-
ورم
ورم
الثامنة صباحا ، في أقصى الشمال الاروبي ، أفقت كعادتي ، تسللت نحو الصالة لأعانق فنجان الشاي الصباحي ، ولأحرق ثلاث دخائن ، دخلت الحمام ، غرقت تحت مياه حارة ، يتصاعد البخار منها ليهرب من فتحة صغيرة ، خرجت ، وكالعادة ، كانت القهوة التي أعدتها زوجتي تقتحم خلايا دماغي بقوة ، فللقهوة مكانة في قلبي ، لا يعرفها إلا المقربون مني ، أحرقت ثلاث دخائن أخرى ، ارتديت ملابسي ، وخرجت .
العاشرة صباحا ، موعد مع طبيبي الخاص ، قدت السيارة إلى مكان بعيد عن العيادة ، طلبا للتمشي واكتساب بعض أنفاس من هواء نقي ، لم التفت إلى شيء ، ولم ادقق بأي تفصيل ، فالشوارع معهودة ، وكل ما عليها أصبح بسبب العادة لا يثير دهشتي أبدا .
انتظرت في الصالة ، كان أفراد دائرة السير يختفون خلف العيادة مباشرة ، يصطادون السيارات المارة ، لا بد وان الراتب الشهري الذي اقترب ، كان همهم الأوحد ، فلا بد لخزنة الدائرة أن تكتظ بالنقود ، وبين ملامح هؤلاء والسائقين كان هناك اختلاف كبير .
انتزعت من المراقبة حين دعاني الطبيب للدخول ، سألني عن حالي ، أجبته بان الصداع الذي يراودني ما زال على حاله ، بل وتصاعد بقوة أصبحت تفقدني التوازن والتركيز في بعض الأحيان .
ولأول مرة تنبهت للاهتمام الزائد الذي أظهره الطبيب ، كان يسألني عن أشياء كثيرة ، بتركيز وتنبه ، واخذ يصغي لأجوبتي وكأنه يتابع مشهدا في الرائي لا يمكن إهماله ولو للحظات . أحسست بضغط الأسئلة على نفسي ، ولمحت من بين ثناياها جملة تنتظر أن تستقر بأعماقي ، شعرت بغصة عميقة تضرب حلقي ، ولكني ظللت مواصلا التماسك والصبر وأنا أردف اسئلته بإجابات واضحة ومحددة .
استدار بكرسيه نحو الحاسب ، حدق فيه قليلا ، ثم استدار نحوي بتحفز وقال :-
- علي أن أخبرك بالحقيقة ، فانا لا املك حقا بإخفائها عنك .
لأول مرة منذ أعوام ، تجتاح العين المكان ، بتحفز مفترس ، تدقق في التفاصيل ، تلاحق الأشياء الصغيرة المختبئة تحت الأرض وبين الشقوق ، تمسح الجدران بتفحص متوثب ، تحاول أن تطوي المسافة بين الغربة وبين الوطن .
تداخلت صور أولادي في بؤرة الرؤى ، ضحكاتهم ، بسماتهم ، حزنهم ، غضبهم .
هذا السور به قليل من التصدع ، وذاك الشارع به حفرة صغيرة تزعج السائق والمارة ، هناك على السطح المقابل للسور المتصدع تقف شابة يافعة ، ترتدي سروالا من الجينز ، تسحب أنفاس الدخينة بتؤدة ، تجول بعينيها الشوارع والأرصفة ، لكنها لم تلتفت لوجودي .
نسمات الهواء تقطع جسدي ، تتكوم كدائرة تستعد لتشكيل عاصفة ، نظرة الطبيب تلاحقني ، كانت تحمل شيئا من الشفقة ، وبعض من الغرابة ، هو عربي مثلي ، ملامحه تتشابه مع ملامح المتوسط والفرات ، فيه رائحة النخيل وتقاطيع بغداد .
قبل أعوام كنت هناك ، أقف على شوارع بغداد ، أتنقل بين أسواقها ، " المسقوف " " والمن والسلوى " ما زالت تعيش بأعطافي ، هنا وقف هارون الرشيد ، ومن هنا زحف جيش المعتصم استجابة لصرخة امرأة ، وهنا بدأت الحضارة ، ومن هنا تعلم الناس كيف تصاغ الحروف .
نهضت أمي من قبرها ، لمحتها في الشارع المقابل ، انتفضت ، سارعت الخطى ، حاولت اللحاق بها ، لكنها بلحظة سهو تلاشت .
الطبيب قال لي : يجب أن أخبرك بالحقيقة ، لا اعرف إذا ما كان رجال السير لا زالوا يلتقطون السيارات ، تعثرت امرأة على رصيف ، نهضت وملابسها مبتلة بالمياه ، نظرت إلي ، أشحت ببصري للجهة المقابلة ، تنهدت ، بعد أن أيقنت عدم مشاهدتي لما حصل .
النوارس تنتشر في الأجواء ، ترسل زعيقا يوقظ التشاؤم والتلبد في النفس ، ابنتي الصغيرة بالمدرسة ، وولدي البكر يغط بنوم عميق ، زوجتي تمارس أعمال اليوم ، وأمي ترقد بجانب أبي في مقبرة ذنابة .
العالم كله لا يعلم من أمري شيئا ، فقط أنا والطبيب ، ووجوه لم اعرفها ، لا أستطيع تذكرها ، كانت تخاطبني بروتين قاتل ، الصورة الطبقية تحتاج إلى نصف ساعة من الزمن ، عليك أن تصمد ، تصبر ، اضغط على الزر الذي بين يديك أن شعرت بعدم القدرة على الاحتمال ، لكن حاول بشدة أن تصمد .
ضغطت على الزر مرتين ، وأخيرا استطعت الصمود .
سرت باتجاه البحر ، هناك خليج غير واضح البداية أو النهاية ، على مقربة منه تقف مكتبة البلدية ، هناك ترتسم خطوات لي ، كانت قبل أيام تصعد الدرج بعزم وسرعة ، تنقب بين الرفوف ، عن كتاب يستطيع أن يساعدني تعلم اللغة القطبية المتجمدة ، ولماذا علي الآن أن أتعلم شيئا في الوجود ؟ أرحت ذاتي على دكة خشبية ، أشعلت دخينة ، تأملت الموج القادم من أعماق البحر ، لينثر قليلا من المياه فوق راسي ، آه ، لو كانت تعلم الموجة سر جلوسي في هذا المكان ، تابعت منظر قارب صغير ، وهو يستدير بحركة مباغتة إلى الجهة العكسية ، كاد أن ينقلب ، لولا حنكة السائق وخبرته .
مرحبا ؟ أدرت نظري نحو الصوت ، شابة يافعة ، شقراء ، بيضاء لامعة ، تحمل تقاسيمها نوعا من كآبة مثقلة بالفراغ ، لامست انهيار شيء في تداعي نظرتها ، طلبت دخينة ، حين أشعلتها ، أعلنت أنها لا تملك ثمنها ، تبسمت ، قالت ، أنت شاحب الوجه ، تدفقت صورة الطبيب أمامي ، علت الموجة القادمة ، أحقا هو الشحوب ؟ أم هو الخوف الناهض بتؤدة ليسيطر على مكمن الذات ومركزها ؟
قلت للطبيب : ادفع بالحقيقة كاملة ، اهو الموت ؟ كم من الأيام تبقى ؟ كم من الأحزان تبقى ؟ كم من الخفقات تبقى ؟
لا تخشى ، لن اسقط فوق بلاط الغرفة ، لكن علي أن اعرف ، أن احسب ما تبقى ، لأوزعه على أولادي بالتساوي ، أتدري ، منذ اشهر وصلت حفيدتي إلى الدنيا ، كانت نقطة النور الوحيدة بأرض الغربة ، حين خرجت من رحم ابنتي لينا ، شاهدت الضوء يغمر الكون كله ، وعرفت لوهلة ، باني امتد فوق الوجود بصورة أخرى ، حين ضممتها إلى صدري وهي ملطخة بماء الرحم ، وشممت رائحتها ، أحسست رائحة أمي وأبي ، همست بأذنها ، سنلتقي أنا وأنت يوم زفافك ، سأكتب عنك الكثير ، سأخفيه بين طيات الأيام ، وحين تعتلي " اللوج " أنت وزوجك ، سأخرج الزمن لأمنحه لك .
هي ما زالت بأشهرها الأولى ، لم تبلغ العام ، وجئت أنت لتخبرني بالحقيقة ، هل سأراها وهي تتأبط يد زوجها في ليلة عمرها الخالدة .
لا تخشى شيئا ، اخبرني فقط كم تبقى ، لأحمل أولادي إلى ارض الوطن ، لأحدثهم هناك عن أبي ، عن أمي ، لأريهم مكان جلوسهم ، ومكان سيرهم ، لأنقلهم من غوائل الاغتراب إلى غائلة الفقر ، كيف يمكنني المغادرة الآن ؟ واتركهم بين هذا وذاك ؟
لا عليك ، أهي أيام ؟ أم شهور ، وربما أكثر ؟ فقط اخبرني ، فانا أستطيع أن أتحرك داخل المحدود المتبقي بعدل وإنصاف ، هنا ساعة لمعتصم ، وأخرى للينا ، ومثلها لأحمد ، وكذلك ساعة لرؤى ، والأخيرة في هذا التقسيم لمصطفى .
لحفيدتي ساعتان ، للسفر المتواصل ساعات ، في الأردن ، أخي وصديقي ، كم من الساعات سأمنحهم ، تسير السيارة ، تصل جسر دامية ، هنا استراحة أريحا ، رائحة الوطن المثقوب ، تواصل سيارة أخرى ، هنا مخيم طول كرم ، لا متاع معي ، أترجل منها على الشارع الرئيسي ، أحدق بحائط مسجد الفردوس ، اقترب منه ، المسه بيدي ، تندفع الذكريات ، الميضأة ، كم من المرات توضأت عليها ، المروحة ، المنبر ، البساط الخمري اللامع المحشو بروائح الطيب ، الدرجات ما زالت خمس ، كما تركتها قبل أعوام ، المسافة بين المسجد وبين مدخل المخيم مئات الأمتار ، مدرسة اللاجئين ، اقتحمت ناظري ، حاولت الدخول ، لكن حساب الزمن لم يسعفني ، أختي إيمان أحق بالوقت من ذكريات أتشوق للمسها ، مكنة مياه بيارة " أبو حمد الله " مازالت مكانها ، وشجرة الجوافة التي كنت اقطف أوراقها لمعالجة معدتي عرفتني ، نداءها وصل مسمعي ، عدت إليها ، لمستها ، ولأول مرة منذ خرجت من العيادة ،
بكيت .
سألتني الشابة عن دخينة أخرى ، حاولت أن تدفعني نحو الابتسام ، رفضت بقسوة ، علي أن أواصل المسير ، من شجرة الجوافة إلى منزل والدي ، الطريق كله يعرفني ، معرفة الزمن للمكان ، ومعرفة المكان للزمن ، مصافحتنا ستأكل من الوقت ، هناك أشياء لا تعد ولا تحصى علي الانتهاء منها قبل فوات الأوان ، بقالة " أبو جاموس " جرفت من أصولها ، تغيرت معالمها الطيبة ، أصبحت تحمل طابعا جديدا ، شعرت بالنفور ، منزل " أبو مجدي " السباك ، قلع من جذوره ، تطاول قليلا ، حاكورة الزغل ، تلاشت ، انتصبت مكانها جدران صماء ، صالح الجرمي ، ما زال يقلي الفلافل كسابق عهده ، بيت " أبو طاحون " تحول إلى كتلة إسمنتية واحدة ، لو دخلت الزقاق الذي على يساري ، لواجهت حارة النادي ، ولو انعطفت يمينا ، لدخلت حارة الربايعه ، لكن الوقت سريع ، ربما أسرع مما أتخيل ، وربما أبطأ .
رحمك الله يا أبا أيوب ، بقالتك الجميلة بفقرها وبؤسها المزروع جمالا بالنفس التي تعودت رؤيتك مع عجائز المخيم ، تحولت إلى مذبح ، تراق فيها الدماء ، وتغادر الأرواح ، يتدلى اللحم على الكلابات ، كتاريخ ميت مهجور ، بقالة أبو هاشم ، تحولت إلى صالون للحلاقة ، فقدت مذاقها ، ورائحتها وذكرياتها ، الأطرش ما زال في بقالته المواجهة لبقالة أبي هاشم ، فوقها مسجد جديد ، صليت فيه مرات ، لكنني لم اعشقه كثيرا ، كنت أحاول اخفاء امتعاضي عن نفسي ، تمسكت بالمسجد المنتصب في المخيم منذ أعوام طويله ، به كنت اشعر بالخشوع ، بتجلي الإيمان ووميضه ، بساعدي الغضين ، حفرت أساس مكتبته ، وبعرقي تكون سقفه ، أول كتاب دخلها ، كان مني ، عن روح أبي وأمي ، تفسير القرطبي .
بقالة المصيعي ، ذهبت حلاوتها ، اختفى بريقها ، والرجل المسكين ، المصيعي ، الذي كنا نسطو على أكوام البطيخ التي ينام لحراستها بالشارع ، فقد النطق ، اختفت أوتاره الصوتية ، أصبح يتحدث بالإشارة ، على يمينه ، بقالة حديثة ، للقلق ، لا اعرف لماذا سميت بهذا الاسم ، لكنه يستطيع أن يفصح عن حالة التبدل التي اجتاحت الشارع والتفاصيل .
رن الجوال ، زوجتي ، تسأل عن سبب التأخر ، قالت ، تحدث مع حفيدتك ساره ، الفتاة تواصل التحديق بي ، لم تفهم شيئا مما قلت لزوجي ، منحتها دخينة ثالثة ، ابتسمت ابتسامة عريضة ، تأملت وجهها ، وأوقفت نظراتي على قمة الرأس ، تداعت جملة الطبيب مرة واحدة ، الفتاة أصيبت بالارتباك والدهشة ، نظراتي كانت قوية ، خارقة ، أنا لم اشعر بذلك ، لكن تفاصيل الدهشة التي كست سحنتها قادتني للتراجع عن التأمل .
وصلت بقالة الحافي ، التف حولي الجيران والأصدقاء ، قبلات وعناق ، شق الجمع صديقي جهاد عطار ، هزني بقوة ، ضمني إلى صدره ، همس ، رائحتك لم تتغير ، عرقك ما زال غزيرا ، امسك بيدي ، دخلنا الزقاق المؤدي لبيت الوالدين ، لبيتي ، وبيت أطفالي ، تسللت روائح الطبخ والمخيم إلى أعماقي ، كانت النساء المارات يلقين بالتحية ، بمودة خالصة ، وبفرحة لا توجد خارج ارض المكان الذي غرزت عبقي به .
الباب مغلق ، والبيت مهجور ، تعلوه وحشة ضارية ، ويسكنه موت خانق ، المفتاح مع أخي عبد الرحيم ، نظرت إلى صديقي ، وقبل أن يفوه بكلمة ، كنت قد خلعت الباب من مكانه .
الموت يحاصره من كل زاوية ، هنا مات أبي ، وهنا ماتت أمي ، وربما أنا هنا أو هناك ، من يعلم ، هنا مات أخي محمد ، وهناك أخي قاسم ، وباسم مات على تلك البقعة من الأرض ، هنا ماتت أختي خالدية ، وماتت ميسون على بعد قليل ، وكذلك صفاء .
تحسست الجدران ، بيد تعرف كيف تسترجع الماضي ، كيف تخرج خفقات وأنات ، كيف تبرز البسمات والدمعات ، شعرت بالغصة ، بالقهر ، بالغضب ، بالتوق المتفرع المتلولب ، يتشكل بأعماقي بقوة وسرعة ، توجهت نحو صنبور المياه ، أرويت ذاتي من ماء اشتركت فيه مع أهلي وخلاني .
قال صديقي : أنت تشعر بالجوع ، لنتناول الغداء ، حدقت بوجهه ، لفترة طويلة ، تقاسيمه تغيرت ، يد الزمن صنعت بداية ترهل أسفل الرقبة ، لا يلمح إلا بالتدقيق ، شعره انقلب إلى بياض مزرق ، بين ثنايا وجهه طفولة اعرفها ، اعشقها ، نفرت مرة واحدة من بريق عينيه ، أحاطت اللحظات بغشاء يدفعك للبكاء والفرح في نفس الآن ، احترم صمتي ، بطريقة غير معهودة فيه ، ترى ، كيف تعلم جهاد احترام صمت مثقل بالأسى وحساب الزمن ؟ لعلها الحاسة التي تأتي مرة واحدة لتغير معالم الناس لهنيهات أو دقائق .
أريد أن أرى صنو روحي وفلق قلبي ، أختي إيمان ، أريد أن اقبلها ، من رأسها ، يديها ، قدميها ، أود أن اشرب عرقها ودموعها الهاطلة فرحة ، حتى أغادر الكون ولا طعم في ذاتي غير طعم فرحتها ، لمسة واحده لشعرها الأسود ، قبله واحدة لجبهتها وخديها ، تستطيع أن تلغي حساب الزمن المتبقي في ذاكرتي ، إيمان فقط ، من تستطيع أن تمنحني عمرا أطول واكبر ، عمر يمتد بي الآن إلى أزمان لا تدخل ضمن الساعات والأيام .
سرنا بالسيارة ، طلبت منه التمهل ، للشوارع والجدران والأرصفة مكانا بالعين ، بالساعات ، أو الأيام التي يجب أن تتقاسم وجودي عليها ، أشجار النخيل ، وأشجار الزيتون ، الدفلى ، كلها ما زالت بأمكنتها ، لكنها حزينة ، شجرة الجميز الوحيدة بالمخيم تطاولت ، امتدت في الأفق ، المسجد الجديد ، والمسجد القديم ، ما زالا على نفس البقعة ، مدرسة الأصمعي ، خاوية ، تحولت إلى أحشاء خالية ، غادرتها أنوثة المدينة المترعة بالخجل الكرزي ، البيارات سحقت على جانبي الطريق ، جدران تسد النظر ، تبعث رائحة الحرارة والرطوبة .
مسجد السفاريني ، على بعد أمتار منه ، يقع بيت أختي إيمان ، طلبت منه التوقف بعيدا ، حتى لا تسمع صوت السيارة ، أردت أن تكون مفاجأة ، مثل باقي المفاجآت كلما عدت من سفر طويل أو قصير ، للفرحة المداهمة بريق العين ، وتقاطيع الدهشة ، مذاق خاص ، وذكرى خاصة .
ترجلت من السيارة ، شجرة الحناء التي غرست بوجودي ، تبسمت ، أرسلت شهقات متوالية ، أحسست بها ، الدرجات ما زالت تحمل نفس العدد ، كل ما طرأ عليها ، أنها تحولت من شكل الاسمنت إلى شكل الرخام ، صديقي كان يراقب المشهد ، هو أيضا يحمل ذكريات العائلة ، عاش بيننا ، كواحد من الأسرة ، لم يكن يشعر بالغربة ، أو الخجل ، وصلت الباب ، على يميني كانت شجرة التفاح ، وعلى يساري شجرة الدراق .
طرقت الباب ، بيد ترتجف ، كنت أخشى أن يرد علي احد أولادها ، سمعت حركة القدمين ، عرفتهما جيدا ، وصلت ، خفق قلبي ، صوت الملائكة ، من بالباب ، تجمدت مكاني كقالب ثلج ، أعادت السؤال ، راودتني أفكار كثيرة ، لكن لساني أصيب بالشلل .
فتحت ، التقت العيون ، ورجفت القلوب ، تهاوت نحو الأرض ، مذهولة حائرة ، أمسكت بها ، " اخوي " ، نعم .
رن الجوال من جديد ، أين أنت ؟ الغداء جاهز ، ساره بانتظارك ، حسنا ، أنا قادم .
ما زالت جملة الطبيب تسيطر على عقلي ، " هناك ورم بحجم أربع سنتمترات وبعض المليمترات ، نحن لا نعرف عنه شيئا ، لا أستطيع الجزم الآن بأي شيء ، لكن علينا الانتظار ستة اشهر أخرى .
رائحة إيمان ، تتداخل وتشتبك ، مع رائحة أمي وأبي ، فيها من رائحة من رحلوا كثير الكثير ، وفيها من عطف أمي وحنانها ما يكفي لدفن راسي بحضنها الزاخر بالذكريات المتلاطمة ، بكت ، فرحا ودهشة ، بكيت حنينا وتوقا ، قالت : أنت شاحب الوجه ، هو السفر المتواصل ، أنت تشعر بالجوع ، بالعطش ، ربما تشعر بالحنين للقهوة المعدة من يدي ، أو للشاي الغارق برائحة النعناع ، كانت مضطربة ، لا تعرف ماذا تفعل ، أشرت لها بالجلوس على الأرض ، جلست ، ألقيت راسي بحضنها .
مرت بيديها على صلعتي ، شعرت براحة من نوع خاص ، تسللت من أناملها إلى عقلي ، إلى الدماغ ، هي لا تعرف شيئا عما يحدث بداخله ، حتى زوجتي وأولادي ، لن يعرفوا بذلك ، ربما في وقت ما ، تكون المعرفة حتمية ، لا اختيار فيها ، أما أنا فلن أبوح بكلمة ، أحسست بشيء ساخن ، يسقط على خدي ، عرفت أنها الدموع ، نظرت إليها بحركة نصف دائرية ، حتى لا ارفع راسي من حضنها ، ابتسمت ، عرفت فورا أنها ابتسامة مرسومة ، تريد أن تخفي ما بالداخل ، رفعت راسي وأنا محشو برائحة الحنان .
صديقي معي ، سأعود ، علي المغادرة الآن ، نحو أخي عبد الرحيم ، أمسكت بيدي ، سبرت أعماقي ، ضمتني إلى صدرها ، قالت : أنت لن تعود .
وصلت بيت أخي ، محاصرا بالحنين الظامىء ، لم يكن بالبيت ، قلت لابنه ، أنا في الطريق إلى مقبرة ذبابة ، حيث أمي وأبي ، الشوارع كلها تحمل ملامح إيمان ، شكلها ، انهيار صوتها وهي تقول " أنت لن تعود " ، وصلنا المقبرة ، لم اشعر بهيبتها كسالف العهد ، وصلت القبر المزدوج ، ووقفت .
أمي ماتت ، بكائن غريب سكن دماغها ، وأبي مات بجلطة أطاحت بدماغه ، والدي عبر إلى الموت دون عذاب ، أيام فقط هي التي تناوشته ، وزعته بين الألم الحارق ، والحرقة المضنية ، أمي ، لم تعبر النهاية ببساطة ، سنوات ثلاث ، تقلبت فيها على غضى الألم المستبد المتواصل ، تصحو من غيبوبة ، لتدخل في أخرى ، تَسَلًخَ جلدها ، سقطت أجزاء من جسدها ، كانت تنظر إلينا نظرة مترعة بالانكسار ، بالهزيمة ، بتمني الرحيل من دنيا أحبتها وعشقتها ، أخي مصطفى اتصل لينقل لي نعي خالي صبحي ، لم اخبرها عن ذلك ، لكنها عرفت ، بحاسة الموت الزاحف فيها ، في لحظات صحوها ، كانت تخبرني بان أخاها صبحي قد زارها ، الذهول كان يمزقني ، لماذا تتحدث عن صبحي الذي نزل إلى حفرة النهاية ؟ وليس عن فؤاد القابع بأعطاف الحياة ؟ هناك صلة ، مفقودة ، لا ندركها نحن ، بين لحظات الموت وبين الحياة ، غريبة ، لكنها موجودة ، بكل ثبات ويقين .
رن الجوال ، أين أنت يا رجل ؟ سارة أخذت كل وقتي ، عليك القدوم مباشرة ، حسنا ، أنا قادم ، لماذا يبدو صوتك مكسرا ؟
أحقا صوتي مكسر ؟ سألت الشابة التي بجانبي ، لكنها أمعنت النظر بدهشة ، هي لا تعرف العربية ، أدركت ذلك تماما ، وكأني اعرفه لأول مرة ، منحتها دخينة جديدة ، وأنا أهم بالانصراف ، وبعد خطوات قليلة ، عدت ومنحتها علبة الدخائن مع الولاعة ، شاهدت الفرحة التي كست وجهها ، تبسمت لها وانصرفت .
وجوه تمر وتختفي ، حركة سريعة ، لا رابط بيني وبينها أبدا ، تحمل سحنة تختلف عن سحنتي ، وتسير بخطى تتغاير عن خطواتي ، حتى الهواء المشترك الذي نتنسمه ، فيه تباين وتفارق ، هنا لا حبيب ولا صديق ، لا جدران تشبه الجدران ، ولا أرصفة تحمل أنفاس الحياة ، الجليد الممتد إلى ما لا نهاية ، يطوف بأعماقي ، يستبد بي ، ينتشر بخلايا الوجود الدافق الممتد ، بيني وبين السيارة خطوات تحتاج إلى دقائق ، وبيني وبين أختى صبحية ، من المقبرة إلى بيتها ، جدار بناه الاستعمار ، ليحول مسافة الساعة ، إلى أيام وربما اشهر ، هل لدي من الوقت ما يكفي للوصول إلى صبحية في حيفا ؟
صديقي تلفع بصمت غير معهود ، النخلة الصغيرة ما زالت تغطي أطراف القبر المزدوج ، والصخرة الملساء الوجه ، بقيت مكانها ، حيث زرعتها للجلوس مع روحي أبي وأمي ، الاسم فوق القبر بدأ بالاختفاء التدريجي ، الحواف متصدعة متشققة ، تحتاج إلى ترميم ، على الجهة اليسرى تماما ، مكان يتسع لقبر جديد .
نظرت إلى صديقي ، تحول شكله إلى طلل متآكل ، في عينيه بريق تساؤل ، وفي قلبه رغبة للسؤال ، هيبة المكان ، وسهومي ، كانا يدفعانه للالتزام بصمت مغلف بالسواد .
اقترب نحوي ، قال : أنت لم تذرف دمعة كعادتك ، في الأمر ريبة ، قلق أنا من قادم تحمله بين ضلوعك ، في مركز القلب والذهن .
أشرت بيدي للتصدع ، وللأسماء المتآكله ، عليك إصلاحها ، وهنا في البقعة الخالية ، عليك أن تضعني ، دون اسم ، ودون تاريخ .
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 6- 5- 2008
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى