الحلقة الثانية:
أخيراً جاء يوم الإربعاء، بعد طول انتظار وأمل. كنت قد حضرت جميع محاضرات ذلك اليوم بجسدي دون فكري الذي سافر إلى حيث المولد الذي طالما حدثني عنه صديقي ووصفه لي بشيء أشبه من الخيال. لقد كان حديثه عنه ماتعاً لقلبي، آسراً لكياني الذي لم ترسخ قدماه بعد على أرض الإستقامة والصلاح. إنتهت محاضرات اذلك اليوم الطويل الطويل لأكمل ما تبقى من رحلة السفر تلك بفكري في غرفتي وذلك إلى أن يحين موعد الإقلاع حقيقةً لا خيال، ولأشاهد وأحضر بجسدي وذهني مجتمعين لا متفرقين...
اقترب الموعد للإنطلاق، وكنت قد تجهزت قبل الموعد بساعة منتظراً قدوم الصديق لاصطحابي معه إلى حيث الولي القادم من حضرموت خصيصاً ليحي مراسم ذلك المولد...
جاء صديقي ليأخذني وكلٌ منا خائفٌ يترقب، أنا أرتقب وصولي هناك، وهو متعجل متلهف لسماع رأيي حول ما سأراه وأسمعه. وفي الطريق سألته: أللولي الذي سيحضر اليوم كرامات؟
قال: نعم.
فسكتُ لبرهة أفكر ولم أبحث عن مزيد تفصيل أو إيضاح فقد أشعبنا هذا الموضوع أنا وإياه حواراً وجدلاً وضحكاً واستهزاءً مني، فإذا به يقطع خلوتي بفكري ليقول: لكنه لا يخبر أحداً عنها أبداً بل إن من حوله هم من يخبروننا بتلك الخوارق للعادات.
وصلنا إلى الموقع قبيل صلاة العشاء، وكان بيتاً خاصاً كبيراً فسيحاً أُعدت بعض غرفه ومجالسه لمثل تلك اللقاءات والموالد. كان الحضور كثيفاً على الرغم من أن ذلك اليوم لا يوافق مولد النبي صلى الله عليه وسلم عندهم، بل لم يكن من أيام شهر ربيع الأول أو الآخر، فهم قد اعتادوا على تسمية تلك الإجتماعات بالموالد...
كان في أول المجلس شيخ كبير السن بدين الجسم، يلبس المتواضع من الثياب، يحيط به من كل جانب شباب ورجال كثر، كلٌ يعرض مسألته، فدفعني صاحبني نحوه مشيراً عليّ بالتقدم للسلام عليه وأخذ البركة منه، وكان من عادة الذين يأتون للسلام عليه أن يقبّلوا يده بزعم أخذ البركة. تقدمت لأسلم عليه وليس بين يديّ أي مسألة فأنا قادمٌ لأتفرج وأشبع جوع رغبتي الثائرة على كل ما هو جديد غريب، المهم أني تقدمتُ وسلمتُ عليه مصافحاً دون تقبيل ذلك أني لم أعتد تقبيل يد أحد من البشر سوى والداي ولم أتمنى تقبيل يد أحدٍ غيرهما قط إلا أمنيةً تراودني كثيراً على أنها مستحيلة المنال، بعيدة الحصول بعد المشرق عن المغرب، وهي تقبيل يد الشيخين ابن باز وابن عثيمين عليهما سحائب الرحمة والغفران من ربٍ غفورٍ رحيم، فلكم يشكو الخد من تلك المدامع التي تنهمر انهمار المطر حين أتذكر أني لم أُمتع ناظري برؤيتهما ولم أُشنف أُذناي بحديثهما. المهم أني رأيت نظرات الاستعجاب والاستغراب تلفني حين لم أُقدم على تقبيل يد هذا الولي وأنى له ذلك.
اخترت زاوية المجلس، فهي مكان الغرباء في كل مجلس، وتوجه ناظري ليتفحص الحضور، فإذا بي أفاجأ أن جُلّ من حضر من الشباب هم من طلبة جامعتنا، وأعرف الكثير منهم ممن ألتقي به في ردهات الجامعة أو ممن صادف تواجده معي في إحدى المواد المشتركة.. كان قسمات الوجه تفرق بين الحاضرين الغرباء من أمثالي وبين الذين أصبحوا يَـحْبـُون أو من غدوا يعدون في هذا التيه..
حضر وقت العشاء فرفع الأذان في البيت والمسجد لا يبعد عنه إلا بضعة أمتار.كانت مثل هذه الحوادث تزيد في داخلي عدد الأسئلة والاستنكارات على هؤلاء القوم وتبعدني عنهم ولا تقربني، فلقد كنت أستحضر دوماً ما أقرأه من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقارنه ما يفعله هؤلاء فإذا هم في نظري لم يفهموا معنى تلك الرسالة الخالدة، ولم يوافقوها طرفة عين، وإن تمثلوا محبته واغرورقت عيونهم بالدمع حال سماع قصصه التي كانت في الغالب من الضعيف والموضوع. لقد بدأت ألاحظ ذلك وأنا حديث عهدٍ باستقامة، لا أملك من أدوات الحوار إلا العقل وبعض القصص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم.
ذهب الناس للوضوء وكنت على استعداد من غرفتي لأداء الصلاة، ثم أُقيمت الصلاة وتقدم الولي للصلاة بنا، وشدتني قراءته للفاتحة، فهو يجيد الكثير والكثير من فنون العلم كالفقه وغيره من علوم السيرة، ثم هو لا ينطق القاف كما هي في أصل اللغة، بل ينطقها كما ينطقها العوام عندهم. لقد دارت بي الدنيا حينها وتذكرت طريقة كلام الجفري في لقاءاته المتلفزة، إذ كيف يدّعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم ويتباكون أمام الملأ إظهاراً لتلك المحبة، ثم هم يفضلون اللغة العامية على ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أقوال أهل العلم وتشديدهم في مسألة قراءة الفاتحة على النحو الصحيح حتى أجاز بعضهم للمأموم قطع الصلاة والصلاة منفرداً إذا كان الإمام لا يجيد قراءة الفاتحة.
انهينا الصلاة، وعدنا استعداداً لسماع الدرس الذي ألقاه الولي على مسامعنا وكان لا يخلو من اللمز والطعن في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والحديث عن كرامات بعض الأولياء والصالحين وحشد الأدلة النقلية والعقلية عليها.
بعد الدرس بدأ الإنشاد المُصاحب بالدف، وأنشدو الكثير من القصائد التي فيها مدح للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها قصيدة البوصيري الشركية... لا أخفيكم أني تأثرت بتلك القصائد وذلك النشيد فالذين تقدموا للإنشاد يمتلكون أصواتاً عذبه، والكلمات التي أُنشدت كانت مختارة بعناية لتلامس شغاف القلوب، ولم أكن أنا ولا غيري ممن حضروا لأول مرة يدققون في شرعية تلك الكلمات، بل لقد تم أسرنا من اللحظات الأولى للإنشاد...
فلقد تأثرت محاجر العيون أشد التأثير حين سمعت تلك الكلمات وتهيجت المشاعر حتى فاضت وانسكب عطرها على نسائم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد شعرت بالتقصير الشديد نحو هذا الدين طوال تلك الفترة الماضية من عمري فوبخت نفسي كثيراً على ذلك. لقد كنت أشعر حينها بحرارة لذعة المعصية وحلاوة التوبة سوياً، فأخفضت رأسي بين قدمي وانتحبت بالبكاء. لقد كنت أشعر بالأسى مضاعفاً حين أتذكر أني من تلك الأسرة الكريمة وذلك النسب الشريف.
يتبع....