ضربة بلميار دولار

ضربة بمليار دولار

الدكتور عبد الحق حمادي الهواس


رغم حاجته لأخذ الخبز من الفرن كان أبو أحمد يتمنى أن يتأخر الثلاثة الذين أمامه… فقد غطى تفكيره بالمبلغ الذي في جيبه على كل همومه وتعبه وقد انتابه شعور بالخوف ألا يكفي لخمسة أرغفة إذ لم يعد لديه غيره بعد أشهر من البطالة التي ألقت بالموظفين خارج عملهم …

كان يظن أن الناس حوله يلاحظون غرقه بالتفكير أو ربما تنبهوا إلى أنه يحدث نفسه… كان يشعر بأنه بدأ يفقد السيطرة على نفسه لكثرة المشاكل التي تزدحم في ذهنه .

لقد فكر طويلاً بتقسيم خمسة الأرغفة على أحد عشر فرداً من أسرته فجعل نصف رغيف لكل واحد على أن يقتطع كل واحد منهم له ما يكفي لقمة واحدة… فرح بسماعه أن سعر الخبز لم يتغير ، فحمل أرغفته مسرعاً نحو البيت وقد لفه زحام السيارات والمارة وهدير الآليات العسكرية الأمريكية وهي تمر بسرعة بعد أن تمنع السير وتجبر السائقين على فتح الممر الأيسر لها .

كان الطريق طويلاً إلى البيت ويزيده طولاً شدة التعب وكثرة الهموم ومناظر الدمار المنتشر في كل مكان من بغداد… يئس من التفكير في عودته إلى الوظيفة أو في إيجاد عمل.. راح يحدق في السماء ولهيب شمس آب فلا يرى سوى أسراب الطائرات.. أحس بشيء من الخوف وخفق قلبه وازدحمت الأنفاس في صدره.. نفث منها ما استطاع..

شعر بأنه يطير فوق الزحام وهو يحاول اختصار الطريق والتخلص من شعوره بالجوع والضعف ليـرى نفسه في البيت يحدق نحو طائرة يتصاعد منها الدخان وقد فقدت توازنها وهي تهوي باتجاه الأرض ، كان شيئاً لا يُصدق فالطائرة تحمل رواتب الجنود الأمريكيين… كان في الصندوق المعدني مئة ألف دولار… لا إنه مبلغ متواضع بالنسبة لعدد الجنود.. إنه مليون… لا لا ما قيمة المليون في أيامنا… بالتأكيد هو مليار دولار… أجل مليار… وعَلِق نظره بالصندوق وهو يرمي به الجندي حرصاً منه على المبلغ كان الصندوق يترنح وهو يهوي بسرعة على سطح بيت أبي أحمد ليصطدم بالقاعدة الإسمنتية لخزان الماء ويستقر عندها… يا الله لقد سقط الصندوق على سطح بيته ، أما الجندي الأمريكي فقد لقي حتفه حين علقت المظلة بعمود الكهرباء بينما انفجرت الطائرة حال ارتطامها بالأرض ومات الطيار .

لا دليل ضده ، والمليار له وحده ، سحب الصندوق على الدرج المفضي إلى داخل الدار وقد تهشمت زواياه… أسرع إلى المطرقة ليجهز على القفلين ليرى بأم عينيه رزم الدولارات والأوراق الثبوتية وقوائم أسماء الجنود والضباط… إنه شيء يفوق التصور.. إنه الحظ يبتسم لأبي أحمد لأول مرة في حياته ، كم كان يحلم بمثل هذا لكنه لم يتصور أن صندوقاً سيأتيه من السماء وما عليه الآن إلا أن يفكر بالأسلوب السليم لإخراجها مع أسرته إلى أقرب عاصمة عربية ، ومن هناك إلى أوروبا ، حيث أجمل فيلا يغوص بمسبحها الفاره يفتح عينيه على تناسق هندستها وروعة حديقتها ، وإلى الخدم وهم يجتهدون في خدمته… رأى نفسه على الطاولة وهو يدخن السيجار الكوبي والزهور تتمايل أمام ناظريه وصحته عادت إلى أيام شبابه قبل ثلاثين سنة .

ماذا سيفعل بالمبلغ.. يؤسس به شركة أم مصنعاً ضخماً… لا… لا ...عليك يا أبا أحمد أن تكون ذكياً فربما تكشف أمرك أرقام الدولارات… الأفضل أن نصرف منها قليلاً قليلاً عند محلات الصرافة الخاصة ، فالمبلغ كبير فلنؤجل المشاريع إلى خمسة سنوات حتى تشرب كل أرضٍ ماءها… شعر بعطش شديد وهو يذكر الماء ليس بينه وبين البيت سوى حارتين… أحس أن أحداً ما يتجسس على حديثه الصامت وأن عليه أن يتابع تخطيطه حين يأوي إلى بعض الراحة بعد طعام الغداء رأى دخاناً يتصاعد وهو يهمُّ بدخول الحارة الأخيرة بدأت خطواته تسرع رغماً عنه.. فرغ ذهنه من أي فكر… شعر بدوار وكأنه يطير في الفضاء الخارجي… دخل الحارة فأصبح وجهاً لوجه أمام بيته وهو يحترق… ألقى كيس الخبز… تعثرت الكلمات على لسانه… ما… ما… سقط على الأرض وصورة جاره تتلاشى أمام عينيه وبقايا صوته كطنين النحلة…

لقد قصفوا بيتك يا أبا أحمد.. استشهد أحمد وعلي وعائشة والبقية في مستشفى اليرموك.