وفرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبين خاتم من خاتم، وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً، عبَّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك …))( ).
فهذا دال دلالة باهرة في أنّ مناط بلاغة الخطاب في معناه المصور المستولد من الصياغة والنسج والتصوير. ويزداد الأمر جلاء وتأطيداً بقول: ((ومعلوم أنّ سبيلَ الكلام سبيلُ التصوير والصياغة، وأن سبيلَ المعنى الذي يعبر عنه سبيلُ الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يُصاغُ منهما خاتم أو سوار، فكما أنّ محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة. كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه، وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم، بأن تكون فضة هذا أجود، أو فصّه أنفس، لم يكن تفضيلاً له من حيث هو خاتم. كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتاً على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام. وهذا قاطع، فاعرفه))( ).
فلم يبق بعد هذا البيان القاطع إلا أن يخلص الأمر في أن الألفاظ من حيث هي ليست مناط الفضيلة، وإنما هي مناط الفضيلة حين تسند إليها إذا كانت صياغة ونسجاً وتصويراً. من رحمها يخرج المعنى الشعري/ البياني، وأن المعاني من حيث هي ليست مناط فضيلة، بل هي مناطها حين تكون معنى مصوراً مستولداً من الصياغة والنسج والتصوير الفني، فالمعاني لا تستحسن إلا بمقدار ما فيها من تصوير. أما أنها حكمة وأدب خلقي ومعرفة عقلية غريبة نادرة، فذلك لا يقال. وكذلك استحسان لفظ لا يكون إلا بما كان له من أثر في تصوير المعنى، وما كان عاجزاً أو ضعيفاً في هذا فليس له من الفضل نصيب. وقد أكّد الإمام هذا الأصل، وهو: أن استحسان الألفاظ إنما يكون من أجل ما له من أثر في تصوير المعنى، تصويراً يفوق به ما جانسه من المعاني، وقرّر في مفتتح "أسرار البلاغة" ذلك، وبين أنّ المثل الأعلى في استحسان الألفاظ فيه الجناس والسجع، وبين بياناً شافياً أن ذلك وما ضَارعه لن يحوز الفضيلة إلا بما له من أثر في تصوير المعنى. وكلامه في هذا ظاهر لا يخفى. بل قد ذهب إلى أن ترك الجناس والسجع في بعض المعاني والمقاصد يوقع عقوقاً بالمعنى، وإدخال الوحشة عليه، فيكون قبح الترك حينذاك كمثل تكلف الإتيان به حين لا يقتضيه المعنى( ).
وإذا كان الإمام مقرِّراً أن الفضيلة لا تكون إلا في المعنى المصور، ولا تكون إلا في الصياغة المستولد منها ذلك المعنى، فهل معنى ذلك أنه يجرد اللفظ الذي هو عنصر الصياغة، فتكون كلمة "مرآة" كمثل كلمة "سجنجل" تحسن هذه في موضع حُسْن تلك، حتى تحقق التأليف الخاص والتركيب والصياغة؟
واقع حال موقف الإمام عبد القاهر من الألفاظ المفردة بين جلي، وصريح سافر في موطن من الدلائل، وخفي دفين في آخر منه.
يقول الإمام: ((واعلم أنَّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلاً فيما يوجب الفضيلة وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز، وإنما الذي ننكره ونُفيِّل رأي من يذهب إليه أن يجعله [أي البيان القرآني] معجزاً به [أي مذاق الحروف وسلامتها] وحده، ويجعله الأصل والعمدة …))( ).
وهذا الذي قاله الإمام جلي قويّ لا يتوقف فيه ذو حجا. وهو يقرر في موضع أسبق أنَّه لا يمنع ((أن يكون تلاؤم الحروف وجهاً من وجوه الفضيلة، وداخلاً في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة))( ). ولكنه يمنع أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا تعرج على غيره، فدل هذا دلالة بينة على أن لاختيار اللفظ المفرد من حيث صوته وجرسه منـزلة في الفضيلة، ولكنها ليست هي عمود الفضيلة وجرثومتها.
وأنت إذا ما عدت إلى مقالة له من قبل هذا في تبيان خصال تمام بلاغة الخطاب، التي هي حسن دلالة الكلام وتمامها ثم تبرجها في صورة بهية معجبة، رأيته يجعل طريق تحقيق هذه الخصال جانب منه من اختيار اللفظ الذي هو أخص بالمعنى وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلاً ويظهر فيه مزيّة. ومن العناصر المحققة للفظ هذه السمات الخمس ما يرجع إلى صوته وجرسه ومعناه الوضعي المتعين، فلولا تلك الفروق التي بين "جلس" و"قعد"، وبين "قام" و"وقف" لما كان اللفظ أخص بالمعنى وأكشف …
وهذه العناصر القائمة في اللفظ: جرسه ومعناه الوضعي المتعين وصورته، لا تعمل وحدها ولا تحقق السمات الخمس بمفردها بل بما لها من علائق التآلف بين بقية الألفاظ. فكما أن الوجوه والفروق التي تكون في الكلام من معاني نحوه ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض، يكون الأمر كمثله في شأن اللفظ المفرد من حيث صوته ومعناه الموضوع المتعين ليست مزيته بواجبة له من حيث هو على الإطلاق، بل بسبب موقعه والوجوه والفروق في العلاقات، بالإضافة إلى ما ترجع إليه مزايا الوجوه والفروق النظمية.
ومن ثم يكون لدينا مستويان بشأن الألفاظ:
• الأول: في اختيار الألفاظ من قبل التأليف. هذا الاختيار يقع في ما يكون لها من سمات صوتية ومعنوية متعينة (المعنى الإفرادي) كالفرق بين "الخوف" و"الخشية"، و"جلس" و"قعد"، و"أعطى" و"آتى" … وهذا لا تكون مزيته إلا بحسب الموقع والعلاقات.
• والآخر: في اختيار الوجوه والفروق النظمية في معاني النحو التي هي العلائق بين معاني الألفاظ في حال التأليف، هذا الاختيار يقع في ما يكون لها من علاقات، ولا تكون مزية إلا بحسب المعنى والغرض الذي يوضع له الكلام، ثم بحسب موقع بعض الوجوه والفروق من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.
فههنا معياران أو مرجعان للمزية:
• مرجع لمزية في اختيار المفرد قبل التأليف، هو الموقع والعلاقة، ففي قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، اختيار "يخشى" على "يخاف" مرجعه موقع الفعل وعلاقاته بعناصر الجملة.
• مرجع لمزية في اختيار وجه نظمى في سياق التأليف هو الغرض الذي يوضع له الكلام … ففي قوله: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيّه المؤمنون} [سورة النور]، اختيار "توبوا إلى الله جميعاً" على قوله "توبوا إلى الله توبة نصوحاً"، وتقديمه على النداء ـ مرجعه الغرض والسياق الذي نصب له الكلام، وموقع الأمر من النداء واستعماله معه دون النهي مثلاً، وذلك في حق "المؤمنين"، واستعماله مع "أيّه" دون "يا أيها"، ومع "المؤمنين" دون "الذين آمنوا".
هكذا يتضح موقف الإمام من مرجع المزية إلى ألفاظ الخطاب أم معانيه. مثلما اتضح بيانه مقومات تمام بلاغة الخطاب و أدبيته، ليبقى أمامنا بيانه عمود بلاغة هذا الخطاب وإتمامها وكمالها في النظم.

عمود بلاغة الخطاب: النظم
إذا ما كان قد اكتفى ببيان مقومات تمام بلاغة الخطاب الثلاثة، والطريق إلى تحقيقها في موطن واحد من كتابه "دلائل الإعجاز"( )، فإن الأمر على خلافه بشأن تفصيل وتبيين عمود بلاغة الخطاب، فإنك واجده قد عمد إلى تكرير وتصريف البيان عنه في مواطن عديدة من "الدلائل"، مما قد يحسب حاسب أنّ في الأمر اضطراباً في تأليف الكتاب ونسقه، وأن كلامه عنه في موطن مغن عن بقية كلامه في سائر المواطن الأخرى.
والأمر في هذا أجْملُ به الرَّيثُ ـ فإنَّ من منهج البيان القرآني أنه يكثر من التصريف البياني للشيء الرئيس من أمر الإسلام، ويذكره مصرفاً في مواطن عديدة من القرآن الكريم كمثل ما تراه في شأن "التوحيد" هو عظيم تصريف البيان عنه، بل تكاد تراه حاضراً ـ تصريحاً وتلويحاً ـ في أغلب آيات الذكر الحكيم يدرك ذلك أهل الفراسة البيانية، وما ذاك إلا من عظيم شأن التوحيد، فهو عمود الدين وأساسه، وبغيره لا قيمة لأي شيء وإن كان في نفسه جليلاً.
كذلك النظم أو مناهج البناء في بلاغة الخطاب قد أطبق العلماء على تعظيم شأنه كما يقول الإمام عبد القاهر فبتّوا ((الحكم بأنه الذي لا تمام دونه،ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال)) ( ). ومن ثمَّ نجد الإمام لا يكف عن التذكير به وتصريف البيان عن مفهومه ومجالاته وأهميته في عمود بلاغة الخطاب.
وهو يفرق بين ضربين من النظم: نظم الحروف في الكلمة، ونظم الكلمات في الكلام. نظم الحروف في الكلمة ضرب من توالي الحروف في النطق، وليس ذلك التوالي في النطق له علاقة بمعنى الكلمة الذي دل عليه نطقها دلالة مباشرة . فواضع اللغة ـ عند الإمام ـ لو قال مكان "ضرب" الدال على حدث معين واقع من فاعل له قولَه "ربض"، وجعله هذه الصورة من ترتيب الحروف في النطق دالة على عين ما دلت عليه "ضرب" لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد. وكأنه يذهب إلى أنَّ وضع الألفاظ بصيغتها التي هي عليها إزاء ما تدل عليه من المعاني ليس وضعاً موضوعياً مرتبطاً بعلاقة حروف اللفظ بمعناه، فهو وضع عرفي اعتباطي، فالكلمة رمز دال على المرموز، وليس بينهما علاقة.
وكأني به يرمي إلى الردّ على أبي الفتح عثمان بن جني الذاهب إلى تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني، وأن هنالك علاقة بين ترتيب أصوات حروف الكلمة وترتيب أحداث ما تدل عليه، ومثّل لهذا بالفعل "بحث" وعلاقة البدء بحرف "الباء"، والتثنية بحرف "الحاء"، والانتهاء بحرف "الثاء" بترتيب أحداث الفعل نفسه، وحركة فاعله. فهو يرى أن هنالك توافقاً بين ترتيب أصوات حروف الكلمة، وترتيب أحداث الفعل، وأنَّ الوضع على هذا النحو ليس اعتباطياً.
ليس هذا فحسب، إننا نجد أبا فهر: محمود شاكر يكتب مقالات في مجلة "المقتطف" سنة 1940م تحت عنوان: "علم معاني أصوات الحروف: سرّ من أسرار العربية ترجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية". يقرر في مفتتح هذه المقالات أنه يرمي إلى ((تفسير ألفاظ العربية بدلالة الحروف على معان أصلية ثابتة في طبيعة أصحاب السليقة العربية الأولى، الذين تلقينا عنهم بيان هذا اللسان العربي المبين)). وهو يفسر له مراده من معاني أصوات الحروف بأنه: ((ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف ـ لا الحرف نفسه ـ من المعاني النفسية التي يمكن أن تنبض بها موجة اندفاعه من مخرجه من الحلق أو اللهاة أو الحنك أو الشفتين أو الخياشيم، وما يتصل بكل هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق، وليست المعاني النفسية ـ أو العواطف أو الإحساس ـ هي كل ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف، بل هو يستطيع أن يحتمل أيضاً صوراً عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أو أصواتها أو غير ذلك …))( ).
ومعنى هذا أن امتداد النظر في معاني أصوات الحروف وربطها بمواقعها في الكلم يعين على الإحساس بجماع المعاني النفسية والعقلية للكلمة التي تشكلت من تلك الحروف. وأن تقديم حرف عن موضوعه يتبعه تقديم عنصر من عناصر المعاني النفسية والعقلية لذلك الصوت المتقدم، على نحو ما نراه من تقديم وتأخير في الفعل (علم/ عمل) مثلاً. وفي هذا ما يهدي إلى أن مواقع أصوات الحروف هادية إلى مواقع عناصر المعاني النفسية والعقلية لجماع معنى الكلمة. ذلك ما يؤخذ من شيخ علماء العربية في عصرنا: أبي فهر عليه الرحمة والسكينة.
أما عبد القاهر فلا يرى علاقة بين الدال والمدلول في نظم حروف الكلمة، إذْ إنّ الكلمات عنده قد وضعت إزاء معانيها لغير ما حكمة ناظرة إلى منهج نظم حروف الكلمة، لأن القول بأن هنالك علاقة معنوية بين نظم حروف الكلمة ومعنى تلك الكلمة يؤدّي إلى أن يكون بملك السامع أن يعرف معنى الكلمة بالنظر في حروفها، وإن لم يسبق له سمع وعلم بمعناها الوضعي من سابق عليه، والواقع ناطق بأن المرء لا يعرف معنى الكلمة إلا إذا سبق تعليمه لها نطقاً ودلالة، ولذلك تجد الكلمة في اللسان الواحد (العربية مثلاً) تدل على المعنى وغيره، بل تدل على المعنى وضده كما يعرف عند علماء اللغة بالتضاد، وهو في العربية غير قليل، يفصل السياقُ وقرائنُ الكلام المرادَ، ويعينه من المعنيين المتضادين.
ولكن يبقى في القول باعتباطية الوضع غصة في الحلق، ولا سيما إذا قلنا إن اللغة توقيف في أصلها الأول، وليس مواضعة (اصطلاحية)، فالذكر الحكيم صريح في أن الله عزَّ وجلّ هو الذي علم آدم الأسماء كلها. وهل وضْع الحق جل جلاله الألفاظ أو الأسماء ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ إزاء معانيها هو وضع اعتباطي ليس من ورائه حكمة؟ أيمكن لنا أن نقول، أو أن نرتضي من أحد أن يقول؟!
أما نظم الكلمات في دائرة الكلام فإن الأمر ـ عند الإمام ـ على خلاف ما عليه نظم الحروف في الكلمة. أنت في نظم كلامك من كلمات، تولي الكلمة الكلمة في نطقك وأدائك مقتفياً آثار المعاني، وجاعلاً ترتيبها في لسانك على حذو ترتيبها في جنانك( ).
هو نظم تابع نظماً آخر سابقاً عليه، هو المرجوع إليه والمنظور فيه، هو نظم المعاني في نفس المتكلم، فذلك هو الجدير بالاعتبار عند الإمام.
وهذا ما لا يملّ الإمام عبد القاهر من تكراره وتصريف البيان عنه في مواطن عديدة، حتى يكون ذلك موطن العناية بالتأمل والمناقدة، التي لا تنتهي مع الإنصاف والموضوعية إلا إلى التسليم به وتقريره واتخاذه ركناً ركيناً. ولذا تسمعه في فقرة تالية يؤكِّد أنه ((ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل))( ).
والاقتضاء العقلي مجاله فيما هو موضوع الفكر والتأمل، وأنت لا تذهب وإن بالغت إلى أنّ المتكلم منفق مكنوز فكره في الألفاظ من حيث هي أصوات تشقشق به الألسنة، بل الأمر على غيره؛ مناط الفكر وموضوع التأمل هو المعاني القائمة في نفس المتكلم، ومناط الفكر هو مناط النظم والترتيب والتأليف والتركيب، فبناء الكلام في أصله بناء روحي جُوانيّ، وليس بناء حسياً برّانيّاً منفصلاً.
ويكرر هذا عبد القاهر ويصرف بيانه عنه ليتقرر ((أنّ هذا النظم الذي يتواصفه البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكر لا محالة. وإذا كانت مما يستعان عليها بالفكرة ويستخرج بالروية، فينبغي أن ينظر في الفكر بماذا تلبس؟ أبالمعاني أم بالألفاظ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويره …))( ).
فهو كما ترى ذاهب إلى أنّ مناط الصنعة هو مناط الفكر والتأمل، وليس ذلك إلا فيما كان من جنسه مما يدرك بالقلوب والأرواح، وهو المعاني لا الألفاظ.
وما تراه من ترتيب في الألفاظ ليس هو ثمرة التفكير فيها، ((ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة [أي بسبب التفكير في المعاني وترتيبها في العقل]، من حيث إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني، فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها. فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب لِلَّفْظ الدّال عليه أن يكون مثله أولاً في النطق))( ). فالذي يقتضي أن تكون هذه الكلمة هنا وتلك هناك إنما هو معنى الكلام والغرض فيه، ومن ثمّ ((لا يتصور أن يعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظٌ ترتيباً ونظماً.
وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تمَّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وتقوت بها آثارها.
وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق))( ).
ومعنى هذا أنّ النظم والترتيب والتأليف والتركيب وما شاكل ذلك مما هو عمود بلاغة الخطاب وفصاحته إنما هو نظم معان، فمناط بلاغة الخطاب معانيه وليس ألفاظه، وما ألفاظه مرتبة ومركبة على هدي ترتيب المعاني وتركيبها إلا صورة انعكاس ما في النفس من نظم المعاني وتركيبها.
وإذا كان الإمام مؤكداً أنك إذا ما فرغت من ترتيب معانيك في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب ألفاظك … فإن ما يعرف بالتنقيح والتحكيك عند شعراء مدرسة "عبيد الشعر" قديماً وحديثاً إنما هو تنقيح في المعاني لا في الألفاظ، واستبدال كلمة موضع أخرى مرده إلى المعنى لا إلى ما يحدثه الاستبدال من توقيع صوتي لا علاقة له بالمعنى، وإنّ الشاعر الفحل لا يوقع عدولاً في التوقيع الصوتي باستبدال كلمة إلا إذا كان باعثه معنوياً لا صوتياً مجرداً.
ذلك مؤدى ما يذهب إليه الإمام، ولكن الذي يشهد به الواقع الإبداعي لا يسلم بذلك على عمومه، فإن ضرباً من ترتيب الكلم واستبدالها ذاتاً وموقعاً قد يكون مرده إلى تحقيق تناغم وتناغ لا يحدث في المعنى دغلاً.
وأمر آخر، ظاهر كلام عبد القاهر أن المتكلم في حال التفكير وإعداد معانيه وترتيبها لا يلقي بالاً للألفاظ، وأنه يحدث فكراً مجرداً في نفسه من الألفاظ، وهذا أمر لا يشهد به الواقع، فكل مفكّر هو مفكر باللغة، هو متكلم في نفسه بلغة وألفاظ؛ ولذلك حين يستغرق بعض المفكرين تجده قد غلبته الألفاظ فجرت على لسانه، فيقال إنه يكلم نفسه، والحق أنه يفكر كمثل كل من يفكر وإنْ علا صوت تفكيره.
وأمر ثالث يترتب على نهج عبد القاهر: مؤدى كلامه أن كل مبدع لابد أن يكون واعياً مسيطراً قاصداً معيّناً كل دقيقة في معانيه الشعرية في قصيد أو نثير، وأن ما هو قائم في بطنه من المعاني متطابق معه، لا يزيد ولا ينقص ما يؤخذ من بيانه، وأنه ليست شاردة ولا واردة إلا وهو بها جد عليم وجد قاصد، وأن جهابذة النقد لا يقولون إلا ما علمه الشاعر ووعاه وقصده، وكل ما يستخرجه النقاد من النص إنما هو بعض ما قصده الشاعر ووعاه وعلمه، وأنَّ الشاعر هو أعلم الناس بما في رحم نصه، وكل النقاد عالة على الشاعر، ومِنْ دونه بكثير في فقه الشعر و تأويله.
وهذا إن صححه الإمام ـ ولا أخاله فاعلاً ـ يدفعه الواقع، فإن كثيراً من الشعراء لا يكادون يعون كثيراً من دقائق الفكر ورقائق الشعور فيما أبدعوا، وأنهم ما لم يكونوا أئمة في النقد مثلما هم في الشعر لن يبلغوا في فقه النّص وتأويله ما يبلغه جهابذة النقد. أيظن أن أبا الطيب المتنبي أوعى بمعاني شعره من كل النقاد في زمانه وما جاء من بعده من أزمان؟!
وهذا يصادمه مقالة أبي الطيب في أبي الفتح : "ابن جني أعرف بشعري مني"، ومقالته: "عليكم بالشيخ الأعور: ابن جني، فسلوه، فإنه بقول ما أردت وما لم أرده".
ولا نكاد نعلم أن أحداً من أهل العلم بالشعر يقول إن كل شاعر أوعى بمعاني شعره وأبصر بدقائقه ولطائفه من كافة جهابذة النقد في عصره والعصور التالية له. ولو صحّ لكان أولى بكل شاعر أن يحلل شعره ليكفي الناس مؤونة الغوص على معانيه.
وجملة الأمر أن القول بأنه لا صنعة إلا في المعنى (المعنى الشعري)، وأن صنعة الشاعر في معانيه هي كل شيء، ولا شأن له هو بالصنعة في ألفاظه، فإنها موكولة إلى معانيه، وأن المضمون (المعنى الشعري) سلطان قاهر على الشكل (الألفاظ)، وأن كل مضمون (معنى شعري) هو المصطفي شكله (ألفاظه: إفراداً وتركيباً وتصويراً وتحبيراً)، القول بكل ذلك لا يسلم به على عواهنه، فإنّ فيه مقالاً للمناقدة متسِعاً.
وبقي أمر أجّلت القول فيه إلى هذا الموضع على جلاله من أنه لا يتعلق بأمر النظم عنده في باب نقد الأدب شعراً ونثراً، ولكنه يتعلق بأمر النظم عنده في باب أجل من باب نقد الأدب، إنه باب إعجاز القرآن:
الإمام عبد القاهر جاعل النظم نظم معان في النفس وترتيب لها في العقل، وأن ترتيب الألفاظ ليس مجال الصنعة، فالنظم الذي هو عمود بلاغة الخطاب مجاله ومناطه المعاني القائمة في النفس. وهو لا يفرق في هذا بين النظم في بيان القرآن الكريم والنظم في الإبداع الأدبي، ونحن وإن لم نعارضه بالقول بالمعاني النفسية في شأن كلام البشر لما يراه الواحد من نفسه حيث يعد معانيه في نفسه إعداداً لا ينفصل عن استخدام اللغة أيضاً، فنحن إنما نفكر بالكلمات ولا وجود للمعاني مجردة من الألفاظ في أي طور، سواء في وجودها النفسي في داخل الصدر، أو في وجودها اللساني، حيث تتلقاها الآذان سارية في الألفاظ المركبة سريان الروح في أعضاء الجسد، لا يعرف لها فيها مكان متعين.
أما القول بهذا في نظم البيان القرآني، وأنه نظم في المعاني النفسية أولاً، فذلك مردود على الإمام عبد القاهر رداً لا يعرف هوادة ولا تريثاً. القول بالمعنى النفسي في بيان الحق عز وجل لا نسلم لأحد به أبداً، فهو فرية وقول على الله عز وجل بغير علم ولا سند من كتاب وسنة. ومثل هذا لا اجتهاد فيه، بل هو مما يتوقف فيه مع النصّ: القرآن والسنة.
والرأي القويم الذي لا غيره، أن كلام الله تعالى حقيقي بحرف وصوت ليس كمثله كلام العالمين، وآيات القرآن الكريم قاطعة بأن كلام الله ليس كلاما نفسياً، كما تذهب بعض الفرق من أنه كلام نفسي لا لفظي، وأنه المعنى القائم بذاته، ليس له بعض ولا عدد، وأنه ليس من جنس الحروف والأصوات، وما نسمعه من تلاوة القرآن إنما سميت عباراته كلام الله لدلالتها عليه، وهى مخلوقة، أما النفسي فغير مخلوق …
كل ذلك غير قويم فليس هناك كلامان: كلام نفسي وكلام لفظي بالنسبة لله تعالى، وأنّ الأول منه قديم غير مخلوق والآخر مخلوق. بل كلام الله واحد، هو من صفات كماله، يتكلم به بحرف وصوت كما يشاء وكيف شاء ومتى شاء، ليس كمثله كلام أحد من العالمين. وهو الذي يقول: {وكلّم الله موسى تكليماً} [النساء]، فهذا التأكيد دال دلالة بينة على أن تكليمه حقيقة بحرف وصوت، سمعه موسى ـ عليه السلام ـ بإسماع الحق إياه، فالمصدر "تكليما" قرينة قاهرة على أنه كلام حقيقي مسموع بحرف وصوت، وليس معنى نفسياً قائماً بذاته.
فأساس حقيقة نظم الكلام التي بنى عليها عبد القاهر مذهبه لا تستقيم له في بيان نظم القرآن الكريم الذي هو أساس إعجازه عنده، وكان عليه أن يفرق بين حقيقة النظم في بيان الخلائق وبيان النظم في بيان الوحي. وكنت على ألا أعرض لهذا هنا، فإن مجاله القول في بلاغة القرآن ونظمه، وليس مجاله القول في النظم في بيان البشر، حيث القول هنا معقود لمنـزلة نظرية النظم في نقد النصوص الإبداعية، ولكني رغبت البيان وفاء بحق العلم وإعلاء له على حق آداب البحث والمناظرة.

مفهوم النظم عند الإمام عبد القاهر:
إذا ما كان الإمام عبد القاهر قد ذهب إلى أن مناط النظم هو مناط الفكر والتأمل والصنعة، وهو المعاني لا الألفاظ، وأن الألفاظ ما هي إلا تابعة في نظمها وترتيبها وتأليفها وتركيبها لمعانيها، وكان ذلك النظم الواقع أولاً في المعاني المكنونة المنسوقة في الصدور، فإن الإمام يعمد إلى بيان هذا النظم وعياره الذي قد أجمع العلماء على أنه ((لا فضل مع عدمه، ولا قدر للكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه (أي أغراضه ومواده الأولية) ما بلغ. وبتَّهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال))( ).
وهذا يجعله جديراً بأن يُعنى بكشف جوهره وحقيقته وهويّته، وأن يردد هذا ويكرر ويصرف البيان المصور له، وذلك ما كان من الإمام عبد القاهر. عمد إلى تحرير مفهوم النظم وتقريره بأنه ((ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها))( ).
وتراه يصرف البيان عن ذلك المفهوم في مواطن عديدة منها: ((النظم هو توخي معاني النحو في معاني الكلم، وأن توخيها في متون الألفاظ محال))( )، وقوله: ((النظم … عبارة عن توخي معاني النحو في معاني الكلم))( ).


وقوله: ((فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه( )، لم يبق إلا أن يكون في النظم … وإذا ثبت أنه في "النظم" و"التأليف"، وكنَّا قد علمنا أن ليس "النظم" شيئاً غير توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنّا إن بقينا الدَّهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها، وجامعاً يجمع شتاتها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كل محال دونه ـ فقد بان وظهر أن المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه، وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها، ولا يسلك إليه المسالك التي نهجناها: في عمياء من أمره … ذلك لأنه إذا كان لا يكون "النظم" شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما يبين الكلم، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزية في "النظم"، ثمَّ لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم))( ).
وقوله: ((النظم ـ كما بيَّنا ـ إنما هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه، والعمل بقوانينه وأصوله، وليست معاني النحو معاني ألفاظ فيتصور أن يكون لها تفسير))( ).
((هذا وأمر النظم في أنه ليس شيئاً غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، وأنك ترتب المعاني أولاً في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك، وأنا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني لم يتصور أن يجب فيها نظم وترتيب، في غاية القوة والظهور))( ).
وقوله: ((ما أظن بك أيها القارئ لكتابنا ـ إن كنت وفيته حقه من النظر وتدبرته حق التدبر ـ إلا أنك قد علمت علماً، أبى أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب، أنْ ليس "النظم" شيئاً إلا توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلـم، وأنك قد تبينت أنه إذا رُفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تُراد فيها في جملة ولا تفصيل، خرجت الكلم المنطوق ببعضها في إثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتضٍ، وعن أن يتصـور أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبة لها، ومتعلقة بها، وكائنة بسبب منها، وأنَّ حُسْنَ تصورك لذلك، قد ثَبَّتَ فيه قدمك …))( ).
((فإذا ثبت الآن أنْ لاشك ولا مرية في أن ليس "النظم" شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم، ثبت من ذلك أنّ طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنه مَعْدنُه ومَعَانه، وموضعه ومكانه، وأنَّه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها غارّ نفسه بالكاذب من الطمع …))( ).
كرر عبد القاهر وصرف البيان في شأن مفهوم النظم عنده، حتى تتقرر حقيقته وأهميته، ويتبين مناطه ومعانه، فلا يختلط في وهم أنه كمثل نظم الحروف في الكلمة، أو مجرد ضم كلمة إلى أخرى كيف جاء، أو هو النظم المقابل للنثر، أو هو النظم أي الطريقة التي اختص بها القرآن في تبويب بيانه على غير ما عهدت العرب من أجناس القول: القصيدة والرسالة والخطبة، وما يعرف في المصطلح النقدي العصري بالأجناس الأدبية، على نحو ما أشار إلى مثله الباقلاني (ت 403هـ). من أن القرآن جاء نظمه على غير المعهود من نظم الكلام عند العرب، التي هي أعاريض الشعر، والنثر الموزون غير المقفى، والنثر المسجع، والنثر المرسل …
فعبد القاهر كرر وصّرف حتى يتبين الأمر، وأن النظم عنده غير الذي عند كثير، وأدرك أنه بالغ في هذا، فإنه يشكو حال الناس في هذا على الرغم من التكرير والترديد. يقول: ((واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبْدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكليف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تتنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة، يُرى أنه يعرض للمسلم نفسَه عند اعتراض الشك))( ).
ومن بعد ذلك البسط في تتبع مواقع بيان الإمام حقيقة النظم عنده، فإنَّ بي حاجة إلى النظر في تفسيره مفهوم النظم الذي حرّره بقوله أولاً: ((ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو …))( ). يقرِّر الإمام أن النظم هو عمود نسج مفردات اللغة كلاماً. فوضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو هو إخراج النسيج الكلامي من مواد اللغة إخراجاً يقتضيه نهج ونحو الإيجاد الوظيفي للغة التي يرثها الخلف عن السلف.
والمتكلم هو الواضع لصورة النسيج الكلامي والمقيم لبنائه، ولذلك تسمعه يقول لك: "تضع كلامك"، فأنت أيها المتكلم الواضع لكلامك، وليس أجدادك. أنت لم ترث عنهم صوت النسيج الكلامي، أنت ورثت عنهم مفردات ذات أصوات ومعانٍ إفرادية لا تتفاضل، وهى مطروحة في مراقدها (المعاجم) متاعاً مباحاً لكل ناطق بلسان العربية، وأنت ورثت عنهم الأنماط التركيبية المجردة التي لا ترتبط بأي ضرب من ضروب البيان اللساني في العربية إن شعراً وإن نثراً. تلك الأنماط التجريدية للتراكيب، التي يعلم المتكلمون الأصول الكلية لبنية الجملة الفعلية مثلاً، والإمكانات التي تحتملها تلك البنية، أيّاً كانت معانيك وأغراضك ومقاصدك وسياقات القول. وهي التي تعرف بأصول علم النحو، أي نحو العربية ونهجها في بناء الكلام. أنت ترث هذين عن أجدادك ولا فضيلة لك على غيرك في هذا إلا بمقدار علمك بها، ومدى إحاطة هذا العلم بكافة الأصول والإمكانات التي تحتملها تلك الأنماط التجريدية للتراكيب، وكل هذا وإن بلغت فيه المدى لن يدخلك في عداد البلغاء، ولا في عداد المتكلمين الذين يستمع إليهم، فقد يكون المرء هو المحيط الواعي لكثير من مفردات العربية، ولكثير أو لكل الأنماط التجريدية للتراكيب في علم نحو العربية، والإمكانات التي يحتملها كل تركيب، ثم هو برغم من ذلك عيي لا يبين، ولا يشار إليه، ولا يستمع إليه في باب البيان.
يقول الإمام: ((واعلم أنّا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يُصنع فيها، فليس الفضل للعلم بأنَّ "الواو" للجمع، و"الفاء" للتعقيب بغير تراخ، و"ثمَّ" له بشرط التراخي، و"إنْ" لكذا، و"إذا" لكذا، ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت شعراً وألفت رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعه))( ).
فالمواضعة الموروثة القائمة في المفردات (صوتاً ومعنى) وفي الأنماط التجريدية للتراكيب لا بد أن تصاحبها مواضعة ذاتية في المتكلم، تتنوع بتنوع المتكلمين وإمكاناتهم وأدواتهم وثقافاتهم وطباعهم، وهي مواضعة ليست حرة طليقة لا مرجع لها تنضبط به، بل هي مواضعة ذات حرية ناظرة بعين الرعاية أصولاً موروثة، هي ما يعرف بأصول علم النحو، هي الأنماط التجريدية للتراكيب والإمكانات التي تحتملها تلك الأنماط.
هذه المواضعة الذاتية هي وضع المتكلم كلامه الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وعلم النحو يقتضي أصولاً كلية لأنماط تجريدية للتراكيب ذات إمكانات احتمالية مصحوبة بقرائن مثالية أو مقامية هادية سواء السبيل، لفهم المراد والمعنى والغرض المنصوب له الكلام، وفاء بحق السامع في أن تطرق له السبل إلى المعاني والأغراض حتى لا يؤتى من سوء إفهام الناطق.
أنت ـ أيها المتكلم ـ تضع كلامك وليس أجدادك، لأنه كلامك أنت، لكنك تبقى معنياً في وضعك كلامك بصلة رحمه، بأن تضعه الوضع الذي يقتضيه علم النحو، الذي ورثته عن أسلافك، وكان فريضة عليك استثمار ما ورثت.
إذا ما كانت المفردات أصواتاً وصوراً ومعاني إفرادية إنما هي مواضعة موروثة، لا يتأتى لنا الانعتاق منها، وكانت ـ أيضاً ـ الأنماط التجريدية للتراكيب موروثة، إذ هي أصول كلية تجريدية لنحو ومسلك ومنهج الإبانة، لا ترتبط بمعنى معين ولا غرض محدد ولا سياق مقيد، فلا دخل للمتكلم فيها إذ هو يرثها، وكل ذلك لا يحيل مفردات اللغة إلى كلام ينتسب إلى صاحبه ـ إذا كان ذلك فنحن لا نتمرد على الألفاظ التجريدية للتراكيب التي هي الأصول الكلية لعلم النحو مثلما لا نتمرد على مفردات اللغة، في صورتها الصوتية وما تدل عليه من معان إفرادية دلالة إجمالية، وكذلك لا نتعبَّد بهذه الأنماط تعبداً حرفياً، بل نستهدي بها، ونضع كلامنا على هدي ما تقضي به أصولها.
المتكلم بوضعه هذا هو صاحب مواضعة خاصة لا تكاد تتكرر مع غيره، بل لا تكرر مع نفسه، فهو دائم المواضعة، وهي مواضعة تنبثق من رؤيته المعرفية بخصائص المواضعة الأولى الموروثة من جهة، ومن ملكته الذاتية في الامتداد والتجاوز المنضبط المحسوب المثمر خصوصية الإبانة عن الذات القائلة.
ومن ثمَّ نسمع الإمام يقول: "وتعمل على قوانينه وأصوله"، فهو يجعل مواضعة المتكلم عملاً على قوانين: أي استعلاء اهتداء وتمكن واستثمار، وليس استعلاء تمرد وثورة، فهذه الكلمة "على" ذات دلالة غنية حميدة. وفي موطن آخر يقول: "والعمل بقوانينه وأصوله"( )، فهذه "الباء" في "بقوانينه" دالة على المصاحبة والتمكن، ففيها دعوة إلى التمكن من تلك القوانين والأصول، تمكن معرفة بالمناهج والمسالك التي نهجت وسلكت، يمنح صاحبه الاقتدار على استبصار الآماد التي تمتد إليها، والاقتدار على أن يحذو على لاحبها.
والمتكلم في هذه المواضعة حافظ الرسوم والحدود التي رسمت وحُدَّت، فلا يُخلُّ بشيء منها، ولا يزيغ عنها ولا يخرج، فإن في الإخلال بهذه قطع سبيل التواصل بينه وبين السامعين، مما يجعل كلامه عقيماً لا يثمر. فالرسوم هي المعالم الدّالة على منهاج المتكلم في تركيب رموزه الدّالة على مكنون صدره، وعلى ضوء هذه المعالم يحلل السامع ذلك التركيب لينفذ من تفكيكها إلى ما هو مكنون من المعاني والمقاصد، فالمتكلم ذو منهج تركيبي والسامع ذو منهج تحليلي تفكيكي، وإذا لم يتواصلا في اتحاد النحو تركيباً وتفكيكاً، فلن يكون فعل المتكلم إلا عقيماً، ولن يجني السامع من فعله شيئاً. ومن ثمَّ كان لابد أن يكون هنالك نهج متفق عليه بين المتكلم مركِّباً والسامع مفكِّكاً، فإذا لم يكن لم يك تواصل ألبتة. ولذا يبين الحق عزَّ وجل أنه ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}، فانظر قوله "بلسان" وهي كلمة تحمل دلالة على خصوصية الأداء، فاللسان أخص من اللغة، ولذلك لما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس خاصاً بقريش لم يكن لسانه محصوراً في لسان قريش، بل كان يكلم كل قبيلة من قبائل العرب بلسانها. فآدم عليه السلام علمه الله تعالى الأسماء كلها: {وعلَّم آدم الأسماء كلها}، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم علمه الله تعالى ألسنة العرب كلها، ولعل هذا داخل في قول الله تعالى: {وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}.
الإمام عبد القاهر غير داع هنا المتكلم إلى الاستكانة إلى سلطان مواضعات نحو البناء اللغوي الموروث، فهذا السلطان هو أشبه بسلطان الشيطان على الإنسان: وهم يستكين إليه الطغام من الناس استهواءً واستخذالاً: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}.
الإمام يدعو المتكلم إلى أن يعمل هو على قوانين علم النحو وأصوله، وقوانين كل شيء: مقاييسه، وكل مقياس مرهون بطبيعة وأحوال وغايات ما يقاس، مما يجعل المقايسة في نفسها ذات أنهاج متجاوبة مع ما يقاس وأحواله. والمقايسة في نفسها تقديراً على مثال والأمثلة تتشابه ولا تتناسخ.
والعمل على أصول علم نحو بناء الكلام لا يعنى الإخلاد إليها، فإنّ لكل أصل فروعاً وأغصاناً وأفناناً منبثقة منه، ولكنها ليست هي بل هي منها، فلعلم النحو أصول وفروع، والعمل بالأصول فريضة واستثمار الفروع قربة، ومن ثمَّ يتحقق للمتكلم الاقتدار على مواكبة مقتضيات المقامات والمسافات التي تحيط به وبمعانيه وأغراضه ومقاصده.
وعبد القاهر يبين في موطن آخر أن العمل على قوانين علم النحو وأصوله هو توخي معاني النحو فيما بين معاني الكلم( )، ومعاني النحو ليست هي علامات الإعراب رفعاً للفاعل ونصباً للمفعول وجراً للمضاف إليه، فذلك لا مجال فيه للمفاضلة بين أحد. فامرؤ القيس في هذا لا يفضل أبا العتاهية مثلاً.
معاني النحو هي العلاقات الروحية التي تقوم بين معاني الكلمات، على اختلاف صورها وامتداد سياقاتها، بدأ من ركني الجملة "المسند إليه والمسند"، وانتهاء بسياق الفقرة والمعقد والنص. وهذه العلاقات الروحية هي الوجوه التي يتصور بها المعنى، والضروب التأليفية بين معاني الكلمات بكل ما تحمله كلمة (تأليف) من دلالة على التعالق، وهذه العلاقات ذات أنماط تركيبية لا تتناهى، يطلق عليها عبد القاهر الوجوه والفروق النحوية.
فالنظم توخي العلاقات الروحية بين معاني الكلمات، ومعاني الكلمات لا يراد بها المعاني الإفرادية الموضوعة إزاء الكلمة فحسب، بل معنى الكلمة في وجودها البياني (الكلام) من رافدين، الأول: المعنى المعجمي الوضعي، والآخر: الوظيفة التركيبية من حيث هي فاعل أو مفعول أو غير ذلك. قولنا: "زيد منطلق" مثلاً، المعنى النحوي فيه هو العلاقة التي بين معنى "زيد" من حيث هو علم على شخص متعين معلوم للسامع ومن حيث هو مراد الإخبار عنه من قبل المتكلم بالانطلاق وإسناده إليه، وبين معنى "منطلق" من حيث هو اسم على حدث متعين معلوم للسامع أيضاً مواضعة، ومن حيث هو مراد الإخبار به عن زيد ومسنداً إليه وتقريراً لوقوعه منه.
تتنوع هذه العلاقات الروحية بين معنى "زيد"، ومعنى "منطلق" تنوعاً لا يكاد يحصر، ولكنه تنوع على أصول وقوانين كلية لا تخرج عنها أي وجه أو فرق تركيبي. ولذلك تجد عبد القاهر يذكر لهذه العلاقة بين "زيد" و"الانطلاق" ثمانية وجوه: "زيد منطلق"، و"زيد ينطلق"، و"ينطلق زيد"، و"منطلق زيد"، و"زيد المنطلق"، و"المنطلق زيد"، و"زيد هو المنطلق"، و"زيد هو منطلق". كل هذه الأنماط التركيبية (الوجوه والفروق) منبثقة من أصل قائم فيها جميعاً هو إثبات وقوع فعل هو الانطلاق من شخص متعين هو زيد. ويبقى لكل وجه ونمط تركيبي خصوصية في الدلالة على معنى زائد على ما هو قائم في جميع هذه الأنماط التركيبية.
هذا المعنى الزائد المتنوع بتنوع النمط التركيبي هو مناط المفاضلة، أما المعنى الأول الذي هو إثبات وقوع فعل، هو الانطلاق، من شخص متعين، هو زيد، فذلك لا تفاضل فيه بين أحد لأنه ثمرة نمط تركيبي موروث. والمتكلم يضع كلامه في صورة من هذه الصور الثمانية على وفق الأصل التركيبي المجرد الموروث (إسناد المسند إلى المسند إليه في سياق الإثبات).
فانطلاق زيد معنى يمكن للمتكلم إيراده في وجوه تصويرية عديدة، وجميعها سواء من حيث الصحة الإعرابية، ومن حيث الأخذ بالنمط التجريدي الموروث، الذي دعامته الإسناد في حيز الإثبات بين شيئين: مسند إليه ومسند. ومن ثمّ يقرر الإمام عبد القاهر أن المتكلم البليغ لا يقيم عبارته على أي نمط تجريدي بل ينظر في وجوه كل باب وفروقه، وهي وجوه تصويرية. وبلاغته في أن يعرف لكل من هذه الوجوه موضوعه ويجيء به في كلامه حيث ينبغي له.
فبلاغته ليست في إسناد الانطلاق إلى زيد في سياق الإثبات على أي نحو من الأنحاء، بل بلاغته في أن يتوخى الوجه التركيبي المتاح لنمط ذلك الإسناد وفق ما يُرمى إليه، وما يقتضيه المقام الذي يبين فيه.
فحيناً تكون بلاغته في أن يقول: "زيد منطلق"، وحيناً يكون قوله هنا غير بليغ، بل البليغ أن يقول: "زيد ينطلق"، و"زيد هو المنطلق" … فلابد أن يعرف الفروق بين كلٍّ، ومدى ملاءمة كل وجه لما يرمي إليه وما يسوق كلامه على لاحبه …
والإمام عبد القاهر لا يقصر الوجوه والفروق على وجوه إثبات المعنى لشيء في دائرة الجملة، بل هو يجعلها شاملة أدق شيء من نحو حروف المعاني: ((ينظر في الحروف التي تشترك في المعنى ثم يتفرد لكل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلاً من ذلك في خاص معناه …))( ). ويمتد بها إلى علائق الجمل وما يكون بينها من وصل وفصل، وهو باب يبدأ بعلاقات الجمل النحوية ليمتد إلى ما هو حاوٍ عشرات الجمل النحوية مما يعرف بالفقر والمعاقد والفصول، من نحو ما يعرف عند البلاغيين بعطف القصة على القصة.
وغير ذلك كثير مما ذكر الإمام، إذ يقول: ((ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، في الكلام كله (كذا)، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له))( ). قوله: "في الكلام كله" فسيحة المدى، فإذا كان التعريف والتنكير مرهوناً بدائرة الكلمة، فإن التقديم والتأخير يبدأ بالكلمة، لكنه يشمل الفصل والمعقد من النص، ولو مُدّ الدرس النقدي لأسلوب التقديم والتأخير في النص الأدبي إلى مواقع معاقد الكلام تقديماً وتأخيراً لكان حميداً، ولكان منبثقاً من قضية النظم أيضاً. ومثل هذا "الحذف" إن كان يبدأ بحذف حرف من حروف المباني كما نراه في حذف نون مضارع "كان" المجزوم، فهو حذف مما يرمى به إلى معنى هو عنصر في بناء المعنى الكلي للصورة، فإنه يمتد إلى النظر في حذف فصول ومعاقد في بناء النص. وهذا تراه واضحاً جداً في أسلوب الحذف في البيان القرآني حيث تطوى أحداث كثيرة لو ذكرت لكانت معقداً، ومن نحو ما تراه من حذف لأحداث جرت ما بين قول الشاعر: "ولما قضينا من منى كل حاجة.." وقوله: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، فقد طوى الشاعر أحداثاً وقعت في أزمان ممتدة وأماكن متفاسحة، على المتلقي تصورها وأن تذهب نفسه في استحضارها وتخيلها كل مذهب، كما يقول أهل العلم في مثل هذا.
وقوله: "فيصيب بكل من ذلك مكانه"، الصواب هنا أن يصيب المتكلم بالنمط التصويري موضعه ويضعه في حقه، وذلك لا يتحقق له إلا إذا كان عليما بحال كل نمط تصويري: ما يدل عليه، وما يليق به من السياقات والمقامات والأغراض والمقاصد.
وجملة الأمر أن الإمام يقرر أهمية النظم في بلاغة الخطاب ويجملها في قوله: ((فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً( )، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم يدخل هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه))( ).

مستويات النظم:
إذا ما كان شأن النظم في تحقيق بلاغة الخطاب وأدبيته أنه لن تقوم إلا عليه مـن أنه عمودها وقطبهــا( )، فإن الذي هو محقَّق عند الإمام أن ذلك النظم ليس على درجة سواء في الكلام البليغ، فلا يكون تفاوت بين الأدباء في الوفاء بكامل حقه، بل شأنه شأن كل شيء، هو على درجات يفضل بعضها بعضاً، فذلك من سنة الله عز وجل في خلقه، والأمر كمثله في شأن النظم في بيان الخلق.
من النظم ما هو في الدرجة الدنيا من أن واضعه لم يحتج ((إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك، لا يبتغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين، وذلك إذا كان معناك معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئاً غير أن تعطف لفظاً على مثله، كقول الجاحظ: "جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبّب إليك التثبت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة"))( ). ((فما كان من هذا وشبهه، لم يجب به فضل إذا وجب، إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه))( ).
وأنت إذا ما نظرت في كلام الجاحظ، لتقف على درجة ذلك النظم بنفسك، وقدر حكم الإمام عليه، ومناط ذلك الحكم الذي يعطي ظاهره تجريداً لكلام الجاحظ من سمات البلاغة، ونظرت في نظم كل جملة على حيالها، فإن التبصر يؤدي بك ألا تقبل مقالة الإمام: أن ليس فيه نظم وتأليف، فإن نظم كل جملة على حيالها نظم غير نازل المنـزلة، فاختيار المفردات ومواقعها وعلائق بعضها ببعض في بناء كل جملة على حيالها إنما هو عالٍ لا يستهان به انظر قوله: "وهل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً …" أترى في هذا ما يدل على دنو منزلته في باب النظم والبلاغة؟( )
كلمات الجاحظ كل جملة على حيالها، غير ذالة المنـزلة في باب النظم، فكيف قال عبد القاهر ما قال؟ وما وجه حكمه هذا؟. أما حكمه فقد سمعته، وأما وجه ذلك الحكم فإنه ذاهب فيه إلى أن هذا لا يعدو أن يكون ضمّ شيء إلى شيء، وأنه ليس فيه فكر وروية. ومناط تحقيق الفضل والمزية عنده ثلاثة أشياء:
أولهـا: أن يكون هنالك مصنع واعتمال واجتهاد وفكر ورويّة.
وثانيها: أن يكون هنالك تخير بين البدائل.
وثالثها: أن يكون قد استدركت بهذا الفكر وهذا الاختيار صواباً ليس من بابة تقويم اللسان، والتحرز من اللحن وزيغ الإعراب، بل صواب فيما شأنه أن يدرك بالفِكَر اللطيفة، ويوصل إليها بثاقب الفهم.
وأنت إذا ما نظرت في كلام الجاحظ وجدت كل جملة على حيالها في نظمها، على درجة غير نازلة، ولكن إذا ما نظرت فيما بين هذه الجملة العالية النظم في نفسها، ألفيت أنه ليس هنالك مصنع ولا فكر ولا روية ولا اختيار ولا استدراك صواب لما لطف ودق فيما يتعلق بعلائق الجمل بعضها ببعض. تستطيع أن تقيم كل جملة في غير موقعها، تقديماً وتأخيراً، ولن يحدث في صورة المعنى الكلي شيء، فكانت علاقة الجمل مع بعضها ونظمها، أشبه بعلاقة حروف الكلمة في الجملة، لا تقوم على فكر وروية واختيار واستدراك صواب.
فالنظم الذي يتحدث عنه عبد القاهر ليس ميدانه ميدان النظم في نحو "زيد منطلق" و"ينطلق زيد"، النظم هنا متجاوز نظم الكلمات في بناء الجملة الواحدة، إلى نظم الجمل في بناء الفقرة، ذلك النظم الذي تكون فيه الجملة بمنـزلة الكلمة. ذلك هو مناط الحكم على مثل كلام الجاحظ بأنه نظم نازل المنـزلة، وتلك من الإمام فريدة دالة دلالة باهرة على أن النظم حين يكون في نطاق الجملة ينظر فيه إلى العلائق الروحية بين عناصر الجملة (الكلمات)، وحين يكون في نطاق الفقرة ينظر فيه إلى العلائق بين الجمل، لا العلائق بين المفردات في الجملة.
وتلك فريدة من الإمام يمكن أن نمد خيوط نسيجها إلى نظم فقرات النص في نطاقه، فننظر إلى علاقات الفقر والمعاقد في نطاق النص، لا إلى علاقات الجمل في بيان الفقرة، ولا إلى علاقات الكلمات في نطاق الجملة.
وتأسيساً على هذا يمكن القول بأن الإمام كما يرى أن نظم الحروف في بناء الكلمة ليس نظماً في صحبة نظم الكلمات في بناء الجملة، يرى أن نظم الكلمات في بناء الجملة ليس نظماً في صحبة نظم الجمل في بناء الفقرة والمعقد، وهذا الأخير هو نازل في صحبة نظم الفقر والمعاقد في بناء النّص. ذلك ما يتأسس قياساً ومدّاً لخيوط النسيج المعرفي لموقف الإمام في نظم الجاحظ السابق النظر فيه.
ويزيد هذا توكيداً و تأطيداً النظر في المستوى العالي من النظر عند عبد القاهر، يقول الإمام: ((واعلم أنه مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثانٍ منها بأول، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم، وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدُّ يحصره، وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة))( ).
فأنت تراه ينظر في مناطٍ فوق هذا النظم، ويبين أنه اتحاد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان منها بأول … ذلك حال ما علا نظمه وفاق حبكه : اتحاد وتداخل وارتباط أجزاء، ومثل هذا لا ينحصر في أجزاء الجملة، بل هو غالب في علائق الجمل. فانظر قوله: "أجزاء الكلام"، وأنه يشترط فيه اتحادها، ومناطه العلائق الروحية بين معاني هذه الجمل، ودخول بعضها في بعض، ليس التراكب والتعاظل، بل هو التناسل، وهو تناسل معان، وذلك الاشتداد الدال على شد كل جزء أخاه ارتباطاً، فالشد لا يعني مجرد التعلق، ولو لأدنى مناسبة، كما نراه في مثل تعلق المفردات ببعضها، ولاسيما تعلق العطف بناسق، فذلك من قبيل الربط بعامل من خارج المتعلقين، وليس ارتباطاً. والفرق بين الربط والتعلق من جهة، وبين الارتباط والاعتلاق من أخرى، أن الأولين: الربط والتعلق يكون بناسق خارجي، وأن الآخرين: الارتباط والاعتلاق يكون بأمر داخلي من ذات المترابطين: ترى الأول في مثل ما يعرف عند البلاغين بـ"التوسط بين الكمالين"، وترى الآخر في مثل ما يعرف بـ"كمال الاتصال" و"شِبْهِه"، أو "الاتصال إلى الغاية".
والمهم في هذا أن الإمام عبد القاهر يؤكد ما يؤمن به من أن النظم العالي يجعل الكلام وإن تعددت أجزاؤه، كأنه لفظة واحدة، وأن المتكلم بهذا مثله: ((مَثَل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة))( ).
ومن قبله قالها الجاحظ في شأن أجزاء الكلام ذي النظم العالي: ((… تراها سهلة لينة، ورطبة مواتية، سلسلة النظام، خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد))( ).(البيان والتبيين 1/89-ط/ السندوبي).
وبمثلها يقول المرزوفي في عمود التلاحم وعياره: ((… فذلك يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت والبيت كالكلمة …)).
وحين ننظر في كلام الجاحظ نجد أنه يجعل من ثمار تلاحم الأجزاء أن يجري الكلام على اللسان كما يجري الدهان، وهذا دال على أن العلائق الحسية في الكلام: علاقات الألفاظ في أدائها منبثقة من العلائق الروحية فيه، وأن تعالق المعاني وإفراغها إفراغاً واحداً يثمر جريان الألفاظ على اللسان كما يجري الدهان. وهذا أيضاً تجده عند المرزوقي حين يجعل الباب الخامس من عمود الشعر: "التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن"، ويجعل عيار ذلك "الطبع واللسان".
وهذا معدن ما يذهب إليه عبد القاهر من أن علائق الألفاظ ونظمها منبثق من علائق المعاني ونظمها، أي: أن مضامين القول معدن شكله.
==================================
ومن تفاوت مستويات النظم عند عبد القاهر ما نراه في تفاوت ظهوره ومجاله، فمنه ما يهجم عليك من أول ما يلقاك، ومنه ما تتسلسل قطرات الندى من مجموعه، فلا تمتلئ قارورة الحسن إلا بآخر قطرة من آخر جملة. يقول الإمام: ((واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسنَ، كالأجزاء من الصِّبْغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تُكْبِر شأن صاحبه، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسَعَة الذَّرْع وشدة المُنَّة، حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات. وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري))( )، وهو يشير إلى أبيات: "بلونا ضرائب من قد نرى".
واستجماع الحسن من مجموع عناصر القصيدة يوحي ظاهره في صحبة استحضار النظم العالي الذي يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع، فيوضع في النفس وضعاً واحداً. ولكن عبد القاهر يرمي إلى شيء آخر، وهو أن أجزاء الكلام في نفسها ليست على المدرجة العليا من إحكام النظم، بحيث يكون ما في بناء الجملة على حيالها من النظم ما هو العليّ الذي يزداد علواً، بما يكون من تآخيها بالجمل الأخرى في نطاق الفقرة، فيكون حال الجملة فيه حال من يشرف باجتماعه مع قومه، فإذا أفرد عنهم عري مما كان عليه من قبل، أو عري من كثير منه.
ولا ريب في أن من كان اجتماعه مع غيره هو الخالق كل فضله أو أصله، لا يكون هو الأعلى، وليس ذلك شأن البيان العليّ، ولاسيما بيان الوحي: كتاباً وسنة.
إنك إذا أفردت الجملة القرآنية عن سياقها لم تفقد كل بلاغتها وإعجازها، ولكنك واجد فيها ما يكفيك بل يغنيك، فإذا ما جُمعت إلى شقائقها في سياقها، انتقلت بك من طور الكفاية والإغناء إلى طور الإدهاش والإبلاس، وكلما امتدّ السياق تكاثر الإعجاز والإدهاش والإبلاس. وهذا هو المستوى الثاني الأعلى من النظم، الذي يقول فيه الإمام: ((ومنه ما أنت ترى الحسن يهجُم عليك منه دفعة ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المُنّة وطول الباع، وحتى تَعلم، إنْ لم تَعلم القائلَ، أنه من قيل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صَنَاعٍ، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا، هذا !! وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البُزَّل، ثم المطبوعين الذين يُلْهَمون القول إلهاماً))( ).
ويقرر الإمام أنّ ذلك غير كثير في الشعر، وأن العثور عليه يستوجب تنقيباً وبحثاً: ((ثمَّ إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد، بل أن تفلي ديواناً من الشعر حتى تجتمع منه عدة أبيات)). والنظرة العجلى في كلام الإمام تحسب أنه فيه إعلاء لما كان فيه الشعر قائماً كل بيت من أبياته بنفسه، وأن هذا يتعارض بل يتناقض مع ما دعا إليه من اتحاد أجزاء الكلام وإفراغه إفراغاً واحداً، فيكون من اتحاد معانيه أنْ صارت ألفاظه كأنها لفظة واحدة( ).
وذلك الحسبان آت من أن صاحبه غفل من الجهة التي ينظر إليها الإمام هنا، والجهة التي ينظر إليها الإمام هنالك، هنالك ينظر إلى علائق معاني النص وتآخيها واتحادها وشدة ارتباطها في بناء الكلام. وهنا ينظر إلى ما تكون عليه أجزاء الكلام في نفسها من الحسن والشرف، فهو يطلب من الكلام العالي أن يكون في كل جزء من أجزائه بالغاً ذروة الحسن في مجاله، فإذا أضيف كل جزء وهو على ذلك الضرب من الشرف إلى شقائقه كان من ذلك التآخي ضرب آخر أسمى من ضروب الشرف، فكان الكلام جامعاً شرفاً على شرف وفضلاً على فضل. لكنه لا يدعو ألبتة إلى إعلاء ما ملك في نفسه شرف وجوده فريداً، وافتقر إلى شرف وجوده نظيماً منضوداً، وشأن المسلم التقي أنه في حال نفسه وعزلته ،إن قُضي له بها، شريفاً لا يُدانى ممن هو في مثل عزلته، فإن كان منسوجاً في قومه كان ذا شرف متضاعف لتكاثر روافده فيه. ولعل هذا يصور لنا وجه تفضيل بعض النقاد أن يكون كل بيت في القصيدة مالكاً في نفسه من مقومات الحسن مالا يجعله عارياً منه إذا ما أفرد عن قومه ومجتمعه.
وحين تنظر فيما اصطفاه الإمام عبد القاهر نموذجاً لذلك النمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه، كما يقول( )، فإنك تراه يقدم لنا أنماطاً من أسلوب المزاوجة والتشبيه المركب والتقسيم والجمع والمقابلة.
في المزاوجة التي كشف عن مفهومها بأنْ تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معاً، يذكر بيتاً للبحتري من قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان أولها:
متى لاح برق أو بدا طلل قَـفْر جرى مستهلٌ لا بـطئ ولا نـزْرُ
يقول فيها: على أنها ما عندهـا لمواصـل وِصالٌ، ولا عنهــا لمصطبِر صبرُ
إذا ما نهى الناهي فلجّ بيَ الهوى أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجْرُ
فقد زاوج بين معنيين في الشرط والجزاء، أي جعل معنيين وقعا في الشرط، وهما "نهي الناهي"، و"إصاختها إلى الواشي"، ورتّب على كل معنى: اللجاج؛ لجاج الهوى به عند نهي الناهي، ولجاج الهجر بها عند إصاختها إلى الواشي. ترتّب اللجاج بالفاء في كلٍّ على شرطين متقابلين، ومن العادة كما يقول أهل العلم أن يختلف ما يترتب على كل لأنّهما يختلفان، ولكن الشاعر راعى في الشرط ما راعاه في الجواب، وعطف على الشرط ما عطفه على الجواب، مما يحقق اتحاد أجزاء الكلام، وتداخل معانيه، وتناسلها، وشدة ارتباط بعضها ببعض، فإذا رتبت على أحدهما غير ما رتبت على الآخر لم يتحقق ذلك التزاوج.
ومن هذه المزاوجة قول البحتري أيضاً:
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
رتّب فيضاناً على أمرين مختلفين: الاحتراب والتذكر، فزاوج بين شرط وما كان جواباً له، وجعلهما معدناً لشيء واحد على اختلافهما: اختلاف الجواب عن الشرط. ولو أنه قال: "إذا احتربت يوماً فتقطعت أرحامها، تذكرت القربى ففاضت دموعها" لم يكن من المزاوجة؛ لأنها لم ترتب فيضاناً على شرط وجزائه( ).
وإذا ما تأمل ما عدّه الإمام عبد القاهر من هذا النمط العالي، رأيت العلائق بين جمل لا مفردات، ورأيت العلائق أساسها التناسل، وليس أساسها التقارن والتجاور. وهو في هذا لا يفرق بين ما يعرف بأساليب البديع وغيرها، فمن النظم العالي ما هو حسن تقسيم وحسن مقابلة ومزاوجة … وكل هذا عند المتأخرين من المحسِّنات، ولكن الاعتداد عند الإمام بشدة ترابط أجزاء الكلام.
ومن قبل الإمام نرى أبا عثمان الجاحظ يؤذن فينا بقوله: ((وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان))( ).
ولست بالمستغني هنا عن تدقيق النظر في مقالة الجاحظ، ومقالة المرزوقي في "عمود الشعر" في الباب الخامس وعياره، وما قاله ابن رشيق في "العمدة"( )، وغير ذلك مما فاضت به أسفار النقاد.
ابن رشيق يستحسن البيت الدُّرَّة، وليس البيت العضو الذي يفقد قيمته تماماً بأخذه وحده مفصولاً عن جسده. البيت عنده ذو خاصتين: الأولى من شبهه بالدرة الثمينة منضودة في عقد بديع، والأخرى من شبهه بالعضو المتلاحم مع بقية أعضاء الجسد.
ويؤيد ذلك أنه إنما استحسن افتقار البيت في قيمته إلى بقية شقائقه حين يكون الشعر قصصياً؛ لأن شأن القصص بناء بعضه على بعض، بناء لا يتحقق لأجزائه قيمة في نفسها خارج نسقها، فهو يقول: ((فإن بناء اللفظ أجود هنالك من جهة السرد))، تأمل قوله: "من جهة السرد" فإنه قول ماجد.
ويؤكد أن البيت في شعر العربي يحسن حين تكون له في نفسه قيمة، تتسامى حين يكون في قومه وشقائقه، ما قاله الشاعر عمر بن لجأ لبعض الشعراء: "أنا أشعر منك"، قال: "وبم ذلك؟" فقال: "لأني أقول البيت وأخاه، ولأنك تقول البيت وابن عمه"( ). فانظر قوله: "أقول البيت وأخاه … وتقول البيت وابن عمه" أتراه قد جرد الأبيات من علائق النسب؟ إنه حريص على أن يبلغ بها حد التآخي الذي هو أعلى التناسب، ولم يرتض ما دونها مباشرة: البيت وابن عمه. ثم انظر: أترى الأخ فاقداً قيمته في نفسه، وأنه مستجمع كل فضله من علائقه؟. تلك التي استحسنها ابن رشيق؛ أن يكون البيت نفسه ذا قيمة، فإذا تآخى مع شقائقه كان له القدح المعلى في الفضل والشرف.
وقد صّرح بذلك ابن أبي الإصبع قائلاً: ((إنَّ المستحسن من ذلك أن يكون كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفِه مجاوره صار بمنـزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزَّأ حسنهما، ونقص كمالهما، وتقسَّم معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والاختراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع))( ).
ولو أنّ ابن أبي الإصبع قال في خاتمة قوله: "بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والافتراق يسمو ويتكاثر مع الالتئام والاجتماع"؛ لأن للتآخي والاجتماع فضلاً لا يكون بغيرهما، وهو فضل ليس من فوقه فضل.
وهذا الذي قاله ابن أبي الإصبع دافع مقالة "طبانة" من أن وحدة القصيدة عند النقاد العرب متمثلة في البيت الواحد( )، ففضل البيت في نفسه لا يعني الاستغناء عندهم به عن فضل تآخيه وتلاحمه مع شقائقه وشدّة ارتباطه بسابقه ولاحقه، كأن الأبيات كلها أفرغت إفراغاً واحداً، وصارت القصيدة من شدة التحامها والتصاقها كالبيت الواحد، بل كالكلمة الواحدة.
ذلك باب متسق لا يتأتى أن يُفرغ من كثير من قضاياه في مثل تلك العجالة.
يقول ابن رشيق في باب "النظم": ((ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها؛ فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد))( ).
وقد عاب بعض أهل العلم بالنقد العربي مقالة ابن رشيق، من أنه ((لا يستحسن ـ أي ابن رشيق ـ التماسكَ في الأبيات، وتلاقيها في اطراد الأفكار، إلا إذا كان ذلك في موضوع ذي عنصر قصصي، فالعنصر القصصي باعتبار أحداثه وشخصياته، من المكن أن تتضامّ الأفكار فيه، ويبنى الشعر بعضه على بعض؛ لأن طبيعة القصة تعين على ذلك، أما ما ليس فيه عنصر قصصي، فهو لا يستحسن ارتباط بعضه ببعض، بل هو يفضل أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده))( ).
كذلك فهم أستاذنا "أبو كريشة" مقالة ابن رشيق، ومن ثم استغربه قائلاً: ((وهو استحسان غريب، لا أدري حينئذٍ كيف تتجمع الأبيات مع بعضها في قصيدة واحدة، وعلى أي أساس توجد الأبيات في قصيدة ولا توجد في أخرى؟ أما كان الأولى والحالة هذه أن تفرد الأبيات، ويجعل كل بيت قصيدة قائمة برأسها، ونجعله نوعاً من القصيدة بناء على هذا الاستحسان؟ …))( )، وهذا الذي ذهب إليه أستاذنا فيه نظر.
الاستحسان الذي ذهب إليه أناس لم يوافقهم عليه ابن رشيق، هو ذلك الذي يكون فيه الشعر مبنياً بعض حسنه على بعض، بحيث لا يكون لبعضه حين ينظر إليه من الحسن ما يكفي ويغني، بل تجدك خالي الوفاض، وليس في يدك شيء من الحسن ما لم يفرغ من الشعر كله. وهذا عند المدققين غير مستحسن، بل الأعلى والأجدى أن يكون كل جزء من الكلام ذا فضل في نفسه، وذا عطاء من رحمه، وذلك الفضل والعطاء ينمو ويتكاثر حين تعتصم الأجزاء ببعضها وتتآخى، وهذا ما تراه عند بعض النقدة. قيل لحماد الراوية: "بم تقدم النابغة؟" فقال: "باكتفائك بالبيت الواحد من شعره، لا، بل بنصف بيت، لا، بل بربع بيت، مثل قوله:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مـذهب
كل نصف يغنيك عن صاحبه، وقوله: أي الرجال المهذب؟ ربع بيت يغنيك عن غيره" وقد نقل أستاذنا هذا في موضع سابق( ).
فحماد لا يدعو إلى أن يكون كل ربع من البيت مستقلاً مفصولاً عن بقية أرباع البيت، فهذه مزق لا يقول به من به أدنى معرفة لحسن الشعر. هو يدعو إلى أن تكون أجزاء البيت كحبات "الدر" في العقد النضيد من جهة، وكالعضو من بدن الإنسان من جهة أخرى. هو إذا أفرِد كان له قيمة في نفسه، تُضاف إليها قيمة تأتيه من نسقه مع شقائقه، وهو في الوقت نفسه تجرى فيه الروح الجارية السارية في بقية الأجزاء/ الأعضاء.

أهمية نظرية النظم في نقد النص الأدبي:
تأسيساً على الذي مضى بيانه من مقومات وخصال تمام بلاغة الخطاب وأدبيته، والطريق إلى تحقيق تلك المقومات( )، وبيان عمود تلك البلاغة، وبيان جوهره ومفهومه، وتعدد أنماطه التركيبية والتصويرية، تعدداً لا ينتهي إلى غاية( )، ثم تبيان مرجع المزية والفضيلة الأدبية لأي نمط من تلك الأنماط، وأن هذا المرجع إنما هو ذو عناصر ثلاثة، الأول: يتضمن علاقة النمط التركيبي والتصويري والتحبيري بالمعنى والغرض الذي يوضع له الكلام، والثاني والثالث، على الترتيب: يتضمن علاقة البيان (اللفظ والمعنى)، وعلاقة بعضهما ببعض في تحقيق بلاغة الخطاب وأدبيته( )، وعلى تبيان تعدد وتفاوت مستويات النظم في مدارج الفضيلة( ).
تأسيساً على كل ذلك الذي مضى تبيانه فإنَّ النظم لتتبين أهميته في نقد النص الأدبي، أو بعبارة أخرى تتبين أهميته في النقد الأدبي للنص. وحين أكدت وصف النقد بأنه الأدبي أشير إلى أن النص يمكن أن تتناوله صنوف من مناهج النقد، ومنها منهج النقد الأدبي، أي المنهج الذي يعمد إلى تحليل وتأويل ما به يكون النص كله في كافة عناصره ومستوياته أدباً، فإذا ما تم الوفاء بحق ذلك التحليل والتأويل لأدبية النص كان البلوغ إلى وصف منـزله من الجمال أو القبح. وذلك البلوغ إلى وصف المنـزلة مرحلة أرى أن العناية بما يسلم إليها أولى من العناية بتقريرها؛ لأن من حلَّل وفسَّر وأوّل فقد فتح لك الطريق المعبّد المطرّق إلى أن تقف بنفسك على الوصف الحقيقي لمنـزلة ذلك النص من الجمال أو القبح، فالنقد الأدبي في أساسه تبيين وتحليل وتأويل، وما التقدير جمالاً وقبحاً إلا لازم ذلك التبيين والتحليل والتأويل، فالنقد الأدبي إنما هو عمل وصفي في المقام الأول، معياري فيما بعده.
ولما كان النظم عمود بلاغة الخطاب، وكان نقد أي نص لابد أن يعنى بذلك العمود، فإن الإمام عبد القاهر يقيم نقده النص نقداً أدبياً، أي نقد ما به يكون الخطاب أدباً على أمرين أساسين أكدهما الإمام عبد القاهر:
الأول: المنهج التحليلي الاستقصائي لكل مكونات وعناصر الخطاب الأدبي( ).
والآخر: موضوعية التحليل والتعليل، والإبانة عن ذلك بلسان عربي مبين( ).
((ومثل هذا النقد مسهب، ومن ثمَّ فهو مديد طويل، إذ يستطيع أن يهتم بالعلاقات المتداخلة بين المعاني، ويتطرق إلى أدق صنوف تلك العلاقات، وأن يُعنى بأصغر العناصر في المبنى، وبالإيحاءات الجانبية، وبالظلال التي قد تمرّ دون أن يلحظها قارئ عارف بالأثر المنقود تمام المعرفة، وهي ظلال لا يلمحها إلا ذو تمرس لبيق بارع))( ).
وتأسيساً على دعامتي التحليل الاستقصائي والتعليل الموضوعي، فإن المجال الرئيس لهذا النقد عند الإمام إنما هو العلائق الروحية بين معاني الكلم، والتي تتبعها ـ ضرورة عنده ـ العلائق الحسية بين ألفاظ الكلم( ). وهذا يبين ويقرر أن القيم الأدبية للعلائق الحسية مرتبطة بل منبثقة من القيم الروحية لمعاني الكلام.
فالنقد الأدبي للنص ينبغي أن يوفي العلائق الروحية بين معانيه الجزئية والكلية، والعلائق الحسية بين ألفاظه وأنغامه حقهما، شريطة أن يكون المنطلق الذي تنقد منه العلائق الحسية للألفاظ هو العلائق الروحية لمعاني الكلام. وكل ذلك مرهون ـ أيضاً ـ بنقد علائق هذين الضربين من العلاقات بالمعنى الكلي، والغرض المنصوب له الكلام( ).
من هنا كان استثمار النظم في النقد الأدبي للنص مقتضياً إخضاع كل عنصر وجانب من عناصر وجوانب بناء النص الأدبي للتحليل والتأويل وللتعليل الموضوعي، وربط ذلك كله بالمعنى الكلي، والغرض العام المنصوب له الكلام.
ذلك تبيان معالم المشروع النقدي لعبد القاهر في طوره التصوري النظري له، وهو كما ترى يكاد يبلغ حد النظرية المكتملة عناصرها، لتبقى من بعد ذلك الممارسة المعرفية والذوقية المسترشدة بتلك النظرية، دون أن يكون هنالك إخضاع قسري لحركة الممارسة الذوقية والتحليلية في النقد العملي للنص، بمعنى أن تكون الممارسة من قبيل النقد التحليلي العملي، وليس من قبيل النقد التطبيقي المهموم برؤية صورة التصور النظري في مرآة النص، كما نراه عند بعض أهل العلم من سعيهم إلى رؤية النظرية البلاغية أو النقدية التي ارتضاها قائمة في صفحة النص الذي عمد إلى درسه.
والنقد التحليلي العملي مهموم برؤية واقع النص على ما هو عليه، سواء كان مقارباً نظرية معرفية وذوقية ما أو مفارقاً. فالتصور النظري في النقد التحليلي لا يعدو أن يكون أداة ووسيلة ينظر بها الواقع، وليس معياراً يحاكم به واقع النصّ.
وإذا ما كنّا قد رأينا الإمام عبد القاهر قد منح التصور النظري كثيراً من حقه ووفاه حسابه، فإننا حين نتابع الممارسة التذوقية التحليلية للنصوص فإنه يحسن بنا أن ننظر إلى صنيعه من جانبيين:
الأول: مبلغ استثمار ذلك التصور النظري في رؤية الواقع الأدبي للنص وتحليله في مستوياته التركيبية على اختلاف تفاسحها، بدءاً من الصورة الجزئية الماثلة في الجملة النحوية، إلى الصورة الكلية الماثلة في الجملة البيانية التي قد تحوي عديداً من الجمل النحوية المرتبطة بنواسق لسانية، والمرتبطة بعلائق روحية منبثقة من داخلها هي.
والآخر: مدى المجال الذي امتدت إليه الممارسة التحليلية التذوقية، المستثمرة التصور النظري في رؤية الواقع الأدبي على المساحة النسيجية للنص الأدبي.
وسأتناول ـ بإذن الله ـ قراءة ممارستين نقديتين لعبد القاهر لصورتين شعريتين:
الأولى: استخدم الإمام عبد القاهر فيها منهج الأقدمين في التنبيه على مكان الخبيء ليُطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيُخرج( ).

والآخر: مارس هو بنفسه طلب ذلك الدفين فأخرج بعضه( ).
وإذا ما جئنا إلى تبيان مدى المجال الذي امتدت إليه الممارسة التذوقية التحليلية، فإنّ الذي بلغنا من تراث الإمام عبد القاهر ليس فيه ما يدل على أنّ الإمام قد عمد إلى نصّ أدبي، شعراً أو نثراً، كاملاً فتناوله بالتذوق والتحليل.
ولا أظن أنّ الإمام قد كان منه ذلك عن عجز أو غفلة عن أهمية التدرج من المستوى الجزئي في النقد إلى المستوى الأعلى، الذي يبلغ النسيج الكلي للنصّ، وذلك من أمرين:
الأول: ما أشرت إليه قبل في مبحث "مستويات النظم عند الإمام"، وجعله النظم القائم في مجال بناء الجملة كلا نظم في صحبة النظم القائم بين علاقات الجمل في بناء الفقرة، على نحو ما سمعته في نقده كلمات الجاحظ: "جنبك الله الشبهة …"( ).
والآخر : أن بين أيدينا قولاً منه في باب آخر غير باب نقد بلاغة النصّ الأدبي الإبداعي، وهو باب بلاغة البيان القرآني، يقرر فيه ما يؤكد وعي الإمام منـزلة التحليل والتأويل المتصاعد من الصورة الجزئية إلى الصورة الكلية النصية، يقول الإمام: ((… أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه، وإعلام وتذكير، وترغيب وترهيب، ومع كل حجة وبرهان، وصفة وتبيان. وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعُشْراً عُشْراً ، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقاً بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حكّ بيافوخه السماء موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدَّعي وتقول، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول))( ).
فانظر قوله: "تأملوه سورة سورة … وآية آية"، فيه دلالة على أن التأمل والتحليل لا يقف عند مستوى جزئي معين، بل هو شامل كافة المستويات التركيبية. وفيه دلالة على أنه ذاهب إلى قيمة التحليل النصي، وإن لم يدعم ذلك اليقين النظري منه بأهمية ذلك بممارسة تحليلية لنص كامل، إلا ما كان منه من إشارة إلى موطن الخبيء في نظم سورة الفاتحة، وما قامت عليه من علائق روحية بين معاني كلمها( ).
فهل كان خلو تراث الإمام من الممارسة التذوقية التحليلية لبناء نصّ كامل مرجعه قرب الأجل؟ لعل استفراغ الإمام عبد القاهر كثيراً من جهده ووقته في التصدّي لمقالات المخالفين ونقدها ونقضها ذو أثر بليغ في افتقاره إلى ما يحقق للتحليل والتذوق الكلي للنص حقه. وهذا واحد من الآثار غير الحميدة لاشتغال الرواد والأئمة بنقض مقولات المخالفين، من قبل الوفاء التام بحق إقامة بناء التصور النظري للمذهب إقامة كاملة، ثم الوفاء التام بحق الممارسة التذوقية التحليلية لكافة مستويات البناء الأدبي للنص، بدءاً من أصغر عنصر من عناصره اللسانية والروحية، إلى أعلاها وأبسطها مدى: النص كله.
لو أن عبد القاهر تجاهل الاشتغال بنقد ونقض مقالات الآخرين، وانصرف إلى تشييد نظريته تصويراً نظرياً، وتدبّراً عملياً في كافة مستويـات النظم، فإن بقي من العمر والجهد شيء صرفه في النقد والنقض لمقالات المخالفين، فإن لم يبق فإن فيما أدّى حقه الكفاية والغنية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أنْ يبصر من خلاله عوار مقالات المخالفين ومعاباتها.
المهم أنّ علماءنا الأماجد في غير باب نقد النص الأدبي، في باب فقه البيان القرآني كانوا أسرع إلى الأخذ بالتصور النظري لدى الإمام عبد القاهر، واستثماره في مجال عنايتهم ودراستهم، فاستثمرت نظرية نظم النصّ في كافة مستويات النظم والترتيب والتأليف والتركيب النصي في القرآن الكريم، ولم يقتصر تدبرهم وتحليلهم على بناء الجملة النحوية، بل تجاوز ذلك بناءَ الجملة البيانية ذات الجمل النحوية العديدة، إلى بناء المعاقد المشكل بناء النص/ السورة القرآنية، بل امتد ليشمل بناء السياق البياني للقرآن الكريم، القائم على أساس الإحكام ثم التفصيل في مستوياته العديدة، التي أعلاها أحكام بيان معاني الهدي القرآني في سورة أم الكتاب، وتفصيله في سائر سور القرآن الكريم كله، تفصيلاً تتناسل عناصره من رحم السورة الأم.
وأنت لا تجد بيانا بشرياً أو غير بشري قد عولج بناؤه على هذا المنهاج التحليلي والتركيبي، كمثل ما أنت مبصره في صنيع علماء القرآن الكريم ببيانه الحكيم، وهم لا يعتمدون في ذلك على النظر الشكلي للبناء السوري وعلاقات السور ببعضها، بل تجاوز العناية بعلائق فواتح السور بخواتم ما قبلها، وإنْ كان ذلك في نفسه جد كريم، وذا لطائف إشارية ليس هنا مجال تجليتها ـ تجاوزوا ذلك إلى فقه العلائق الروحية بين المقاصد والأغراض والمعاني الكلية بين السور، بما يكشفون به عن وجهين:
الأول: التصريف البياني لتلك المقاصد والأغراض المنصوب لها الكلام.
والآخر: تصاعد المقاصد، والنمو الدَّاخلي للمعنى القرآني المكنونة جرثومته في سورة "أم الكتاب"، والمفصّل في سائر القرآن تفصيلاً تصاعدياً لا تراكمياً.
هذا الاستشراف النبيل الماجد لاستثمار نظرية النظم في فقه بلاغة البيان القرآني من علمائنا الأجاويد، لا نجد له عند الأقدمين من علماء البلاغة والنقد ما يضارع حركته وامتداده في دراسة النصّ الأدبي، شعراً ونثراً، فضلاً عن دراسة ديوان شعر شاعر. ولو أنّ عنايتهم بما اختاروا أن يكون من أهل العلم به من الإبداع الأدبي كانت على هدي وقدر عناية أقرانهم من علماء بيان القرآن الكريم ـ لو أنهم فعلوا وساروا بمنهاجهم على هدى خطا أقرانهم من علماء القرآن الكريم، لكانت ثمار النقد الأدبي عندنا أوفر عطاء وأسمى منـزلة مما هي عليه الآن.
ومن اللافت للنظر والمثير للعجب أنّ استثمار نظرية النظم، والاسترشاد بها في باب فقه بلاغة القرآن الكريم في أصغر صوره التركيبية إلى أعظمها: "السياق القرآني كله" قد بلغ ذروته وشرفه في القرن التاسع الهجري في عصر المماليك، ذلك العصر الموسوم بعصر الانحطاط في الإبداع الأدبي، وبعصر الموسوعات، والتراكم المعرفي، والتناسخ الثقافي، والعقم الفكري، والافتتان بالزخرف، وغير ذلك مما تموج به كتابات النقاد المحدثين من وسم هذا العصر بميسم التخلف. من العجيب أن نقاد الأدب لم ينتفعوا بمنهاج أقرانهم في عصرهم من علماء البيان القرآني على نحو ما نراه عند برهان الدين البقاعي (ت 855هـ) مثلاً.
كان حرياً بالنقد الأدبي حينذاك أن يتجاوب مع حركة التدبر البياني للقرآن الكريم، حتى وإن كان الغالب على نتاج إبداع أدباء ذلك العصر ما ليس حميداً، فإنّ من بين أيديهم نتاج عصور وقرون عديدة يمكن الممارسة التذوقية التحليلية الماجدة لشعره.
ماذا لو أن ناقداً استهدى بنظرية التناسب القرآني التي هي قائمة على أساس نظرية النظم الجرجانية، وعالج تحليل قصائده من العصور الخوالي على هديها؟ لو ذلك كان لكانت الحركة النقدية في ذلك العصر، إن لم تتسام على ما يتشادق به نقدة عصرنا هذا بما استجدوه من فتات موائد الأعاجم، لما كان من دونه منـزلة على الأقل.
وإذا ما نظرت في واقع النقد الأدبي في عصرنا هذا ـ متجاهلاً تلك المذاهب الأعجمية التي نبش نقادنا قبورها فأخرجوها لنقتات منها ـ فإنك ترى شيئاً من عناية الناقدين المستمسكين بعربيتهم لسانا وفكراً وتذوقاً بالاسترشاد والاهتداء بنظرية النظم الجرجانية في قراءة النص الأدبي قراءة تذوقية تحليلية.
ترى ذلك مثلاً في صنيع أبي فهر محمود شاكر لقصيدة "ابن أخت تأبط شراً":
إنّ بالشعب الذي دون سلع لقتيلاً دمه ما يُطلُّ
في كتابه "نمط صعب ونمط مخيف"، فقد كان صنيعه في التحليل استثماراً مجيداً لأصول نظرية النظم الجرجاني في تحليل النسيج الشعري للقصيدة كلها.
وتراه أيضاً في صنيع شيخنا أبي موسى في كتابه "قراءة في الأدب القديم"، في طبعته الثانية، فإنك مبصر أنّ منهج الشيخ في التحليل والتذوق قائم على أصول نظرية النظم الجرجانية، المتمثلة فيما سبق أن بينه من المقومات الثلاثة لتمام بلاغة الخطاب الأدبي( )، وفي أن المعنى الشعري جرثومته من رحم الصياغة الشعرية، التي عمودها النظم، القائم على توخي العلاقات الروحية بين معاني الكلم، وأن هذه العلاقات ذات وجوه وفروق وأنماط كثيرة، ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها زيادة بعدها، وأن فضائل تلك الوجوه والأنماط بلاغةً إنما تأتيها من روافد ثلاثة: المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، وموقع تلك الوجوه بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض، وأن مساحة النسيج النظمي لا تنحصر في نسيج الجملة النحوية ولا البيانية، بل ذلك ممتد إلى نسيج نظم النص كله.
ذلك ما يقيم الشيخ قراءته على أساسه، مستصحباً مقالة الإمام في تعيين طريق تحقيق مقومات تمام بلاغة الخطاب الأدبي، التي يقول فيها: ((ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غيرُ أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختـار له اللفظ الذي هو أخصّ به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يُكسبـه نبلاً، ويظهـر فيـه مزية))( ). وقارئ صنيع شيخنا أبي موسى في هذا الكتاب: "قراءة في الأدب القديم" يدرك أنه لم يسع إلى تطبيق نظرية النظم الجرجانية، بل إلى تحليل النص الشعري، مستهدياً بأصول تلك النظرية، ولذلك لم يشأ أن يكبل حركة تذوقه وتحليله بجزئيات تلك النظرية، ولم يشأ أن تكون قراءته للنص قراءة استنساخية لنظرية النظم الجرجانية فيها، فيكون صنيعُه المتحدثَ بلسان تلك النظرية، ولم يشأ أن تكون قراءته للنص قراءة تأويلية لنظرية النظم الجرجانية، التي تسعى إلى تأويل ما قد يحسب أنه وجه نقص أو إغفال لبعض وجوه النظر النقدي للنص، فهو لا يقيم حاله جندياً على ثغر من ثغور النظرية الجرجانية، ولكنه يعمد إلى القراءة التحليلية لواقع النصّ الأدبي مسترشداً، لا مكبّلاً، بأصول النظرية الجرجانية. واقرأ أولاً مقدمتي كتابه الأولى والثانية، ثمَّ تابع القراءة في ممارسته التحليلية تجد مصداق الذي ذكرت لك، بل تجده في ممارسته التحليلية أجلى وأبهر مما تجده في مقدمتيه.
وهذا ما يجعل ما يرمي إليه من قراءة النظرية الجرجانية ممثلة للفكر البلاغي العربي في شعر العربية، فيرى تلك النظرية واقعاً في نسيج الإبداع الشعري، فالأساس عنده تحليل الشعر وتذوقه، وليس شرح النظرية نفسها بأي نهج كان الشرح. التحليل والتذوق للنص الأدبي هو السبيل المطرق إلى كشف كثير من دقائق ولطائف تلك النظرية، وإلى البناء على ما جاءنا منها من الأقدمين، وليس من سبيل إلى استكمال جوانبها إلا بتحليل النصّ الشعري، مسترشدين بأصولها ومنهجها. وهنالك ممارسات نقدية انطلقت من أصول تلك النظرية في قراءة النص الشعري، على نحو ما نراه عند الدكتور عبده بدوي فيما كان ينشره في مجلة "الشعر"، وفيما نشره في بعض كتبه، وما نراه في محاولتين للدكتور عبده زايد من قراءة معلقة زهير وقصيدة حريق ميت غمر لحافظ إبراهيم، وغيرهم غير قليل، وكلها ممارسات تؤكِّد أهمية نظرية النظم في نقد النصّ الأدبي.


من صور نقد عبد القاهر النص في ضوء نظرية النظم
الذي يقرأ "الدلائل" يجد الإمام عبد القاهر في مفتتحه يعرض لصنيع العلماء من سلفه في بيان معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها. وهو إنما ينظر في مقالتهم في هذا؛ لأن مقالتهم هذه مقالة فيما هو الجدير بِأن يكون مناط النظر والقراءة التأملية التحليلية التأولية والتلقي الماجد في البيان الأدبي العالي.
نحن لا نقرأ في أي إبداع أدبي إلا أدبيته أو شعريته التي يطلق عليها أسلافنا: "الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان وكل ما شاكل ذلك"، فهذه الكلمات السلفية العربية هي هي أدبية النص وشعريته، كما يجري على الألسنة اليوم، وقد أغرم الناس بهما، وأعرضوا عن تلك الكلمات السلفية، إما ظناً منهم أنهما ليست هي التي تتقاذفها ألسنة المحدثين من أدبية النص وشعريته، وأن الجديدتين ماجدتان، وكما يقول المثل العربي: "في كل شجر نار، واستمجد المرخ والقفار"، أي: استكثر منهما كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما، ومن ثمّ كانتا جديرتين عند أولئك بالرغبة فيهما وجريانهما على اللسان من تلك الكلمات السلفية التليدة، وإما خوفاً من أن يأتي زمان يؤخذ فيه الناطق بالكلمات السلفية "البلاغة والفصاحة …"، والراغب عن الأدبية والشعرية بتهمة الإرهاب اللغوي، والتي ستصنعها الطواغيت، بأنها من رحم الإرهاب السياسي، فكان من الحيطة {خذوا حذركم}، {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، و((المؤمن كيس فطن)) أنْ يرغب عن تلك السلفيات التليدة إلى هذه الغضة الطرية "الأدبية/ الشعرية".
قلت إنه لما كانت كل قراءة وتلقي = (وهما كلمتان قرآنيتان لا أعجميتان، وما يكون لي أن أدع قرآني مخافة شيء) = إنما هي في بلاغة البيان وفصاحته، وأنه لا يعنينا من أمر الكلام العالي إلا فصاحته عن المعاني الآدمية، التي ترتقي بالقارئ من وجوده الإنساني اللائط بالتراب إلى حقيقته الآدمية المستشرفة إلى الأفق الأقدس، حيث القرب والرضوان. نحن المسلمين لا نقرأ ولا نتلقى الكلمة الشاعرة، قصيداً أو نثيراً، متجردين من إسلامنا وعروبتنا، أو متشاغلين عنهما، هما ـ عندي ـ مزاج كل قراءة، بل كل حركة، وإلا كان الفعل عقيماً، بل ليته عقيماً وكفى، إنه فعل لئيم أليم.
فمناط قراءة النص هي بلاغته وفصاحته وبراعته وبيانه (أدبيته/ شعريته)، فما بيان السلف لحقيقة هذا المناط؟
يؤكد الإمام عبد القاهر أن سلفنا كان بيانهم ذلك على ضربين:
ضـرب: كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء.
وضرب: كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها( ).
حدد بصيرتك في قوله: "الخبيء"، "الدفين". وهو يردد مثل هذا في موطن آخر من الكتاب، يقول: ((الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها رموز لا يفهمها إلا من هو في مثل حالهم، من لُطْف الطبع ومن هو مهيأ لفهم تلك الإشارات، حتى كأن تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان قد تواضعت فيما بينها على ما سبيلُه سبيلُ الترجمة، يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم، ولا يعرفها من ليس منهم))( ).
وفي موضع ثالث يقول: ((واعلم أنك لا ترى في الدنيا علماً قد جرى الأمر فيه بديئاً وأخيراً على ما جرى عليه في "علم الفصاحة والبيان". أما البدِئ فهو أنك لا ترى نوعاً من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذين علَّموا الناس، وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريحَ أغلب من التلويح، والأمر في "علم الفصاحة " بالضدّ من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جله أوكله رمزاً ووحياً، وكناية وتعريضاً، وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطُن له إلا من غلغل الفكر وأدق النظر، ومن يرجع من طبعه إلى ألمعية يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأن بَسْلاً حراماً أن تتجلى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها، وحتى كأن الإفصاح بها حرام، وذكرها إلا على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ. وأما الأخير فهو أنّا لم نر العقلاء قد رضُوا من أنفسهم في شيء من العلوم أنْ يحفظوا كلاماً للأولين ويتدارسوه، ويكلِّم به بعضُهم بعضاً، من غير أنْ يعرفوا له معنى، ويقفوا منه على غرض صحيح، ويكونَ عندهم، إنْ يُسألوا عنه، بيان له وتفسير، إلا "علم الفصاحة" فإنّك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظاً للقدماء وعبارات، من غير أنْ يعرفوا لها معنى أصلاً، أو يستطيعوا، إنْ يُسألوا عنها، أن يذكروا لها تفسيراً يصحّ))( ).
لا يكون ترديد من الإمام في أمر إلا إذا كان ذلك الأمر جليلاً. تراه فاعله في شأن النظم وهو نهج إباني ذو نسب عريق بنحو القرآن الكريم.
قد يظن أن عبد القاهر عازف في مقالته تلك على أوتار الشكوى أو المعابة صنيعَ الأئمة من السلف. أرى صنيع عبد القاهر على غير التشكي والمعابة، أراه رامياً إلى بيان جوهر ما هم بسبيل البيان عنه، إنه لا يأنس بغير هذا، ولا يليق به إلا ذلك الضرب من البيان، فهو مما يئده الإفصاح والإيضاح والإسفار، فكل جليل لا تحيط به الأبصار والبصائر. فمن كرمه لم يطرح في الطريق، فحقه أن "لا يفطن له إلا من غلغل الفكر، وأدق النظر، ومن يرجع من طبعة إلى ألمعية يقوى معها على الغامض ويصل بها إلى الخفي"، كما يقول الإمام. جوهر بلاغة البيان العالي (أدبيته/ شعريته) التي هي مناط تلقيه وقراءته وتأمله وتدبره ذات حرمة على الدهماء والغرباء، كحرمة الحرة النسيبة المسلمة، هي بسْل حرام أن تتجلى سافرة لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها، فمن شاء أن تسفر له فليكن لتلك أهلاً، وليعقد لها عقداً، وليقدم لها صداقا شاهداً على صدق طلبته، وأهليته لحسن الجواب. فالسلف في صنيعهم ذوو لقانية وفراسة عليمة بحق ما هو مناط القراءة والتلقي من البيان العالي، فمن أراد أن يكون من أهلها فليملك ما يؤذن له به طرق أبواب الفردوس. ومن داوم الطرق أُذن له.
عبد القاهر غير معيب صنعة العلماء هنا، ولذلك اتخذها فكانت منه في كتابيه، ولا سيما "الدلائل". تجده في قراءة بعض النصوص يعمد أحياناً إلى الرمز والوحي، وأحياناً ينبه على مكان الخبيء لتطلبه أنت بنفسك، وعلى مكان الدفين لتبحث عنه وتخرجه بنفسك، ويفتح لك الطريق إلى المطلوب لتضرب فيه بقدمك لا بقدم غيرك.
وهذا الأخير هو الغالب على أمره، فهو لا يحب أن يقرأ لك، وأن ينوب عنك في التأمل والتدبر. كأنه يرى في هذا حيفاً على النص من جهة، وغمط القارئ الآخر من أخرى. حق النصّ أن يخادنه كثير من القراء، فكل سعي إلى إغناء القراء عن مخادنته حيف على ذلك النص، فكل قراءة/ مخادنة من القارئ تستثمر ضرباً من العطاء المكتنـز في النص. فكل قراءة ما جده للنص تجعله قديراً على التحدث بالنعمة التي اكتنـزت فيه.
وحق القارئ الآخر أن يمارس بنفسه ذوق ما يطعم، لا أن يقرى ما لاكته النواجذ من قبله. إكرامه أن تفتح له الطريق ليسلك، لا أن تحمله على ظهرك، أن تعلمه الصيد لا أن تصطاد له، كما تقول الحكمة.
ترى مثل هذا التنبيه على مكان الخبيء ليطلب في قراءة الإمام مع مدحة البحتريِّ "الفتحَ بن خاقان"، التي يتغنى فيها بقوله:
بَلَوْنا ضَرَائب مَنْ قَدْ نَرَى
فما إن رَأيْناَ لفَتْحٍ ضَريَبا

هو المرء أبدت له الحادثا
ت عزماً وشيكاً ورأياً صليبا

تنقَّل في خُلُقي سؤدد
سماحاً مرجى، وبأساً مهيبـا

فكالسيف إن جئته صارخاً
و كالبحر إن جئته مستثيبا

لا يلج الإمام قاموس هذه الصورة من قبل أن يهيئ المتلقي لترك التشاغل عنها، ومن قبل أن يبعث فيه الاستشراف إلى مكنونها. يثيرك لتقف بنفسك وتبحر وتغوص.
يقول: ((اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر … وتأمَّلْه)).
هو ينصفك من نفسه، لا يجعلك تعمد إلى ما يرى هو ما يصفه بالحسن، وما يشهد هو له بالفضل، إنما تعمد إلى ما كان من الأقدمين ذلك في شأنه. وكأنه لا يدعك تكافحه بأن هذه ليست بالحسنة والفاضلة، يجعلك أمام ما احتكت به عقول، ولامسته قلوب، وخبرته أذواق وأرواح، فزكت فضلاً، وسمت نبلاً.
ثم يصف لك ما أنت مقيم فيه إذا ما عمدت إلى ما ذكر لك. يريك أنك ترى نفسك بهذه الصورة الشعرية التي سيذكرها قد ارتاحت واهتزت واستحسنت، أي أنك وجدت فيها ما أقامتك في السياق الاستحساني الذي أقامت فيه من سبقك، فهي ما يزال سلطان سحر بيانها فتياً.
وحين إذ يطالبك بالعودة إلى نفسك التي أثملتها الأريحية: النشاط وطيب النفس ـ لتعلم مصدرها وسببها، وما كانت عنده كذلك، يقيمك الإمام عبد القاهر مع نفسك، يستخرج من حالك الذي لا تجهل وشأنك الذي لن تنكر وأمرك الذي لن تدفع، كل هذا يفعله الإمام توطئة لما هو مومئ إليه من مكامن الحسن والفضيلة والسحر الآخذ في أبيات البحتري. من يفعل معك ذلك من قبل أن يشير إلى موطن الخبيء من خفي الحسن لتطلب، قد أنصفك من نفسه وهيأك لتعطي النص حقه.
ثم يؤذن فيك أنك إذا ـ هكذا تحقيقاً ـ رأيتها ـ وهي رؤية علم لا تقليد قميء ـ قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازاً في نفسك. فحق هذه الأبيات التي قرتك الأريحية، وحذتك الطيب أن تعلم السبب الذي به كانت المقرية الحاذية، وأن تستقصي في النظر. فإنْ فعلت في تلك الأبيات البحترية فأي شيء علمت: ((إنك تعلم ـ ضرورة ـ أنْ ليس إلا أنه قدم وأخّر، وعرّف ونكّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرّر، وتوخى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله، ثم لطَّفَ موضعَ صوابه، وأتى مأْتَىً يوجب الفضيلة))( ).
وهو إذ يثيرك ويقررك بالمعدن الذي نجم منه ما قراك الأريحية، يعمد إلى وضع يدك على مواطن الحسن من غير أن يخرجه لك؛ لتبحث أنت عنه فتخرجه، ويفتح لك الطريق؛ لتسلكه أنت، ويضع لك القاعدة؛ لتبني أنت عليها. فإنك إن فعلت إخراجاً وسلوكاً وبناء ذقت أعظم مما ذقت قبل، وفتحت مصاريع الأريحية في نفسك على نحو ليس لك بمثله علم.
يقرِّرك: ((أفلا ترى أنّ أول شيء يروقك منها قوله: "هو المرء أبدت له الحادثات")). وما بين لك ما فيه، فإن نظرت، وجدت التعريف في كل من "هو المرء"، وهو تعريف يتقاذف إلى قلبك أن يكون على نحوه في قول الشاعرة الخنساء:
إذا قبح البكـاء عـلى قـتـيـل رأيت بكاءك الحسن الجمـيلا
أو على نحو قول ابن الرومي:
هو الرجل المشروك في جلّ مـالـه ولكنه بالمجد والحمد مُـفْـردُ
وهما نحوان مختلفان مثمران معنيين متفاوتين. نحو البيت الأول: إقرار البكاء عليه في جنس الحسن غير المنكور، فيكون المعنى أن "الفتح" قار في المروءة، قراراً لا يلحقه شك من أحد. وليس المعنى على تخصيصه بالمروءة، وجعل ما عند الآخرين منها عدماً، بإزاء ما عنده منها. ونحو البيت الثاني: الإبانة عن أنّ من شاء أن يعرف المروءة، وأن يحصّل معناها قائمة في أحد، فعليه بـ"الفتح" فإنه هي، فحيث تصورت المروءة وجدته إياها.
وثمّ احتمال أن يكون على نحو قول الأعشى:
هو الواهب المنة المصطفاة إمّـا مخاضاً وإما عشاراً
إذا ما جعلت قوله "أبدت له الحادثات" قيداً للمسند "المرء"، أي المرء المنعوت بإبداء الحادثات له عزماً وشيكاً ورأياً صليباً، فيكون من سبيل الإفراد بذلك، وأنك لا تجده إلا في الممدوح.
احتمالات قائمة يسبح فيها فكرك، وفي كل متجه تلاقيك محاسن وعطايا، وإن كان أقربها أن يكون على نحو "هو الرجل المشروك".
ونعود لننظر ما في تعريف المسند إليه بالضمير "هو"، والنظر يقريك أن ذلك الوصف "المرء أبدت" إنما هو من كنهه وطبعه وسجيته، وليس مكتسباً من بعد افتقار. هو من هُويته وكينونته لا يتخلى عنه ما بقيت فيه الحياة.
وفي إسناد الإبداء إلى الحادثات إبلاغ في تمكن الممدوح من المعالي، وأن الحادثات التي تذهل العقل فلا يعرف طريقه إلى الرأي الصليب، وتثبط القلب فلا ينبت العزم الوشيك، هي التي تكشف من الممدوح عزمه الوشيك ورأيه الصليب، فلا ترى أحداً من قريب أو بعيد لا يبصر عزمه الوشيك ورأيه الصليب.
وفي هذا منع توهم أنه بغير الحادثات ليس ذا عزم وشيك ورأي صليب، من أن إبداءهما مقرون بالحادثات، فليس لإسناد الإبداء للحادثات مفهوم مخالفة، وذلك يؤكده النظر في قوله "أبدت"، وهي لا تبدي إلا ما كان خفياً عن بعض الأبعدين، فقد يظن من لا علم له به أنه ليس كذلك، فإذا ما وقعت حادثة لم يبق ذو علم إلا وعلم ماله من عزم وشيك ورأي صليب.
ويبقى قوله "له"، وتقديمه على المسند إليه "الحادثات"، وفيه من الدلالة على مزيد الاختصاص بذلك، وأن هذا من الحادثات لا يكون إلا له، أما غيره فإن الحادثات تخفي ما كان لهم ظاهراً من العزم والرأي.
وفي تقديم العزم على الرأي دلالة على أنه لا يفني وقتاً في الرأي من قبل العزم، فهما معاً مجموعان في لحظة لا يشغله الرأي عن العزم ولا العزم عن الرأي، ودلالة على أن عزمه الوشيك القريب ليس عن حمق وعصبية وتهور، كما تراه من شأن بعض المتهورين من الفتية ذوي القوة. إن عزمه صِنْو رأيه الصليب.
وقد يتراءى لك أن وصف العزم بالصلابة آنس من وصفه بالقرب، لكنك إن دققت رأيت أن في وصف الرأي بالصلابة دلالة على أنه ليست فيه ما في غيره إذا ما طُرح عليه ممن يستشير رأي فيه شيء من سلامة ودعة مال إليه واتخذه ذريعة فتقاعس. إنّ رأيه صليب لا ينهنه منه كلُّ الآراء التي تدعو إلى غير المضيّ إلى المجد. وفي وصف العزم بالقرب دلالة على أنه ليس بحاجة إلى من يوقد فيه نارها، ويذكي أوارها، بكلمات وأشعار، كما تراه عند بعض الآخرين.
ويدلك الإمام على موطن ثان من مواطن الحسن يقول: ((ثم قوله: "تنقلّ في خلقي سؤدد" بتنكير "سؤدد"، وإضافة الخلقين إليه)). وإذا نظرت أنت رأيت أن هذه الجملة الفعلية منسوقة على الجملة الفعلية "أبدت"، وسياق النظم: "هو المرء أبدت … وتنقّل …"، غير أنه ما نسقها بنسق نمطي "حرف من حروف العطف"، فهي في اعتلاقها بسابقتها غنية عن ناسق ينسقها، وكأنها في موقعها من التي قبلها موقع قول الله تعالى: {لا ريب فيه} من قوله: {ذلك الكتاب}، بينهما ما يسميه البلاغيون "كمال اتصال". ليس لناسق لفظي موقع بينهما؛ لأنه إن وقع يكون موقعه عقيماً، إذ لا يضيف إلى الاعتلاق بينهما فتيلاً مما بينهما كمال اتصال.
فكأنه يرمي إلى أن الممدوح، الذي المروءة من كنهه وسجيته وطبعه وهي فيه كاملة قارة في الحوادث، يتكشف له في أعين العالمين عزمه الوشيك ورأيه الصليب، وهو في كل حالة متنقل في خلقي سؤدد لا يتخلى عنهما أبداً، فذلك من مألوف عادته التي تظهر في الحوادث وغيرها، وهو تنقل لا يعرف التخلي عما ينتقل منه، ولذا لم يقل: "تنقل بين خلقي"، وإنما قال: "في"، فهو حيث حل قائم في الخلقين معاً.
وهو في تنكيره "السؤدد" دلالة على عظمته وكماله وأنه لا يحاط به فيعرف، إذ التعريف تقييد وتحديد، وذلك سؤدد أعزّ من يقيد ويحدّد، هو من التكاثر والتسامي فوق طاقات كل قيد وكل حد.
وفي إضافة "الخلقين" له دلالة على أنهما ليس إلا للسؤدد، وأنك لا تجدهما منتسبين إلى غير السؤدد، فهو دائم الإمامة في أخلاق المجد والسيادة والرفعة.
وفسّر هذين الخلقين اللذين ينتقل الممدوح في رياضهما، ولا ينتقل ألبتة عنهما أو عن أحدهما بقوله "سماحاً مرجّىً وبأساً مهيباً"، وفي السماح معنى فوق الذي في الجود، إذ هو جود بالنفيس عن نفس كريمة رضية بما جادت به، محبّة لمفارقة ما جادت أكثر من محبة مصاحبتها لما أبقت.
وفي وصفه بأنه سامح مرجّى دلالة على أن جوده الدافق من نفس سمحة هو مطمع الرجاء، ولذلك لم بقيد قوله "مرجَّى"، وبناه على اسم المفعول ذي الفعل المبني لغير الفاعل، دلالة على أنه رجاء ليس من فاعل متعين، بل كل من يكون منه رجاء هو ممن يرجو ذلك السماح، وفي هذا إبلاغ في النعت ما بعده.
ومثله قوله "بأساً مهيباً"، قابل السماح (الجود الوافر الدافق من نفس سمحة محبة للعطاء) بالبأس الذي هو القوة في شجاعة مؤلمة، من أن للبأس وجوهاً من المعنى: هو القوة والشدة في الحرب، وهو العذاب، وهو الشجاعة. وفي هذا التقابل دلالة على عظيم سؤدد الممدوح، واقتداره على أن يمنح كلاً ما يستحق.
وفي نعت البأس بأنه مهيب ما في نعت السماح بأنه مرجى من الدلالة على عموم الهيبة من عموم الناس وغيرهم، فكل من هو أهل لأن تقع منه الهيبة هو مهتاب بأسه. وفي الهيبة معنى الإجلال والخوف، وقد يكون مع الهيبة محبة وتقدير، بل وقد تكون مع الهيبة تلذذ كل على موقعه منه.
وفي تقديم السماح على البأس دلالة على أن الأقربين يرجون سماحته أكثر وأقرب مما يهابون بأسه، فهو لذي القربى يبدأ بسماحه المرجىّ، وكل قومه ذوو قربه، وإن تباعدت أوطانهم، وكل مسلم عنده ذو قربى يرجو سماحته، ومن تحدثه النفس الأمارة بسوء كان له مع السماحة بأس مهيب.
ثم يدلك الإمام على موطن آخر من مواطن القراءة والتلقي لتخرج منه خبيء الدر، ودفين الجوهر، يقول: ((ثم قوله: "فكالسيف"، وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محالة: فهو كالسيف. ثم تكريره "الكاف" في قوله "وكالبحر". ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه. ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله "صارخاً" هناك و"مستثيباً" ههنا؟ لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت، فاعرف ذلك))( ).
يشير الإمام إلى أن البحتري فرّع من نعت الممدوح بأنه هو المرء الذي أبدت له الحادثات عزماً وشيكا ورأياً صليباً، وتنقّل في خلقي سؤدد سماحا مرجّى وبأساً مهيباً، فرّع من ذلك تشبيهه بالسيف في حال استصراخه، وتشبيهه بالبحر في حال استثابته.
هذا التفريع فيه دلالة على أن مشابهته السيف في حال استصراخ أحد به منبثقة من تنقله في البأس المهيب. فهو لما كان ذا بأس يهابه كل من تقع منه المهابة والخوف، ولاسيما الأبعدين، وكان الأقربون دائماً في أمن جلاله وسلطانه، فإن حدّثت أحداً من الأبعدين نفسه أن يروّع ذا قرابة من الممدوح، وكل مسلم ذو قرابة {إنما المؤمنون إخوة}، فإن المسلم ذا القرابة مستنجد بالممدوح مستصرخه، فإذا الفتح سيف براق يفيض من نجدة دما. ولذا لم يأت بأداة الشرط "إذا" المفيدة للتحقيق، وأتى بأصل الشرط "إن" دلالة على أن استصراخ الأقربين به استنجاداً من الأبعدين ليس كثير الوقوع محققة، فقلّما تحدّث الأبعدَ نفسُه الأمارةُ بالسوء أن تمتد يده إلى مسلم بما يكره؛ لما لبأس الممدوح من توغل في نفوس الأبعدين.
وفي تفريع مشابهة الممدوح البحر إنْ استثابه أحد من ذوي قرابة الإسلام من قوله "سماحاً مرجّى" دلالة على أن فيض جوده لا يكاد يحوج أحداً من ذوي القربى أن يستثيب، فهو يعطي من قبل أن يسأل، فإنْ حدثت أحداً نفسه أن يستثيب الممدوح، لا عن عوز وحاجة، ولكن تلذذاً بالعطية، فإن الحبيب يتلذذ بعطية المحبوب، وإنْ كان في غير حاجة إليها هي، ولكنه في حاجة إلى دلالتها على المحبة والذكرى، فإنْ حدث أن استثابه أحد من ذوي القربى، فإنّ البحر زاخر بالعطايا، يعطيك لا على قدر ما ترغب، بل على ما يرغب هو إغراقاً بفضل، وشمولاً بنعمة.
وفي تقديم التشبيه بالسيف على التشبيه بالبحر مقابلة لتقديم السماح المرجّى على البأس المهيب، دالة على أن مبدأ أمره ومنتهاه الجود والعطاء والكرم، ومن رحم هذا الكرم بأس مهيب ونجده حاضرة، وفوق هذا فيه دلالة على أنه لا مفاضلة عنده بين الخلقين إلا بما يقتضيه المقام، فحيناً يقدّم السماح وحيناً يقدم البأس، فكل في مقامه هو الجميل.
وفي تكرير "الكاف" دلالة على أن كل تشبيه منبثق من معدنه. تشبيهه بالسيف منبثق من البأس المهيب، وتشبيهه بالبحر منبثق من السماح المرجى، مستصحباً في نفسك أنه لا ينتقل عن واحد منها، بل هو منتقل فيهما، قائم فيهما أبداً، لا يتخلّى ولا يتعرّى.
وفي إخراجه حالاً من كل شرط من بعد أن أخرج شرطاً من كل تشبيه ضرب من التناسل بين المعاني، إشارة إلى أن نعوته وصفاته يتناسل بعضها من بعض، فنعوته لا تتعاند، بل هي المتآخية ذات الرحم الموصولة.
ويزيد على هذا: ذلك التوازنُ الإيقاعيُّ المتناغي مع الإيقاع النفسي المنفجر في نفس المتلقي لذلك الشعر من جهة، والذي هو قِرى البحتري لك أنت، والمتناغي مع الإيقاع النفسي المنفجر في نفس المتلقي سؤدد "الفتح" من جهة أخرى.
كل ذلك الذي يهطل عليه من التشبيه بناءً وتصويراً لم يشأ "البحتري" أن يبنيه على مسند إليه حاضر في لسانه، فلم يقل لك "فهو كالسيف"، كمثل ما قال "هو المرء"؛ ليدلك على أن هذا إنما هو من رحم ما بناه على المسند في قوله "هو المرء". ولو أنه أعاد المسند إليه لكانا جملتين، ولدل ذلك على أنه وإن كان بينهما سبب وقربى فليسا من رحم، لكنه لما جعل كل ذلك مبنياً على مسند إليه واحد دلّ على أن كل الذي فاض عليك من عطايا قوله "المرء" وما بعده، إنما هو من رحم واحدة موصولة مبرورة، وتلك هي لقانة الإبداع.
دلّك الإمام على مواطن العطاء، وإن لم يستخرج لك منها، ولكنه منحك فرصة أن تستخرج أنت بنفسك.
وإذا نظرت ألفيت الإمام متجاوزاً البيت الأول "بلونا ضرائب …"، فهل هو ذاهب إلى أنه عاطل مما هو مشير إليه فيما تلاه من أبيات؟ وهو الذي يقول: ((فإنك تعلم أنه ليس إلا أنه قدّم … لا ترى حسناً…)). لتنظر في البيت الأول:
بَلَوْنا ضَرَائب مَنْ قَدْ نَرَى
فما إن رَأيْناَ لفَتْحٍ ضَريَبا

ألا ترى شيئاً من جنس ما دلنا عليه الإمام في الأبيات التالية له؟
ألا ترى في إسناد الفعل إلى "نا"، ثم في إيقاعه على "ضرائب"، الذي هو جمع ضريبة، بمعنى الطبيعة وما جبل عليه، وفي إضافته إلى الموصول "من"، وجعل صلته "قد نرى". وهذه الفاء في "فما"، وإقامة "إن" بين أداة النفي ومدخلها "الفعل: رأينا"، وفي تقديم المجرور "لفتح" على متعلقه "ضريباً"، وفي ردّ العجز على الصدر "ضريبا" و"ضرائب"، فضلاً عما بينهما من جناس.
أليس في ذلك كله موطناً للحسن يمكن أن يدل الإمام عبد القاهر عليه( )، ثمّ ألا يذكرنا هذا البيت ببيت للبحتري يقول فيه:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤْ دُد والمجْـد والمكـارم مِـثْلاً
وقد تناول الإمام ما في هذا البيت الأخير من محاسن النظم في فصل حذف المفعول به( ).
وأنت إذا نظرت في البيت الأول الذي يمدح به "الفتح" رأيت مذهب الشاعر مبنياً على أنهم قد عمدوا إلى اختبار طبائع من رأوا، ولم يقل لنا لماذا فعلوا ذلك البلاء بضرائب من رأوا. وإنما فرّع على هذا البلاء لهم أن انتهت بهم تلك إلى حقيقة لا قبل لأحد بردها: انتفاء أن يكون للفتح مثل. وكأنه يومئ إلى أنهم ما كانوا يبحثون له عن مثيل، بل كان همهم الأعظم ابتلاء طبائع من قد رأوا، وما كان قصدهم إلى بحث عن مثيل له وضريب، فما ذلك بالذي يقوم في صدورهم. أنت لا تبحث عن مثيل لشخص إلا إذا قام في وهمك مِظنّة أن يكون له مثيل، وتلك المظنة أو الحسبان لا يقوم في وهمك إلا إذا رأيت منه ما قد تتوهم معه أنه ممن يماثله آخر. وذلك مالا يمكن أن يكون من "الفتح"، ولن يقوم في وهمك حسبان أنه له مثيل، لأنك لن تلقى منه ما يغريك بذلك الحسبان. إنه بسؤدده مقيم حجازاً بينك وبين ذلك الحسبان، وهو حجاز ما يسطاع أن يظهره أحد، ولا يستطيع له نقباً.
فهو كما ترى لا يبين لنا الغاية من بلائهم ضرائب من قد يرون، ولا يدلك على أن المبتغى طلب الضريب لـ"الفتح"، فلو أنه قد فعل لأجرى في المدح شيئاً أو شائبة مذمة، وما كان له أن يفعلها مع "الفتح". وهو هنا ينـزع مما نزع منه قوله "قد طلبنا فلم نجد …"، إلا أنه في مدحة "الفتح" جدّد لنا مناط البلاء: ضرائب من قد نرى. إنه ليسبر الأغوار، يختبر الطبائع، يمتحن السجايا، لا ينشغل بما هو عارض أو طارئ.
هنالك طلب وتتبع واستقصاء، وهنا بلاء واختبار، وتفرع على كل حقيقة لا تنقض فردانية الممدوح. في مدحة "الفتح" أطلق الأمر، ولم يعين مجال فردانيته، "فما إن رأينا لفتح ضريبا"، في أي شيء وأي مجال؟ لم يقل، دلالة على أن الأمر لا يحاط به تعيّناً، كل شيء لا ضريب له فيه، مما هو بسبيل ما يمدح به ويستثنى عليه. فلا تقولن إن فيه مِظنّة أنه لا ضريب له أيضا في المكر والخبث والخيانة وما شاكه ذلك. لا تقولن؛ فذلك غفلة عن السياق، وإقحام لا يفعله قارئ القصيد، فكل شيء إنما يفهم في سياقه، وقد أكد عبد القاهر على مثل هذا في محل آخر( ). فهو يرمي إلى أنّه "فما إن وجدنا لفتح ضريباً في المعالي والمكارم".
وفي البيت الآخر قيد، فقال: "فلم نجد لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلاً"، وهو تعبير تمثيل، لا تقييد تعيين، فيقال إن له مثلا في غير ما ذكر من أبواب المعالي. هذه التي ذكرها (تمثيلاً) هي أم المعالي، وما غيرها إلا ولائدها، فلكل باب من أبواب الفضل سؤدده ومجده ومكارمه، إنْ في العلم أو في العمل، وإن في الحسب وإن في النسب، هو له من كل فضيلة سؤددها ومجدها ومكارمها.
وإذا ما نظرت في البيت الأول "بلونا …" ألفيت مكانة "إنْ" بين "ما" و"رأينا"، مكانة تؤطِّد النفي ووقوعه على الرؤية، حتى لا يحسب حاسب أنه قد وقعت على وجهة ولم يعتد بها إبلاغاً. فدل على كمال الانتفاء بإقامة "إن" من بعد "ما"، فهذا الامتداد في "ما" الدال على بسطة النفي وامتداده، وهذه السكون في "إن" الدالة على الجزم والقطع والتأكيد والتأطيد الذي قد تطهّر من أدنى شوائب الشك والحسبان، دلّ هذا كله على أن الأمر ليس من ورائه ما يحسب أوغل حاسب في الحسبان أنه قد تقع رؤية من يكون لفتح ضريباً في باب من أبواب المعالي.
وفي قوله "من قد نرى" من دون قوله "الناس" دلالة على أن منطق العقل والفضل قاضيان على أن اختبار ما يظن قيام الفضل فيه لا يكون له أهلٌ كلُّ الناس، بل من قد يراه أهل الحكمة والفراسة، سواء قلنا من يرونه أهلاً لأنْ يكون موطن فضل، أم قلنا من يرونه، أي تقع عليهم أعينهم، ومثلهم لا تقع عيونهم على الدَّهْماء، فهم يعصمون أنفسهم عن مخالطة الدهماء، ففي خلاطهم ما لا يليق.
ولعل في إقامة "قد" بين "من" و"نرى" عدلاً لإقامة "إن" بين "ما" و"رأينا". في الشطر الثاني ما يقضي بأن "قد" هنا تحقيقية لا تقليلية، فهي ليست من بابة "قد ينجح المهمل"، بل هي من بابة قول الله تعالى: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً …} [النور: 63]، {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلموا إلينا …} [الأحزاب]، ولست بالقائل إنّ "قد" في الآيتين للتقليل ـ معاذ الله ـ ولكنها المحققة المؤكّدة المؤطّدة. كذلكم "قد" في "من قد نرى"، وهي و"إن" في "ما إن رأينا" من بابة واحدة.
=================================
عبد القاهر كما ترى نبهنا على مكان الخبيء في هذه الأبيات لنطلبه وعلى موطن الدفين لنبحث عنه فنخرجه، وفتح لنا الطريق إلى المطلوب لنسلكه، ووضع لنا القاعدة لنبني عليها، وقد حاولنا.
وهذا النهج منه ليس هو الأوحد المسلوك، ولكنه قد يطلب هو الخبيء، ويبحث عن الدفين فيخرجه، ويسلك الطريق بقدمه، ويبني على القاعدة. أنت واجد ذلك من الإمام في مثل تلك الصورة الشعرية التي نسبت إلى غير شاعر واحد( ). مقول الأبيات كما هي في "الأسرار":
ولمَّا قضينا من مِنى كلّ حاجــةٍ
ومسّح بالأركان من هو ماسحُ

وشُدّت على دُهْم المهارى رحالنا
ولم ينظر الغادي الذي هو رائحُ

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننـا
وسالت بأعناق المطيّ الأباطحُ

تلك رواية الإمام عبد القاهر في "الأسرار" غير منسوبة لشاعر معين( )، ولم يذكر في "الدلائل" إلا الشطر الأخير "وسالت بأعناق المطي الأباطح"، في أربعة مواطن غير منسوبة أيضاً( ). وفي مصادر أخرى جاءت الأبيات منسوبة لكثيّر عزة، كما في "معاهد التنصيص" للعباسي، وفي "زهر الآداب" للقيرواني. أو منسوبة لابن الطَّثْرِيَّة (يزيد بن سلمة) كما في "الوساطة" للقاضي الجرجاني، أو للمضرَّب حفيد زهير كما في "أمالي الشريف المرتضى". ورويت الأبيات على نسق آخر غير الذي ذكر الإمام، وبأعداد أخرى، منها ما يسبقها ومنها ما يتلوها. ولست الآن بصدد بيان هذا، فقد قدّم أحد شيوخ العلم مقالاً في هذا هو النافع المانع، فانظره تغنم( ).
الذي يعنيني هنا هو أن الإمام عبد القاهر في أوائل كتابه "الأسرار"، وهو السابق تأليفاً على "الرسالة الشافية"، وعلى "دلائل الإعجاز" ـ فيما أذهب إليه ـ قد تناول هذه الصورة الشعرية بالتحليل والتأويل، وهو يعرض بيان أن البصير بجواهر الكلام إذا رأيته يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فإنما هو منبئٌ عن أحوال لا ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي، ((بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يَقتدحُه العقل من زناده))( ). وأبيات هذه الصورة الشعرية قد ((أثنوا عليها من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلامة، ونسبوها إلى الدماثة ...))( ).
وكأنه بذلك يشير إلى ما كان من ابن قتيبة، إذ قالها في معرض وجدانه الشعر أربعة أضرب، منه: ما حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته (كذا) لم تجد هناك فائدة في المعنى، وجعل منها هذه الصورة الشعرية( ).
وعلى دربه سار بعض الشيء جماعة كابن طباطبا، وإنْ نص على أنّ ما فيها من معنى هو مستوفى على قدر مراد الشاعر( )، وهذه منه حميدة. وكذلك قدامة حين أورد هذه الأبيات في معرض نعت اللفظ السمح السهل المخرج الذي عليه رونق الفصاحة وإن خلت تلك الأبيات من سائر نعوت الشعر الأخرى( ). فهو لا يرى فيها غير سماحة الألفاظ وسهولة مخرجها ورونق فصاحتها وخلوها من المتابعة، فكأنه يردد مقالة ابن قتيبة: "فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى". وغير هؤلاء الثلاثة كثير يدخلون في إشارة الإمام عبد القاهر.
الذي يعنينا هنا نهج عبد القاهر ونحوه في قراءة هذه الصورة وتلقيها وتحليلها وتأويلها:
فاتحة القول يطلب الإمام منك (ص22) أن تراجع فكرتك، وأنْ تشحذ بصيرتك، وأن تحسن التأمل، وأن تدع عنك التجوز في الرأي، كأنه يحرضك ويغريك بأنّ ما أنت مقدم عليه جد عظيم، وأنه أيضا جد ضنين بدره على من لا يحسن الغوص، وهو يطالبك بالتحرر من ربقة كل موروث، ويطالبك أن تقوم لهذه الصورة الشعرية حراً غير مكبل بمقالة جاهلية: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} [المائدة]، {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف]. التحرر من ربقة فاسد الموروث، إن معتقداً وإن فكراً وإن ذوقاً، هو السبيل القوي إلى مراجعة الفكر، وشحذ البصيرة، وحسن التأمل، فبغيرها يكون كل فعل عقيماً، وبها تكون كل حركة الولود الودود.
كأنه يقولها لك: لا تغرَّنك مقالة أبي محمد عبد الله بن قتيبة (ت 276 هـ): "فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى"، من أجل أنها مقالة محدث سني ذي مكانة في باب علوم القرآن والسنة، فكل يؤخذ منه ويرد عليه خلا أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ لا يتعبد بقوله من البشر خلا سيدهم المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وكأني بالإمام ذاهب إلى أهمية أن يسبر القارئ المتلقي أغوار نفسه، وأن يفتش فيها، ويختبر طاقات التلقي عنده واستعدادها، وأن يقف على عوائق التلقي ما هو مزيل لها، حتى يكون الجدير بأن يكون الأرض النقية التي شربت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير.
مفتاح مقالة الإمام أذانٌ في الناس بالعتق من أسر فاسد الموروث وسلطانه، وبشحذ العزم، والتحريض على الفعل، ويقولها لك إنك إن فعلت الأربعة التي دللتك عليها فانظر في هذه الصورة الشعرية: ((هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفاً إلا إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حُسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن، وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد، وشيء داخَلَ المعاني المقصودة مداخلةَ الطفيليّ الذي يُستثقل مكانُه، والأجنبيّ الذي يُكره حضورُه، وسلامتِه من التقصير الذي يَفتقر معه السامع إلى تطلب زيادة بقيت في نفس المتكلم، فلم يدل عليها بلفظها الخاص بها، واعتمد دليلَ حالِ غير مُفصِح، أو نيابةَ مذكورِ ليس لتلك النيابة بمُسْتَصْلَح))( ).
كذلك يدلك الإمام على موطن السحر ومعدنه لتبلغه وتنقب عنه ثَمّ. وهو كما ترى يشير إلى الاستعارة أول ما يشير، على الرغم من أن موقعها في الصورة آخرها، وحسن الترتيب، والسلامة من الحشو المفسد، ومن التقصير في تمام الدلالة. تلك هي مجمل معادن السحر في الصورة عنده.
ثمَّ يبدأ الرحلة معك، لا يتركك تصل وحدك كما فعل معك في أبيات البحتري المادحة "الفتح بن خاقان"، إنه لك في هذه الرحلة يصاحب، وكأن جوّ هذه الرحلة المصورة قد مسَّه بسحره، فأراد أن يأخذ بأطراف الحديث بينك وبينه، في رحلة التلقي، مثلما فعل ركب الشاعر في رحلة القفول والأوبة إلى الأحبّة، يقول: ((أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولما قضينا من منى كل حاجة"، فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها من طريق أمكنه أن يقصّر معه اللفظ، وهو طريق العموم))(1).
يصوِّر لك الإمام الأبيات بالمضيّف المقري، وأنت الضيف المكرَّم، فأول ما يتلقاك من قِرى الأبيات ذلك الإيجاز الآخذ بأعناق المعاني، الجامعها في قوله "كل حاجة"، وهو لم يقل لك "كل شيء"، وإنما "كل حاجة"، إذ هي حاجات حاملة الحجيج إلى تكبّد القدوم من بعيد إلى ذلك المكان المقدس( ).
والإمام لا يلفتك إلى اصطفاء "قضى" من دون "فرغنا"، ولا إلى تقديم "من منى" على المفعول "كل حاجة"، ولا إلى ما بين "من" و"منى" من التقارب النغمي، ولا إلى اختصاص "منى" بالذكر من دون غيرها. ومن وراء ذلك معانٍ عذاب.
فقوله: "قضينا" إيحاء بقوة الوفاء بحق ما قصدوا إليه وجاءوا من أجله، وأنه لم يك من وُكْدهم مجرد الفراغ، بل غايتهم الوفاء والإحكام والإتمام والقيام بحق كل ما هم في حاجة إليه، فإن الوفاء بكل ما جاءوا من أجله نابع من داخلهم لأنه حاجاتهم، وليس تكليفاً ألقي على عواتقهم يريدون الخلاص منه. والفعل "قضى" جاء في القرآن مسنداً إلى الخلق في مواضع عدّه منها: {فإذا قضيتم مناسككم …} [البقرة: 200]، {فإذا قضيتم الصلاة} [النساء]، {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} [يوسف]، {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج]، {فلما قضى موسى الأجل} [القصص]، {فلما قضى زيد منها وطراً} [الأحزاب].
كل ذلك دال على معنى الوفاء والتمام والإحكام( )، وفي إيقاعه على "كل حاجة" دلالة بالغة على أن ما قضوا لم يك تكليفاً، بمقدار ما هو أمر ناشب بنفوسهم، هم في حاجة إليه، أي: في اضطرار إليه، يرون أنفسهم لا قيام لها بغير إحكام أمره وإتقانه وإنفاذه لجهته( ).
وفي تعليق قوله "من منى" بالفعل "قضى" دلالة على أن حوائجهم التي تملأ جوانحهم، والتي تعلقوا بها، ومن أجلها قصدوا، إنما هي تتم بما من شأنه أن يتم في منى، من نحر هدي هو آية على التمام، ففي ذلك النحو إيماء إلى تمام القربى، فضلاً عما فيه من رمز الرجم لكل ما هو غير حميد من نفوسهم، فذلك النحر والرجم يحمل في نفوس أهل الذوق معاني لطيفة، لا يستشعرها غيرهم.
وفي تقديم المتعلِّق "من منى" على المفعول "كل حاجة" إشارة إلى أهمية ما يقضى منه على ما يقضى، فإن ما يقضى يفهم من محله: "منى"، فالشأن فيها أن يكون المقضي منها جديراً بها، مَشْعَراً من مشاعر الحج، لا يقضي الحاج وقتاً في غيرها كمثل ما يقضيه فيها.
وإذا كان ذلك شأن "منى"، وما كان من قضاء حاجتهم منها، فإن واحدة هي عندهم جد عظيمة، إنها التوديع، الذي آيته مسح أركان البيت الحرام. يقول الإمام: ((ثمَّ نبه بقوله: "ومسَّح بالأركان من هو ماسح" على طواف الوداع، الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصودة من الشعر)).
الذي عنى به الإمام هو دلالة هذه الشطرة على اقتراب المسير، الذي هو مطمع الشاعر من شعره، فغايته ليس حديثاً عن حاله في تلك المشاعر، بمقدار ما هو رام إليه بشعره من وصف حاله والركبان، في ذلك المسير إلى الخُلان والإخوان، فحاله في تلك المشاعر، الحديث عنه توطئة إلى المقصود الرئيس من الشعر، ولعله لذلك جعل ذلك كله في سياق الشرط، الذي المرمى إلى جوابه، ذلك ما يشير إليه مقال الإمام.
ولعل الإمام يتجاوب في قراءة الصورة الشعرية مع حال الشاعر في إبداعها، فلم يوف هذا المشهد حقه من القراءة. وكان حقه عليه أن يوفيه حقه، ولاسيما أن صنيع ابن جني في قراءته قد يوحي بأن في تصوير هذا المشهد ما يوحي بأن الشاعر في أمره هذا كان على درب ما يعهد عن بعض أهل الهوى في تلك المشاهد، مثل ما يروى من حال ابن أبي ربيعة. فأنت تسمع صدى ابن جني من قبل عبد القاهر يدوّي: ((ألا ترى أنَّ من "حوائج منى" أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه والمعتاد فيه سواه، لأن منها التلاقي ومنها التشاكي ومنها التخلي إلى غير ذلك مما هو تال له، ومعقود الكون به، وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه، وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت: "ومسَّح بالأركان من هو ماسح". أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي أنضيناها من هذا النحو، الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القربة من الله مجراه، أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح)).
عبد القاهر طوى النظر، ولم يذكر إلا تنبيه الشاعر على طواف الوداع، الذي هو دليل المسير، الذي هو مقصوده من الشعر. طوى النظر وأنت ترى من وراء التضعيف في الفعل "مسّح"، وهذه "الباء" في "بالأركان"، وفي تعريف المسند إليه بالموصولية "ومن هو ماسح"، وهذه الجملة الاسمية في الصلة ـ ترى من وراء ذلك معان، هي من باب النظم والتصوير، اللذين هما مصراعا الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان (الأدبية/ الشعرية) لهذا البيت.
أترى أن في التضعيف ما يفيد أن المسح لم يكن من حاجة الشاعر من البيت الحرام؟ أترى في هذه "الباء" معنى لا يدل على التمكن والوفاء والاستيعاب؟ أترى المعنى في "ومسّح الأركان" كمثل "ومسَّح بالأركان"، ألا يستحضر هذا قول الله تعالى {وامسحوا برؤوسكم}، ألا ترى معنى الإلصاق وهو المعنى الرئيس للباء والذي لا تفل منها أبداً معنى حاضراً في "بالأركان"؟ ألا ترى في هذا الجمع "الأركان" وما هو إلا ركنان؟ ألا ترى في هذا إشارة إلى أنهم وهم يمسحون "بالأركان" إنما هي الأحبة هنا مثلما يفعلون بديار الأحبة هناك الذين هم على عزم المسير إليهم؟ أيمكن أن نبصر إشارة إلى أن فعلهم هناك مع ديار الأحبة هو من جنس فعلهم هنا؟ هما فعلان من معدن واحد: معدن الطهر والفضيلة، ليس للشيطان في كلٍّ نصيب.
وفي قوله "من هو ماسح" معنى دال على أن المسح إنما هو أظهر حاله وأمكنه وأرسخه وأجدره بأن يعرف به ويذكر. وقد يحسب حاسب أن قوله هذا فيه إيماء بأن ذلك شأن بعضهم، والشاعر ليس منهم "من هو ماسح"، ولكن التضعيف في "مسَّح"، وزيادة باء التمكين، وتقديم المجرور، وجعل الصلة جملة اسمية، كل ذلك دال عن أن ذلك الفعل مشهد عظيم في وعي الشاعر، ولم يكن القصد الرئيس منه مجرد التنبيه على اقتراب المسير، الذي هو مقصود الشعر فحسب، فإنّ له عُلقة بالغة بقوله "قضينا كل حاجة" لابدّ من استحضار هذه الجملة التي هي صدر الجملة الشرطية، والتي بنى عليها "ومسَّح …" عطفاً على "قضينا".
وإذا ما كان عبد القاهر قد طوى القراءة والتلقي لجملة "ومسَّح بالأركان من هو ماسح" طيّاً يوحي بأن ذلك ليس هو مرمى القصد من الشاعر، فليكن شأنه كذلك في باب التلقي، فإنه ينهج النهج نفسه في قراءة البيت الثاني "وشُدَّت على دُهْم المهارى رحالنا …"، فلم يشر إلا إلى أنه: ((وصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زمّ الركاب وركوب الركبان))( ). هكذا لا يرى في هذا المشهد إلا زمّ الركاب وركوب الركبان …
إن تجاوزت صنيع الإمام عبد القاهر، ونظرت ذلك المشهد، رأيته ذا منـزلة عالية في رسم الصورة النفسية والحسية للركبان. ألا ترى تلك الحركة النشطة من الولدان والفتيان يجتهدون في شد الرحال على دهم المهارى. قوله "شدّت" في غاية التصوير لتلك الحركة المنبثقة من العناية بفعلهم، وذلك مصوِّر لحال نشاطهم وأريحيتهم لما يقومون به. وفي اختيار كلمة "دهم" دلالة على شدة هذه الإبل، فالأدهم من الإبل الشديد الورقة، وهو لون يشبه لون الرماد. والمهارى جمع مهرية، منسوبة إلى حيّ " مَهْرِيَّة بن حيدان": حي من أحياء العرب، وهي ذات شهرة بسرعة السير. فرحالهم مشدودة على إبل شديدة، سريعة السير.
وفي تقديم "الجار والمجرور" على المعمول "رحالنا" ما يفيد مناط العناية، وهو أن ركابهم شديدة سريعة العَدْو.
وفي قوله: "ولم ينظر الغادي الذي هو رائح" ما يفيد انشغال الركب بحالهم، وما هم مقدمون عليه، وما هم متطلعون إليه من لقيا حبيب، وما يفيده من كثرة الركاب، وشدة النشاط، وكثرة الحركة، وكل تلك الأحداث والمشاهد جمعها الشاعر في جملة الشرط، ورتّب عليها ما دلّ على استغراقهم في المسير ونشاطهم فيه وتلذذهم بهم واستشرافهم إلى غايته، فقال: "أخذنا بأطراف".
وعبد القاهر لم يقف عند الفعل "أخذنا"، ومقاربته للفعل "قضينا"، ذاك في صدر جملة الشرط، وهذا في جملة الجواب، وهما من معدن الدلالة على العناية والاهتمام، ففي الأخذ معنى التناول في عناية واهتمام، يقول أبو الحسين أحمد بن فارس: ((الهمزة والخاء والذال: أصل واحد تتفرع منه فروع متقاربة في المعنى، أمَّا "أخذ" فالأصل: حَوْزُ الشيء وَجَبْيُه وجمعُه))( ).
وقد جاء هذا الفعل "أخذ" في القرآن الكريم في مواطن عديدة منها: {خذوا ما آتيناكم بقوة …} [البقرة]، {فأخذتكم الصاعقــة …} [البقرة]، {فأخذهم الله بذنوبهم …} [آل عمران]، {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} [الأعراف]، {ثم أخذتهم فكيف كان عقاب} [الرعد]، {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم …} [القصص]، {خذ الكتاب بقوة …} [مريم]، {فخذها بقوة …} [الأعراف]، {خذوه فغلوه} [الحاقة]، {وما آتاكم الرسول فخذوه …} [الحشر]، وغير ذلك جد كثير، وهو كما ترى دال على ما في هذا الفعل من القوة والتمكن والعناية والاهتمام.
وفي هذه "الباء" دلالةٌ تعاضِد دلالةَ "الأخذ"، وكان بملكه أن يقول "أخذنا أطراف الأحاديث". وعبد القاهر يشير إلى دلالة كلمة "الأطراف" قائلاً: ((دلَّ بلفظة "الأطراف" على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرِّفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه أُلْفة الأصحاب وأَنَسةُ الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة، ورجا حسن الإياب، وتنسَّم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان))( ).
الإمام كما ترى ينفذ ببصيرته في كلمة "أطراف"، ويرى فيها المرآة العاكسة لما يعتمر في صدر الشاعر، وما يأخذ بحاله وحال رفاقه. يرى فيها تصويراً لحال الرفاق في سفره الطويل، الذي يستشرفون به لقيا الأحبة، تكون نفوسهم ذات بهجة، تقبل على المحادثة، وتتسع الحياة وأحداثها وأخبارها، على نحو يحملهم إلى أن يأخذوا من كل حدث وخبر وحال بطرفه، فلا يجهزون عليه ولا يستوعبونه من كثرة ما يتوارد على نفوسهم المشرقة بذلك المسير.
ذلك شأن الرفاق في السفر الرغيب والمسعى الحبيب، ولا يفهم من هذا أن حديثهم ليس ذا اعتناء به ونشاط فيه، فيتعارض مع ما يدل عليه اصطفاء الفعل "أخذ"، وزيادة "الباء" في "بأطراف"، بل أخذهم ما يأخذونه من تلك الأحداث والأخبار والأحوال المتكاثرة عليهم هو أخذ نشاط واعتناء منبثق في نشاط نفوسهم وأريحيّة صدورهم بذلك المسعى، وأنه ليس تنقلاً في الحديث من سأم وملل، ولذلك جاء بقوله "بيننا" الدال على مجاذبة الحديث، ورغبة كل واحد من الركبان المشاركة فيه إرسالاً واستقبالاً.
فهذا المشهد "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا" ذو دلالة بالغة على مزيد عنايتهم ونشاطهم وأريحية نفوسهم وانشراح صدورهم. وإذا قيل إن ذلك آتيهم من أنهم مقدمون على لقاء الأحبة، فإن عبد القاهر كان ذا فراسة بيانية عالية حين جعل مبعث نشاطهم وطيب نفوسهم ثلاثة أشياء: ألفة الأصحاب وأَنَسة الأحباب، وقضاء العبادة الشريفة ورجاء حسن الإياب، وتنسّم روائح الأحبة والأوطان واستماع التهاني والتحايا من الخلان والأخوان، هذه من الإمام بديعة. والثانية: (قضاء العبادة …) دال على الذي قلته في "ولمّا قضينا … من هو ماسح"، وأن هذا مصوِّر مزيدَ عنايتهم بالوفاء بحق تلك العبادة حقها.
وما ذكره الإمام من أن كلمة "الأطراف" دالة على "ما هو عادة المتظرِّفين من الإشارة والتلويح …"، فتلك التي أخذها وأخرها من مقالة ابن جني، على الرغم من أنه أعرض عن مقالته في البيت الأول. يقول ابن جني في هذا: ((وأما البيت الثاني، فإن فيه: "أخذنا بأطراف الأحاديث"، وفي هذا ما أذكره لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه، وذلك أنه لو قال: "أخذنا في أحاديثنا"، ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب، … وذلك أنه قد شاع عنهم واتسع في محاورتهم علو قدر الحديث من الأليفين، … فإذا كان قدر الحديث مرسلاً عندهم هذا، على ما ترى، فكيف به إذا قيده بقوله: "بأطراف الأحاديث"؟ وذلك أن في قوله: "أطراف الأحاديث" وحياً خفياً، ورمزاً حلواً، ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبّون، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون من التعريض والتلويح والإيحاء دون التصريح، وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفاً، ومصارحة وجهراً))( ).
إذا ما كان عبد القاهر قد استجمع بصره في دلالة "أطراف"، ولم يمنح "أحاديث" ما تستحق من العناية، فإن ابن جني كان أكثر عدلاً ووفاء؛ وقف عند قيمة كلمة "أحاديث"، في سياق أهل النسيب أنه قد شاع واتسع في محاوراتهم علوّ قدر الحديث من الأليفين، فكلمة "حديث" في لسان الأحبة ومعجم بيانهم ذات دلالة غير التي هي لها في معجم بيان غيرهم. يريد ابن جني أن يقول: إن مجرد ذكر كلمة "أحاديث" في هذا البيت على افتراض أن الشاعر أوردها مرسلة غير مقيدة بكلمة "أطراف"، إنها وحدها تثير شجوناً، وتستدعي ذكريات، وتحرك مشاعر، يكبرها العشاق، وتخفق لها قلوبهم.
كلمة "حديث" تمردت على جذرها اللغوي، وخرجت على المعجم ودَخَلَتْ في معجم أهل العشق والنسيب، فأصبحت مصطلحاً من مصطلحاتهم الشعرية، يكبرونها، ويطعمون حلاوتها، لما تحمله من معاني الوصال والعتاب والتشاكي، وكل ما يتبادله المحبان إذا التقيا( ).
ثم يورد " ابن جني " أبياتا يدعم بها رؤيته، ألا ترى إلى قول الهذليّ:
وإن حديثاً منك لو تعلمينه جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل
هكذا فسر ابن جني كلمة "أحاديث" في قول كثيّر … مفترضاً فصل هذه الكلمة من سابقتها "أطراف" مرة، وناظراً إلى واقع العلاقة بينهما مرة أخرى، حين يقول: "فإذا قدر الحديث ـ مرسلاً ـ عندهم هذا، على ما ترى، فكيف به إذا قيده بقوله "بأطراف الحديث"؟ ...". كلمة "أحاديث" وفق استثمار ابن جني، لها ملمح جمالي ورامز معنوي في الوقت نفسه( ).
وفي جعل الشاعر الفعل "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا" جواباً لقوله "ولما قضينا"، وما نسق عليه من أحداث جسام، وهو فعل (أي الأخذ بأطراف الأحاديث …) لا يكون في مفتتح المسير، بل حين تغيب بهم الركاب في جوف الطريق المديد ـ في جعله هذا ((طيّ مسافات زمنية ومكانية؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد أن تغيب مشاهد الأرض الحرام))، كما يقول شيخنا أبو موسى أعزه الله( ).
وفي هذا الطيّ ما يفيد أن ما كان بين شدّ الرجال، والأخذ بأطراف الأحاديث، قد انقضى من غير أن تشعر النفس به من عظيم استشرافهم إلى غايتهم، من "تسنّم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخُلاَّن والإخوان"، وهذا من فصاحة المسكوت عنه، فإنك في مثل هذا ترى: ((الصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن))، كما يقول عبد القاهر في فاتحة باب "القول في الحذف"( ).
وقراءة أدبية الإضمار والطي للأحداث في التصوير الشعري، تمنح المتلقي متعة عالية، إذ تجعله قائماً بعقله وذوقه في نسيج الصنعة الشعرية، وهذا يمنح الصورة الشعرية تجددها وتنوعها بتنوع القراء، فلا تبلى الصورة ولا تنضُب.
وهذا الذي قاله الشاعر في "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا" كان منه توطئة لمقدم استعارة بديعة، مكَّن لها فلاطت بالقلوب وتغلغلت: تلك التي في قوله: "سالت بأعناق المطي الأباطح". يومئ عبد القاهر إلى ذلك قائلاً: ((ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبَّق فيها مَفْصِل التشبيه، وأفاد كثيراً من الفوائد بلطف الوحي والتنبيه، فصرّح أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث، من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حال التوجه إلى المنازل، وأخبر بعدُ بسرعة السير، ووطَاءة الظَّهْر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكِّد ما قبله، لأن الظهور إذا كانت وَطِيئة وكان سيرها السير السهل السريع، زاد ذلك في نشاط الرُّكْبان، ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيباً))( ).
فهو كما ترى يربط بين علاقات الأحداث وتناسلها، فـ"الأخذ بأطراف الأحاديث" إنما هو ثمرة من ثمار وطَاءة الظهر وسرعة السير، المدلول عليها بقوله: "سالت بأعناق المطي الأباطح"، فقدَّم لك ما كان من حالهم في نشاط نفوسهم وانشراح صدورهم وأريحية أفئدتهم، البادية في تنازعهم أطراف الحديث، لتعلم منها أولاً أنما كان ذلك وارداً عليها من روافد عدة، منها نشاط سيرهم، فتأتيك الاستعارة، وقد وطأ لها، ومهَّد الطريق إلى قلبك، فتدخل عليه دخول أُنْس. فهذا ضرب من تناسل المعاني والصور الشعرية يزيد من إحكام النسج وشدة الحبك.
وعبد القاهر في "دلائل الإعجاز" يقف عند الاستعارة في "سالت" وقفة يوفي بها بعض حق الاستعارة من القراءة والتلقي، ويجعل الاستعارة في قوله "سالت بأعناق المطي الأباطح" من الخاصّي النادر، الذي لا تجده إلاّ في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال، كما يقول. ويبين أن الشاعر ((أراد أنها سارت سيراً حثيثاً، في غاية السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة، حتى كأنها كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجرت بها))( ).
ويشير إلى مناط الغرابة المعجبة الآخذ بالنفس في هذه الاستعارة، فلا يراه في أنه ((جعل المطيّ في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأباطح، فإن هذا شَبَه معروف ظاهر، ولكن الدقة واللطف في خصوصية أفادها، بأن جعل "سال" فعلاً للأباطح، ثمًّ عداه بالباء، بأنْ أدخل الأعناق في البين (أي بين الكلام ونسجه)، فقال: "بأعناق المطي"، ولم يقل :بالمطيّ"، ولو قال: "سالت المطي في الأباطح" لم يكن شيئا))( ).
كذلك يبين الإمام مناط الإبداع في هذه الاستعارة، وإخراجها من حيّز المبذول المتداول في ألسنة الدهماء إلى خصوصيتها الشعرية الفريدة، التي هي أجدر بالانتساب إلى الشاعر. وإبصار مناط الجدة الشعرية فيما لاكته الألسن، فأُخلق من كثرة الرّد، إنما هو من نفاذ بصيرة القارئ المتلقي.
ويزيد الإمام الاستعارة بجلاء في إبداعها فيشير في "الأسرار" إلى أنه: ((قال: "بأعناق المطي"، ولم يقـل "بالمطيّ"؛ لأنَّ السرعة والبطء يظهران غالباً في أعناقها، ويَبِين أمرُهما من هواديها وصدورها، وسائرُ أجزائها تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثقل والخفة، وتعبّر عن المرح والنشاط، إذا كان في أنفسها، بأفاعيل لها خاصة في العنق والرأس، وتدل عليهما بشمائل مخصوصة في المقاديم))( ).
كأنك بالإمام عبد القاهر يومئ إلى أنَّ الشاعر في قوله "بأعناق المطي" يشير فيما يشير إليه من المعاني المتكاثرة، ما كان من نصيب هذه المطي من الأريحية والنشاط والمرح. فإذا ما كان ذلك الأنس والاستشراف إلى لقاء الأحبة وتنسّم روائح الأوطان قد جعلهم يأخذون بأطراف الأحاديث بينهم، بدلاً من أن يأخذوا بأطراف ـ بأرسان ـ تلك المطي، فإنَّ مثله قد كان بأنفس مطيهم "دهم المهارى"، فأخذ النشاط منها كل مأخذ فسالت بأعناقها الأباطح. وفي هذا من التجاوب الشعوري بين الركاب والركبان ما يُوحِّدُ بين الركب كله، وما ينشر عليه عبق التواصل وجلال التراحم.





جزى الله مؤلِّفه خيراً ، ولا تنسوا مخرجه من صالح دعائكم.
21/9/1421هـ، ثمّ 14/10/1421هـ

فاصلة الهَمْهَمَة:
كانت هذه الورقة راغبة في أن تلج قضايا ذات رحم بنظرية النظم الجرجانية. من تلك القضايا:
• المعدن الذي تخلق فيه جوهرها وجرثومتها، والأطوار التي مرت بها ـ ولاسيما عند أبي علي الفارسي، والقاضي عبد الجبار ـ حتى كانت في فكر عبد القاهر ولسانه.
• نظرية النظم وتعدد المعاني في النص الشعري.
• نظرية النظم والغموض الأدبي ومستوياته.
• نظرية النظم والعدول في مجال الإبداع الشعري (الحرية والالتزام).
• نظرية النظم والسياق في نقد الشعر.
• نظرية النظم وجدليّة الطبع والصنعة: قراءة في شعر الطائيين والمتنبي من خلال اختيارات الإمام.
• نظرية النظم والمصطلح النقدي.
• نظرية النظم فيما بعد عبد القاهر.
• أثر التصريف النظمي في التصريف المعنوي.
• التفصيل النظري والتحليلي لمرجعية بلاغة الفروق والوجوه النظمية التي عينها عبد القاهر في ضوء تذوق النص الشعري: قصيدة "الربيع" عند الطائيين مثلاً. أو صورة الواثق أو الثغري أو ابن وداد بين الطائيين نموذجاً.
تلك عشرة وعشرات أخرى يمكن ـ بل يجب ـ اقتحام حرمها، وتخطي شطآن قاموسها المحيط، ولكن الأمر فوق الطوق الزمني والجهدي والفكري، ولعل الله عز وجل يمنح من يشاء من فيض إحسانه توفيقاً واقتداراً وتسديداً واحتساباً ما يوفي به بعض الحق.
بقيت إشارة إلى أني لا أرغب في سعيين:
سعي من سعى إلى المقارنة بين ما جاءت به نظرية النظم الجرجانية، وما جاءت به بعض نظريات النقد الأعجمي من بنيوية وتفكيكية... وغير ذلك مما يمت به فرقة ممن ينقدون الأدب العربي بمنهاج أعجمي مبير.
وسعي من سعى إلى توهم خيوط هيلينية أغريقية في نسيج نظرية النظم الجرجانية، وإن كانت لا أقطع أن عبد القاهر لم يطلع على ما ترجم إلى العربية من تلك المقالات، ولا ما كان من مطارحات في الخطاب النقدي بلسان فارسي. وثم فرق جدّ شاسع بين الاطلاع على ما تموج به الثقافات من حولك، فتلك فريضة لازبة على أهل العلم وطلابه. معابة وأي معابة التشاغل عن الاطلاع عليها، بله التغافل والتجاهل، وبين التأثر في البناء والتشكيل والتوجيه المعرفي والذوقي. كان عبد القاهر طلعة ولم يكن إمعة، وذلك شأن كل مسلم. وكان عبد القاهر مسلماً عربي العقل والقلب واللسان، وإن كان جرجاني المولد والأرومة، وليس لنا ـ نحن طلاب علمه ـ إلا عقله وقلبه ولسانه. أسبغ الله عز وجل عليه شآبيب الرحموت، ورفع ذكره في الدارين في عباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.


وكتبه
محمود توفيق محمد سعد
7/8/1421هـ


مصادر الورقة ومراجعها:
1. أسرار البلاغة، عبد القاهر، ط: شاكر.
2. أصول النقد الأدبي، ط: أبو كريشة، ط: لونجمان.
3. البيان والبيتين، الجاحظ.
4. تاريخ النقد العربي، إحسان عباس.
5. تحرير التحبير، لابن أبي الإصبع، ت: شرف.
6. الحيوان، الجاحظ.
7. الخصائص، لابن جني، ط: النجار.
8. دلائل الإعجاز، عبد القاهر، ط: شاكر.
9. الشعر والشعراء، لابن قتيبة.
10. العمدة، لابن رشيق، ط: محي الدين عبد الحميد.
11. مجلة جامعة الإمام، عدد (13)، 1415هـ، مقال عبد الرحمن العقود.
12. مدخل إلى كتابي عبد القاهر: د. أبو موسى.
=====================

مكتبة البحث:
هذه من أهم المصادر والمراجع التي تجب الإحاطة بها في إتمام هذه الورقة النجية:
1. أبو هلال العسكري ومقاييسه النقدية، بدوي طبانة.
2. أثر القرآن في تطور البلاغة العربية حتى نهاية القرن الخامس الهجري، كامل الخولي، ط 1381هـ.
3. أثر القرآن في تطور النقد الأدبي، زغلول سلام.
4. أثر النحاة في البحث البلاغي، عبد القادر حسين.
5. الأسلوب في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، محمد الكوار، بنغازي.
6. بحوث ودراسات في الأدب والنقد، عبد الله عسيلان.
7. بلاغة أرسطو بين العرب واليونان، إبراهيم سلامة.
8. البلاغة العربية في دور نشأتها، سيد نوفل.
9. بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار، عبد الفتاح لاشين.
10. البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، د. محمد أبو موسى.
11. البيان العربي، بدوي طبانة.
12. تأثير الفكر الديني في البلاغة العربية، مهدى صالح السامرائي.
13. تاريخ النقد العربي (جزءان) الأول حتى آخر الرابع الهجري والآخر حتى نهاية العاشر، زغلول سلام.
14. التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة، وليد قصاب.
15. تربية الذوق عند عبد القاهر، عرفه.
16. التفكير البلاغي عند العرب: أسسه وتطوره إلى القرن السادس، حمادي حمود، تونس.
17. التفكير النقدي عند العرب، عيسى علي العاكوب، دمشق.
18. دراسة في البلاغة والشعر، د. محمد أبو موسى.
19. الصبغة الأدبية لبلاغة عبد القاهر، السيد عبد الفتاح حجاب، مجلة أضواء الشريعة، جامعة الإمام، عدد (7)، سنة 1396هـ.
20. الصورة الأدبية عند عبد القاهر، أحمد دهمان.
21. فكرة النظم بين وجوه الإعجاز، فتحي أحمد عامر.
22. في الميزان الجديد، محمد مندور.
23. قراءة في معنى المعنى عند عبد القاهر، عز الدين إسماعيل، فصول، مجلد .
24. قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، محمد زكي العشماوي.
25. قضية اللفظ والمعنى وأثرها في تدوين البلاغة العربية، علي العماري، مكتبة وهبه.
26. اللفظ والمعنى بين الأيديولوجيا والتأسيس المعرفي للعلم، طارق النعمان، دار سينا، مصر.
27. معالم المنهج البلاغي عند عبد القاهر، محمد بركات حمدي، عمان/ الأردن.
28. المغنى في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبد الجبار، ج 16.
29. مفهوم النظم عند عبد القاهر، نصر حامد أبو زيد، مجلة فصول، مجلد (5)، عدد (1)، سنة 1984م.
30. منهج عبد القاهر بين الموضوعية والذاتية، السيد عبد الفتاح حجاب، مجلة كلية اللغة العربية، جامعة الإمام، الرياض.
31. نظرية العلاقات أو النظم بين عبد القاهر الجرجاني والنقد الغربي الحديث، محمد نايل أحمد.
32. نظرية اللغة في النقد العربي عبد الحليم راضي، مكتبة الجاضي.
33. نظرية المعنى في النقد العربي، مصطفى ناصف.
34. نظرية النظم عند عبد القاهر، السيد حجاب، مجلة اللغة العربية، جامعة الإمام، عدد (9)، سنة 1399.
35. نظرية عبد القاهر في النظم، درويش الجندي.
36. النظم في دلائل الإعجاز، مصطفى ناصف، حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، المجلد (3)، يناير 1955.
37. النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال.
38. النقد التحليلي عند عبد القاهر الجرجاني، أحمد السيد الصادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
39. النقد العربي نحو نظرية ثانية، مصطفى ناصف، عالم المعرفة، عدد 255، 1420هـ.

الفهرس:
سياق القول في النظرية : خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
مقومات بلاغة الخطاب وفصاحته: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
قضية اللفظ والمعنى: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
بلاغة الخطاب في تأليفه وما يخرج من تأليفه: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
عمود بلاغة الخطاب: النظم خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
مفهوم النظم عند الإمام عبد القاهر: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
مستويات النظم: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
أهمية نظرية النظم في نقد النص الأدبي: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
من صور نقد عبد القاهر النص في ضوء نظرية النظم خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
فاصلة الهَمْهَمَة: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
مصادر الورقة ومراجعها: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
مكتبة البحث: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
الفهرس: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
والحمد لله رب العالمين



إعـــــداد : محمود توفيق محمد سعد

أستاذ البلاغة والنقد
ورئيس القسم في كلية اللغة العربية
جامعة الأزهر
الشريف شبين الكوم

منقول عن
http://www.iwffo.org/arabic/2210-200...-16-16-25.html
النص مرفق

http://www.zshare.net/download/64114736fddbfe04/


مؤلفات متنوعة له:
http://www.google.com/search?q=%D9%8...&start=10&sa=N