الفصل الثاني من رواية (( الأخطل على شفا شفرة ))


المستقبل ومارد الدرهم


((طبيبا يعالج المرضى و يساعد الفقراء )) لم يكن هذا جوابا على سؤال لم يُسأَلَهُ أصلاً كما يُسألُ باقي الأطفال : (( ماذا تريد أن تكون في المستقبل ؟ )).
لكنه حقاً أراد أن يكون طبيباً لان الطبَّ من منظوره يؤمِّن له مركزاً اجتماعياً مرموقاً ودخلاً جيداً .
العلامات التي تتكشف عنها نتائج امتحانات الثانوية العامة هي بوابته إلى كلية الطب .... ومن ثم إلى المستقبل الأخضر الذي ينشده .
سمع من التلفاز أن النتائج ستعلن بعد أيام .. فراح يعدُّ هذه الأيام .. تكفيه أصابع كفٍ واحدة ليعدَّ عليها 00 ولكن هذه الأصابع تكدَّمت لكثرة العدّ 00 إنها أيام طويلة .. وبقدر ما تثير الرُّعبَ تحمل على التفاؤل .. كدواليب سحب اليانصيب ... توقف الضغط وهي تدور لتعلن الفوز أو الخسارة ، لكنه لم يكن يرى الأمر على هذه الشاكلة 00 فالدواليب تعلن الحظ واللاحظ 000 بينما نتائج الامتحان تعلن ثمار الجهد والتعب .
وضع رأسه على الوسادة متمنياً أن ينام ولا يصحو إلا على زغرودةِ تهنئةٍ لم يكن ينتظرها من أحد... حتى من والدته ... ولا ينسى ديك جيرانه الذي طالما أحبه خلال أيام الدراسة كونه كان يوقظه من الفجر...ولكنه وفي هذه الليلة بالذات شعر أنه يكره ذلك الديك .. لأنه فيما لو انتصر على أرقه ونام فانَّ هذا الديك سيبدِّد انتصاره مع بزوغ الفجر، فتمنى لو أن مرضاً يحلُّ به .. ولو لهذه الليلة فقط .
وبينما هو يرتب ويرتل ما أمكنه من أدعيةٍ تضمنُ له صمتَ ذلك الديك...غطَّ في نوم عميق .
- إن لم يكن ما تُريد فَرِدْ ما يكون .. قالها صديقه وهو يوقظه
- ماذا ؟!
- نجحت ولكن مجموعك العام لايؤهلك لدراسة الطب .
أمسك بعبارة صديقه وحاول مضغها فما استطاع 00صرخ دون انتظار جواب:
- لن أكون إلا ما أريد وستجري الريح بمشيئتي ويسبق قاربي أيَّ تيارٍ يكون... تذكَّر أنَّ أحد أقاربه من ذوي النفوذ بالعاصمة ردّد على مسامعه مراراً قول أحد شعراء عصر الانحطاط :
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاًَََ 00 وأنت بها كلف مغــــرم
فأرسل حكيما ولا توصه 00 وذاك الحكيم هو الدرهم

في اليوم التالي سافر إلى العاصمة والتقى ابن عمه الذي قاده إلى الشخص الذي يستضيف الدرهم ويتفهم مطالبه حتى لتخاله مارداً بيد هذا الدرهم .
ولدى دخولهما منزل ذلك المارد استقبلهما شخص في غرفةٍ تغصُّ بالمنتظرين .. وطلب منهما الانتظار..
سأل الأخطل أحد المنتظرين الذي كان يجلس بجواره عن مركز ووظيفة هذا المارد القابع في الغرفة الأخرى ، فأجابه بما لم يجبه ابن عمه (( إنه خطيب جامع)) .
- رجل دين ؟! تساءل الأخطل باستغراب .
- نعم إنه رجل دين ، ولكن ألا ترى هاتين الصورتين وكلٌّ منهما تغطي جدارأً !؟
ألا تعرف صاحبي هاتين الصورتين !؟
أجاب بأنفاس مختنقة وكلمات تتلاطم حروفها ... أجل إنهما ...إنهما 00 ؟!
أدرك الأخطل أن انتظاره سيطول ، وقتلاً للوقت حاول أن يشغل نفسه باستقراء حاجات المنتظرين معه .
فابتدأ بجاره في المجلس ، إنه رجل في خمسينات العمر ولا يمكن أن يكون قد حصل على الشهادة الثانوية حديثاً ، وبالتالي لا يمكن أن تكون حاجته متصلة بهذه الشهادة ، كما أن رحيله عن الأناقة فضلاً عن شواربه الغليظة والمتدلية إلى أسفل شفته السفلى ، وأسنانه الصفراء المتخاصمة مع بعضها، كل ذلك لا يوحي أنه موظف يسعى إلى مركز وظيفي مهم .
وبعد أن فشل استقراؤه سأله ما حاجتك عند هذا المارد ؟
- قتل .
- لم أفهم !
- شقيقي قتل زوجته لأنها ردَّت على الهاتف وهي تكشف عن رأسها فهجم أشقاؤها الثلاثة على شقيقي فقتلهم شقيقي الآخر.
- ولكن هذا عمل المحاكم فما علاقة هذا الشخص بمثل هذه الأمور ؟
أمام هذا التساؤل أدرك المجالس جهل السائل وغبائه ، فأجابه محتقراً جهله :
- من هنا تصدر الأحكام 000 من هنا تصدر الأحكام !!
أدرك الأخطل أنه لن يجد إلى استقراء حاجة أحدٍ من المنتظرين سبيلاً فقرر الانتظار بصمت .
ولكنه بعد ما سمعه و رآه في مطبخ الفساد هذا تساءل في نفسه :
إن انتصر على التيار ووصل قاربه إلى المستقبل الذي ينشده وأصبح طبيباً، ألن يجد ألف ماردٍ كهذا الذي ينتظره ليأخذ مرضاه منه ؟؟ أليس كل الموجودين هنا مرضى ولكنهم في عيادة مارد الدرهم الذي يجهل الطب ويملك العلاج في نفس الوقت ؟؟
أجل فليس الفارق كبيرا بين المريض بالإجرام والحاجة وبين المريض بعلة في الجسد أو الأعصاب .
جاء دور الأخطل أخيرا ودخل مع ابن عمه والتقى المارد الذي بدا حريصا على وقته فسأل مباشرة : ما المطلوب ؟
- دراسة الطب في إحدى الجامعات الأوروبية .
- منحة على حساب الدولة أم على حسابك ؟
- وهل المنحة ممكنة ؟
- (( متهكماً )) 00 كله بثمنه .
وأدرك الأخطل الثمن !! فأدرك أن هذا الثمن يفوق ثمن شقة فاخرة في أرقى أحياء العاصمة
قال في نفسه وهو يهم بالخروج دون استئذان حتى من ابن عمه : ( الحمد لله أن باب هذا المسجد مقفل وكفاني الله الصلاة خلف هكذا إمام ) .
لم يعد الطب مطية الأخطل إلى ذاك المستقبل الأخضر الذي طالما حلم به ، فقد حزم أمره على دراسة الحقوق وامتهان المحاماة للوقوف في وجه أولئك المردة
أجل فللباطل جولة وللحق جولات ولا بد أن يشيخ ذلك المارد وأمثاله وينجلي ليلهم الجاثم على صدر المجتمع بكافة أطيافه .
بقلمي : المحامي منير العباس (الأخطل الحمصي)