أحسنت وزارة الثقافة صنعا بجمعها مقالات الراحل محمد طمليه في كتاب أتاح لمن لم يتابعه قصصيا ،أن يكوّن فكرة عن حياته وفكرة ، فالمقالات خير من يترجم ويضيء حياة طمليه، رغم ملاحظاتنا على الكتاب من الوجهة الفنية.
محاور رئيسة اجتمعت حولها نصوص الكتاب التي يمكن أن نطلق عليها المقالة القصصية ، ولا تنكرها عين القارئ، أولها حضور الأم التي تمثل وسط حالة الاحتجاج على العادي، النور الذي يضيء عتمة الأيام ، فتذكرنا بأم سعد كنفاني وأم شرق متوسط عبد الرحمن منيف وكل القلاع التي لم يغادرهن الأدب الملتزم.
ملمح آخر يفرد أجنحته هو ملمح الموت ، حتى في البدايات وقبل أن يكتوي الكاتب بمرضه ( نحن في غابة يحتطب فيها الموت بقسوة بالغة )
ثالث المحطات التي تستوقف المتتبع ، رنة الفجيعة وذلك التصوير الكاريكاتوري الساخر حد العبث.
ضمير المتكلم طغى على معظم المقالات رغم وجود بعض النصوص بضمير المخاطب، وكلها عكست الرثاء للذات والسخرية والتعزية والاجدوى والتمرد لدرجة العبث.
يلفت أيضا حالة النقد التي تتوهج بها النصوص، أكانت للذات أم للمجتمع أم للسلوكيات التي ندهن بها أقنعتنا مما يلزم لكل مناسبة ...(يوم جمعة، وأنا ضجر: هذا ما يحدث لي عندما لا اذهب إلى صلاة الجماعة في المسجد ، فالشيوخ باتوا داجنين: إنهم يتكلمون في هذه المرحلة عن الدروس المستفادة من معركة بدر ، ثم لا يخرجون في مظاهرة بعد الانفضاض..) ، و كذلك النقد المحمّل بالرمز ...( الدجاج ظل يدور في شواية أمام النار ، في ذات الاتجاه ويؤكل في النهاية، من دون أن يخطر لدجاجة أن تشذ عن السياق....).
الوحدة والعزلة والانطواء ، ركن يجد محمد طمليه ارتياحا له وفيه ...(هناك ثقب باب لمنزل لا يزوره أقارب أو معارف في المناسبات).
محمد طمليه في مقالاته القصصية يستحق أن يسمى عبقري الفنتازيا فله بصمته في تصوير التشظي والانفصام ( أنحني أيضا، ولكن أحدهم يضغط على ريموت كونترول في أحد البيوت ، فأجدني أنقلب رأسا على عقب )...( أعياني الانتظار فنمت ولكني صحوت اثر كابوس وسألت شريكي:هل رن الهاتف؟ قال نعم طلبك شخص اسمه محمد طمليه).
الرائحة وحبل الغسيل والسطح ، ثيمات تزدحم بكثافة وتحتاج لعلم النفس ليضيء دلالاتها.
مارست نصوص محمد طمليه هروبا لافتا ، وكان الكوفي شوب وسطح البناية ملآذاته التي يجد فيها حريته ، مع ما يلازم ذلك من ارتباط بسطوة ورهاب الخوف والشعور بالاضطهاد من الآخر الذي يعتبره طمليه جحيما ( أحتمي بنوافذ مغلقة وأبواب مغلقة وروح مغلقة،ولكن لا يبارحني الخوف).
لا يخفى على عين المتتبع للنصوص ، أنسنة الحيوان ولا المفارقات الصادمة ولا تجذر أدب ماركيز ومجمل أعلام الكتاب الروس الذين يستحضرهم ويستشهد بعباراتهم.
رحلة( محمد طمليه ) مع المرض فرضت نفسها على نصوصه وعوالمه النفسية أخيرا واشتبك في هذا مع (محمود عيسى موسى) والكاتب السعودي الراحل (عبد العزيز مشري) الذين غرفوا من نفس النهر فسجلوا دقائق نبضهم ودقائق لحظاتهم وهم يواجهون معركة المرض ويرصدون محطاته على اختلاف التحمل والرؤية .
فقد المرأة الواقع ومطاردة المرأة الحلم محطة لا يمكن تجاوزها هنا( كوني ظلي لاتبعك...احب أن تكوني أمامي وخلفي وأينما يأخذني خطوك..عطش وأنا أشرب وصولا للظمأ،أتداوى منك بك،أنت النبع والصيدلية . كوني أشد صلابة كي يرتطم رأسي بك لأصحو عليك..)
كثير ما يستوقف في إبداع هذا الرجل الذي غاب بصمت لكن مالا يمكن تجاوزه في كتاباته نحته البديع للجمل المحملة بالانزياحات والدلالات الكثيرة ...
يرجع للبيت مشيا على الأقداح / أنتظر على أحر من الثلج/نصوص خادشة للحياد العام/الطيور الجارحة لم تعد تجد موطئ مخلب /لم أذق منذ مدة طعم الحبر/ .
إضافة للتعابير الشاعرية الجميلة (كم يلزم من نبض/ أراك في كل الوجوه/يرجع الصدى كأنه النشيج)محصولي منك لهاثي إليك/نبض على هيئة جثث/ممشوقا مثل ضوء منسرب من ثقب في ستارة النافذة /
كما ذكرنا من قبل فإن خطوة وزارة الثقافة بالتفاتها لهذا الكاتب وتضمين مختارات من نصوصه في مشروعها لمكتبة الأسرة يستحق الإشادة والالتفات ، غير أن مشروعا كهذا يحتاج الكثير من الدقة والمراجعة وبذل الجهد، فليس مقبولا أن يخرج مشروع يهم الوطن بأخطاء طباعية بلا مراجعة وليس من المعقول أن تسقط صفحتان بالكامل(ص 8 و 10) وفقرة من ص(117 ) من مختارات طمليه دون أن يرف جفن لأحد.
هذا، وكان من المقبول والمفيد لو وضعت في صفحة مستقلة نبذة عن حياة الرجل ومحطاتها العمرية والعملية والإبداعية فذلك خدمة للأدب وللمتلقي الذي ربما لا يعرف عن أعلام الأدب المحلي الكثير.