أصم.. لكنه منتج!

2003/01/09
ميرفت عوف**



أن تكون أصم في مجتمع عربي.. يعني أنك تصبح عالة على أسرتك ومجتمعك.. لكن الصم في فلسطين كسروا هذه القاعدة وضربوا نموذجًا، فقد أضحوا منتجين لسلع.. وقادرين على كسب لقمة عيشهم دون نظرة شفقة أو استجداء.

التجربة قادتها جمعية أهلية في غزة وتدعى "أطفالنا للصم"، ففيها تجد أجمل المنتجات اليدوية، فتلك قطعة قماش مطرزة تجد أيدي فتاة صماء تعمل بها بحرص وتخاف من الهواء أن يخل بخيوطها، أما زميلها الذي يصنع منتجات فخارية فليس بأقل حرصًا على فخارته منها.

ومنذ نشأتها في عام 1992 أولت جمعية أطفالنا للصم أهمية خاصة للمشاريع المدرة للدخل للصم، حيث أنشأت قسما للتدريب المهني يعلّم الصم صناعة السلع اليدوية التي تحمل طابع التراث الفلسطيني.

كما ينتفع الآلاف من الأطفال والبالغين وعائلاتهم الفقيرة من خدمات الجمعية التعليمية، والخدمات المقدمة عبر قسمهم السمعيات، ووحدة العلاج بالكلام، وبرنامج تدريب الآباء والأمهات، وبرنامج التوعية المجتمعية، كما تقوم الجمعية بقياس وتركيب السماعات وصيانتها داخل المدرسة وخارجها، وتدريب آباء وأمهات الأطفال الصم على الاتصال ومهاراته.

وتهدف الجمعية أيضًا لتوعية وتثقيف المجتمع المحلي بكيفية التعامل مع الصم، وتحسين الوضع الاقتصادي للصم وذويهم من أولويات الجمعية، وتقديم خدمات اجتماعية ومساعدات عينية ومالية لأسر الصم الفقراء، وتعمل على إصدار نشرات وكتيبات وبحوث ومسوحات خاصة بالصم وحياتهم العامة.

إلى الفخار

حينما تدخل إلى غرفة صناعة الفخار بقسم التدريب بالجمعية، تجد رائحة الطين والطلاء قد عبأت المكان وحلت الشمس بخيوطها الذهبية على بعض المنتجات الفخارية التي وضعها الصم بالمكان كي تجففها الشمس، وبينما انهمك محمد 15 عامًا يعجن بمهارة طينة الفخار بنية اللون حيث كان ينوي تشكيلها كوبًا، كان رفيقه يمسك كوبًا انتهى من تشكيله وينقش عليه بأداة حادة كلمة (غزة).

يقول محمد الخالدي 16 عامًا بلغة الإشارة: إنه تعلم صناعة أدوات عدة من الفخاريات في دورة تدريبية أقامتها الجمعية قبل عدة شهور. ويرى أن تعلمه تلك المهنة وعمله بها مع رفاق جميعهم صم كان بمثابة حلم كبير تحقق بعد حصوله على قسط وافر من التعليم الخاص بالصم، والذي ساعده في العمل بأحدث الآلات التي وفرتها له الجمعية.


إرادة الصم خلقت إبداعا فلسطينيَّا

ويعتبر محمد أن صناعته لمنتجات ذات طابع تراثي شيء جميل، وهي المصدر الوحيد الآن لدخله الذي يعينه كغيره من الفلسطينيين على توفير مستلزمات الحياة الضرورية.

في قسم آخر لا يبعد سوى بضعة أمتار عن غرفة تصنيع الفخاريات؛ هناك المنجرة (غرفة نجارة) التي ارتكنت في زواياها الأربع أشكال متعددة من المنتجات الخشبية التي تعتمد العمل اليدوي أساسًا لإنجازها، منها: ساعات قيد التصنيع، وجِمال تحمل رموزًا عربية، مفاتيح لرسائل، إطارات، مرايا، ومجالس مصاحف نقشت ببراعة وتناسق كبيرين، وصوانٍ وأربسكيات عديدة.

في هذه المنجرة وبالقرب من أحد آلياتها كان يصنع محمود أبو سكران -19 عامًا- بمهارة ساعةً خشبية سوف تنتقل بعد إنجازها إلى قسم آخر يتولى تلوينها ووضع اللمسات الأخيرة عليها.

محمود الذي يقطن حي الشجاعية قدم لمدرسة جمعية "أطفالنا للصم" وتعلم فيها ثلاث سنوات، ثم انتقل لقسم التعليم المهني، حيث رأى في تعلم مهنة فيها مستقبلا له، فكانت النجارة هي تلك المهنة التي أتقنها بعد ثلاث سنوات من العمل.

ولعدم توفر فرصة للعمل بالجمعية بعد التخرج؛ عمل محمود في إحدى ورش النجارة في مخيم النصيرات، فواجه العديد من المشاكل.. كونه يتعامل مع أناس لا يفقهونه كأصم، إلى أن عوَّضه الله بفرصة عمل في الجمعية قبل عام ونصف.

يقول محمود: إنه سعيد جدًّا للعمل في الجمعية، فكل رفاقه مثله يسهل التعامل معهم، كما أن كل السلبيات التي كان يتعرض لها في الخارج والتي أثرت على حالته النفسية انتهت بمجرد التحاقه بالعمل في القسم المهني بالجمعية.

أسرة محمود مكونة من أربعة صبيان وفتاة، وهي كغيرها من الأسر الفلسطينية تعيش في مستوى اقتصادي سيئ، كما أن أمه تعاني من مرض القلب، وبلغة تتابعت بها الإشارات قال محمود: إن الراتب الذي يتقاضاه من الجمعية يساعده في شراء الدواء لأمه، ويعينهم على جلب متطلبات الحياة الثقيلة.

تطريز فلاحي

انتقلنا إلى فرع آخر بالجمعية تتربع منتجاته على قمة التراث الفلسطيني؛ حيث كان العمل يشبه العمل بخلية النحل.. إنه قسم التطريز الفلاحي بالجمعية، كل شيء قماشي أصبح يوضع عليه التطريز. هناك كانت "مريان صالحة" -20 عاما- تغرس إبرتها الخاصة بالتطريز في قماش أبيض تتعدد عليه ألوان الخيوط الحريرية.

وجدت الفتاة مريان في جمعية "أطفالنا للصم" المكان الآمن لها بعد قدومها من المملكة العربية السعودية.. تعلمت الكثير بسرعة بعد انتهائها من الدورة التدريبية للتطريز، وأصبحت تنفذ التطريز الفلاحي على العديد من الأشياء كالوسائد، وبيوت النظارات، والصواني، وألبومات الصور الفوتوغرافية، وإطارات المرايا.

مريان الفتاة التي تناسقت ألوان جلبابها مع حجابها عبّرت عن سعادتها بإنتاج مثل تلك الأشياء، وجهرت بأمنيتها بأن تتعلم المزيد من رسومات التطريز التراثية الفلسطينية، رغم أنها تعرف الكثير من الرسومات التطريزية والتي نفذتها على أشياء تحمل طابعًا حديثًا كالحقائب النسائية الحديثة، والأثواب ذات الموضة الجديدة، ومفارش عديدة، وصَوانٍ.

وفي نفس المكان كانت سناء الرنتيسي -19 عامًا- تحيك دمية اتضحت معالمها، ولم تكن تلك الدمية سوى واحدة من عدة منتجات تنتجها سناء ورفيقاتها الصم في هذا القسم، ثم بعد ذلك تتنقل تلك المنتجات لمن يعملن في التطريز، فتطبق رسومات تطريزية عليها، وبغض النظر عن استفادة سناء من الراتب الذي تحصل عليه من الجمعية، فإن السعادة التي تعيشها في وسط مريح لها كبيرة انعكست على وجهها ذي الملامح الشامية وهي تحدثنا.

الحصار يواجهنا

تقول منى رزق منسقة برنامج التدريب المهني: إن مبيعات منتجات الصم تأثرت منذ قيام انتفاضة سبتمبر 2000، لكننا نحاول جاهدين التغلب على هذا الوضع، فكمية التصدير قلّت بسبب الإغلاق والحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، كما أن هناك نقصًا في العديد من المواد الخام التي تستخدم في منتجات الصم في الجمعية.

وأوضحت منى أنهم يحاولون التغلب على هذا بالاهتمام بالمطرزات وهي الأكثر بيعا في منتجات الصم، وذلك عبر اتباع الجمعية سياسية الدمج بين المنتج الحديث والتراثي، كما أن المنتجات متطورة ومتنوعة.

أما جير الدين الشوا الرئيس التنفيذي للجمعية فتقول: إن جمعية أطفالنا متخصصة في كل شيء يخدم الصمم والصم، وهي عضوة مؤسسة ومنسقة للجنة تطوير خدمات المعاقين سمعيا في غزة، وتتكون اللجنة من 14 جمعية أعضاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، مؤكدة أنها تعتبر المرجع الرئيسي مركزا للموارد لجميع مراكز تأهيل الصم العاملة في مخيمات اللاجئين ووزارة الصحة وبالسلطة الفلسطينية ووكالة الغوث والمؤسسات غير الحكومية في قطاع غزة.

وتوضح الشوا أن معظم الأطفال المنتفعين من جمعية أطفالنا من أسر تعيش تحت خط الفقر؛ حيث لا يتعدى معدل الدخل الشهري لها 50 دولارا، في الوقت الذي لا تجد فيه بعض الأسر أي مصدر للدخل، وتعتمد على ما يتيسر لها من أهل الخير في الحصول على حاجاتها الأساسية من المأكل والمشرب.

وتضيف أنه في الوقت الحاضر تستطيع جمعية أطفالنا ذاتيا توفير 18% من إجمالي الميزانية السنوية؛ وذلك عن طريق الرسوم البسيطة المحصلة من الطلبة ذوي الوضع المالي الجيد، ومن إيرادات برنامج التأهيل المهني وقسم السمعيات، ويتم الحصول على 82% الباقية عن طريق التبرعات والمنح.

وتؤكد الشوا أن ميزانية الجمعية تضررت بشكل كبير في انتفاضة الأقصى، وحدث عجز في ميزانية الجمعية، خاصة العام الأخير. وهذا العجز يتضاعف مع تزايد عدد الصم المستفيدين من خدمات الجمعية؛ حيث إن كل 5 أطفال جدد يحتاجون لمدرس خاص بهم، كما أن هناك زيادة في الخدمات التي تقدمها الجمعية للصم وذويهم، مستشهدة بأن الظروف السيئة التي يعيشها الأطفال الصم فرضت عليهم الحضور لمدرسة الجمعية برغيف خبز خال، وهذا ما أجبر الجمعية على تقديم وجبة غذاء للتلاميذ الصم، مشيرة إلى أن برنامج التأهيل المهني الذي ينتج من خلاله الصم منتجات متعددة، لا تطمح الجمعية من خلاله إلا لتغطية الراتب الذي يحصل عليه العامل البالغ من الصم.

هكذا فالصم مصممون على مواصلة عملهم، ويحاربون بعدم صمت أيديهم عن العمل، رغم كل التعسفات الإسرائيلية التي تحاول أن تمنع عنهم المواد الخام، أو تحاول منع تصدير منتجاتهم خارج حدود الأرض المحتلة.