المعانقة الأخيرة



صُحفية - بضم الصاد - هكذا كان ينطقها أمامى، ومن ورائى، حين يدعوا لي بها في صلواته المباركة. أحبه حتى لو نطقها بالكسرة!. ولو بدل كل اللغة و حولها إلى طلاسم لا تنفك إلا بحضرته هو.


فقد كان منارة للجلال والجمال. إطلالته تفيض إشراقا، وتضوع رحيقا، وكلماته الطيبة " كـديمة " محملة بغيث مبارك، سُكب فى الأرجاء ما سكب، من خيرٍ، فاهتزت وربت. وكيف لا ؟! وقد بنى - فى مرحلةٍ مبكرةٍ من حياتهِ - مسجدا من أكبر المساجد فى مدينة السويس. وهو المقيم للموائد الرمضانية سنويا، وموائد الجمعة أسبوعيا، و طوال العام. بجانب العديد من الأضاحى،وغيرها من الخيرات الهائلة، التى تُوزع فى الأعياد و كل المناسبات الدينية على آلاف السكان بمدينتنا الباسلة.


توفي رحمة الله عليه و هو - تقريبا فى الخامسة و السبعين من عمره -. لم يكن لديه أموالا مكدسة فى البنوك، و لا فى خزانات خاصة. شأنه في ذلك شأن: كثير من الأتقياء، والزاهدين فى هذه الحياة. فقد كان يحيا من أجل أبنائه، وأحفاده، وأهل بلدته. واهبا نفسه، وصحته وقُوته اليومي لوجه الله تعالى .


إنه الحاج: " أبو المجد " أو " جدو الحاج " كما أناديه أنا مذ بدأت فى التمتمة لتعلم النطق فى طفولتى.


يقولون : " لو لم تُخلق نعمة النسيان لكان الأفول سنة الأعمار..لا الذكريات " لكنه مضى و ترك أثر الندى جليّا على أغصان ذاكرتى .. فـأنا أحتفظ بحبه فى شرايينى، وصوته فى أذنى لا ينقطع أبدا. ملامحه تتمازج، تتماوج بين ملامحى، فـأراه كلما نظرت إلى وجهى فى المرآة. ونظرته الحانية لا زالت عالقة فى مقلتىّ. فى غياهب المحن: أغمض عينىّ فتعاود هذه النظرة ملامسة روحى .. فـلروحه نسائم ربانية كما لو أنها الضماد التى تضمخ شدوالأوجاع.


لكنّه رحل عن الحياة. رحل عنى.. وعنّا جميعا. هو في القبر مذ سبع سنين. تحلل، وأختلط بالتراب. تحللت يده التى كان يداعبنى بها، وتحلل كتفه الذى طالما حملن عليه فى طفولتى، و أراح رأسى عليه فى صباى. لا أتصور كيف أختفى، كيف أنتهى من الوجود! مات، وغُسل، و كُفن، ودُفن فى يوم واحد دون أن أراه. دون أن أعانقه المعانقة الأخيرة. حتى أنه بعد مرور خمسة سنوات على وفاته، زارني أثناء نومى، و ظل يتحدث إلي كثيرا، و أخبرني أنه مازال خارج القبر. لن يدفن قبل أن يرانى وأراه!. ثم عاتبنى على عدم توديعه فى اللحظات الأخيرة، فأوضحت له أننى كنت فى المدرسة، ولم يسعفنى الوقت لرؤية وجهه الضحوك، وجنازته الملائكية التى شهدها بها كل شيوخ وأهالى الحى.


مات جدى واأنا فى الخامسة عشر من عمرى، ليظل تاريخا يُدون الحزن فى تقويمى. ويبقى ألم الفراق؛ أرجوحة تنوس بها ساعات الحزن الطويل. لم ولن يعوضنى أحد عنه. فلم أجد مخلوق ينتظرنى فى حديقة المنزل كل مساء لينصت إلى واستمع إليه، كما كان يفعل هو. لم أجد من يمزح معى يوميا دون ملل، كما كان يفعل هو. لم يحفزنى أى كائن من المقربين مني - من عهد الطفولة - علي تنمية قدراتى الإبداعية فى الكتابة إلا هو- رحمة الله عليه- .


مازلت أبكيه فى ضعف، وقلة حيلة. فـأمام فراق الأحباب غالبا؛ ما تعجز قلوبنا على التجلد! حتى يحق لنا ما قاله المفكر الفرنسى جان جاك روسو لزوجته - عاتبا وهى تبكيه فى نزعه الأخير - : " أتبكين لسعادتى؟! أتبكين لتلك السعادة الأبدية التى لا يستطيع أحد أن يعكر صفوها؟! "


ولو أنصفت انا لبكيت قليلا، وتجلدت كثيرا، ولخففت عن نفسى مرارة الفراق، بتخيلى له وهو فى درجات العلا فى حلل السعادة يرفل، ولقلت لنفسى ما قاله الشاعر مخاطبا أعزاءه الراحلين:


فى ثنايا القلب، أنتم لم تــزالوا..غير أنـــّا صــابرون


هيهات أن ننسى، وإن طال المدى ..غير أنّا صابرون


رحمك الله يا جدى الحبيب ورحم جميع موتى المسلمين.



بقلم / أسماء عايد


شكرا لكم المتابعة الجميلة